(536)
(235)
(575)
(311)
كلمة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في نهاية المحور الأول الذي قدمه الشيخ الدكتور ناجي بن راشد العربي (البحرين)، بعنوان: "المصادر الآمنة للتفقه في الدين (مميزاتها عقيدة وفقهاً وسلوكاً)" ضمن الجلسات العلمية البحثية في ملتقى الدعاة السنوي (الثامن عشر) بعنوان: مهمة التعليم والتربية والدعوة إلى الله تعالى ومصادرها الصحيحة الآمنة.
دار المصطفى بتريم
عصر يوم السبت 30 ذو الحجة 1445هـ
لمشاهدة كلمة الحبيب عمر بن حفيظ:
نص الكلمة مكتوبة:
نفعنا الله وإيّاكم بما سمعنا وما جرى من هذا الحديث الطيّب الشيّق، المتعلّق بالمهمّات الكبيرة في معرفتنا لمصادرنا الآمنة في فهم كلام ربّنا وبلاغ رسوله المصطفى محمّد ﷺ، والذي يتفرّع عنه بعد ذلك -كما أشرنا في البارحة- مقابلتنا لمختلف العلوم، والأمر كما سمعتم وتبيّن لكم، حتّى ما كان مصدر العلم فيه راجعًا إلى العقل كالرياضيّات أو إلى التجربة كالطب، لا بدّ من الاتّصال برجاله والمتخصّصين فيه وأهله، ولا يمكن لأحد بعد ذلك أن يُنكر ما كان قبله أو يخالفه، وأنه إنّما يُتقبّل من الذين اتّصلوا به وأخذوا فيه من تمكّن في فهم ما كان عليه من سبق واتّصل بهم، ثمّ بنى على ما كان عليه، وهم المُستنبطون والمجتهدون وما تعلّق بذلك، لكنّ الأصل في كلّ ذلك ونظرتنا إلى هذه الأشياء خطاب الحقّ للخلق، وبلاغ سيّد الخلق عن الحقّ صلّى الله عليه وسلّم، هذا الأمر الذي يرجعنا إلى تقويم الأصل في مداركنا ومشاعرنا.
إن كنّا سنُسلِّم لأحد غير الله ورسوله أن يبيّن لنا حقيقة العلم أو يتحكّم فيه، فهو الخروج عن الصدق في الإيمان وعن الصدق في شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله.
عقول المسلمين محتاجة إلى أن تعود إلى تعظيم هذا الأمر وأخذه من محلّه ومكانه، فكثير منكم محتاجون إلى مدارس حديثيّة ومدارس علميّة، نحن في حاجتنا لهذه محتاجون أوّلًا لأن تعرف الأمّة عظمة هذا العلم، وأن ترجع من غيّها الذي أصابها في تعظيم ما ليس بعظيم، أو إنزاله في غير منزلته، لنعود إلى تعظيم الحقّ ورسوله، لِنسلّم الزمام في القيادة في شؤون الحياة المختلفة.
ونتدارك ذلك بما يتعلّق بأفرادنا وما يتعلّق بأسرنا، وما يتعلّق بالحلقات والمجالس التي نعقدها والأصحاب الذين نتصل بهم، والمدارس التي لنا يد عليها نقيمها مدارس أهليّة أو غيرها، للمساهمة في إنقاذ الأمّة من اللوثات التي أصابتها فكرًا وأصابتها سلوكًا.
والذي سمعتم من كلام الشيخ ناجي -زاده الله علمًا وتوفيقًا وبركة ونفعًا وانتفاعًا يعمّ البقاع-، يدور حول هذه الحقائق في أنّ أخذنا لهذا العلم مُتّصل فيما سمعتم في عنوانه في مميّزاتها عقيدةً وفقهًا وسلوكًا، مسائل الإيمان التي سمعتم الحديث عنها وأنّها أُُخِذت من سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم فيما أوحى الله إليه وفيما بيّن وبلّغ، وحملها الصحابة والتابعون وانتهت في تبيين المحافظة عليها وردّ ما يُشكِّك فيها أو يُدخَل عليها من الشبه إلى الأشاعرة وإلى الماتريدية في واقع الأمّة.
كذلك ما جاء في شأن الفقه ورجوعه إلى هؤلاء -عليهم رضوان الله تعالى- بين أهل السنّة اشتهر هؤلاء الأئمّة الأربعة عليهم رضوان الله، وسمعتم أنّ الذي يريد أن يتخطّى اجتهاد هؤلاء ويدّعي فقهًا في الدين يكون في واقع حاله مقطوعًا تمامًا عن كلّ الكتاب وعن كلّ السنّة بحاله وبذوقه وبواقعه، لا يمكن الاتّصال بكتاب الله وسنّة رسوله من غير سند، ولا يمكن أن يقوم هذا السند أيضًا بانقطاع عن المُسنَد إليهم وحملة هذا السند.
ونقرأ في صحيح مسلم: "يخرج آخر الزمان قوم دجّالون كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم"، إشارة إلى نفس الحديث الذي سمعتم فيه تفصيلًا وتبيينًا أيضًا من الشيخ ناجي عن "يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله". عدول ذلك الخلف أو عدول هذا العلم، الأمر راجع في كلا المعنيين إلى أنّ بين أهل العلم عدلًا وغير عدل، وفي كلّ خَلَف من الخلف عدل وغير عدل. لكنّ العدول الذين مشار إليهم بالحديث الثاني "لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ" هم الذين يقومون بهذه المهمّة.
سواء جعلنا الأمر على المعنى الواضح الصحيح الذي ذكره أيضا الشيخ أنّه تكليف من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبمعنى الأمر، أو جعلناه بمعنى الخبر، وخبره الصادق لا يتعلّق بمجرّد العدلية في ذا أو ذاك، ولكن يقول هؤلاء العدول الأخيار لا فرق بين أن يكونوا من أهل البيت الطاهر -وهم محلّه- وبين غيرهم من الأكابر وآل النورانيّة. وما من كابر إلّا هم منطوٍ في البيت الطاهر ومنطوٍ في الصحابة الأفاضل عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، هؤلاء هم في كلّ زمن يُحفظ بهم حقائق الدين، تُحفظ بهم حقائق الشريعة المطهّرة.
وهكذا فيما يتعلّق بجانب السلوك وظهور الطرق الصحيحة، أمّا ما يعلق بها فهذا من سنّة الله تبارك وتعالى في هذا العالم وفي هذا الوجود، وبذلك رأينا الفرق حتّى بين سادتنا الصحابة عليهم رضوان الله في السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ..)، وكلّهم لهم فضل ولهم صلاح ولهم مكانة، ومع ذلك أيضًا فوجود الزلّات والخطايا لكونهم غير معصومين يمكن وقوعها، ولا تُجوِّز لأحد أن يتطاول عليهم أو أن يتكلّم عليهم، ولمّا أشار القرآن إلى بعض المواقف باشر بإعلان العفو حتّى لا يتطاول أحد على ذلك الرعيل، فيما صرّح جلّ جلاله وتعالى في علاه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ.. ) توقفنا موقف هذا الأدب.
ولهذا كنّا أحببنا حتّى من الطلّاب الذين قدّموا المداخلات أن يضعوها على صورة السؤال أو العرض على الشيخ ليجيب، لأنّنا في مرحلة هذا الشباب نرى أنّنا أدركنا الأمور، نستشعر ذلك وأنّنا أرباب قوّة في هذا المجال، هذا الذي يطرأ على الفكر في الشباب، ومنه إذا طغى على الإنسان يُستزلّ ويؤخَذ يمنة ويسرة، لكن قد يكون الذي فهمه أو وصل إليه عقله وفكره صحيحًا، وهو وإن كان صحيحًا فلا بدّ أنَ طريقة الطرح -إذا وُجد من هو أكبر ووُجد من هو أعلم وأسنّ- تُطرح بطريقة السؤال أو طريقة العرض للاستشفاف والتقرير لهذا الأمر، أو الإضافة إليه أو حذف في شيء منه. طريقة التعليم التي كانت في العصر النبويّ الكريم ومضى عليها التابعون وتابع التابعين عليهم رضوان الله، بل كانت مسلك الأنبياء حتّى في أخذهم العلم ممّن علّمه الله، وقصّة سيّدنا موسى في ذلك واضحة وجليّة، قال: "أين يوجد عبدك الخضر؟" وخرج إليه (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) أو (رَشَدًا) كما جاء في الآيات.
والقصدُ أنّ الخوض في هذه المسائل يُرجى منه العودة إلى حقيقة استبيان المسلك القويم والصراط المستقيم، لنُنقذ ممّا أصابنا من هذه اللوثات ممّا طرأ وجرأ، وبعض الأكابر من التربويّين في زماننا -وكما سمعتم في الملتقى الماضي- انتهى تمامًا وقد كان رائدًا من روّاد هذه المدارس والجامعات، انتهى إلى أنّ أصل بروزها في الأمّة كان لأغراض سيّئة، والذي تبنّى الفكرة جماعة من الملحدين في الأصل، ومَدّوها إلى هذه الأمّة لأجل إبطال شأن هذه الأسانيد، ولأجل إبطال شأن هذا التعلّق، ولأجل التشكيك في الدين من أصله، وأخذوا عليها عشرات السنوات حتّى يتوصّلوا إلى شيء ممّا أرادوه أو وضعوه.
والأمر كما سمعتم في كلام الشيخ ناجي، نحن محتاجون لأن نتعامل مع الواقع من حيث هو واقع، أرشد إليه السيّد محمّد المالكي -أعلى الله درجاته وجمعنا به في أعلى جنّاته- وهو السيّد الذي ظهر من بعد وفاته في صدق وجهته أنّه لمّا نُبش القبر وُجد كما وُضع، لم تغيّره الأرض ولم يأكله التراب، عليه رضوان الله تبارك وتعالى، أرشد بأن ما دامت الأمّة أصيبت بهذه اللوثة خذوا هذه الشهادات لكن لا بطريقتهم ولا بنيّاتهم ولا بالتبعيّة لهم، هم في تبعيّتكم للنبوّة والرسالة وأخذكم للعلم الصحيح بالسند، لتكونوا في الواقع يصدّوا شرًّا ويدفعوا سوءًا ويوضحوا حقيقة، فكان الأمر كذلك.
فهذا الذي نحتاجه في واقعنا، والله ينهض بهذه الأمّة نهضة قويّة للسير في السبيل السويّة، ويجعل لنا صدق إقبال ووجهة قويّة وهمّة علية، يقبلنا بها ويرفعنا، ويجري لنا وعلى أيدينا الخيرات لهذه الأمّة في الظواهر والخفيّات، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
01 مُحرَّم 1446