شهود عظمة الله وقدرته من دروس غزوة مؤتة
خطبة الجمعة في جامع الملك عبد الله الأول في مدينة عمان، الأردن، 13 جمادى الأولى 1446هـ بعنوان:
شهود عظمة الله وقدرته من دروس غزوة مؤتة
لتحميل الخطبة (نسخة إلكترونية pdf):
فوائد مكتوبة من الخطبة:
نص الخطبة:
الحمدلله، الحمدلله القويِّ القاهر، العزيز القادر، الرحيم الغافر، هو الأول والآخر والباطن والظاهر، وهو بكل شيء عليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خير ناصرٍ لأهل الحقِّ والهُدى، القامِع لأهل الزَّيغ والرَّدى، الذي استوى في علمهِ ما خفيَ وما بدا.
وأشهد أنّ سيدنا ونبينا وقُرَّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وصفيّه وخليله، ختم به النبيين وجعله سيد المرسلين، وجعلنا بهِ خيرَ أمة أُخرِجت للناس بين العالمين.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك الأمين الهادي إليك والدالِّ عليك سيدنا محمد وعلى آله المُطهّرين وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن والاهم فيك واتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
النصرة وأسبابها:
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله وأحسنوا يرحمكم الله، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
أيها المؤمنون بالله، اتقوا الله فيما يُنازِل القلوب والأفئدة، وفيما يطرأُ على الخواطر والاعتقادات، واحذروا من وسوَسة إبليس، وتوقُّع أنَّ القدرةَ لغير الإله القدير، وأنّ كلَّ ما سواه في قبضته وتحت إرادته -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، وأنّ النصر من عندِه وحده، وأنّ التأييد من عندِه وحده.
وما كان جميع ما يُتطلَّب به النصر مما شُرِع إلا سَببِيَّةً لا تعدو السبب، حتى نزولُ الملائكة مع المجاهدين الصادقين لا يعدو أن يكون سبباً رتّبهُ الله رب العالمين، ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾.
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) جل جلاله وتعالى في علاه، وبذلك قال الله عن غزوة بدر: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ جلّ جلاله وتعالى في علاه، ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾.
التحذير من الأوهام:
يجبُ أن نتَّقِي الله في دفعِ الأوهام والخيالات:
-
من الخوف من غيره -جلَّ جلاله-،
-
ومن استعظام سواه -سبحانه وتعالى-،
-
ومن الاعتماد على من دونه سبحانه وتعالى.
وذلك مما يتفرَّع عن معنى لا إله إلا الله، وسُقِيَت به قلوب رعيلنا الأول من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ذكرى غزوة مؤتة:
أيها المؤمنون بالله -جلّ جلاله-، وإنَّ مما خصّ الله به بلدتكم المباركة أن جعل فيها بوابة الفتح للإسلام، وكان فيها أول جهادٍ في سبيل الله خارج جزيرة العرب، ليحمل نورَ الله وهدي عبده المصطفى محمد ﷺ إلى العالمين، فكانت غزوة مؤتة في مثل شهركم هذا في شهر جمادى الآخرَة من السنة الثامنة من الهجرة قبل فتح مكة.
أرسل ﷺ أولئكم العِصابة الذين شَرِبت قلوبهم معاني لا إله إلا الله محمد رسول الله، ودانوا الله تبارك وتعالى بالصِّدق معه، وبالوِجهة الصادقة إليه، وبإيثارِه على ما سواه.
وخرجوا مطيعين مُلَبّين لنداء الله ورسوله، مجاهدين في سبيل الله تبارك وتعالى، لا يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف، خرجوا فقابلهم الروم بمئة ألف ثم مئة ألف فكانوا مئتا ألف، حتى جاء في رواياتٍ أنهم ضُم إليهم من الأعراب خمسون ألفاً فصاروا مئتين وخمسين ألفاً، فقابلهم ثلاثة آلاف، ونصرَ الله الثلاثة الآلاف، وقُتِلَ من قُتِلَ أعداد كثيرة من المشركين، واستُشهِد من استُشهِد لا يتجاوزون بضعة عشر من المسلمين.
الأمراء الثلاثة في مؤتة:
وتقدم الأمراء الثلاثة الذين أشار رسول الله إلى لحاقهم بربهم وإلى انتقالهم في هذه المعركة، وقال: "يأخذ الراية زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً"؛ وكانت الإشارة إلى أن الثلاثة سَيُستَشهدون ويلقَون ربهم -جلّ جلاله-، فكانوا من البضعَة عشر الذين استشهدوا في مؤتة وخرجوا عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وبلغهم حشدُ تلك الجيوش وبلوغهم إلى المئتي ألفٍ فزيادة، وتشاوروا بينهم في معان، وأرادوا الكتاب إلى رسول الله ﷺ، وتقدّم عبد الله بن رواحة يقول: إنا لا نُقاتل بعدد ولا عُدة، وإنما نُقاتل بهذا الدين، ومما تخافون؟ إن التي تخافون منها هي التي خرجتم لأجلها، إنما خرجتم لِتلقوا الله وتُستَشهدوا في سبيله.
فشدَّ عزم الجيش وتوجهوا حتى كانت المعركة في مؤتة.
إخبار النبي بأحداث المعركة:
ونَعى النبي ﷺ وهو بالمدينة موت الثلاثة الأمراء، وقال: "أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ، فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ ابنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ" ﷺ، ثم قال:"حتَّى أخَذَ سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ حتَّى فَتَحَ اللَّهُ عليهم".
كذاك جاءنا في صحيح البخاري، أن رسول الله يحكي الأخبار بالمدينة عن الوقائع بهذه الأرض بإعلام الله له وإخبارِ الله له -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وقد كُشِفَ له عن مكان المعركة وأخذ يُشاهد ما يدور فيها -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.
وجاء إلى بيت جعفر وقال: "ائْتِينِي بِبَنِي جَعْفَرٍ"، قَالَتْ: فَأَتَيْتُهُ بِهِمْ، فَشَمَّهُمْ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي مَا يُبْكِيكَ؟ أَبَلَغَكَ عَنْ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أُصِيبُوا فِي هَذَا اليَوْمِ، وخرج يقول: "اصنعوا لآل جَعْفَر طَعَاما، فقد جَاءَهُم مَا يشغلهم" أو "فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ" عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
توجيهات نبوية إنسانية:
وأبلى هؤلاء الصحابة بلاء حسناً في توجيهات نبوية يُوجِّههم بها ﷺ عند خروجهم إلى السّرايا والجهاد في سبيل الله، فمنه ما جاء في سنن أبي داوود: "انطلِقُوا باسم الله وبالله وعلى مِلَّةِ رسول الله، ولا تقتُلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأةً"، ويقول عليه الصلاة والسلام كما جاء أيضاً: "ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقربوا نخلا، ولا تقطعوا شجرا، ولا تهدموا بناء".
كانت هذه تعاليمه ﷺ في ميادين الجهاد الذي قام على يده لله وفي سبيل الله -جلّ جلاله-، يحمل معاني القِيَم والشيَم والمكارم وحقائق الإنسانية والفطرة السليمة، والمبادئ العليََّة السَّماوية، التي ذهبت واضمحلّت عند من يدّعي التقدُّم ومن يدَّعي الديموقراطية، ومن يدّعي حقوق الإنسان ولم يبقَ لها أثر.
وما يتورَّعوا عن بنيان ولا تورَّعوا عن أطفال ولا تورَّعوا عن نساء، ولا تورَّعوا عن ملاجئ يلجأ اللاجئون إليها من مدارس وغيرها فيقصِفونها، هذا تقدُّمهم وهذا تطوُّرهم، لكن هذا مسلك النبي محمد ومسلك أصحابه وأتباعه من بعده -صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله-، في هذا الهَدي الكريم الشريف العظيم، الذي لا تجِدُ البشرية أجمل منه ولا أكمل منه ولا أفضل منه.
أيها المؤمنون بالله -جلّ جلاله- وكان أن أقام سيدنا خالد بن الوليد خُطّته، ونصر الله كما قال ﷺ حتى فتح الله عليهم، فالأمرُ أمرُه والنصرُ نصرُه -جل جلاله- ، ولا يجوز الاستكانة ولا الضعف لأجل خطط ولا لأجل عدد ولا لأجل عدة (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
إخراج هيبة غير الله من القلوب:
أيها المؤمنون بالله، يجبُ أن نُقيم نور تقوى الله في قلوبنا؛ لتخرُج هيبة الكفّار والفُجّار وقوات الأرض وما فيها، ولنعلم أن النصر من عند الله، وأن حاجتنا إلى:
-
الصدق مع الله
-
والتعظيم لأمر الله
-
والعمل بشرع الله
وأنه أقوى أسبابُ النُّصرة من النصير، (نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ).
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾.
اللهم انصر إخواننا في غزة وفي فلسطين وفي لبنان، وفي جميع أقطار الأرض من المؤمنين والمؤمنات، واكلأهم وصُنهم واحفظهم واحرسهم، ورُدَّ كيد أعدائك المعتدين الغاصبين الظالمين المفترين الفاجرين الكاذبين، شتِّت شملهم واجعل كيدهم في نحورهم، وادفع عن المسلمين جميع شرورهم يا حي يا قيوم.
والله يقول وقوله الحق المبين، (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾
(فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ * إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبَّتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيهِ وعذابه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله وليّ الصالحين، وناصر أهل الهُدى واليقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أقدرُ القادرين وأحكم الحاكمين، بيدهِ ملكوت كل شيء وإليه مرجعُ الكُل في يوم الدين.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّةَ أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبده ورسوله المجتبى المصطفى الأمين، خاتمُ النبيين وسيد المرسلين، وأكرم الأولين والآخرين على الله رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ على مدى الأعصار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين عظماء الشأن والمِقدار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم على الآثار، وعلى ملائكتك المُقربين وجميع عبادك الصالحين يا كريم ياغفار، وعلينا معهم وفيهم.
تقوى الله وتقويم البواطن :
أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا الله يا عباد الله، فاتقوا الله في وِجهاتكم ونياتكم، واتقوا الله في استشعاراتكم، واتقوا الله في هَيبتكم منه.
﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ) يقول -جلّ جلاله- (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾
يقول -جلّ جلاله-: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
كلام واضح من ربكم المولى الكريم العظيم -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
فاتقوا الله، وقَوِّموا بواطنكم على الصدق مع الله في تعظيمه وتعظيم آياته وأحكامه، والعمل بما جاء عن رسوله ﷺ، وما بلّغكم هاديكم إلى الصِّراط المستقيم الذي خاطبه ربكم في القرآن وقال له: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاس لَا يَعْلَمُونَ)، ألا (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
وعدُ الله بالنصر :
أيها المؤمنون، النصر الذي وعد الله به أنبياءه ورسله والأتباعَ لهم بِصِدق:
-
أن تكون النهاية والغَلَبة لهم في الدنيا،
-
وأن يعيشوا في الدنيا على الثبات على ما أحبَّ خالقهم منهم،
-
وعلى العمل بشريعته في شرف خلافةٍ عن الله في الأرض،
-
وأن يُتَوَفّوا على الإيمان فلا يُسلّط عليهم شيطان ولا نفس ولا يَزيغوا،
-
وبعد ذلك أن يأمنوا عذاب القبر وفضيحة يوم البعث والنشور،
-
وأن يسكنوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها،
لهم (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ)، ولهم تجلٍّ من العزيز الكريم: "أُحِلُّ عليكم رِضواني فلا أسخَطُ بعدَه أبدًا"، في حياة يقال لهم فيها :"إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَداً، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَداً، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَداً، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأْسُوا أَبَداً"
ذلكم النصر الكبير، ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾.
أيها المؤمنون بالله، واعلموا أن الله مُظهِرٌ دينه، واعلموا أن الله ناصرٌ شريعة نبيه محمد ﷺ، على رغم كل من جَدَّ واجتهد لإطفاء نور الله، ولإبعاد حقائق الشريعة الغرَّاء عن المؤمنين بالله جل جلاله وتعالى في علاه.
فاتقوا الله واصدقوا معه، وأقبِلوا بالكُلِّيَّة عليه، وتذلّلوا بين يديه، وكرِّروا: "حسبنا الله ونعم الوكيل" و(لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فإن الله نجّى بها من الغمّ يونس وقال: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.
الثبات والإقبال على الله:
أيها المؤمنون بالله -جلّ جلاله-، هذا مسلكَكُم في مختلف الظروف والأحوال، فاصدقوا مع الكبير المُتعال، وأقبلوا عليه صدق الإقبال، وقوموا بما فرَض عليكم في النيات والمقاصد والأقوال والأفعال.
بذلك تتمُّ لكم عناية الله ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾.
لِيَنزاحَ من الأذهان تبعيةٌ لغير الله ورسوله، وليثبُت في أذهان المؤمنين أن القدوة الأعظم؛ حبيب الله الأكرم ﷺ ، ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
فأكثروا الصلاة والسلام عليه ليلاً ونهاراً، سراً وإجهاراً، فإن أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة، ومن صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
وتأمّلوا قوله -تعالى- فيما بدأ فيه بنفسه وثنّى بالملائكة وأيّه بالمؤمنين، فقال مخبراً وآمراً لهم تكريماً: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المختار سيدنا محمد،
وعلى الخليفة من بعده المختار وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازرهِ في حاليي السَّعَة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق،
وعلى الناطق بالصواب حليف المحراب، المنيب الأواب أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب،
وعلى الناصح لله في السر والإعلان، مَن استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان،
وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب،
وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة وريحانتي نبيك بِنَصِّ السنة،
وعلى أمهم الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا وأمهات المؤمنين وبنات سيد المرسلين،
وعلى الحمزة والعباس وأهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وأهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان وأهل مؤتة وسائر الصحب الأكرمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
الدعاء :
اللهم أعِزّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذِلّ الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمّر أعداء الدين، اللهم رُدّ كيد الفاجرين والكافرين والمعتدين والغاصبين والظالمين في نحورهم.
اللهم خالف بين وجوههم وكلماتهم وادفع عن المسلمين جميع شرورهم، اللهم مزِّق أعداءك كلّ مُمزَّق مزّقته الأعداء انتصاراً لأنبيائك ورسلك وأوليائك، يا قوي يا متين، أنجِز لنا ما وعدتنا (وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
اللهم أصلِح هذه البلاد وبلاد المسلمين، وخُذ اللهم بيد ملكها وولي عهدها ومن معهم، على الخير والهدى والبر والتقوى وما فيه الصلاح والفلاح وما يرضيك، وأفِض اللهم عليهم وعلى بلاد المسلمين نوراً من نورك، وتوفيقاً من عندك وتأييداً على الحق والهدى.
اللهم ورُدّ كيد أعدائك في نحورهم، اللهم و تدارك وأغث الأمة بفرج عاجل ولطف شامل، ولا تصرفنا من جمعتنا إلا وقلوبنا عليك مُقبِلة، وإلا ونحن عندك مقبولون برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم زِدنا من نوالك، وأفِض علينا من صيِّب إفضالك، وكن لنا بما أنت أهله في جميع الشؤون، وفرج كروب المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وارحم اللهم مؤسس المسجد ومن تقدم فيه من أئمة وخطباء ومؤذنين ومصلين، وارحم موتانا وأحيانا بالرحمة الواسعة، وارفعنا مراتب قربك الرافعة.
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، يا قوي يا متين ياأرحم الراحمين.
ونُقيم الصلاة على من قُتِلوا وأوذوا واستُشهدوا من إخواننا في فلسطين ولبنان وفي اليمن وفي أقطار الأرض بعد أن نصلي الجمعة والسنة إن شاء الله.
اللهم اقبلنا على ما فينا وأقبِل بوجهك علينا، واختم لنا بالحسنى وثبِّتنا على ما تحبه منّا وترضى به عنا.
عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
15 جمادى الأول 1446