(536)
(208)
(568)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في اختتام الدورة الصيفية الأولى بمعهد الرحمة، عمّان، الأردن، عصر يوم السبت 27 صفر 1446هـ
لتحميل المحاضرة (نسخة إلكترونية pdf):
https://omr.to/m270246-dawrah-pdf
الحمد لله، الملك الحميد المجيد، المبدئ المعيد، الفَعّال لما يريد، ونُطَالِعُ في هذا الوجود عجائب جمال المُوجِد، في مجالات مواهبه وتفضُّلاتِهِ التي كرَّم بها بني آدم؛ ولمَّا كرم بها بني آدم وجعل في أول خلقه -بعد التنويه بخلقه وسر الكرامة- الخلافة عن الله في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30].
أمرالملائكة أن يسجدوا له (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ) [البقرة: 31]، (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة: 34]، (قَالَ یَـٰۤـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَاۤىِٕهِمۡ) [البقرة: 33]، احتَلَّ سِرَّاً من أسرار المشيخة المُعتبرة لدى المُكوِّن الخالق، في ترتيبه لخلقه حتى الرسل (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) [البقرة:٢٥٣].
وبرزت الكرامة لهذا الإنسان؛ بأن يحتلّ آدم كرسي التعليم لجماعة من ملائكة الله المُقرّبين (أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ..) كن أنت المُعلِّم، ويأخذون عنك ما علمتك من هذه الأسماء (..فلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة: 33].
ثم في هذا المجال الذي ذكرته.. برز شِيث بن آدم، وبقية أولاد آدم ممن استقاموا على المنهج، ثم جاء النبيون: إدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وسيدنا إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وإلى من ورائهم ومن بعدهم.. إلى سليمان وأبيه داود، وإلى زكريا، ويحيى، وعيسى بن مريم، حتى جاء الختم بحبيبنا وسيدنا وإمامنا..
هذا المجلى الذي يُطالَع من قلوب أرباب الوعي لأسرار الخَلْقِ والإيجاد، ولإدراك الكرامة التي أُكرِموا بها من رب العباد، ولحيازة حُسنِ السعي والاستعداد، وأخذ الزَّاد؛ لشأن الخلد والبقاء والمَعاد؛ برز السيد المعصوم، واسع الجاه والفُهُوم، حبيب الحي القيوم؛ خاتِمًا للأنبياء، ورحمة للعالمين، وفَّرَ الله نصيبنا من هذه الرحمة.
وإن كان يَقسِمُ فيها كل الخلائق، حتى تأخير العذاب بالجملة على الكفار في هذه الحياة الدنيا، ثم نقلهم من تحت الشمس يوم القيامة بصاحب المقام المحمود ﷺ؛ إلا أن الأسعد بهذه الرحمة الربانية: من آمنوا بهذا النبي واتبعوه من أمته التي لبسَت تَاج: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 125]. تاجٌ لا يمكن أن يُكتَسب بجِدٍّ ولا باجتهاد، ولا بجهاد، ولا ببذل، ولا بتضحية! الرَّبُّ الخالق المُبدِع المعيد الحميد المجيد تَوَّجَ الأمة بهذا التاج (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 125]، بواسطة سيد الناس ﷺ، فحظَّهم كبير من هذه الرحمة بالإيمان.
ولكن والله.. والمؤمنون مختلفون في أخذ النصِيب من هذه الرحمة، وعلى قدر النصيب من هذه الرحمة تكون حقائق الإسلام والإيمان والإحسان، وحقائق المعرفة بالله تعالى، والمحبة له، والمحبة منه، والقرب إليه -سبحانه وتعالى- والرضا منه والرضا عنه -جل جلاله-، وعلى ضوء ذلك يكون درجة النعيم في دار التكريم في عالم الخلد والبقاء والدوام.
الحمد لله.. وفَّر الله حظَّ هذه الأمة.
فمن المؤمنين من يعظُم حظّه،
ومنهم من يبكي عليه رسول الله ﷺ لخروجه من الدائرة، حتى منهم من يُعرضوا عليه -وهو واقف على حوضه- يُقَرَّبُون من الحوض؛ لتزداد حسرتهم، فيُذادون ويُطردون عنه، قال: أقول أمتي، قال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا! يتأسف عليهم ﷺ، لمَّا فوَّتوا هذه الرحمة، لمَّا فوتوا نصيبهم من هذه الرحمة!
مهما أدركت نصيبي من ثقافات، مهما أدركت نصيبي من إدارات، مهما أدركت نصيبي من وصول إلى ثروات..؛ فكلها ما أقرب انقضائها وزوالها!
لكن نصيبي من هذه الرحمة أبدي، نصيبي من هذه الرحمة خالد، نصيبي من هذه الرحمة دائم، فما توجد مكاسب أكبر للمكلفين إنسًا وجنًّا على ظهر الأرض أكبر من أخذ النصيب من هذه الرحمة، ولا أعلى، ولا أجلّ!
أخذ النصيب من هذه الرحمة: بالإيمان بهذا الرسول ﷺ، وتعظيمه، ومحبته من أجل الله، وأن تقوم حقائق معرفتنا بالله بما بلّغ، وبما تعرَّف الله إلينا على يده.. من هذا الوحي المُنزَل، وهذا القرآن المُفَضَّل المهيمن على جميع الكتب.
وبِسِرِّ هذا التفضيل ومطالعتنا في هذا المجال الذي أشرتُ إليه، وعد الله نبيّه ﷺ أن يُبقي في الأمّة طائفة ظاهرة، منصورة على الحقِّ، يُوجد من يخالفهم، ويوجد من يُناوئهم، ويوجد من يَخذلهم، ولكن هذه الأصناف كلها لا تتمكّن من ضُرِّهم، والمساس الحقيقي بشأنهم الكبير لا يضرّهم من ناوأهم، و "لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ"، "لا يَضُرُّهم مَن خالَفَهم، حتّى يأتيَ أمْرُ اللهِ وهم ظاهِرونَ".
وإن تَقَمَّص من خذلهم أو ناوأهم أو خالفهم بصورةَ الكتاب أوالسنة أوالدين أو الإسلام.. لا يضرُّونهم، مهما أخذ هؤلاء المُتقمِّصُون من تلبيسات وتدليسات ما يقدرون يضرون هؤلاء، أي: يرعى ربُّ العرش بقاءهم ووجودهم في الأرض، ونصرهم، من حيث يعلم الناس ومن حيث لا يعلمون، ومن حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.
وهذا هو الأمر الذي وجدناه مع ما حصل بداية من عهد الصحابة الكرام.. بدأ المُناوأة، والتخذيل، والخذلان، والمخالفة.. من عصر الصحابة، ولكن ما تضرَّر الصحابة -عليهم الرضوان- والسابقون، قُتِلوا، ولُعِنوا، وسُبُّوا، وكُفِّروا، وقامت في مضادتهم..
والعجيب أن هؤلاء الذين يُضادّونهم يتشدَّقون بِذكر القرآن! وبذكر الآيات!
ويُقاتلون بها مَن؟ السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار! الله الله! الذين سمعوا القرآن من فم محمد ﷺ مباشرة! وعَلِمُوا معناه من لسان محمد ﷺ مباشرة! فيجيئون بآيات نزلت في المشركين والكفار! ويصرفونها! ويقاتلون الخيرة الذين الله أثنى عليهم في القرآن! بل أثبت لهم مكان قدوة يقتدي الناس بهم (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم..) وضعهم موضع القدوة لأجيال بعدهم إلى يوم القيامة! (..وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ..) والمنشور فوقهم: (..رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]. اللهم اجعلنا من مُتبعيهم.
حصل ما حصل في زمنهم وذهبوا، وبعد زمنهم، وهكذا.. إلى أن جاء وقتنا وزماننا هذا.
وليس لنا من خلال هذه الدنيا إلا هذا العمر القصير، الذي كتب الله لنا أن نعيش فيه، من حين أن يُميّز أحدنا إلى حين أن تبلغ روحه الحلقوم، ويخرج، والحال أنَّ هذا الإله لكل من صدق معه تعالى؛ مُتولٍّ بالعناية، والرعاية، والحفظ، والتمكين، والسَّدادِ، والصلاح.. فوق ما يتخيل المتخيلون!
ما حاله (.. إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ) [ق: 83-84]، حضرة الربوبية تقول: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ) [الواقعة: 85]، ولم يزل كذلك أقرب إلينا في أحوالنا، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16].
لكن مع قُربه هذا.. مِنَّا مَن يتطلَّب أن يَقْرُب هو من القريب؛ فيُجَلِّ القريب له سِرَّ قربه منه بمقدار "من تقرَّبَ إلىَّ شبرًا تقرَّبتُ منْهُ ذراعًا، ومن تقرَّبَ إلىَّ ذراعًا تقرَّبتُ منْهُ باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُهُ هرولةً".
ومنهم من يُبعَد عن هذا الإله! ويغفل عن هذا الإله! وينسى هذا الإله! ويخالف شرع هذا الإله! ويترك أوامر هذا الإله، ويُستَعْبَد لنفسه وهواه!
والأغرب من هذا أن نجد ألوف بل ملايين على ظهر الأرض.. مُستعبدين لأهوية غيرهم! لأهوية غيرهم من الساقطين البعيدين! أهواءهم رسموها لهم وهم يمشون وراءها!
ويتأبّى أو ينصرف عن أن يخضع لأمر الله، وأن يمتثل لأمر الله، فاستُعبِد من دون الله، لمن لا يستحق أن يُعبَد، ولا يحق له أن يقود الناس.
فكان هذا الخير -بحمد الله- في هذه الأمة، والشام على عمومه، والأردن جزء منه، وبيت المقدس المبارك المُعَظَّم، والذي أشارت أحاديث إلى أن ثُلَّةً هذه الطائفة المنصورة يحلون بذلك المكان على مدى القرون، "بِأَكْنافِ بَيْتِ المقدسِ" على مدى القرون فيهم صادقون مخلصون من الطائفة المذكورة على لسان رسول الله ﷺ: "لَا يَضُرُّهُمُ مَنْ نَاوَأَهُمْ"، " لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ"، " لا يَضُرُّهُمْ مَن خالَفَهُمْ"، فمهما بلغت رتبة المخالفة، والمناوأة، والتخذيل.. لن يستضروا حتى يُعلي الله -سبحانه وتعالى- كلمته (وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ)[التوبة:32]،[الصف:8]، (وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ)[التوبة:33]،[الصف:9].
والشام بعمومه محل البركة والنظر من رسول الله ﷺ، ومهما مرَّت عليه من ظروف وأحداث؛ تجد آثار هذه البركة والدعوة والعناية الربانية تظهر، وكل ما خرج عن سواء السبيل ينكشف، ويُخذَل ويُبعَد، ولو أخذ زمنه أو وقته المُحدَّد.
ومن فضل الله أنكم في هذه المملكة الأردنية الهاشمية بدأ هذا المسار فيما يتعلق بشأن الدين، برجعة قويمة سليمة إلى الأصل؛ إلى حقائق خطاب الحق في الكتاب، وبلاغ رسوله في السنة، والأسلوب الذي فُهِمَ به الكتاب والسنة من قِبَل الرعيل الأول من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار -عليهم رضوان الله تعالى- وتَسَلْسَل.
والأردن كغيرها من البلاد تعرَّضت لأنواع من الفتن، لأنواع من الاتجاهات، لأنواع من التحدث باسم الدين -مع الخروج عن حقائق الدين-، إما قصداً وعمداً لأي هوىً ولأي غرض، وإما تلبيساً ومكرًا يُظَنّ أنه هذا هو الدين، كما غُرِّر بالكثير، وإن كان هم مختلفون؛ المُغرَّر ليس كمن تعمَّد وقصد، والأمر لله في الكل -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
والطائفة المُباركة يحرصون على الجَمْعِ، وعلى الصبر، وعلى الألفة بما استطاعوا.. مرة بعد مرة، والحمد لله هذا الاتجاه اليوم.
ومما يُمثِّله من الجوانب الكبيرة هذه الجامعة الإسلامية -بحمد الله تبارك وتعالى- قامت فيما يتعلق بمفهوم الكتاب والسنة على مسلك السلف الصالحين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم على مدى القرون، نعمة من نعم الله عليكم وعلينا وعلى الأمة، فبارك الله في هذه الجامعة والقائمين عليها، وشكر الله السعي لرئيس الجامعة وقد حضر معنا هذا المحضر، ومن حضر معه أيضًا من القائمين على الجامعة، زادهم الله توفيقًا وعناية ورعاية.
نقول: أبرز الله تعالى وجه السنة كما هي، والسلوك في مسلك -فيما سمعتم عنه- أنه تمخَّض بعد مرور القرون إلى أَتْبَاعِ المذاهب الأربعة، والأشعري، والماتريدي.
ولا أحد من الأئمة الأربعة ولا الأشعري ولا الماتريدي.. جاءنا بشيء من عنده ولا من عند نفسه ولا من مجرد فكرة .. لا والله؛ عبيدٌ صدقوا وأخلصوا في الأمة، استخلصوا ما وُرِثَ وأُخِذَ من النبي ﷺ عبر الصحابة والتابعين فبيَّنوا.. فقط، والله لا لهم وحي نزل عليهم، ولا لهم اختراع من أنفسهم! لكن فازوا بهذه الخدمة، فنَسَبَ الحق -تعالى- الخير إليهم، وجعل الناس أتباعهم في تبعية محمد ﷺ، ما منهم مُستقل، ما أحد منهم مُستَقِل! كلهم مُتَّبِع، وكلهم مُنتهِج في المنهج،
والتبعية والإمامة لواحد اسمه محمد بن عبد الله ﷺ، وحده على الإطلاق هو الإمام في هذه الأمة، الإمام على الإطلاق في هذه الأمة هو وحده، ومَا سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي والسابقون الأولون إلا في تبعيته، وشرفهم وقيام إمامتهم بحسب تبعيَّتِه، وبحسب انطوائهم فيه، وكذلك من جاء بعدهم، وهؤلاء الأئمة الأربعة، وأبو الحسن الأشعري، وأبو منصور الماتريدي، خدموا الموروث في حقائق الإيمان عن رسول الله ﷺ، وصحابته وآل بيته والصالحين.. وبيَّنوا.. وما جاءوا بشيء من عندهم.
وأبو الحسن الأشعري من ذرية سيدنا أبي موسى الأشعري، أبي موسى الأشعري الصحابي الذي وفد على النبي ﷺ، وولاه النبي على نواحي في اليمن، وبنى مسجده في اليمن في سنة ثمانٍ من الهجرة في زبيد، ويُسمَّى مسجد الأشاعرة إلى اليوم، من سنة ثمانٍ هجرية إلى هذا اليوم وهو قائم هذا المسجد في مدينة زبيد في اليمن.
من ذريته هذا أبو الحسن وأبو منصور الماتريدي خدموا، خدموا الموروث في حقائق الإيمان عن رسول الله وصحابته وآل بيته والصالحين وبيّنوه، ما جاءوا بشيء من عندهم، بل أبو الحسن نفسه كان متأثرًا ببعض أفكار المعتزلة، وفي ليلة من الليالي هبَّت نسمة من فوق لتهيؤه للإمامة في الطريق، ورأى الحبيب ﷺ يقول: "فأين سُنَّتي؟ فأين سنتي أبا الحسن؟"، وراحت من فكره كل الكثافات التي كانت، وعاد إلى السُّنَّة، وترك الجباية ورجع، وخدم السُّنة، وكان إمامًا من أئمتها، اختاره الله -تبارك وتعالى- لذلك، ونُسب إليه أهل السنة في الاعتقاد.
كما جاء في مجال الإحسان سابقًا في القرن الأول والقرن الثاني.. ظهر زين العابدين علي بن الحسين، وأبو الحسن البصري، وسعيد بن المُسيب، وسعيد بن جبير، ونظرائهم من خواص التابعين، ثم تابعي التابعين، ثم برز في الخدمة الجنيد بن محمد حتى سمي سيد الطائفة -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.
كما برز أيضا عندنا في اليمن في تهذيب شأن الإحسان والمفهوم فيه على يد الإمام الفقيه المقدم محمد بن علي، وهو في ذلك وَارِثْ للسَّنَد من قبله إلى جده المهاجر الذي خرج إلى حضرموت قبل ألف ومائة وستة وعشرين سنة -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-، خرج إلى حضرموت حاملاً هذا النور، وله شيوخ كُثر.. منهم والده عيسى، ووالده عيسى له شيوخ كُثر من خيار الأمة.. منهم والده محمد النقيب، ومحمد النقيب له شيوخ كُثر من خيار الموجودين في عصره.. ولكن من أعظمهم والده علي العريضي، وعلي العريضي له شيوخ كُثُر.. من أعظمهم أخوه الإمام موسى الكاظم، وشاركه في الأخذ عن أبيه أخيه جعفر الصادق، وجعفر الصادق له مشايخ كُثُر، وهو شيخ مشائخنا أهل السنّة، أبو حنيفة أخذ عنه، والإمام مالك أدْركه، والإمام الشافعي أخذ عن الإمام مالك، والإمام أحمد أخذ عن الإمام الشافعي؛ فلهم مرجع في سند الفقه إلى جعفر الصادق -عليه رحمة الله تبارك وتعالى ورضوانه-.
وجعفر الصادق له شيوخ.. ومن أجلّهم والده محمد الباقر، ومحمد الباقر في فهم الكتاب والسنة له شيوخ.. من أجلّهم عليّ زين العابدين والده، عليّ زين العابدين من أين فهم الكتاب؟ ومن أين فهم السنة؟
تربّى في حِجر والده الحسين حتى استُشهد الحسين وهو حاضر، ولم يَنجُ من جملة أولاده إلا هو، قُتِلَ أولاده كلهم وقُتِلَ الأنصار، ومن أواخر من قُتِلَ سيدنا الحسين نفسه -عليه الرضوان-، ثم بقي هذا وحده حتى تعرّضوا لإرادة قتله، فتقدّمت زينب بنت علي -رضي الله عنها- تقول: أقتلوني قبله، لم تقتلوا هذا الشاب الصغير؟ ورَقّت نفوسهم، أو أرادت الإرادة الربّانيّة، كان ألوف من ذُرّيّة النبي وعترته وسط صُلب هذا.. ونجا، ورجع مع زينب أخته إلى المدينة المنورة، ثمّ انتقلت -عليها الرّضوان- إلى مصر المحروسة وكان ما كان.
وهذا زين العابدين أخذ عن أبيه الحسين، والحسين فهمه للكتاب والسنة من أين؟ باب مدينة العلم أبوه، وسيدة نساء الجنة أمه، ومع ذلك شاركهم في صغره عن الأخذ من الأصل من المصدر، ما أخذ سيدنا علي ولا سيدتنا فاطمة إلا من محمد زين الوجود، والحسين وهو ابن سبع سنين سمع من جده يقول له كذا ويعلّمه كذا، ويرشده إلى كذا، ويربيه بكذا ﷺ، ثم كمَّل أخذه أشهر عديدة، وتكملت تربيته وفهمه على يد أبيه علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه ورضي عنه، ورضي عن أصحاب رسول الله أجمعين-.
فبهذه المعاني قامت في الأمة، يعني: "كتابَ اللهِ، وعترتي أهل بيتي لن تَضِلُّوا بعدَهما أبدا"، "... لن يَتفَرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحَوضَ".
فرتّب الله تعالى لهذه المملكة أن تقوم فيها هذه الأنشطة وأن يقوم فيها هذا الخير، اللهم لك الحمد فأتم النعمة، فأتم النعمة، وخُذ بيد ملك البلاد، وأرشده طريق الهدى والسداد، وزِدهُ من التزود بأشرف زاد، وأمدّه بالتوفيق، وولي عهده، والذي أيضاً باشر من خلال هذه الجامعة وقيامه عليها الأمير غازي بن محمد -وفقه الله وأطال عمرهم- ومن ساهم معهم وشاهد كالأمير هاشم بن الحسين، ومن ساعدهم على هذا الخير، ومن يقوم في رئاسة المعهد أو في وزارة التعليم العالي أو في وزارة الأوقاف أو في غيرها من المرافق -وهو يريد الله، ويقصد الله، ويريد خدمة الدين- وَفِّقْهُم اللهم وخذ بأيديهم، وارزقهم الإخلاص لوجهك، وبارك في علماء البلدة وعلماء الشام جميعًا، وزدهم تأييدا ونصرة، وأطل أعمارهم، واعْمُر بهم مسلك أسلافهم من قبل، واحفظ بهم الأجيال من بعدهم، وثبِّت الكل على قويم السداد والهدى يا أرحم الراحمين.
وفِّر حظنا من الرحمة من محمد بن عبد الله ﷺ، رحمة رَحِمتَ بها العباد، فاجعل حظ كل واحد من هؤلاء الحاضرين ومن السامعين ومن المُقبلين عليك وافرًا وقويا وكبيرًا من هذه الرحمة، يقوى بها إسلامه وإيمانه وإحسانه، ويُزَجُّ به في ميدان المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة؛ حتى نتقابل في دار الكرامة (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47] يا أكرم الأكرمين.
جزى الله مشايخنا وعلمائنا الذين جاءوا وزاروا، وحرص الشيخ توفيق -أطال الله عمره- على الحضور في الختم وجاء من سوريا بشوقه وهمته ونهمته ومكانته.. الله يزيدهم من كل توفيق، تردد المشايخ عندنا من الشيخ إسماعيل وغيرهم، وممن أقاموا الدروس والمذاكرة مع الطلبة والخطاب لهم.. الله يجزي الجميع خير الجزاء.
وهؤلاء السعاة والقائمون بالخدمات جنود مع الرحمن، يقبلهم الله -إن شاء الله- ويرزقهم كمال الإخلاص، ويجري على أيديهم الخير.
اللهم انظر إلينا في جمعنا، اللهم أصلح شؤون الأردن والشام كله، وعجِّل بالفرج لأهل الضفة الغربية، ولأهل غزة، ولأهل رفح، ولأكناف بيت المقدس، وانظر إلى الشام كلها، وإلى اليمن، واجمع لنا بركة دعاء نبيك بالبركة لأهل الشام وأهل اليمن، ويتزود الكل منها، ويعودوا ببركات إلى داره وإلى منزله، وإلى بلاده، وإلى دولته، يجري فيهم الخير، ويعظُم فيهم الخير، ويندفع عنهم كل شر وضير.
واجعلها ساعة من ساعات القبول عندك، ومن ساعات الرضوان منك، ومن ساعات العطاء الواسع، والاتصال بالحبيب الشافع، فلا تُخرِج قلبا إلا مُتصلا بك وبرسولك اتصالا لا ينقطع، مُحِبًّا محبةً تزداد في كلِّ نفس، مُقتديًا مُهتديًا، خاضعًا خاشعًا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وزدنا والأمة كشفا للغمة، وجلاء للظلمة، ودفعًا لكل بلية، وصلاحًا لكل ظاهرة وخفية، وأرِنا رايات حبيبك منصورة في جميع الأقطار، واجعلنا من ناصريها على خير الوجوه، وأحبّها إليك في السر والإجهار، يا سامع الدعاء، يا من لا يخيب الرجاء، واملأنا بالتقوى، والإيمان، واليقين.
وكان من الحرص والمشاركة مجيء منصب الحبيب أحمد بن حسن بن حامد المحضار من أرض حضرموت، وحضر الختم والدورة معنا.
الله يجزيهم ويجزي جميع المساهمين والمشاركين خير الجزاء، ويفتح أبواب الخير للرحمة، ويجعلها -وكل حاضر فيها- مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، ممّن بهم ينشر الله الخير فيما بطن وفيما ظهر، أنت المدعو، أنت المرجو، أنت الكريم العفو، لا تُخَيّب رجاءنا، ولا ترد دعاءنا برحمتك.
والعفو منكم على التطويل وضاق الوقت، وكنا نود أن نسمع من كثير من علمائنا الموجودين، ولكن الحمد لله على ما يسَّر، ونلتقي -إن شاء الله- على الخيرات، ويفتح الله الأبواب للعنايات والرعايات، ويختم لنا بأكمل حسن الخاتمات، إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
الفاتحة
الله يجمع الخيرات ويدفع الآفات، ويعلي درجات جميع والدينا ومشايخنا ومشايخ العلماء الموجودين وسلسلة أسانيدهم إلى الحبيب الأمين، ويرفع لهم المراتب ويجزل لهم المواهب، ويجمعنا بهم في خير الكتائب، في أعلى المراتب و هو راضٍ عنا، ويصلح الشأن لكم ولنا وللأمة أجمعين، وينظر إلى الشام وإلى اليمن وإلى الأمة المحمدية، نظرة تزيل العنا عنّا وتدني المنى منّا وكل الهنا نعطاه في كل حين، في خير وتمكين مكين.. على هذه النية وكل نية صالحة وإلى حضرة النبي ﷺ.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الفاتحة
07 ربيع الأول 1446