(236)
(536)
(575)
مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في اختتام الدورة التعليمية التربوية الثلاثين بدار المصطفى، ليلة السبت 6 صفر الخير 1446هـ
الحمد لله على ما جمعنا وأسمَعنا، ونسأله أن ينفعنا وأن يرفعنا، ما هي إلا سلسلة بلاغ المُصطفى مُحمَّد ﷺ عن الله، وما تعيها من القلوب مِمَّن كان من السَّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ وهم رأس هذه السِّلسلة وأساسُها -عليهم رضوان الله- ولحِقَ بهم مَن أسلم من بعد فتح مكة، ثم لم يزل سِرُّ ما وَعَوا من وحي الله وخطابه، وبلاغ رسوله وبيانه، مستودَعًا في القلوب التي اختِيرت من قِبَل مُقَلِّب القلوب، ربِّ الأرض والسَّماء، ربِّ العرش العظيم، الحاكمِ بين عبادِه فيما كانوا فيه يختلفون، والخالقِ لهم ليبلوهم أيُّهم أحسنُ عملًا وهو العزيز الغفور، والجامعِ لهم في يومٍ لا ريب فيه، فيحكمُ ولا مُعقّبَ لحُكمه، ويتبينُ للكلِّ أنّ المُلكَ مُلكُه وحده جلَّ جلالُه (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16]، وهي حقائق أيقنت بها قلوب المُلبِّين والمُستجيبين المُتَرَقّين بأسرار التلبية والاستجابة إلى عين اليقين، ومنهم مَن رَقَى حق اليقين وهو في هذه الدُّنيا.
وتبقى القلوب المُغَطَّاة بأغطية الالتفات إلى غير الله، والإرادة لغير الله، والاغترار بشيءٍ من الكائنات والأنفس وأهوائها، والشَّهوات وسُلطتها وغلَبتها، وشياطين الإنس والجن ودعوتهم؛ ليكون المُستجيب لهم من أصحاب السَّعير والزَّمهرير، والغضب الكبير، والخُسران المُبين، والبُعد عن ربِّ العالمين؛ فهذه نتائج الاستجابة لدعوة إبليس وجُنده، ومنهم وُكلاؤه من النُّفوس الأمَّارة التي إذا أصغى إليها الإنسان دون أن يُهذِّبها، وأن يُربِّيها، وأن يقهَرَها لتسلُك سبيل السَّواء كانت مندوبةً لإبليس، تدعوه ليكون من أصحاب السَّعير في أنواعٍ من التّلبيس، وأنواعٍ من التّدليس تحرِفه عن سواء السَّبيل، وتقطعه عن خير جيل، وعن هذه السِّلسلة التي كان فيها أرباب الهمم والقِمم في الاستجابة والتلبية لنداء الإله الأكرم، والتلبية لدعوة حبيبه الأعظم سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
ومِن سِرّ هذه الإجابات؛ جاءت الفضائل في الأماكن والأراضي والأزمنة، وفي الأشخاص عبر تلكم القلوب التي اختِيرت اختيارًا من قِبَل مَن يعلم الإسرار والإجهار -جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه-.
والله نسأل أن يُنوّر قلوبنا، ويختارها لوعي وفقه هذا الخطاب، وبه تخرج عن الاغترار بالمنشورات بين النَّاس في الأرض، والأطروحات التي تُطرَح عليهم فتستهويهم، تستهويهم وتقتَطع منهم؛ تقتطع فكرًا، وتقتَطع عُمْرًا، وتقتطع مِنهم سلوكًا وتوجُّهًا.
كلُّ ما خالف فيه الشَّرع وكلُّ ما تُسوهِلَ فيه وأُهمِلَ به أمر الله تعالى:
فهذه المَحاضِر التي نحضُرها معنا مناصبنا وعُلماؤنا، وأخيارُنا وأعياننا وصُلَحاؤنا، وصغارُنا وكبارنا، ورجالنا ونساؤنا، وحاضرون بالمباشرة، والمتابعون من هنا ومن هناك؛ إنَّما هي حلقة في السِّلسلة التي أشرنا إليها، مَن قام بحقها ووعى سرّ النبأ والخطاب من ربِّ الأرباب، المحمول إلينا على يد سيِّد الأحباب، قلبه وروحه ولسانه الطَّاهر، وبلاغه بذلك الجسد الكريم المصون المُشرَّف، مَن لبّى النِّداء، وأولو الألباب ذكرهم ربُّ الأرباب في الكتاب أنَّ من دُعائهم له الذي يدعونه به في الحياة الدُّنيا مُستعدّين به للقائه ولأحوالهم في المآب، يقولون: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) [آل عمران:193].
وما هوَ موجودٌ اليوم مِن الطَّاقاتِ الّتي تُهدَر وقتًا وفكرًا، ومدارك تُهدَر في اتّباع السّوء، إذا كانت تُهدَر في مُجرّد الفضول واللغو كانت مُصيبة، لكن المُصيبة أكبر التي تُهدَر في سيئات الأخلاق، في فعل المُحرّمات، في قول المُحرّمات والمُنكَرات، في نظر المُحرّمات والمُنكرات، في التَّعاونِ على الإثم والعدوان، في انتهاكِ الحُرُمات، وكل هذا الحاصل نتيجة إستجابة لدعوةِ إبليس وجُنده ووُكلائه، ومنهم النُّفوس الأمّارة، خُذِلوا أصحابها لذلك؛ لأنّهم ما صَدَقوا في التّلبية لنداء الله، ولا أصغَوا بصدقٍ للخطاب الرَّباني المُبلَّغ إلينا على يد صاحب الشَّرف العدناني صلَّى الله وسلم عليهِ وعلى آلهِ، سَيد أهل المعرفة والقرب والتّداني، يا رب صلِّ عليه وعلى آله وصحبهِ ومن سارَ في دربهِ، وعلى آباءه وإخوانه من أنبيائك ورُسُلِك وآلِهم وصحبِهم، وعلى ملائكتك المُقَرَّبين وعلى جميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وتُشاهِدون يصلُ إلى قلوب؛ ذا من جنوب إفريقيا، وذا من سنغافورة، وذا من أمريكا، وكلُّهم قلوبهم حنّت أن تَقْرُب من رَبها، أن تتخذ خطةً في الحياةِ بشرعهِ وبوحيِهِ، وبإرشاد نبيِّهِ، يخرجون بهِ من الاستهواءات المُختلفة الّتي استهوَت الناس لقضاء حياتهم، ولصرفِ أفكارهم، ولصرفِ طاقاتهم وجهودهم في الغفلاتِ إلى البطالات والتُّرّهات، إلى الخطيئات، إلى الصَّغائر، إلى الكبائر، ودعوة بين المُسلمين قائمة للإلحاد والكفر، والخروج من الملّة بأصلها -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ وكُلَّها استجابات لِنداءات إبليس وجُنده، سَبَّبَها:
تبعث البغضاء، تبعث الشَّحناء، تبعث الاستخفاف والاستهزاء بأمر الدّين، تحمِل على انقطاع السَّند، وعلى الانقطاع عن سلسلة الاتصال بمحمدٍ أحمد الهادي إلى المَنهج الأرشد صَلَّى الله عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم.
تلكُم التي جيّشت الجيوش، هذا وراء المال، وهذا وراء السُّلطة لا يُبالي بسَفك الدِّماء، لا يُبالي بانتهاك الحُرُمات، لا يُبالي بأن يتقمّصَ أيّ قميص؛ لأن له غرض قاصر، محصور، فاني، زائل، سجد له من دون الله، عبده من دون الله، جعله مُراده وغَرضه،
جعلها محلّ الإعْظام والإجلال مقابل (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ..) [النساء:65]، عنده لا نجاح حتى يُحَكِّمَها، حتى يُحَكِّم نفسه، وحتى يُحَكِّم رفيقه، أو صديقه، أو قائده في سبيل الوصول إلى ذلك الغرض.
وما هي الأغراضُ عندهم؟ واللهِ لو كانت مُلك الدنيا من شرقها إلى غربها، -ولن يملِكها منهم أحد كائنًا من كان- وحيازة جميع ثرواتها، لكان وجود ذلك وتحصيله خُسرانٌ مُبينٌ أمام ضياع سُنّةٍ واحدة، والله لَلسُّنة الواحدة خيرٌ من مُلك الأرض من شرقها إلى غربها والحُكمِ فيها وأخذ جميع ثرواتها، والله العظيم، لقد قال صاحب الرسالة: "لأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ؛ أَحَبُّ إِلَيَّ ممَّا طَلَعَتْ عليه الشَّمْسُ." تطلع الشمس على بترولكم أو ما تطلع؟ تطلع الشمس على ذهبكم أو ما تطلع؟ تطلع الشمس على سلطاتِكم أو ما تطلع؟ "أَحَبُّ إِلَيَّ ممَّا طَلَعَتْ عليه الشَّمْسُ"، صدقَ النَّاصح، صدق المؤدّي للأمانة، صدق المُبلّغ عن الرّب.
ويا ربِّ هيء هذه القلوب لتستجيب، وهي سوابق من ربكم، يسبقَ لها إنس وجنّ، عرب وعجم، ويُخْذَل عنها من يكون في بلدان الخير، أو من يكون في جانب بيت المقدس أو مكة أو المدينة بسوابق، مُقلّب القلوب يُقَلِّبُها، ويَا مُقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على ديِنك، يا مُقلّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على ديِنك.
بالسوابق هذه عَظَّمَ النَّجاشي في الحبشة وهو لم يَرَ المدينة ولم يَرَ مكة، ولم يَرَ الوجه الأغر والطلعة الغراء، لكن أحبه، ولكن عظّمه، وكتب إليه: وَدِدتُ أَنِّي عندك، فأغْسِل عن قَدَمَيك. ويقول: لو أمرتني أن آتيك بنفسي لأتيتك، وها هو ولدي أرسلته إليك، وكان في سفينةٍ غرقت في البحر.
كان هذا يوم تُوفي قريبًا من الله، قريبًا من رسول الله، وأُمِرَ ﷺ كما جاء في صحيح البُخاري أن يُصلي عليه مع أصحابه في المدينة المنورة، وَصفَهم صفوفًا وصلَّى عليه وأعطاه شهادة الصلاح، قال: "العبد الصَّالح تُوفي بالحبشة، وأمرني ربي أن أصلي عليه" ودعاهم، وصلَّى من صلَّى معه.
هذا في تلك الحبشة، وعنده وسط المدينة قلوب منافقين يموتون في السخَطِ والغضب، وقلوب يهود أيقنوا أنَّه رسول الله ونابَذوه وكفروا به وجحدوا بما جاء به فلم ينفعهم قربهم من المدينة، وكانت السوابق أنَّ قلوبهم وما فيها موجبَة لخسران الأبد ولعذاب الأبد، ولشقاء الأبد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
والآن هذه القلوب وما الذي يجري فيها والنداء قائمٌ من ربنا الرحمن، ومن بلاغ رسوله المنتقى من عدنان ﷺ، وانظر هوايتك، وانظر رغبتك، وانظر حرصك على أي شيء في هذه الحياة؟
يا ويل الحُرّاص على الأموال، يا ويل الحُرّاص على السلطات، يا ويل الحُرّاص على الوجاهات، يا ويل الحُرّاص على الشهرة بين الخلق، يا ويل الحُرّاص على متاع الحياة الدنيا، يا ويل المُقِرّين لقلوبهم على بُغض المؤمنين، وعلى معاداة المسلمين، وعلى التحامل على أهل لا إله إلاّ الله.
وما حالهم في (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) !
فلْنُلَبِّ النداء، ولنسلكْ سبيل الهدى، وما أبقى الله لنا هذه الخيرات إلا رحمةً منه ومِنّة، وعطاءً من عطاءٍ وعد به محمدًا أن يُقيمه في الأمة؛ فمنه مظاهر في يمننا، في شامنا، في شرقنا، في غربنا، في كثيرٍ من البلاد، لِمَن أخلص منهم، لمن صدق منهم، لمن كانت له السابقة الحسنة، فتتبعها حتمًا الخاتمة الحسنة، أحسن الله خواتيمنا، ونظر إلينا في جمعنا.
كان من أسرار هذه الاصطفاءات ما خصّ الله به يَمَنِكُم من وجود الصحابة، ومن وجود الرسالة، ومن وجود العلاقات القلبية الروحية بين المؤمنين في اليمن، وبين إخوانهم الذين سبقوهم إلى المدينة من الأوس والخزرج، وبيّن ما حلّ في قلوبهم من موالاة الله ورسوله، وإيثارهم له على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وأولادهم -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
وما تعاقب بعد ذلك في بلدان اليمن من قُرب، من صدّيقية، من ولاية، من زَهادة، من إيثار للحق، من محبةٍ خالصةٍ صادقة، من ورعٍ، من احتياطٍ للدّين، مِن تقديمٍ لأمر الله ورسوله، من تربية للأهلين والأولاد، بسِرّها بقيت هذه المظاهر للدين هنا وهناك، وخصّ الله بلدتكم بالكثير منها.
وإذا سمعتم حديث الوافدين عن تريم -وقد صدقوا-، أنّهم ما أحبّوها لأجل التراب، ولا لأجل الجو، ولا لأجل المظاهر، ولا لأجل الدّرّاجات التي فيها، ولا أن تكون مُسفلتة، ولا أن يكون فيها قصور، ولا يُحَبُّ لذلك من أجل الله شيء، لكن أحبّوها لأخلاق النبي محمد ﷺ، للآداب التي وُرثت، للعلائق القلبية والروحية التي بها الحُكم في القيامة.
ولوعبدَ اللهَ عابدٌ بين الركن والمقام عند الكعبة سبعين سنةً، ثم مات لم يحشرْه الله إلاّ مع من يُحِب.
علائق هذه المحبة، أرى يظفر بها بعضهم في أمريكا، وبعضهم في استراليا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ويُحرَمُها أناس وسط اليمن، قِسمةٌ من الله، فانتبه لنفسك أيّها المؤمن!
إلى أين يُؤخذ قلبك؟
إلى أين يُؤخذ لبّك وفكرك؟
إلى أين تُؤخذ مشاعرك؟
ما تعلمت حبّ الله تعالى؟ الذي يأخذ الكُليّة ذرة منه تُفنيك عن الأرض والسماء، لتبقى في مقامٍ أسمى، تشهد ربّ الأرض والسماء، وعمرك كم؟ ومتى تتعلمها إذا لم تتعلمها في هذا العمر القصير؟ حب الله!
المحبّين لله كل يومٍ لهم عيد ** من رجالِ العلوم الثابتة بالأسانيد ** والمعارف والأعمال الصحيحة بتأكيد
-عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
إذا سمعتم كلامهم عن تريم هذه، فإنّما هي عبارة عن مدرستكم، مدرسة حضرموت، مدرسة السلوك، مدرسة تعظيم مَلـِكِ الملوك، مدرسة إقامة التّبعية لحبيبه محمد، سيد أهل القُرب والنُسك والسلوك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهي جزءٌ من مدرسة الإسلام الّتي فيها الخواص في كثيرٍ من شرق الأرض وغربها، وكل قلبٍ مُلبٍّ لهم.
بعضها اليوم غافلة وراء تُرّهات ووراء أحزاب، ووراء اغترارات بذا وذاك، وفيها قلوبٌ ستُصطفى، وستُلبِّي النداء وستجيء، وبعضها اليوم كافرة لكن والله لا يذهب الّليل والنّهار، ولا تخرج من الدنيا إلاّ وقد اصطفّت في صفوف مرضيّة عند الله ينال أصحابها السبق في القيامة، ويا مقلب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك.
وما جَاءَتْ هذهِ المظاهر والجُهود، ولا امتدَّ هذا الخير من ربكُم لنا ولكُم وللأمة، إلا ليَحْيا من حَيَّ عن بيِّنة، ويهلك من هَلك عن بَيِّنة، لقد بلَّغ محمدٌ وبَيَّنَ وأحسنَ الدلالة، وأكمل التعليم، وتَركنا على المَحجّة البَيضَاء.
فيا أهل رغبة الاتصال بهذا الجَناب، اسْجُدُوا بقلوبكُم لربّ الأَربَاب، وَقدّموه على الدُنيا وما فيها، بل على الدُنيا والآخرة، وعلى الأرضِ والسماء، فهو الذي يُغْنِي عن كل شيء ولا يُغني عنه شيء، وهو الذي يكفي من كل شيء ولايكفي منهُ شيء، ربكم الله، وقد خُصِّصْتُم بالداعي الأكرم، والحَبيب الأعظم، ودلالته خيرِ الدّلالات، ومَنِ استجاب منكُم تهَيَّأَ له السَبيل.
أيُها الأحباب، وفي أسرار هذا سمعتم، هذا في جنوب إفريقيا يقول: لولا الإمام الحداد وراتبه ما عَرَف لا إله إلا الله، ولا دخل إلى دين الله -جلَّ جلاله-.
ما هو الإخلاص الذي تم للقوم؟ والذي سرى في أذكارهم وسرى في كُتبِهم؟ وامتلأت بهِ القلوب محَبةً لله ومعرفة بالله، في سندٍ قويم وصراط مستقيم
ثَبَتوا على قدم الرسول وصحبه ** والتابعين لهم فَسَلْ وتتّبّعِ
ومضوا على قصدِ السبيل إلى العُلا ** قدمًا على قدمٍ بجِدٍّ أوزع
عَليهم الرضوان.
ولكن، كم اليوم في البلدة قلوبٌ لا تعرف معنى القيام ولا الثبات ولا التبعية؟
قوم إذا أرخى الظلام ستوره ** لم تلفِهم رهن الوطا والمضجع
استبدلوا ذلك إمَّا بمسامرات في غفلات، أو باتباع جوالات، لا خشوع ولا خضوع ولا بكاء، ولا ركوع ولا سجود! (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان:64]، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) [الإنسان:26]، من بقي عنده هذه الرغبة ليكون ممتثلًا لهذا الأمر؟ و يُرَبّي أهله على ذلك ويربي أولاده على ذلك؟ ومن الذي اغترّ بهذه الترّهات؟
إذا ولده يُدَخِّل الفلوس فهو من خير الناس، بميزان من؟ بذوق من؟ بأساس مَن؟ بأصل مَن؟ هذه لعبة لعب بها عدوّك عليك، فاستجِب لهاديك وناصحك ومرشدك -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
"أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له" هو الذي سيكون ذخرًا لك، وسببًا لارتفاع درجاتك وأنت في برزخك.
بارك الله في الاجتماع، أعظَمَ اللهُ الانتفاع، نّور الله البقاع، أَسَرى نور الهداية في جميع الأقطار، وأبدى هذا الشعاع.
يا رب اهدِ قلوبًا في الشرق والغرب، يا ربِّ اكشف عن الأمة الكرب، يا رب نَازَلَتْنَا البلايا من آثار ما غَفِلْنا عنك وأهملنا أمرك، وضيّعنا أنفسنا وأهلينا وأولادنا، ودخلت الخمور والمُسكرات والمخدِّرات إلى الديار وإلى المنازل، ودخل بها بعض المسلمين إلى المساجد، وانتشرت الألفاظ القبيحة والصور القبيحة والتطاول عليها، وعُظِّم غيرُك، وعُظِّم غير أمرِك، وظُنَّ أنّ الأمر بيد سواك، واسْتُهين بالصلوات عند كثيرٍ من المسلمين، واستهانوا بالرِّبا الذي أوعدت عليه المُحاربة، وتعاملوا به في مختلف الأقطار وفي مختلف البلاد، وأهملوا أبناءَهم، وأهملوا نساءَهم، وكان ما كان من التشبّه بالفاجرات والعاهرات.
وفينا نساء ما في قلبها ذرّة أن تتشبّه بفاطمة سيدة نساء العالمين، ولا خديجة أم المؤمنين، ولا عائشة بنت الصدّيق، ولا مريم ولا آسيا المضروبتين في القرآن مثلًا للذين آمنوا، وعندها رغبة شديدة قوية جانحة، أن تتشبّه بكافرة، بفاسقة، بكاسية عارية، وتعُد ذلك شرفًا، وتعُد ذلك فخرًا!
ما هذا الموت؟ ما هذه الخِسّة؟ ما هذه السّقطة في رجالنا ونسائنا؟ يجب أن تفيق القلوب من هذا النوم العميق، بل السُّكر العميق، ونخاف أن يكون الموت، وإذا مات القلب ولم يَحيَا قبل الخروج من الدنيا، فويلٌ له في يومٍ تُقلَّب فيه القلوب والأبصار، وإنما يَحيَا قلب مَن صدق مع الله في يومٍ تموت فيه القلوب، المُحيين لِلّيالي، والمُحيين للسُّنن، ولا بُدَّ من هذه الرجعة، ولا بُدَّ من إقامة هذا السند، ولا بُدَّ من رجعتنا إلى المسلك الأرشد.
أَنْقِذِ الأمّةَ يا ربَّ الأمة، اكشفِ الغُمة يا جالي الظُلمة، ادفعْ عنّا كلَّ نِقمة، واجعل في هذه القلوب من رجالنا ونسائنا، وفي أهل الإقبال عليك بالصدق في شرق الأرض وغربها، إنسًا وجِنًا، قبولًا منك وتوفيقًا وبركةً في إقبالهم، يتضاعف به الخير وتثبت به الأقدام وتندفع به البلايا والأوهام والظلام، ويندفع به تسلط الِّلئام علينا بكل الذي ذكرنا من هذا الانحطاط سُلِّطوا علينا، ومع ذلك كله فمرجعنا إلى الله وملجؤنا إليه مهما كان الأمر وهو ناصر المؤمنين، (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء:141] -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، لكن يختار مَن يختار، ويَهلك مَن يَهلك، ويَرقى من يرقى، ويُحرم الرُّقِي مَن يُحرم، ويَخسر مَن يخسر، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) [الروم:4].
يا رفيع الدرجات، يا ذا العرش (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [غافر:15]، نظرةً إلى كلِّ قلبٍ في مَجْمَعِنا، وإلى كل قلبٍ يسمَعنا، مِن عندك ربّانية رحمانية تُثبِتُنا بها في أهل الخصوصية والمَزيّة في وعي أحكامك، وفي تلبية ندائك، وفي حُسن سماع خطابك، وفي حسن التلبية لرسولك خاتم أنبيائك، يا الله.. يا الله..
أَيدي الفقر امتدّت إليك يا غنيّ، أيدي الضعف امتدّت إليك يا قويّ، أيدي العجز امتدّت إليك يا قادر، أيدي العبودية امتدّت إليك يا ربّ كل شيء، أيدي العَبديّة امتدت إليك يا إله كل شيء، فانظر إلينا، فانظر إلى المؤمنين
نظرة تزيل العَنــــا *** عـنّا وتُدنى المُـــــــــنى
مِنّا وكل الهَنـــــــــا *** نُعطاه في كل حِــــــين
يارب ضاق الخناق *** من فعل مالا يطــــــاق
فامنن بفك الغَــــلاق *** لـــمن بذنبه رهِيــــــن
واغفر لكل الذنوب *** واستر لكل العُـــــيوب
واكشف لكل الكروب *** واكفِ أذى المــــؤذيين
واختم بأحسن ختام *** إذا دنى الانصـــــــــرام
وحان حين الحِمام *** وزاد رشــــــــح الجبين
ثم الصلاة والسلام *** على شفــــــيع الأنـَـــام
والآل نعم الكـــرام *** والصّحب والتابعـــــين
والحمد لله رب العالمين.
04 صفَر 1446