دروس من الهجرة

محاضرة الحبيب عمر في مسجد المشاري (اليرموك) بالكويت مساء الأربعاء بعد صلاة المغرب 20 ذو الحجة 1432هـ بعنوان: دروس من الهجرة
محاضرة تربط بين أحداث الهجرة ومعانيها العميقة، وتدعو المؤمن لهجرة قلبية دائمة من كل ما يبعده عن الله إلى كل ما يقربه منه سبحانه وتعالى.
نص المحاضرة:
الحمد لله رب العالمين، الذي أكرمنا ببعثة عبده المصطفى الأمين، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم في كل وقت وحال وحين عليه، وعلى آله وصحبه الأكرمين، وعلى أهل الصدق في تبعيتهم من أهل الإيمان واليقين، على ممرّ الأوقات إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد، ففي هذه اللحظات نتذكر من الهجرة النبوية دلالات واعتبارات ومعانٍ ينبغي للمؤمن أن يكون على بصيرة بها في إدراك مسلك قدوته خير البريات، المؤتمن على بلاغ الرسالة، الذي دلّ على الحق فأحسن الدلالة، ﷺ.
حكمة الابتلاء في الهجرة
ولقد جاءت هجرته النبوية تحمل إلينا معاني إقامة العبودية لله على ظهر الأرض. فإنّ الذي أسرى بنبيهِ وعبدهِ ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قبل حادثة الهجرة لا يعجَز أن يحمله إلى المدينة في لحظة، كما فعل في الإسراء والمعراج، ولا يعجز أن يرُدّ عنه كيد الكفار والفجار والمشركين الذين يتربصون به. ومع ذلك، عرّضه في واقع هذه الحياة لأن يؤذى، ولأن يُتآمر عليه، ولأن تُخطَّط الخطط للنيل منه ولأذاه، ولأن يذوقَ من عناء السفر ومشاق التنقل، وصعوبة الوجود للمأكل وللمشرب، وأن يُقاسي أنواعاً من مقابلة ما اقتضته الحكمة الإلهية في ابتلاء العباد واختبارهم على ظهر الأرض (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).
من خلال تمكُّن الكُلّ مَن آمن ومَن كفر، ومن صدق ومن كذب، ومن أخذ الحقّ ومن كان في الباطل، أتاح لهم أسباباً، وأتاح لهم قُوى، وأتاح لهم قُدرات؛ بسطها في مائدة الكون، فالكل يتعامل معها أو بها ويتقابلُ بها مع الآخر، وهي من أسرار الحِكمة الإلهية في تدبير هذا الكون، وعلى حقيقتها قامت مقابلات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لأقوامهم قرناً بعد قرن، وزمناً بعد زمن.
ولو شاء ربك لم يُسلًّط فاجراً ولا كافراً على نبي، بل ولا على أتباع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، حتى تعرّض بعض الأنبياء للقتل، وتعرّض بعض الأنبياء للشق، وتعرّض أنبياء للجوع وللعطش وللحبس، وقد قصَّ الله علينا ما قصّ في ذلك؛ كل ذلك يُثبِّت فينا حقيقة أن عبوديتنا لله وصدقنا مع الله لا يمكن أن تقوم ونحن نطلب مُجرَّد الرفاهية حتى تكون كأنها مقصدنا الأساسي في الحياة، ونريد أن نحيا حياة بعيدة عن المشاقِّ وعن المقاساة والمعاناة، وهذا الذي لم يجعله الله لأنبيائه ولا لرسله صلوات الله وسلامه عليهم.
حقيقة السعادة والشقاء
إنّما خصائص ومزايا طمأنينة القلوب ونعيم الأرواح هي السعادة المبذولة للمؤمنين والصادقين في الدنيا، يُحرَم منها سواهم كائناً من كان، ولو ملك الأرض من أقصاها إلى أقصاها. فما كان في السعادة فِرعون الذي يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)، ويحكُم ويُقتِّل ويفعل، وما كان في الشقاوة موسى عليه السلام الذي خرج هارباً خائفاً يترقّب من مصر إلى أن أتى مدين كما ذكر الله تعالى في القرآن.
فالهجرة تُعلِّمنا وضع الميزان الصحيح في وعينا وإدراكنا:
- ما حقيقة السعادة؟
- ما حقيقة الشقاوة؟
- ما حقيقة الطمأنينة؟
- ما حقيقة النعيم أو الفضل أو المجد أو الكرامة؟
كل هذا ينتفي فيه الوهم الذي يكون سلاحاً للشيطان وللكفار فيما يوحون إلى المسلمين، وما يزخرفون من القول لِيُعلِّقوا القلوب بغير الحق وبغير الحقيقة، فيحدث من ذلك أن يقلّ الصبر، ويحدث من ذلك أن يُستعجَل الأمر، يحدث من ذلك أن يضيق الصدر، يحدث من ذلك أن تمتدَّ الأيدي بالعدوان للناس على بعضهم البعض.
ولو استقام إدراكُ حقيقة السعادة، حقيقة الكرامة؛ كيف هي ومتى تكون، وعَلِموا أن العِزة في طاعة الله وفي أداء أمر الله سبحانه وتعالى، لما تنكَّبوا في طريقهم ولما سِيقوا لهذه الأسواء التي يقعون فيها أو ينقطعون بها عن التحقُّق بحقائق الإسلام والإيمان والإحسان.
معنى الهجرة وحُكمها
في ذلك أيضاً حقائق مُتعلِّقة بالهجرة نفسها، وإن كانت الهجرة ولا تزال أحكامها سارية في الأمّة، وكل من كان في بُقعة من الأرض لا يقدر فيها على إقامة شعائر الله، ولا على أداء فرائض دينه، ثم يستطيع أن يهاجر منها فالهجرة عليه واجبة.
ومعنى "لا هِجرة بعد الفتح" أي لا هجرة مِن مكة، فمكة المكرمة بعد الفتح لا يُمكن لأحد أن يدرك فضل الهجرة بأن يخرج من مكة؛ مكة صارت بلد الإسلام كما هي في الأصل محلّ النور والهدى، فما كان هناك بعد فتح النبي لها هِجرة منها.
ولكن الهجرة كما قال الله تعالى في كتابه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ)، وظُلمهم أنفسهم في أنهم رضوا أن يبقوا تحت وضع يمنعهم مِن إعلان الصلاة، مِن إقامة الجمعة، مِن إقامة العيدين، مِن ظهور شعائر الدين، ورضوا بذلك ورُبما كان فيه فتنتهم في دينهم بإيقاعهم في شيء من المُحرَّمات أو منعهم من شيء من الواجبات في الشرع، خصوصاً مما كان مُجمعاً عليه لا مِريَة فيه، رِضاهم بهذا ظُلم لأنفسهم، (قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)، (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا). فلم يكن لهم عذر وهم قادرون على الهجرة. ولكن مَن عجز عن الهجرة أو كان ببلد يستطيع أن يقيم فيه شعائر دين الله تبارك وتعالى، وأن يؤدِّي فرائضه فلا هجرة عليه.
هذه الهجرة التي هي الحِسِّية: الانتقال من بلدة لا يمكن إقامة شعائر الدين فيها. ودون ذلك مِما يتعلق بالكمال والندب: الانتقال من بيئة، من جماعة، من بلدة، يستطيع إقامة الشعائر ولكن يتعرّض للمكروهات أو لفساد الأخلاق، أو يتعرض صبيانه وأولاده لأن يتعلموا العادات الخبيثة والمخالفات لشيء من أمر الشريعة فينتقل، هذا كمال وهذا أيضاً أمر مشروع.
حقيقة الهجرة: هجر ما نهى الله عنه
ولكن بقي معنى من معاني الهجرة أيضاً في حقيقتها، يُدركهُ الإنسان ولو كان عائشاً وسط بيته في محلّ مولده إلى أن يموت، تحدّث عنه ﷺ في عدد من الأحاديث ومِنها في حجة الوداع كان يقول: "ألا إنّ المهاجر من هجر ما نهى الله عنه". "ألا إن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"! أي يُدرِك معنى من الفضل والكرامة عند الله يشبه فضل المهاجرين من بلد إلى بلد، بهجرته من أرض المُحرمات والمخالفات للشريعة إلى أرض التقوى والاستمساك بالعروة الوثيقة، والخشية من الله تعالى؛ في ضبط أقواله وضبط نظراته، وضبط أفعاله وضبط نياته، فهذه هجرة شريفة، علّمتنا هذه الهجرة النبوية المقاصد في ذلك الهجرة.
الهجرة لطلب العلم والدعوة إلى الله
ولذا وجدنا أنّ المسلمين على مدى القرون بعد ذلك في هجرتهم كثُرت الهجرة سواء في الجهاد في سبيل الله، وسواء في طلب العلم الذي هو نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله، والقرون الأولى حفلت بالأسفار من أجل طلب العلم، بل سافر مَن سافر مَن الصحابة أنفسهم ليسمع حديثاً عن صحابي آخر سمعه من فم النبي، مع أنه يعلم هذا الحديث، ويعلم معناه، وسمعه من عدد لكن لم يسمعوه من النبي، والذي سمعه من النبي مباشرة كان في مصر وهذا في المدينة، فيسافر من المدينة إلى مصر ويُشرِف عليه الأمير فيرى الصحابي الجليل يقول: أن أخرج إليك أو تطلع إليّ؟ قال: لا، أطلع ولا تنزل أنت، حديث في موضوع كذا سمعته من رسول الله؟ قال: نعم، قال: حدثني به، قال: سمعته يقول كذا كذا. قال: السلام عليكم، ورجع، ركب راحلته وعاد من مكانه، سفر مسيرة شهر ذهاب وشهر عودة من أجل أن يسمع حديث مِن فم مَن سمعته أذنه من النبي ﷺ.
ارتباط الأسفار بصاحب الخُلق العظيم
هذه هِجرات وأسفار أسفرتْ عن أنوار ظهرت في واقع الأمة وفي حياتها، إلى حدِّ ما رأينا مَن سافر أيضاً من أرباب اليقين ومن أرباب المعرفة، ثم أخذ يشتغل في سفرهِ بالتجارة مثلاً، يحمل معه نور الإسلام وهديه فيتحوَّل به بلدان من كفر إلى إسلام، مِن ظلمة إلى نور، مِن ضلال إلى هدى؛ ذلك لما كان يرتبط بالأسفار والرحلات والهجرات صبغة الله، صبغة الله من خلال تشرُّب أهل تلك الأوصاف والأحوال، تشرُّبهم لحقائق اليقين والمعرفة وتخلُّقهم بأخلاق متابعة للمصطفى ﷺ، صاحب الخُلُق العظيم.
يزل من القرون الأولى إلى يومنا دخول الناس في دين الله بواسطة القلوب الخاضعة الخاشعة ومشاهدة شيء من أخلاق الإسلام هو السبب الأقوى والأكبر، وأكثر من يدخل في دين الله بهذا السبب لا بِمُجرّد القناعات العقلية وإقامة الأدِلّة المنطقية وحدها؛ فكم عدد الذين يُسلمون من هذا الطريق في زمننا؟ كم عدد الذين أسلموا به في الزمن الماضي؟ لكن بمشاهدة أخلاق الصادقين من المسلمين كم أسلم؟ وكم يُسلِم؟ بقراءة بعض سيرة رسول الله ﷺ وأخباره كم أسلم؟ وكم يُسلِم؟ فلا يزال نور الله ينتشر إلى القلوب بواسطة قلوب.
الهجرة من صورة الذِّكر إلى حقيقته
ولن يَحِلَّ هذا النور في قلب لم يهاجر من أرض المحرمات، بل هاجرت قلوب الصادقين من أرض المكروهات وخِلاف الأَولى، وكانوا في درجاتهم الأولى في التقوى ما ذكر الله في القرآن، أنه إذا أصابهم طيف أو طائف من الشيطان تذكّروا: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ) وفي القراءة الأخرى: (طَيفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)، وأبصروا الحق ورجعوا، فلا يستقرُّ فيهم الذنب ولا يستقرون في الذنب قط.
بل في مراحلهم الأولى يقول الله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ)، أي: نوع الذكر يحملهم على طلب المغفرة، يصحبه الخشية من هذا المذكور وشهود هَيبته والرجوع إليه جل جلاله، فيسارعون، هذا هو الذكر المطلوب! أنت كم تذكر قبل الصلاة؟ كم تذكر بعد الصلاة؟ أتشعر بشهود الهَيبة للمذكور الذي تذكره، مِما يحملك على القلق والخوف من سيئاتك ومن ذنوبك ومن خطيئاتك؟
أيكون لك ذلك؟! فإن كنت تستمر يوم بعد يوم وأسبوع بعد أسبوع لك نصيب من الذكر وهذا لا ينمو فيك؛ فاعلم أن الذكر لم يَقُم على وجهه! فهاجِر، هاجِر من أرض صورة الذكر إلى التحقُّق بحقيقة الذكر، والتحقق بحقيقة الذكر: أن تستولي عظمة المذكور على فؤادك وقلبك ولبّك وشعورك وحِسّك.
ما المقصود من تسبيحه أو تحميده أو تهليله إلا استشعار يغلبك؟ حتى إذا أشرق نور شهود الحقِّ لم يبقَ معك شيء من الكائنات يقطعك عنه، وما قيمة الأكوان عند المُكَوِّن؟ أما تستحي على نفسك لو كنت أمام عزيز كريم ثم رأيت بعض خدمه أو بعض حيواناته التفتَّ إليها وتركته إلى جانب؟ أما يكون هذا مَدعاة للخجل؟ وألا يكون زللاً موجباً لأن تُؤدَّب وتُعاقَب؟ كذلك ذكر الله.
إذا ذَكرتَ هذا العظيم الإله ثم التفتَ القلب إلى شيء من الكائنات هنا وهناك، أما تستحي؟ أما تخجل؟ أنت تذكُر من؟ وما هذا الكائن الذي يقطعُك عن المُكوّن جل جلاله وتعالى في علاه؟
لأجل ذلك كُله، نُدِبنا إلى كثرة الذكر في القرآن الكريم، ووجدنا رسول الله ﷺ في هجرته كثير الذكر، كثير القراءة، قبل أن يخرج من البيت وبعد أن خرج من البيت، وهو يمشي في الطريق، يقرأ القرآن ﷺ، وهو وسط الغار كثير التلاوة، كثير القراءة، صلوات ربي وسلامه عليه، مُشتغل بذلك وهو يمشي، وهو راكب، وهو جالس، صلوات ربي وسلامه عليه.
وصفهُ كما قالت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أم المؤمنين: "كان رسول الله ﷺ يذكر الله على كل أحيانه"، يذكر الله على كل أحيانه ﷺ.
في الحديث الصحيح أنّ السائل يسأل رسول الله في المجلس يقول: أي المُصلِّين أعظم أجراً يا رسول الله؟ فيجيب: "أكثرهم لله ذكراً"، يقول: يا رسول الله، فأي المُتصدِّقين أعظم أجراً يا رسول الله؟ فيقول: "أكثرهم لله ذكراً". يقول: يا رسول الله، فأي الصائمين أعظم أجراً؟ قال: "أكثرهم لله ذكراً". قال: يا رسول الله، فأي المُجاهدين أعظم أجراً؟ قال: "أكثرهم لله ذكراً"، التفت سيدنا أبو بكر لسيدنا عمر يقول: ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة، سمعه النبي قال: "أجل، ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة".
اللهم أعِنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
الارتفاع في مراتب الهجرة
إذا جئت وصلّيت المغرب فليكُن لك من هذه الصلاة معنى من الهجرة، وفي صلاة العشاء معنى آخر، فإن معاني الهجرة تستمر بك إذا دقَّقتَ النظر فيما ينبغي أن تُقلِعَ عنه إلى ما هو فوقه؛ صفات، أفعال، نظرات، نيّات، مقاصد، أحوال، معاملات؛ مع أهل، مع أولاد، مع أصدقاء، مع جيران، في مكان العمل، أمر الشريعة يرفعك إلى مراتب درجة بعد درجة، ويمكنك أن تأخذ معنى من الهجرة من كل فرض تُصلِّيه في الجماعة، فيزداد قوة خطواتك في السير إلى مولاك، وليس لهذا السير من نهاية.
ولا يزال الواصلون إلى كريم حضرة ربهم في سعي مستمر، بل بدل السير يُعبَّر عنه لقوة الشوق بالطيران لتلك الأرواح شوقاً إلى مراتب القُرب من مولاهم الفتّاح جل جلاله وتعالى في علاه.
قصة الصعود إلى غار ثور
لقد جاءت الهجرة النبوية تُعلّمنا، هذا سيد الوجود ينام وسط غار ثور.
العام الماضي طلعنا إلى غار ثور هذا الذي مكث فيه ﷺ ثلاث ليال، ومعنا جماعة من الشباب، ساعتين نطلع فوق حتى نصل، والطريق مُعبّدة وفيها بعض الذين يبيعون بعض المشروبات والحاجات، بعض الشباب يتعبون، فنجلس ونطلع ونمشي ونجلس، فيقول بعضهم: هذه أول مرة وآخر مرة، أنا لن أجيء لهذا المكان، قلت له: لكن أسماء بنت أبي بكر كانت كل ليلة تطلع وما قالت أول مرة وآخر مرة! تطلع كل ليلة وعندها حمل في بطنها وحاملة الطعام، حاملة الطعام ومعها حمل في بطنها، وتحضر الطعام تحمله لرسول الله وأبيها وسط الغار، وفي الليل والطريق غير معبّد، ولا أحد في الطريق يبيع عصير، في ظلمة الليل والطريق غير معبّد، الآن معبّد، كان غير معبّد، وهذه امرأة حامل وهي في أشهرها الأخيرة، لأنه بعدها لحقتهم في الهجرة فكان ابنها أول مولود للمهاجرين في المدينة المنورة، عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه.
فبيت أبي بكر بيت الجهاد، بيت الجهاد، بيت الصدق مع الله؛ كله البيت هجرة، هاجروا من جميع معاني ترف النفس وحظوظها وشهواتها.
يجيء أبوهم قد كان في الشرك قبل أن يُسلم، أبو قحافة والد سيدنا الصديق، بعد ما هاجر يقول: ما أرى أبا بكر هذا إلا فجعكم بنفسه وماله، ما أظن يُخلّي لكم حتى مال، أنتم هنا سيأخذه سينفقه على محمد ﷺ، لِما يعلم من محبة أبي بكر للنبي، فتجيء أسماء تقول له: تعال، وهو أعمى، الكيس الذي كان يضع فيه الطعام في مكان في البيت ملأته حجارة، قال: تعال انظر هذا، قال: ما دام ترك لكم هذا - ظنّه دراهم - ما دام ترك لكم هذا فليذهب أبو بكر، بيت عجيب غريب، واثِق بالله تبارك وتعالى.
وهي حتى نطاقها الذي تشدّ به وسطها لما ودَّعتهم وقت السفر وأرادوا شدَّ بعض المتاع على الجمل أخرجت النِّطاق فشقّته نصفين ليعصبوا المتاع ويأخذوه فسُمِّيَت ذات النطاقين، لأنها شقّت نطاقها نصفين رضي الله تبارك وتعالى عنها وأرضاها.
مواقف في رحاب غار ثور
وباتَ في تلك الليالي، لو رأيت الغار كيف هو وعجاجه لما تدخل داخل، المارّ ما يرى، ممكن ترى أقدامهم، لا يوجد فرش، لا يوجد سرير، المكان بحجارته فيه ثقوب للحيوانات، سيدنا أبو بكر تقدّم قبل النبي يسدّ هذه الثقوب، حتى بقي ثقب ما بقي شيء معه قطع الرداء حقّه وسدَّ بالقماش بقي حاجة أخرى ألقمها رجله، ألقمت الثقب رجله وقال: ادخل يا رسول الله، دخل ﷺ، وإذا في هذا الثقب حيّة، نام رسول الله من تعب الطريق على رجل سيدنا أبي بكر والحيّة طلعت تنهش أبا بكر، فصبر! وجاءت حلاوة الإيمان وشِدة المحبة تقاوم حُمّة لسعة الحيّة، حتى من شِدة الألم سقط الدمع من عينيه فوقعت قطرة على وجه رسول الله ﷺ ففتح عينيه، مالك يا أبا بكر؟ قال: حيّة تنهشني في رجلي يا رسول الله، قال: ناولني رجلك، قرأ على رجله وذهب الألم، ثم أخرج الحيّة فقُتِلت.
وأول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة، واحد أحدنا في عمره ما تعرَّض للنوم في مثل ذاك المكان! وهذا من ذا الذي ينام؟ صاحب الجسد الذي كان في الإسراء يُصلي بالأنبياء، وكان في المعراج يطلع فوق السماوات العُلى، هو هذا الجسد وسط الغار، في رضاه، في أدبه، في خشوعه.
ومع ذلك في طمأنينته ويقينه، سيدنا أبو بكر لما رأى أقدام المشركين انهلّت دموعه، ما لك يا أبا بكر؟ قال: رسول الله، لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا، فإن يقتلوني فإنما أنا ابن أبي قحافة، لكن أنت يا رسول الله إن تهلك تهلك الأمة! قال: "يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا".
نحن أدَّينا واجبنا الحِسّي، خرجنا في اتجاه غير اتّجاه المدينة حيث كانوا يتوقعون أننا نذهب، ودخلنا وسط الغار ومُخبّأ في هذا المكان، بعد هذا ما عاد عليك شيء.. هو يتولّانا (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
أهل السنة يقولون مُنكر صحبة أحد من الصحابة يفسق، إلا أبا بكر، فإن منكر صحبته يكفر لأنها منصوص عليها في القرآن: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
إدراك سيدنا أبو بكر لحقائق الهجرة
ونِعمَ الصاحب ونِعمَ الخليل لرسول الله ﷺ، ولم يزل شأنه في إدراك حقائق هجرته رضي الله تعالى عنه وأرضاه، حتى أنه بعد أن فقد هذا النبي ﷺ، اشتدَّ عليه الحال مع قيامه بأعباء الخلافة بمعنى وجدارة ما رُؤيت ولا شُهِدَت في غيره عليه رضوان الله تبارك وتعالى، ومع ذلك كله كان إذا ذكر رسول الله سالت دموعه، حتى وهو على المنبر يقول كنت معه في مكان كذا، فينتحب حتى يبكي أهل المسجد ينتظرون انتهاء بكائه فيعود إلى خطبته رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وتقول أسماء بنت عُميس وقد تزوّجها سيدنا أبو بكر بعد أن انقضت عدّتها من سيدنا جعفر بن أبي طالب، فتزوّجها أبو بكر الصديق، قالت: دخل عليّ في أيام خلافته ليلة فقام ناحية البيت ثم أكبَّ برأسه بين رجليه يقول: واشوقاه إلى رسول الله! واشوقاه إلى رسول الله! ويبكي.. قالت: قمت إليه أقول: يا أبا بكر، صحبته وحضرت غزواته وأَحبَّك ومات وهو راضٍ عنك وستلقاه إن شاء الله بعد هذا.. تخفّف عليه وهو يبكي طول الليل من ذكره لرسول الله ﷺ.
خاتمة
فما أعجب المعاني في الهِجرة التي لا يُمكِن استيعابها في أوقات قصيرة، ولكن على المؤمن أن يفتح بصيرته لتأمُّل أحوال رسول الله أكرم الخلق على الله، كيف صبر وكيف جاهد، وكيف كابد وكيف قابل العناء والمشقّات راضياً محتسباً ﷺ.
فلتقم بمعنىّ من هذا، قُم بالهجرة، طَهِّر البيت مما لا يرضي ربك من صور، من منظورات، من مسموعات، ولتهاجر وأهل بيتك إلى تبعيّة المصطفى ﷺ القائل: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواهُ تبعاً لما جِئت به".
الدعاء
اللهم كما ذكَّرتنا بهجرته فثبّت أقدامنا على متابعته، وأْذن بحشرنا غداً في زمرته، واملأ قلوبنا بمحبته، واجعلنا من أهل السعي في سبيله، والشُّرب من سلسبيله، وأحيِ في الأمة حقائق الانقياد له، والاتِّباع لما جاء به، حتى تكون أهواؤنا تَبَعاً لما جاء به ﷺ.
ومكّن في قلوبنا محبتك ومحبته؛ حتى نمسي ونصبح وأنت ورسولك أحبّ إلينا مِما سواكما، ونحيا على ذلك ونموت على ذلك، حتى نُحِبّ الناس لا نحبّهم إلا من أجلك، وحتى نكره الكفر والفسوق والعصيان كما نكره أن نُقذَف في النار فنذوق حلاوة الإيمان.
وارضَ عن المهاجرين والأنصار، خصوصاً السابقين منهم، وعلى من اتّبعهم بإحسان، واجعلنا ممن تبعهم بإحسان.
وآتنا ما وعدتنا على ذلك في القرآن، إذ قلت: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ) ارض عنا، واجعلنا من أهل جناتك التي تجري من تحتها الأنهار، وزِدنا من فضلك ما أنت أهله.
وأصلِح هذه البلدة وأهلها وبلاد المسلمين كلها، وادفع الشرور عن جميع المؤمنين والمؤمنات والفِتَن والمحن ما ظهر منها وما بطن، وارزقهم صِدق الانتباه والوجهة إليك بكلياتهم يا الله، وأعِنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واختم لنا بالحسنى وأنت راضٍ عنا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
ونسألك لنا وللحاضرين وأحبابنا وللمسلمين مِن خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك مِما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
28 ذو الحِجّة 1432