كلمة في ختم البخاري بزاوية الحبيب محمد بن هادي السقاف 1446هـ
كلمة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في مجلس ختم صحيح الإمام البخاري في زاوية العلامة الحبيب محمد بن هادي السقاف، بمدينة سيئون - وادي حضرموت، عصر الجمعة 10 رجب 1446هـ
لمشاهدة المجلس:
https://www.youtube.com/live/9i5EgnUFcWw?si=y6s3ovpwsVYH7Q
نص الكلمة مكتوبة:
نفعَنا الله بما جمعَنا، ونفعَنا الله بما أسمعَنا، ونفعَنا الله بما أُسِّس وبُذِر من عظيمِ النياتِ وصدقِ الوجهات. ونفعَنا الله تعالى بتلك القلوبِ المُنيبةِ التي صدقت مع الربِّ وتنقَّت عن العيوبِ وعن كلِّ رِيبة.
فهم القومُ الذين هُدوا ** وبفضلِ اللهِ قد سعدوا ** ولغيرِ اللهِ ما قصدوا ** ومع القرآنِ في قَرَنِ
ربِّ فانفعنا ببركتِهم ** واهدِنا الحسنى بحرمتِهم ** وأمِتنا في طريقتِهم ** ومعافاة من الفِتنِ
كم شهدت هذه الساحات تدفُّق لمزون المنن والعطايا والمِنَح والهِبات، وكم تابَ من تائبٍ توبةً؛ رقى بها إلى أعلى ذُرى المحبة ودخلَ مع الأحبة، وكم نُظِر مِن نظرة منظور في هذه الساحات؛ فعاد في أهلِ المعرفةِ الخاصةِ والقُرب من الحقِّ جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه.
وكم شُفي مِن مريضٍ مرضَ حسيٍّ أو معنويٍّ، في مثلِ هذه المجامعِ وفي مثلِ هذه المحافل، وبعد تلكم التأسيساتِ التي سمعتموها على يد الحبيبِ هادي بن حسن أعلى اللهُ درجاتِه، وما تمَّ مِن ذلك التعميقِ والتجذيرِ والتنويرِ وزيادةِ الهِمَّةِ للحبيبِ محمد بن هادي أعلى الله درجاتِه وجمعَنا به في أعلى الجنة.
وجاء أولادُه من بعدِه وعرفتموهم واحداً بعد الآخر، وهؤلاء أحفادُه وأسباطُه أدام اللهُ فيهم سرَّ الإقبالِ والقبولِ والتوفيقِ، والاتصالِ بخيرِ فريق، والثبات على أقوى طريق، والشربِ من أحلى رحيق.
والحمدُ لله، كما سمعتم البلدةَ المباركةَ سيئون والوادي الميمون، خُصَّ بنفحاتٍ ومِنَنٍ وهِباتٍ وعلومٍ كثيراتٍ، وثباتٍ من سرِّ هذه المدرسةِ الموروثةِ عن المصطفى محمدٍ ﷺ، عبرَ أصحابِه وعبرَ أهلِ بيتِه.
وبعد القرونِ الأولى التي كان فيها الصحابةُ الكرام، وفيها جاء التابعون وتابعو التابعين، جاءت العترةُ الطاهرةُ وجاء الإمام المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى، وازدادَ النورُ وازدادت الخيورُ، وعظُمت الروابطُ بين العائشين في هذا الوادي المبارك على مدى القرون، كانت شؤونُ مظاهرِ الدنيا تأخذُ مجراها، وربما وصل بهمَّةِ الأكابرِ أثرها إلى العامِّي وإلى السلطانِ وإلى الصغيرِ والكبير، حتى كان في السلاطين من يخضعُ ويخشعُ لأمرِ الله، ويقيمُ الأمرَ كما يحبُّ الله، ويرجع أمره إلى أهلِ العلمِ وأهلِ السرِّ وأهلِ النور.
ويجري ما يجري بعد ذلك سواء في السلطناتِ أو في القبائلِ أو في الطرقاتِ، ما يجري مما يوافقُ الشرعَ ومما يخالفُه بدواعي النفوسِ والأهواء، ولكن مجرى الاستقامة قائمٌ بين أهلِه، ومجرى الصدقِ مع اللهِ تباركَ وتعالى ثابتٌ بين أهلِه جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن.
أبٌ يتلقى عن أبيه وهكذا ** فيا لكَ مِن آباءٍ كرامٍ وأجدادِ
مسلسلةٌ عنهم أسانيدُ أخذِهم ** إلى خيرِ محمودٍ وأشرفِ حمادِ
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وكان الجمعُ في الأسانيدِ بين الأسانيدِ العلميةِ وبين أسانيدِ الأدبِ والتربية، بل بين أسانيدِ الذوقِ والوَجدِ والشهود، كان مأخوذاً من واحدٍ عن الآخرِ إلى الأصلِ البدرِ صاحبِ الإسراءِ والمعراجِ ﷺ الذي جاءَنا بهذه الرسالة.
وبذلك قامت حضرموت المدرسةُ السُّنيةُ، المدرسةُ الشافعيةُ من مذاهبِ الفقهاء، الأشعريةُ في الإيمانِ والاعتقادِ الموروثِ عن خيرِ العبادِ ﷺ، الصوفيةُ في مسلكِ الإحسانِ الموروثِ عن الصحابةِ والتابعينَ وتابعي التابعين.
ولما ألَّفَ الإمامُ الكلاباذيُّ "التعرُّف لمذهبِ أهلِ التصوُّف"، ذكرَ أوائلَهم الذين قاموا بحقِّه: عليُّ زينُ العابدين والحسنُ البصريُّ، وسادة التابعين رضي اللهُ تعالى عنهم ومن بعدَهم، فهي مسلكُ أهلِ السنة، أخرجَ أولئكم الأكابرَ بعد الأكابر، عليهم رضوانُ اللهِ تعالى.
ونُشِر بها دينَ اللهِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، وقامت به العاداتُ الطيبةُ القائمةُ على صدقِ الاتباعِ لخيرِ الوجودِ زينِ الوجودِ ﷺ، في عقيدةٍ صافيةٍ نقيةٍ هي عقيدةُ أهلِ السنةِ والجماعة، عقيدةُ النبيِّ والصحابةِ والأكابرِ قرناً بعد قرن، عليهم رضوانُ اللهِ تباركَ وتعالى.
ما فيهم مشركٌ ولا فيهم مبتدعٌ، ولا فيهم ضالٌ ولا فيهم مؤذٍ، ولا فيهم مُكفِّرٌ ولا فيهم حاملُ فتنةٍ ولا فيهم من يفرِّقُ بين عبادِ اللهِ تباركَ وتعالى.
ومضَوا على قصدِ السبيلِ إلى العُلا ** قدماً على قدمٍ بجدٍّ أوزَعِ
ثبتوا على قدمِ الرسولِ وصحبِه ** والتابعينَ لهم فَسَلْ وتتبَّعِ
وجاءت هذه الأعمالُ الموروثاتُ المباركاتُ على قدمِ الاقتداءِ بخيرِ البرياتِ في السُّنَنِ، ومسلكُهم مسلكُ هؤلاءِ في الشرقِ والغربِ من أهلِ السنةِ والجماعة، أتباعِ المذاهبِ الأربعةِ والأشاعرةِ والماتريديةِ، ومن وافقَهم في ذلك من بقيةِ طوائفِ المسلمين في شرقِ الأرضِ وغربِها.
ولا يختلفون عن أهلِ السنةِ في معتقدٍ ولا في مسلكٍ ولا في شيءٍ من هذه المسالك، فكلُّها موروثةٌ مُوطَّدةٌ بتلكم الأدلةِ والأصولِ الراسخةِ عن النبيِّ الرسولِ محمدٍ ﷺ، وهم أهلُ شدةِ المتابعةِ له ﷺ، وتركوا فينا هذه الخيراتِ، بارك الله لنا فيها وللأمة.
وجب علينا أن نأخذَ نصيباً من الاتصالِ بالسنةِ وكتبِ السنةِ، وأعمالِ السنةِ وأذواقِ السنةِ، وروحانيةِ السنةِ ومشاعرِ السنةِ، وحقائقِ السنةِ الكريمةِ التي تجمعك بصاحبِ السنةِ، الذي لا يجتمع مُجتمع عليه إلا اجتمعَ قلبُه على مرسلِه، واجتمعَ قلبُه على مُصطفيه، واجتمعَ قلبُه على منتقيهِ الإلهِ الحقِّ جلَّ جلالُه.
وهو يقولُ في معنى هذا الجمع: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، (وَلَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ) يقول ﷺ.
وهكذا جاءتكم الخيرات، وهكذا امتدَّت إليكم حبالُ الصِّلات، فينبغي أن ننظرَ بعضَ أبنائِنا وبناتِنا تشرَّفوا بحفظِ شيءٍ من القرآن، ينبغي أن نربطَهم بسرِّ القرآنِ ونوره وأدبه، وبعضُهم تشرَّفوا بحفظِ شيءٍ من أحاديثِ المصطفى محمدٍ ﷺ، من مثلِ الأربعينَ النوويةِ وغيرِها من المختارات، ومنهم من يرقى بعد ذلك إلى شيءٍ أكبرَ منها، فينبغي أن نربطَهم بنورِ السنةِ وسرِّ السنة.
ولكنَّ الأكثرَ من أولادِنا ما في بواطنِهم شيء من هذا، والكثيرُ من أولادِنا يترنَّمون بكلماتٍ وأراجيزِ فُجَّارٍ أو كُفَّار. ننتبه لأنفسِنا، ننتبه لأبنائِنا وبناتِنا، ننتبه كيف نُربِّي، ننتبه ماذا نغرسُ في نفوسِ هؤلاءِ وقلوبِ هؤلاء.
وكان يُزيَّن بواطنُ الأبناءِ من الصِّغَرِ بذكرِ اللهِ وذكرِ رسولِه، وبحفظِ القرآنِ من السورِ القصيرةِ إلى جزءِ عمَّ وتبارَك على أقلِّ ما يكون، ثم نصيب من الأحاديثِ النبويةِ، ثم من المنظوماتِ في التوحيدِ، من المنظوماتِ في الآدابِ والأخلاقِ، من المنظوماتِ في فقه الشريعة المُطهَّرة.
وكان تمر على أكثرِ الناس في مثلِ هذا الوادي، والذي لا يوصَفُ بالعلمِ ولا بطلبِ العلمِ مرَّ على المختصراتِ هذه وحفظَ شيئاً من صِغَره، هكذا كان فيما قبلَنا من القرنِ الذي مضى وفيما قبلَهم كذلك، وفي ذلك قالوا: "سيئون دائم بالعلوم سخيَّة".
طرأ علينا ما طرأ، وعلى وادينا وعلى الأمة، ولا يزال إن شاءَ اللهُ الخيرُ باقي واللهُ يُنميهِ ويكثِّرُه.
ونأخذُ نصيبَنا من هذه المجامعِ وسرها، وانقضاءِ الشهر علينا، باركَ الله لنا في لياليهِ وأيامِه، والمجامعُ الكبرى في هود، جعلَها اللهُ تعالى من خيرِ المجامعِ وأبركِها في هذا العام إن شاءَ الله.
وكان يعتني الحبيب محمد بن هادي السقاف، ويقول: "نخاف إذا توقَّفت سنة من السنين أن يكونَ بلاءٌ ما يصدّه شيء". وهذه الدعوات في مثل ذاك الشِّعبِ بهذه الاجتماعاتِ يردُّ ما أشارَ إليه ﷺ، ولا يردُّ القضاء إلا الدعاء، وتنكشفُ به الشدائدُ عن الأمة.
ونريدُ توجُّهاً بالفرجِ للمسلمين من الصغيرِ والكبير، ووجهةً إلى اللهِ قويةً إن شاءَ الله تنفتحُ بها أبوابُ الفرجِ، ويُرفعُ الضيقُ والحرج، ونبلغُ إن شاءَ الله كلُّنا رمضانَ على خيرِ حالٍ في أخبارٍ صالحةٍ للمسلمين تسرُّ قلبَ النبيِّ الأمين، وتسرُّ قلوبَ الصالحين.
وفي ردٍّ لكيدِ المعادين والمعتدين والظالمين والغاصبين، أصلحَ اللهُ أمورَ المسلمين، صرفَ اللهُ شرَّ المؤذين، تولانا في كلِّ حالٍ وحين، إنه أكرمُ الأكرمين.
وأمتعنا بمناصبِنا وعلمائِنا وذراري هؤلاءِ الصالحين، وزادَهم زيادةً من كلِّ أنواعِ المنن والسعادة، وأصلحَ الواديَ والناديَ واليمنَ والشامَ والشرقَ والغربَ، وفرَّجَ كلَّ كربٍ، إنه أكرمُ الأكرمين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
02 شَعبان 1446