حرص المؤمن على نصيبه من الرحمة المهداة وتنوُّع المراتب فيها
مذكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الرباط، في حارة الرضيمة بمدينة تريم، ليلة الأربعاء 22 ربيع الأول 1446هـ ، بعنوان:
حرص المؤمن على نصيبه من الرحمة المهداة وتنوع المراتب فيها
نص المحاضرة:
الحمد لله على عظيم نِعمه وجزيل مِننه، وعلى جمعنا وإياكم في الوِجهة إليه جل جلاله، والاتصال به وبرسوله المصطفى محمد ﷺ، عسى بذلكم تحيا القلوب وتُنقّى عن كل شوب، حتى يشرب الكل منا من خير مشروب، مع من صفّى الله لهم القلوب من كل مُقرّب ومحبوب، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين:
إنما يكون التعرض لنفحات الله بالإقبال على الله، وبتطهير القلوب عما سواه، بكثرة ذكره سبحانه وتعالى وذكر مصطفاه محمد ﷺ، الذي إذا صلى عليه المؤمن صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشر صلوات، فضل من فضل الله جل جلاله.
أصبح في يومٍ يُرى في وجهه البشر، وقالوا: "أصبحت مسرورًا يا رسول الله، يرى البشر في وجهك". قال: "نعم، أتاني آتٍ من عند ربي، وقال لي: أما يرضيك يا محمد أنه لا يصلي عليك أحد من أمتك مرة إلا صليت عليه عشرًا، ولا يُسلِّم عليك أحد من أمتك إلا سلّمتُ عليه"، قال "ففرحت لأمتي"، فأصبح فرحان للأمة ﷺ لما جبل الله قلبه على رحمة هذه الأمة، التي نرجو أن تستيقظ قلوبها على هذه الرحمة العظيمة، لأنها أصابتها سكرة وراء الترهات والبطالات، وتصديق البعيدين عن الله تعالى، وتصديق المنقطعين عن الله جل جلاله؛ في الفكر والمعاملات وفي المسار في هذه الحياة، وبهذه السكرة غفلوا عن الحق تعالى وغفلوا عن هذه الرحمة المهداة، التي قال ﷺ عن نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة ونعمة مسداة".
فنعم النعمة ونعم المنعم علينا ربنا، ونعم الرحمة ونعم الرحمن الذي رحمنا بحبيبه محمد ﷺ، وقال له في صريح القرآن: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، صلوات ربي وسلامه عليه.
مراتب نصيب المؤمن من الرحمة:
ولكل مؤمن نصيبه من هذه الرحمة؛ رحمة عامة للعالمين بمعانٍ ومراتب ومظاهر مختلفة، في الدنيا وفي الآخرة:
-
أما كبير هذه الرحمة المُفضي إلى دخول الجنة فهو مخصوص بالمؤمنين.
-
وأما مظاهر وظواهر من هذه الرحمة من أصل الخلق والإيجاد، ومن إجراء نِعم كثيرة ظاهرة، فهذا يعم العباد قريبهم وبعيدهم، ومؤمنهم وكافرهم، حتى إلى الشفاعة العظمى، الشفاعة العظمى والمقام المحمود يفك على الخلق كلهم من تحت الشمس حتى الكفار.
-
ولكن الرحمة المخصوصة التي بها دخول الجنة والدرجات العلى مخصوصة بمن آمن به، وبمن صدق بما جاء به عن الله تبارك وتعالى.
ولهم بعد ذلك مراتب هؤلاء المؤمنون وهؤلاء المصدقون بسيد المرسلين ﷺ، لهم مراتب في النصيب من هذه الرحمة، ونصيب كل منهم على قدر معرفته بقدر هذا المصطفى، وعلى قدر معرفته بمنزلته عند ربه، وعلى قدر معرفته بعظمته التي أعطاه الله إياها، وعلى قدر معرفته بوحيه الذي أوحاه الله إليه، وعلى قدر معرفته بالخصائص التي خصه الله تبارك وتعالى بها، العبد المحبوب الخالص المخصوص من ربنا بأجل الخصائص ﷺ.
حتى ألف علماء الأمة في خصائص النبي محمد ﷺ، وقد خصه الله بخصائص ميّزه بها عن غيره من أهل الأرض وأهل السماء، ومن الأولين والآخرين، فهو أكرم الأولين والآخرين على الله، صلوات ربي وسلامه عليه.
والحمد لله الذي جعلنا من أمته، ولكن في مثل هذه المجالس أيقِظ قلبك لأخذ النصيب من هذه الرحمة، ولأجل يتسع مجالك وليعظم نوالك، ويعظم حظك من هذه الرحمة المهداة والنعمة المسداة، فلكل لهم منها نصيب على قدر الصدق مع الله، وعلى قدر الوعي لوحي الله سبحانه وتعالى، والعمل بسنة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام.
تنور القلوب باتباعه ﷺ في الأمور العادية:
كان الإمام الغزالي عليه رحمة الله يقول: إن اتباعه ﷺ حتى في المباحات والأمور العادية له تنوير للقلب، قال وذلك لعدة وجوه،
قال: الوجه الأول أنّ هذه النفس إذا ألفت الاسترسال في المباحات بلا قيد أداها ذلك إلى المكروهات وأوصلها إلى المُحرمات، وإذا كانت حتى في المباحات تتقيَّد بقيد كانت مصانة ومحفوظة عن أن تزِل، وأن تضِل وأن تذهب إلى الشبهات أو إلى المكروهات.
قال الثاني: أنه إذا كانت المباحات أمامه فعدل من هذا إلى هذا، فما يكون هذا صدفة ولا يكون هذا مُجرد عادة، ولكن بنور النبوة انكشف له ما في هذا فعدل إلى هذا الأمر الآخر، ولذا قال رأينا الصحابة تسابقوا حتى في الأمور العادية ما هو في العبادات، في الأمور العادية صاروا يقلدونه ويتشبهون به ﷺ ويقتدون به ﷺ.
تأثير محبة الصحابة للنبي ﷺ على طعامهم:
قالوا والعجيب أن ذلك وصل حتى إلى مشتهياتهم في الطعام، مع أن الشهوة في الطعام أمر غالب على طبع الإنسان، ولكن مع ذلك قوة محبتهم لرسول الله أثّرت عليهم في محبة حتى الطعام.
يقول سيدنا أنس بن مالك خادمه عليه الصلاة والسلام، يقول أكلت معه الخبز وكان مُسقى وفيه الدباء، قال: فرأيته يتتبع بأصابعه أثر الدباء في القصعة، قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ، من ذاك اليوم وأنا أحب الدباء. ﷺ.
والعجب في هؤلاء الصحابة حتى مشتهياتهم الطبيعية تنصبغ بصبغة الاتصال بالحضرة المحمدية، وقال سيدنا أبو أيوب الأنصاري - هذا الذي نزل في داره - والعجيب قالوا أن هذا الدار كان من قبل مائة سنة بناه باني لما رأى أوصاف محل هجرته، قال بناه ليسكن فيه النبي، ومات الرجل وعدى وجاؤوا وتبايعوا إلى أن وصل عند أبي أيوب الأنصاري، جاء الحبيب والناقة، قال: "دعوها فإنها مأمورة"، وإلا كل قبيلة كان يمسكون بزمام ناقته يقولون "عندنا يا رسول الله العز والمنعة"، يقول: "دعوها فإنها مأمورة". دارت الناقة حتى جاءت عند دار أبي أيوب، جلست ثم قامت ودارت رجعت إلى عند دار أبي أيوب، ووضعت جرانها وحطت رقبتها على الأرض، إشارة إلى أنه هذا هو المكان، فخرج وحمل أبو أيوب رحله ﷺ وأدخله إلى الدار، فكان الدار نفسه قد بُني له من قبل مائة سنة.
نزل فيه، ولهذا يقولون كان شرف وكرامة لأبي أيوب وإلا فهو ما نزل إلا في داره ﷺ، ولكنه شرف وكرامة لأبي أيوب الأنصاري عليه رحمة الله، يقول: كُنا نقدم له العشاء، فإذا رد لنا العشاء أتسابق أنا وأم أيوب إلى مواضع أصابعه، يأكلونها تبركًا به ﷺ، قال: فليلة قدمنا له العشاء فرجعنا ما وجدنا أثر لأصابعه، ما أكل شيء من العشاء، قال فخفت وخرجت قلت يا رسول الله، ما أكلتم من العشاء الليلة؟ قال إن في شيء من هذه الشجرة - ثوم - كان فيه نيء، قال: وإني أناجي من لا تُناجون، أكلم من لا تكلمون من الملائكة والأرواح، فكلوه أنتم، قال أبو أيوب فكان آخر يوم دخل الثوم فيه دارنا، ما عاد أدخلنا ثوم الدار من ذاك اليوم، عليه رضوان الله.
خلقه مع الصحابي أبي أيوب الأنصاري:
يقول في أخلاقه ﷺ: وإنه جاء فخيّرناه بين أن ينزل في الطابق أو في الأرض، قال: لا، هنا أرفق بمن يأتي إلينا، اجلس أنت وأهلك فوق، قال فجعلنا أنا وأم أيوب نتبعد من المكان الذي يجلس فيه النبي، ونروح في جانب من الغرفة التي فوق خشية من أن نكون فوقه ﷺ.
قال: حتى كنا في ليلة وأيام برد، قال وإذا بالزير الذي فيه الماء انكسر عليهم، قال فخفنا أن ينزل شيء من السقف إلى الغرفة التي فيها النبي، قال فأخذنا ثيابنا كلها ونشفنا الماء حتى لا يصل منه شيء، قلنا هذا بعد مدة من مكثه تحت، فقال جئنا إليه في اليوم الثاني قلت له ما لقينا من ليلتنا البارحة يا رسول الله كذا وكذا، قال الآن قد خف الزائر أنا سأطلع فوق وأنتم انزلوا إلى تحت، فطلع ﷺ مراعاة لهم ولأخلاقهم.
آية الإيمان حب الأنصار:
في أيام وصوله خرج بنات بني النجار، هذه قبيلة سيدنا أبو أيوب كلهم، يسِرن في الشوارع:
نحن جوارٍ من بني النجارِ ** يا حبذا محمد من جارِ
حتى مررن تحت البيت الذي فيه بيت أبي أيوب، وقف ﷺ على باب البيت يراهن، أطفال الأنصار يمرين وينشدون وينظرن إليه، قال: "أتحبِنني؟" قلنا: والله إننا لنحبك يا رسول الله، قال: "الله يعلم أن قلبي يحبكم، الله يعلم أن قلبي يحبكم". فهنيئًا للأنصار، وقد جاء في الحديث الصحيح يقول: آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار، ومن يحبهم يحبه الله، فالحمد لله الذي أكرمنا بهذا النبي المصطفى.
أثر التربية النبوية على أبي أيوب:
وأبو أيوب خرج آخر أيامه وذهب، قبره هناك في تركيا، ولا راح على طائرة ولا على سيارة عليه الرحمة، خرج في الجهاد في سبيل الله، ووصّاهم أنهم إذا قُتل ينظروا أبعد مكان يصلون إليه يقبرونه فيه، فكان أبعد مكان في إسطنبول، فقبروه هناك سيدنا أبو أيوب، لما أراد يخرج كان فوق الثمانين شائب، قالوا له أنت معذور، قال الله يقول: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) أو قال: (انْفِرُوا خِفَافًا) فقط؟! قال: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا)، قال إذن أنتم خفاف وأنا ثقيل! (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا).
بهذه التربية النبوية والمحبة التي في قلبه، وقُبِر في ذاك المكان، قال أريد أبعد مكان من بيتي حتى أجيء في القيامة أقول يا رب هذه المسافة قطعتها من أجلك، خرجت من بيتي إلى أبعد مسافة من أجل نصرتك ونصرة نبيك محمد ﷺ.
خلقه الكريم مع خدمه ﷺ:
والثاني: هذا أنس الذي لم يزل يُحب الدباء، كان خادم للحبيب ﷺ، أمه جاءت به إلى رسول الله تقول له: يا رسول الله، إن أهل المدينة كلهم فرحوا بك وكلٌّ أتحفك بشيء، وأنا ما عندي شيء أقدمه لك هدية، لكن هذا ولدي اقبله مني خادمًا لك، يخدم ويكون معك"، قال فقبله وبقي العشر سنين كلها يخدم النبي عليه الصلاة والسلام.
قال أول ما أخذني قال لي: "يا غلام، احفظ عليَّ سري"، تعلم صيانة السر وحفظ السر وكتمان السر، وتربى على يد النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول: "خدمته عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته: لِمَ فعلت كذا؟ ولا في شيء لم أفعله: لِمَ لم تفعل كذا؟" قالوا: هذا دليل على أمرين: الأمر الأول خُلقه ﷺ، والثاني نباهة أنس، ما جعل النبي يضطر إلى أن يقول له: لِمَ ولِمَ. قال: حتى قد يلومني بعض أهله في شيء، قال: فيقول لهم ﷺ: قدر الله وما شاء فعل، لا تلوموا الصبي، هذا أمر قضاه الله.
قال وأرسلني يوم وهو صغير السن، لازال في عشر سنين لما جاءت به أمه، وبقي عشر سنين، توفي النبي وهو ابن عشرين سنة، وعاش مائة سنة بعد النبي، فكان آخر من توفي من الصحابة بالبصرة أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى، لما كان صغيرًا قال أرسلني فمررت وجدت صبيانًا يلعبون فجلست ألعب معهم، ونسيت وصاة النبي ﷺ، قال فخرج ومر في الطريق الذي أنا فيه، قال وجاء من ورائي، أنا ما رأيته، قال فضم عيني بيديه، قال عرفته بطيب ريحه وبرد يديه، قال حتى جعلت أتمسح به وأنا في صدره، أقول من هذا؟ من هذا؟ وهو درى به، من هذا؟ من هذا؟ فُكّني! قال فتح عيني وإذا به رسول الله ﷺ، قال لي أين الوصاة يا أنس؟ قلت يا رسول الله، نسيت لعبت، الآن أذهب، قال فما زاد على أن تبسّم وقال لي: فاذهب.
يذكر أخلاقه الكريمة ﷺ، وهذا عشر سنين ما قال لِمَ فعلت ولا لِمَ ما فعلت! الآن بعض الناس حتى عشر ساعات ما تقعد معه إلا وقد قال.. بعضهم حتى عشر دقائق، وهذا عشر سنين وهو وإياه، وقال: ما قال لي لِمَ فعلت كذا!
من سر الإقبال الصادق على الله:
وهكذا يذكرون عن الإمام محمد بن عمر أبو مريِّم - عندكم صاحب المعلامة في حفظ القرآن، كم كان سكان تريم في تلك الأيام؟ ثمانمائة الذين تحفّظوا على يده، وهذا قرب ربع سكان البلد أو أكثر، كلهم تحفظوا القرآن على يده هذا، محمد بن عمر أبو مريِّم، يقول: صحِبته أربعين سنة فما رأيته غضب، أربعين سنة فما رأيته غضب قط! حتى كان يقول سيدنا السقاف: "لو أن أعمال محمد بن عمر أبو مريِّم وقعت على الجبال لَهُدًّت، تنهد الجبال من كثرة أعماله القوية الصالحة، عليه رضوان الله تعالى.
ولما فاضت روحه قالوا: أشرق نور وجهه حتى غطى نور السراج، تغطى نور السراج من نور وجهه، وسمعوا تاليًا - يسمعون الصوت وما يرون الشخص - يقول: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
قالوا وكان يحفظهم القرآن ويقرئهم ربع التنبيه - ربع العبادات - يخرجهم فقهاء وحفاظًا، يقرؤون ربع التنبيه للإمام الشيرازي، فهؤلاء الثمانمائة الذين على يده حفظوا القرآن في ذاك الزمان، ولذا كان يكاد أهل البلد كلهم حفاظًا للقرآن من تعظيمهم لهذا القرآن، ومن صلة قلوبهم بالله وبرسوله محمد ﷺ.
والله يحفظ على أهل البلد سر هذه الصلة وسر الإقبال الصادق على المولى جل جلاله، زيَّن به من مضى قبلكم.
همُ اقوام غذوا في المحبة من صِغًرهم ** وعاشوا في مخافات وغابوا في فكرهم
ويسعد كل من كان في عمره نظرهم ** في البكرة صباح أو عشية في مساهم
عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
نعم النظرات:
واستمرار تلك النظرات من النظرات ما أشار إليه خير البريات محمد ﷺ في صحيح الإمام البخاري، قال: "يغزو فئام من الناس فيبطئ الفتح عليهم، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله؟" - ما عاد بقي من الصحابة إلا قليل - فيقال: نعم، قال يُقدّمونهم فيُفتح لهم، لمًّا عرفوا قدرهم ببركة النظر إلى وجه النبي ﷺ، قال: "ثم يغزو فئام من الناس، فيبطئ الفتح عليهم فيقال: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله؟" - ما عاد بقي من الصحابة، باقي قليل من التابعين - قال: "فيقال: نعم، فيُقدِّمونهم فيفتح لهم"، "ثم يغزو فِئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من صحب رسول الله؟" قال: "فإذا قدّموهم فتح الله لهم".
ولذا قال القائل: بخت من قد رآهم أو رآى من رآهم، والنبي يذكر رؤيته هذه وأنها تمتد في أمته إلى الجيل الثاني والجيل الثالث، وأنّ بسببها تنحل مشاكل الأمة، ويحصل الفتح لهم من الله إذا أكرموا العيون التي نظرت إلى من نظر إلى من نظر إلى وجهه ﷺ.
فنِعمَ النظرات في تلك الوجوه التي حل عليها النظر، فالله ينظر إلينا بنظراته لمحبوبيه، ألا يا الله بنظره من العين الرحيمة، تُداوي كل ما بنا من أمراض سقيمة.
الخير في الاقتداء والاهتداء:
والعناية بحمد الله تجمعكم في هذه المجامع ومقتدين بآثار من قبلكم من آل الصدق وآل الإخلاص، وكم من عارف وكم من قلب حاضر مع الله قد حضر في مثل هذه المناسبة في الأعوام الماضية، والذين عرفتموهم عدد منهم عليهم رضوان الله تعالى، الله يسر قلوبهم في برازخهم ويزيدهم من إفضاله ويرفع درجاتهم، ويبارك في أحبابنا القائمين على الآثار وعلى الاقتداء، لأن الخير كله في الاقتداء والاتباع والاهتداء بهدي الماضين عليهم رضوان الله تعالى.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، ويقول سيدنا يوسف عليه السلام: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ).
قال فبيَّنَ في هذه الآية الفخر والشرف باتباع الآباء الصالحين، والتنزُّه عن اتباع الظالمين والمجرمين، آباءً أو غير آباء كانوا، هؤلاء (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، والآية الأخرى: (مُهْتَدُونَ)، فهؤلاء العيب عليهم ما هو اتباع الآباء، العيب عليهم أن آباءهم كانوا كفارًا وكانوا مشركين، أما الآباء الصالحين فالفخر في اتباعهم، (تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي).
وسيدنا يعقوب نفسه يقول لأولاده لما حضره الموت: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) عليهم صلوات الله تبارك وتعالى.
قال سبحانه وتعالى في أولئك القوم: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) جل جلاله وتعالى في علاه.
خُلق الإحسان لمن أساء:
وهكذا كل من اقتدى واهتدى يكفيه الله شر المناوئين وشر الخاذلين، ولكنه يكون صادقًا مع الله تعالى، ما تقوم نفسه إذا تكلم عليه أحد أو نازله إساءة من أحد أو قصّر أحد في حقه، لا تقوم نفسه ولا ينتصر لنفسه، لأن من انتصر لنفسه تخلى الله عنه، تركه! وإذا لم ينتصر لنفسه كان معه، وأيده سبحانه وتعالى وأخذ له بحقه.
وهكذا على هذا الخلق رأيتم شيبانكم وسلفكم الصالحين عليهم رضوان الله، والحق تعالى يغضب عليهم، حتى قالوا لسيدنا الشيخ أبو بكر بن سالم: كل من أساء الأدب في حقكم عاجلته العقوبة، تدعو عليهم؟ قال: والله ما دعوت على أحد، ما دعوت على أحد طول عمري قال: بل إذا دريت أن أحدًا تعرض للإساءة أسارع بالدعاء له خشية أن يصيبه شيء، ولكن الله يغضب، يغضب لأحبابه ويغضب لأوليائه ويغار عليهم جل جلاله وتعالى في علاه.
خطر معاداة أولياء الله:
ولهذا كان سباب المسلم فسوق، لأن الله يغضب للمسلمين، مسبّه فسق وقتاله كفر والعياذ بالله، فكيف إذا كان المسلم وليًا؟ كيف إذا كان المسلم مُقربًا عند الله؟ "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ" يقول الله جل جلاله في الحديث القدسي.
قال: وما توعّد الله بالحرب من أهل العصاة إلا اثنين: أكلة الربا ومُعادي الأولياء، وهذا الذي نشره الشيطان في زماننا، بثّ الربا في كل محل وكثّر معادي الأولياء، والذين يسبونهم والذين يتكلمون عليهم، وانظروا ما حل بالأمة من آفات كثيرة وسلّط عليهم الأعداء.
ولكن الله ينظر إلى قلوب المؤمنين ويطهرهم من كسب الربا ومن معاداة الأولياء، ويرفع عنا هذا البلاء الذي حل بنا وبالأمة أجمعين.
مجالس ذكر الله:
ففي مجالسكم هذه استرحام لله واستعطاف للجبار جل جلاله، أن يرحم المجتمعين على ذكره، بل خصّص ملائكة كما أخبرنا في حديثه ﷺ، خصصهم وظيفتهم في الأرض يتتبعون مجالس الذكر، وإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلمْوا إلى بُغيتكم، هلموا إلى طلبتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، ويحصل بينهم وبين الله حوار.
حتى إذا قال الله: أشهدكم أني قد غفرت لهم، يقول واحد من الملائكة: إلا فلان، ما جاء للذكر وإنما جاءت به حاجة فحضر معهم، يقول الله: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
علامة القبول في ربيع الأول:
الحمد لله على وجود هذه المجالس، ومعنا آخر ربيع الأول تحيا فيه القلوب وتحيا فيه الجدوب، وكم من متذكر وكم من متنور وكم من متبصر، وكم مِن مَن يتحول حاله من بُعد إلى قرب، ومن غفلة إلى ذكر، ومن قطيعة رحم إلى صِلة رحم، ومن عقوق والدين إلى بر والدين، ومن ربا إلى أخذ حلال وبُعد عن الشبهات، وهذه علامة السعادة وعلامة القبول عند الله سبحانه وتعالى.
الدعاء:
فالله يوفر حظنا من هذه المجالس والمحافل، ويبارك لنا في خاتمة ربيع الأول، ويعلي درجات المتقدمين في هذه المساجد وهذه المنازل وهؤلاء الجيران، ومن فقدناه من أواخرهم السيد عبد الرحمن بن محمد بلفقيه، أعلى الله درجاته وجعل الله قبره روضة من رياض الجنة، ولحقته هذه الشريفة اليوم، الله يغفر لهم ويرحمهم، وجميع موتانا وموتى الحاضرين خاصة، وموتى المسلمين في المشارق والمغارب وأحياهم إلى يوم الدين.
يا خير الغافرين اغفر لنا ولهم، ويا أرحم الراحمين ارحمنا وارحمهم، وجُد علينا وعليهم بما أنت أهله يا جواد، جوداً تصلح به لنا الحياة والمعاد، وتُبلّغنا به المراد وفوق المراد، حتى تجمعنا ومن نُحب في دار الكرامة وأنت راضٍ عنا، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب.
ولا تصرف من المجلس أحدًا إلا وقد نظرت إليه، وقد أصلحت قلبه وقد فرجت كربه، وغفرت ذنبه وتوليته في جميع شأنه في سره وإعلانه، يا أرحم الراحمين، وفر حظنا من المجالس وخلعها وما تجود على أهلها، وارفعنا فيمن ترفع، واسمعنا يا خير من يسمع، واقبلنا على ما فينا، والحمد لله رب العالمين.
22 ربيع الأول 1446