(228)
(536)
(574)
(311)
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام والحداثة
الحمد لله الذي جمعَنا لشئونٍ تهم الإنسانية، في هذه الجامعة الكبيرة التي فيها مجالاتُ أبحاثٍ وطلبٍ للحقيقة، عند توفُّر النية الصالحة عند الإنسان وإرادته ما ينفع وتخلِّيه عن شرور طَبْعِه، فإنه من أحسن من يهتدي إلى حقيقة الكون.
شكراً لمن رتَّبَ اللقاء وهيّأَ هذِه الفرصة للالتقاء بأساتذةٍ كبارٍ وباحثين ومتعلِّمين كبار في هذه الجامعة، وموضوعنا الذي نتكلم عنه كما وضعوه لنا " الحداثة " ..
لا شك أنَّ ما سمعتم عنها كثيراً وربما وجهاتٌ مختلفةٌ جداً في النظر ، وقبل الخوض فيها نُحِبُّ أن نتبيّن ما هي؟ فما تعريفها وبماذا نفسِّرها.. حتى يكون الخوض مُتَّزِنا ومضبوطاً ومؤدِّيا إلى نتيجة . ربّما نأخذ لها معنىً شاملاً فيما تدلُّ عليه الكلمة ، لأن الكثير ممن يخوض فيها يتوجّه ذهنه وفِكرُه إلى قضيةٍ من قضايا الحياة إما اقتصادية وإما أخلاقية وإما سياسية وإما اجتماعية ويبني كلامه على الحداثة على ذلك التصوّر.
إذا أردنا تفسير الحداثة بأحسن ما تدل عليه الكلمة فنقول: استحداث ما يترتَّب عليه النفعُ والارتقاء في جميع مجالات الحياة ، فإِن تصوَّرناها بهذا المعنى فسنخوض فيما يترتب عليه .
أولا : لا يمكن لأي عاقل في الحياة أن يمحو عن الإنسانية والكون مَاضِيَه أصلاً ، ثم لا يليق بعاقل أيضا في الكون أن يَجْمُدَ على ماضٍ ويَنسى حِكمة الله في سنَّته في اتِّسَاع الأمور وحدوث الوسائل المختلقة.
فأمّا الذي يريد أن يتنكَّر للماضي في الكون وسنة المكوِّن وفي تاريخ البشرية، فإنه يفقُد الأسسَ التي لابدَّ له منها . وأي عاقلٍ لا يدرك أنَّ أساسيات الحياة كانت في عهد آدم موجودة ونحن نتناول جوهرَها نفسَه وإن اختلفت الصورُ والأشكال. فمقوِّمات الحياة مِن مثل طعامٍ وشرابٍ ومنامٍ وملبسٍ ومسكنٍ وما إلى ذلك هو الذي كان في عصر آدم من حيث جوهرِه . فهل معنى الحداثة فيه: أن نستبعِد الطعام مِن أصله أو نستبعِد المواد الأساسية للغِداء التي كانت في العصور القديمة؟ لا معنى لشـيءٍ من ذلك .. لكننا أَنْ نستخدم الوسائل في كيفية زراعتِه وتحضيره وطريقة طِباخته وتقديمه وإضافةِ المواد إليه فهذا واردٌ وهو صحيح .
وأمّا الذين يريدون أن يجْمُدوا على ما مضى ولا يُحْسِنون التفاعل مع الاتساع الذي يُبدِيه الله تعالى في الكون كله وهو القائل: (والأرض فرشناها فنعم الماهدون) ويقول سبحانه وتعالى: (والسماء بنيناها بأيِّدٍ وإنا لموسعون).
وعن مثل هذه العقلية قال الشاعر قديما :
قل لمــن لا يرى المعاصِر شيئا ويرى للأوائل التقديما
إن هذا القديم كان حديثا وسيبقى هذا الحديثُ قديما
القديم في وقتِ ظهوره كان حديثاً، والحديث الذي تُحدِثَهُ الآن بعد سنوات يصير قديماً، فليست الميزة إذاً لتقدّم زمانٍ ولا لتأخُّرِه..
فنعود إلى الحداثة من منظار موروثنا وتراثنا وفهمِنا في الإسلام .. ونقول إن هناك ثوابت وكلياتٍ جاء بها دينُ الله على أيدي جميع الأنبياء مِن عهد آدم حتى بُعِث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لم تتغيَّر أبدا، في واجباتٍ ومحرمات. وقد قامت على أساسٍ مِن علمِ مكوِّن الإنسان والكون كله. تَرْكُ الواجبات منها له كثيرٌ من آثار الإضرار بواقع الناس كذلك فِعل المحرمات منها.
فأمّا ما يتعلق بالاقتصاد مثلا فإنَّ معنى إحلالِ الله تعالى للبيع يفتحُ كلَّ الطرق التي لا تتصادم مع منهيِّاته . والمنهيات تتلخَّص فيما يكون فيه الغش والخيانة والظلم والإضرار .. فلا نريد في هذا الجانب ولا غيره حداثةً توصلنا في النهاية إلى أزمة .. كما كانت حداثة الاشتراكية، وكما نشاهد بعقولنا أيضا في حداثة الرأسمالية .. فمع انتشار التعامل بالربا مثلا وهو محرمٌ في جميع الشرائع السماوية وصلت الحالة إلى ما عَلِمتم وإلى ما نعايشه.
فالحداثة بمعنى التطوير على الأسس والأصول التي جاءت بها الشـريعة باستعمال كل المستجدات من الوسائل والأساليب وأن يجوب البلاد من قُطر إلى قطر، هذه الحداثة مُقَرَّرةٌ في حكم الشريعة نفسها .
فإن كان معنى الحداثة في هذا المجال أن نُلغِي ما تقول الأديان في جوانب الحلال والحرام في الأخذ والعطاء وأن نفتح أي بابٍ للغش أو للتحيُّل أو للإضرار بالآخرين فهذا مرفوضٌ وغير جائز ولا مقبول.
والعَجَبُ أن النظرة في الموروث عندنا في مسألة إِحداث ما ينفع الناس زراعة كان أو صناعة أو تجارة يُنظَر إليه بمنظار أنه عبادة ، فنقرأ في الحديث: (مَن أمسى ويدُه كالَّةٌ مِن عملِ يدِه بات مغفوراً له).
ونعرف كثيراً من كبار كبار علماء الأمة شاركوا في موضوع الزراعة، قالوا حتى لا يفوتنا الثواب في المشاركة في الزراعة .. بل نجد الكثير منهم ذوي خِبرة في التربة وصلاحيتها لأنواع الزراعات وتوقيت الزراعات أيضا وما تعلّق بذلك.
وقد تأتي مسائل غامضة في موادٍ من علوم الشـريعة للإمام الحداد فيرسلها الإمام الحداد إلى الإمام عبد الرحمن بلفقيه في القرن الثاني عشر الهجري ، فيجيء صاحب المسائل أو المرسول فيجده مشتغلاً بِنزَحِ الماء من البئر لسقيِ الأشجار ، فيأمره بإحضار الدواة والقلم، وهذه الوسيلة التي كانت متاحة للكتابة .. فلو وُجِد مثل هذا القلم لم يتردد الإمام عبدالرحمن بلفقيه في أخذِه والكتابة به .. فما عندنا عقلية تقول لا نكتب إلا بالأدوات التي كان يكتب بها الأولون .. ولا عندنا عقلية تقول ما دام هذا لم يهتدِ إليه الأولون فنسبَّهم.. بل ربّما حقيقةُ الأمر تدعونا إلى الإعجاب بهم .. إنهم مع عدم وجود مثل هذه المسهِّلات فضلاً عن ما بعدها من الكمبيوتر وما إلى ذلك ملأوا الدنيا كُتُباً , وكتبٌ من نوعٍ مخصوص ليست أي كلام .. ينتفع القارئ بها .. يجد قوةً في المادة .. قوةً في الطرح .. دقَّةً في التحليل.
وقبل أن أجيء إلى عندكم كنت في قسم المخطوطات في مكتبتكم، بعضها كان من قبل 800 سنة ومن قبل 900 سنة ، كل هذا يجعلنا نُكبِر أهلَ تِلك العصور .. ووصلت إلى جامعة ميتشجان كتبُهم إذاً فالقوم عظماء ، ومع هذه الوسائل المتاحة لي كلما قارنتُ بين المؤلَّف الجديد وكثير من المؤلفات القديمة وجدت الجديد عالةً على القديم، ووجدت مادة القديم أغزر.
خرجنا من موضوع الاقتصاد إلى موضوع نفس الثقافة والعلم والكتابة، وعلى كلِّ الأحوال فقصدنا الإلمام في هذه الفترة المحدَّدة برؤوس المعاني، ونَجِد وضع الأساس لهذا المعنى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخطب الجمعة وهو قائم عند سارية من جذعٍ فلمّا عُرِضَت فكرة المنبر قال: نعم .. يذكر ثواباً مخصوصا فيمن أعدَّ فَرساً من أجل الجهاد المشروع على وجهه ، جهاد الاهتداء، لا جهاد الاعتداء ، جهاد المحبة والحرص على الآخر، لا جهاد الكُره والبغض ، فما عرفنا في تراثنا جهاداً إلا يقوم على منفعة الآخرين ، ولا وجدنا بلداً فُتِح بالإسلام خصوصا في عصر الخلفاء الراشين ومَن بعدهم إلا ظلَّ في البلد الذي فُتِح بالإسلام أديانٌ غير الإسلام .. كلُّ البلدان التي فُتِحت بالإسلام ظلّت فيها ديانات غير الإسلام ، وفي ظلِّ حكم هذا الإسلام نالوا حقوقَهم كاملة وصارت مرجعيتُهم لإنقاذهم من أي ظلم، فهل تصير معنى الحداثة إذا استولى صاحب قوةٍ منا على بلدة أن يكسِّر ما فيها وأن يتشفَّى بغيظه في أبنائها!؟ في خلال سنِيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في 27 غزوة و47 سرية لم يبلغ عدد القتلى من الطرفين خلال سنواته كلها ألفين، لكن اليوم يبلغ الألفين قتيل في دقائق، فإن كان معنى الحداثة المحافظة على الدِّماء والنفوس فنِعم الحداثة ولنُجنِّد طاقاتِنا للمحافظة على أعراض الناس ودمائهم وأنفسهم، وإن كان معناها أن يكون القتلُ ذريعةً ونستغل قُوانا للقتل بلا بيِّنةٍ فبئس تلك الحداثة.
لما ذَكَرَ فضلَ من أعدَّ فرساً في ذلك الجهاد قال له بعضهم: يا رسول الله ماذا في الحمار؟ أنا ما عندي فرس لكن في الحمار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ما أُنزل على في الحمُر شيء – بخصوصها - إلا هذه الآية الفاذَّة الجامعة (فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يره). فقوَّم الأساس أنَّ كلَّ ما أفاد ونفعَ في الخير فهو مثابٌ عليه كائناً ما كان، فكم يمكن اكتساب ثوابٍ بواسطة الجوّال ، وكم يمكن اكتساب آثامٍ بالجوال، فمعنى الحداثة عندنا أن أستعملَ هذا الجوال وأُحسِن استعمالَه فيما يحافظ على القِيم وينفع الناس. فنرفض الحداثة لأن يكون هذا الجهاز آلةً للفساد في الأرض والاتفاق مع عصابات الشر أو الإضرار بالغير.
بهذا نتبيَّن أن القضية عامة في المجالات كلها أنَّ ما يُستحدَث من الوسائل فهو نتيجةٌ للوسائل الأساسية وهي أعضاء الإنسان، فما صُنِعت هذه الوسائل إلا بواسطة هذه الأعضاء، وهذه الأعضاء لا مجال لأن أقول هذا الإنسان ما دامت فيه يدان ربما إنه يسرق، وربما هو يقتل، وربما هو يضرب ، نقول هذه آلةٌ عنده، ربما يفعل بها كذا، وربما يتصدق بها، وربما ينقذ الغريق بها، وربما يأخذ الأعمى ويقوده بها.. فلا أستطيع أن أقطع حكماً واحداً على كل مَن له يد يقدر على استعمالها. كذلك اللسان فلا آتي بالإنسان وأقول مادام عندك لسان فأنت ربما تكذب على الناس وأنت تغتاب وتخطِّط لقتلِ الناس، فإنه ربما يكون بهذا، وربما يكون بها النفعُ للعباد والنصيحة لهم وإيصال الخير إليهم.
ونفس حكم الأعضاء ثابت على ما أنتجته الأعضاء من الأجهزة والوسائل كلها .. فرَجَع الأمر إذاً إلى ماذا؟ رجع الأمر إلى نفس هذا الإنسان كيف تريد؟ لهذا إذا جئنا إلى جانب الحداثة في الأخلاق مثلاً فلا يمكن أن نقول إن السرقة كانت في الماضي عيباً وعاراً، والآن نحن حداثيون والسرقة مهارة وشطارة .. لا يمكن .. ولكن يمكننا أن نقول: إنَّ التحذير من السرقة وتوفير أسباب المنع منها صار عندنا أوسع مما كان، فنستعمل هذه الوسائل لنمنع من السرقة.
وهذه عظمةٌ في مناهج أن التجديد والحداثة عليها تقوم في كل زمان وفي كل مكان من دون تغيير الأصل.
إذاً فماذا يوجِّه طاقةَ الإنسان أو إرادةَ الإنسان لأن تُستعمل الأعضاء ثم المتاحات كلها في هذا الكون فيما ينفع، الناس في أصل التكوين سواءٌ من حيث ما يُؤتَون من عقلٍ و شهوةٍ وغضب ، وبالعقل يتصورون الأشياء ويأخذون عِلماً ، هذا التصوُّر الذي عندهم يتحكم في إراداتهم ، وإراداتهم تتحكم في الشهوة والغضب ، فإذا صحَّت التصورات مَنَعَت أن تُستعمَل الشهوة فيما يُجاوز حدَّها فيضـر أو أن يُنقَاد مع الغضب أيضا فيحدث الضرر .. والتوسُّط في ضبط الشهوة والغضب هو الذي جاءت به الأديان في عالم الأخلاق ، وبذلك جاءت أيضا معاني السماحة في هذا التراث.
وبذلك وجدنا مسجدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استوعب كلَّ من حواليه من أصحاب الاتجاهات المختلفة .. كان يدخل فيه اليهودي، ويدخل فيه النصراني، ويدخل فيه المشرِك، ولما جاء وفد نجران - وهم نصارى - بعد العصر كانوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.. كما روى ابن إسحاق والإمام البيهقي في كتاب دلائل النبوة أنه حضـر وقت صلاتهم فقاموا يصلُّون في مسجد النبي ، فعَجِب منهم بعض الصحابة فأراد أن يوقِفَهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعُوهم . كان ذلك بعد أن كانت قِبلَة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة وقِبلتهم نحو المشـرق. فاستقبلوا قبلتَهم وصلّوا بمرأى من النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فما كان في معنى الحداثة من مسامحة يقبل بها صاحب الفكر غيره في مقابلته ومحاورته فهذه الحداثة نحن نعدّها سُنَّة من سنن رسول الله ، و ما كان من إكراهٍ للغير على الفكر أو عدم قبولٍ له وإعطائه حريته فيما لا يضـر الغير فهذا لا يكون مقبولاً، وكما أن من استشار الغير أضاف عقولاً إلى عقله، فمن عرف الاستفادة من التراث والماضي فقد أضاف أعماراً إلى عُمره ، ولما اتسعت دائرةُ المسلمين وأرادوا ضبطَ تقسيم الأموال عليهم كان هناك نظام يسمى الديوان في فارس، فأخذه سيدنا عمر بن الخطاب وطبَّقَه لأن فيه تنظيم ولا يَتعارض مع شيء من القيم .
فالخلاصة أننا والبشرية جميعا نحتاج إلى استصلاحِ واقعنا بحُسن النظر فيما نستفيده من ماضينا وحسن استخدامِ ما نستحدثه في حاضرنا ، ولكن لا نتوصل إلى ذلك إلا إذا تركنا التعصّب وصَدَقْنا في إرادة إبراز الحقيقة فَلَمْ تحمِلنا النفسيات ولا الأغراض السياسية وغيرها على قلبِ الحقائق وتصوير الشـيء على غير ما هو عليه .. هذا خلاصة ما أحببت أن أذكر لكم في هذا الملتقى والحمد لله رب العالمين..
تقدم أستاذان فاضلان بمداخلتين تضمنت سؤالين:
1- كيف نتصور إقامة الشريعة في بلاد الكفار؟
نقدم الشكر للعالمين الباحثين .. وقد كانا عميقين في طرحِهما، وتبيَّن من كلامها سِعة إطلاع وإدراك بعض الحقائق الدقيقة ، وجواباً على السؤال الأول نقول إنَّ القوانين التي يَخترعها البشر بعقُولهم يكون فيها ما يُصلِح وما يُفسِد وما يَنفَع وما يضر وأنَّ هذه القوانين منها ما يسلب الآخرين حريّاتهم ومنها ما يترك للناس حريتهم، نعني بالحرية في دين الإنسان وفيما يتعلق بشخصه مما يُحِبُّ ولا إضرار له على الغير .. فأما القوانين التي لا تسلب الناس حرِّيتَهم ولا تمنعهم من إقامة شعائر دينهم فيمكن العيش تحتها في أي وقت .. بل يكون فيها ما يحمي الناس وما يجد فيه صاحب الديانة انفساحا وأداء دور .. وهذا عَينُ ما قال النبي لأصحابه وهو بمكة : اذهبوا إلى الحبشة .. والحبشة أرض يحكمها نصراني وهو قد بُعِث لدعوتهم إلى الإسلام وذكر حيثيةً في اختيار هذه البقعة فقال: فإن بها ملكاً لا يُظلَم عِنده أحد . يقينا لم يرسلهم ليغيِّروا نظام الحبشة ولا ليتولَّوا لحكمَ فيها ولكن ليعيشوا فيها حاكمين على أنفسهم بمنهج ربهم وبهذا المنهج يعرفون كيف يتعاملون مع ذاك الحاكم ومع الشعب الذين معه .. فنخرج من هذا أنَّ مما يهتدي إليه البشر بعقولهم كثيراً مما يتفق مع أمور مناهج السماء والديانة ، وكثيرٌ مِنه لا يتفق ولكنه لا يناقض .. نريد بمعنى لا يناقض لا يُكرِه الغير على مخالفة دينه .. فبهذه الصورة وجدنا أحوال الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم وبعده لا تنزعج من شيء من ذلك أو لا تخالف أن تعيش في مثل هذه الأحوال .. وكانت عِيشَة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة تحت أنظمةِ قوانين وضعيَّة كفرية .. ثم عاد ليعتمر ونظام الكفر قائم ومُنِع فجاء في عمرة القضاء ودخل مكة وأقام أياماً وعاشَ تلك الأيام بمكة وأراد أن تطُول فلم يأذنوا له ، فلمّا لم يأذنوا نزل على حكم قانونهم فخرج من مكة .. ولم يكن من مهمته في عيشته تلك أن يباشِر تكسير الأصنام كما كان في عيشته قبل الهجرة .. ثم إنّه عليه الصلاة والسلام تواصل مع مَلِك الحبشة من قَبْلِ إسلامه، وقال عن حلفٍ حَضَره في أيام الجاهلية هذا الحلف يسمّى حِلف الفضول وخلاصته أن تعاهدَ جماعة من ذوي النفوذ والحكم في مكة على إنصاف المظلوم وإخراج حقه من الظالم فكان يقول في الإسلام (لقد حضرت حلفاً في الجاهلية لو دُعِيت إليه في الإسلام لأجبت). وبذلك نقول مفهومنا عن معنى حُكْمِ الإسلام لا يرتبط بمحبة السلطة ولا السعي إليها ، ولكن كانت تجيء نتيجة حتمية لاستجابة النفوس والقلوب ، ولهذا فالعائش مثلاً في أمريكا وهو يقيم ما أمره الله به في نفسه وأسرته وأعماله لا يمكن أن يسأله الله تبارك وتعالى عن الأحكام السلطانية يعني الأحكام التي فرضها على السلطان .. فمن كان من السلاطين مسلما فهو الذي يتصرّف في سلطنته بما يؤمن به ويعتقده، فإذا كان المسلم غير سلطان وأراد أن ينفِّذ ما خصصه الله بالسلاطين فهو في واقع الأمر خالفَ حكم الشـريعة.. بل لو كان تحت حاكمٍ مسلم ثم جرى شيء في المجتمع يحتاج إلى أمر السلطان فتصـرَّف هو لكان هو مخالفاً للشرع.. فإِقامة حُكْم الإسلام في مفهومنا هي العمل بمقتضى أُسُسِهِ والتعامل بها مع المخالف والموافق .. وذلك حتى لا تكون حياة الناس فوضى في كلِّ من آمن بشيء يتصرف فيه غافلاً عن الحقوق والأدوار الموزَّعَة .. ولولا ذلك لصارت حياة الناس كالوحوش على بعضهم البعض.
وسيدنا نوح مكث تسعمائة وخمسين سنة وكانت السلطة الظاهرية بيدِ الكفار .. فالسؤال هل كان نوح قائماً بحكم الله وشريعته أو كان مقصِّرا.. و أيُّ عقلٍ يقول كان نوحٌ مقصراً ولم يحكِّم شرع الله لأنه لم يحكم يكون متجرئا على الله ورسله.. لم يكن مجرد منفِّذٍ في الحكم بل كان في القمة من أولي العزم من الرسل .. إذا عرفنا هذا فنعلم الجواب عن السؤال وإن مع المسلم أسساً يعرف بها كيف يتعامل مع القوانين على ظهر الأرض.
أراد النبي أن يراسل ملك الروم وملك فارس فأخبروه أنَّ في قوانينهم وبرتكولاتهم أنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما، ولم يكن ذلك مستعمَلا بين العرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم نفَّذَ القوانين الدولية المتعارفة واتخذ خاتما فختم به الكتاب.. فعُلِم كيف التعامل بكل ما لا يتناقض مع الأسس .. فإذا كانت سلطةٌ تمنع المسلم أن يؤدي شعائر دينه فحينئذٍ إن كان قادرا على التحوُّل من تحت هذه السلطة فجلوسه تحتها دناءة ولومٌ وسقوطٌ، وإن كان عاجزاً عن الانتقال فلا لومَ عليه. فالحق تبارك وتعالى ذكر ذلك في القرآن (قالوا فيما كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرضُ الله واسعة فتهاجروا فيها) ثم استثنى فقال في الآية الأخرى (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) إذا علِمنا ذلك فإننا أيضا نتخاطب مع السلطات والأنظمة التي تمنع الناس من إقامةِ أديانهم لنتحاور مع هؤلاء الذين يمنعون الناس.. كما أنه في إسلامنا لا نُكرِه أحداً على الدين فلا يمكن أن يكون نظاماً قائما على العقل يُكرِه أحداً على الدين.. وهذا من جملة القضايا التي يُمكِن التشارك فيها.
فيما يتعلق بالجواب على سؤال الدكتور قيام أن لا نُكره الناس على ديانة وأن لا نتحكَّم فيهم في خصوصيات دياناتهم، يمكننا أن نتباحث في هذا ونتشارك مع الأنظمة الغربية وغيرها.. إذاً أطلنا في الجواب.
2- ما دور التزكية مع انتشار العلمانية؟
إن أقلَّ ما في التزكية أن تخفِّفَ حدَّة التحامُل على الغير.. ويُقالُ مهما اقتنعتَ برأيٍ فلا ينبغي أن يكون ذلك الرأي هو المفروض على جميع الناس ، ومع ذلك فإنه ربّما تؤثِّر أكثر من ذلك وتنفع أكبر، لكن بأمرين : إذا قامت على وجهها الصحيح وفُسِح المجال لها ، فالتزكية إذا قامت على وجهها وفسح المجال لها تحلُّ مشاكل كثيرة في الواقع حتى مع العلماني ، ولكن الإشكالية في الفهم الخاطئ في الدين، حيث يجد العلماني وغيره ما يُنفِّر ويكفِّر ، فإِذا بَقِيت عنده نسبة من الدين بسبب هذا التعامل ضَعُفَت أكثر.. ونرجو أن نكون قد وُفِّقنا للجواب على السائل .. كذلك تصور إقامة الشريعة في بلاد الكفار هو الذي تطرَّقنا إليه عند السؤال الأول ، ومما يجب علينا بيانه أنه ليس في إقامة حكم الشريعة إرغامُ أحدٍ على الدخول في الإسلام، ونقول للذين يتخوَّفُون من الشـريعة في مثل هذه البلاد لا تتحاملوا على الشـريعة بمجرد اندفاعٍ غير موزون، فإنها ومعنى إقامتها لا تتعلق بإرغامكم على شيء، لكن ساعدوا على بيان مفهومها الصحيح عند المنتمين إليها ، فإنّه إذا تمَّ في الواقع انتشار ودعم كبير للفهم الخاطئ فمرجع هذا لا إلى الشريعة ولكن إلى دعمٍ لمخالفة الشريعة.. كذلك فيما يتعلق أيضا بالسؤال الثاني للأستاذ يتداخل في تصحيح المفهوم لإبراز معنى الشريعة بالوجه الجميل المشرِق ، كلمّا اتسع المجال لأن يفهمها المنتمون إليها على وجهها اتسع المجال للتفاهم والاشتراك ، وكلام الأستاذ عميق في أن الأمر راجع إلى نفس القيم وأرى أن التحاور مع العقلاء يوصِل إلى اتفاق واشتراك كبير في قيمٍ يُتَّفَقُ عليها.
3- ما دور التواصل في توسيع مجالات التعاون؟
هذا التزاور والتعاون أيضا على البحث النزيه ، كما تكلمنا مع الأستاذ الذي قدر زار حضـرموت وكان دقيقاً في تصويره لكثير من القضايا ، وفي المكتبة عندكم ذكرنا لهم مركزا تابعا لدار المصطفى للتواصل فيما بينهم ، فوجود هذا التواصل وتلاقي الأفكار نرجو أن يؤدِّي دوراً فيما يذكره السائل .. على أنه أيضا فيما يتعلق بالعدد لم يبلغ العدد في نفس دار المصطفى الذي بُلِّغَهُ الأستاذ وأنبئ عنه فقد حَرصْنا على النوعية في التلقِّي، وإنما باعتبار الفروع في الأماكن المختلفة، نعم يبلغ هذا العدد لا باعتبار المقيمين عندنا وسط دار المصطفى أو باعتبار الذين قد تخرجوا .. عندنا دورة تقام في كل صيف في أول الشهر السابع يوليو لمدة أربعين يوما فعَبْرَ مثل ذلك ودراسة بعض أبناء أمريكا يحصل أداء الدور .
4- كيف التعامل مع النفسيات المختلفة والثقافات المختلفة؟
الجواب عند وجود الصدق في إرادة التطبيق وحسن التعامل فيُمكِن التوصُّل إلى النفسيات المختلفة في الثقافات المختلفة بركيزة حسن النية وحُسن الخُلُق ولين القول ولين الجانب والبعد عن الفظاظة وعن الغلظة، واستعمال الوسائل في التخاطب واختيار الأسلوب الأقرب إلى نفسية المخاطَب ، عند مراعاة هذه الأسس وإخلاص النية ما هناك مشكلة في تَقَبُّل الناس لبعضهم البعض، أنت رأيت ما قال الدكتور من الكلام الطيب عنّا وسمعت ثَناءنا عن دراسته فلم يمنعه كونه غربي وناشئ على الثقافة الغربية أن يفقه شيئاً مما عندنا، ولم يمنعنا كوننا شرقيين أن لا نُنْصِفه ونقول أنت غربي أمريكي لا نسمع منك أو لا تصدق.. فنحتاج إلى فقه هذه الأسس وحسن التعامل.
10 جمادى الأول 1432