ما عملته العوائق بين أمانة خطاب الخالق والاستعداد للقائه يوم جمع الخلائق
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ61، في الساحة الشرقية لجامع عمر بن الخطاب، باستضافة حارة المطار، بمدينة تريم، ليلة السبت 17 محرم 1447هـ، بعنوان:
ما عملته العوائق بين أمانة خطاب الخالق والاستعداد للقائه يوم جمع الخلائق
لتحميل المحاضرة مكتوبة (نسخة إلكترونية pdf) اضغط هنا
في هذه المحاضرة يوضح الحبيب عمر بن حفيظ:
- - المحاسبة يوم القيامة
- - خطورة اللسان وحفظ الجوارح
- - عظمة رسالة الأنبياء
- - المرجع إلى الله وحده
- - شهادات الزائرين ونصر الله لدينه
- - مخططات الأعداء ومكر الله
- - واجبنا في التواصي بالحق
- - فضل الإصلاح بين الناس
- - التوبة وصفات المتقين
- - رحمة الله وفضله
نص المحاضرة:
الحمد لله الخالق الفاطر، الشهيد الحاضر، السميع البصير، اللطيف الخبير، الذي منه المبتدأ وإليه المرجع والمصير، المُنعِم المتفضّل، والمُحسِن المتطوّل، والرقيب على خواطرنا وضمائرنا وما تُكِنُّه صدورنا، والمُحَصِّل لما في الصدور في يوم البعث والنشور، (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ).
تحصيل ما في الصدور معناه: ما يجري في صدر الواحد منا من يوم دخل في دائرة التكليف إلى يوم أن توفّي، يُحصَّل: يُجمع، يُظهر، يُبرز، يُحاط به من كل جانب، (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) كما قال في الآية الأخرى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ).
ثم يقول عن هذا البيان العظيم: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). إذن فأعمارنا وما يجول في صدورنا ثم ما يصدُر منا من حركة ومعاملة أمر خطير، وأمر شأنه كبير، ليس بالأمر الهَيّن ولا بالسهل، ولا كلّ يقول ما يريد ويفعل ما يريد، وينوي ما يريد ويظن أن المسألة هَيّنة.
المحاسبة يوم القيامة
ولكن "لا تزول قدما عبد يوم القيامة عن الصراط - على الصراط يعني ما تتحرك سواء أن تسقط في النار أو تجوز إلى الجنة - حتى يُسأل عن أربع"، قبل أن يسقط في النار أو يجوز إلى الجنة: سؤال عن أربع، "عن عمره فيما أفناه، عن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه."
وهذه المسائل ليست من قِبَل استخبارات ولا مخابرات ولا شرطة (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) يقول الجبار: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) جل جلاله.
فالاستعداد للقاء الله من خلال ما يجري في ضمائرنا وخواطرنا وما نتعامل به في الحياة، نُصِحنا على لسان رسول الله ﷺ خاتم النبيين أن نُحسِن النظر فيما ننوي ونعتقد ونُفكِّر ويخطر على بالنا، وفيما نتعامل ونقوله، وما نُصرِّف فيه أبصارنا وأنظارنا، وما نُصرِّف فيه أسماعنا وآذاننا، وما نتكلم به.
خطورة اللسان وحفظ الجوارح
يقول سيدنا معاذ بن جبل: قال ﷺ: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟" أمسك بلسان نفسه، قال: "كُفَّ عليك هذا" - اللسان - قال له: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُبّ الناس في النار على مناخرهم - أو قال على وجوههم - إلا حصائد ألسنتهم؟" نتائج ما يقولون!
لا تحسب أن الكلمة هَيِّنة، يقول الرحمن: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
لذا كل ما صُرِف من النيات والمقاصد والإرادات الباطنة والأقوال والأفعال في طلب رضوان الله وفي منفعة خلق الله، فهذا زاد حسن يتزوَّد به للقاء الرب عالم السر والعلن، وللاستعداد لموقف القيامة.
وكل نية خبيثة وكل طَويّة على البغضاء، على الشحناء، على الحقد، على الاحتقار، على الكِبر، على الغرور، على الرياء، على إرادة الضُّر، فهذا خسران وهذا اسوداد وجه يوم وضع الميزان، (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).
هذا خطر! كل كلمة تصدر فيها تفريق بين الناس، فيها إغواء، فيها إذلال، فيها صدّ عن سبيل الله، فيها إغراء على عقوق الوالدين أو على قطيعة الرحم أو على تناول شبو وأنواع من المخدرات والمسكرات.. كلمة خطيرة يترتب عليها - الكلمة الواحدة - قد يهوي في النار مدة سبعين سنة.
نار سبعين سنة ليست جمرة ولا نار من نيران الدنيا، هذه نار لو سُيِّرت فيها جبال الدنيا لذابت من شدة حرّها، لا دقيقة ولا دقيقتين، سبعين سنة على الكلمة الواحدة، الكلمة من غضب الله الواحدة، سبعين سنة يهوي بها في قعر جهنم والعياذ بالله تبارك وتعالى.
إذن فالأمر خطير، وجب أن نُحسِن بنصيحة نبينا محمد ﷺ تسيير ألسنتنا وأنظارنا وأسماعنا، يقول الجبار الأعلى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ). ويقول في الآية الأخرى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ).
عظمة الأمر ورسالة الأنبياء
فنحن نتكلم عن شؤون أكبر مِن شأن الحياة هذه ومرورها بأي كيفية كانت.. للمرتاحين فيها - وما أحد مرتاح فيها بكل معنى الراحة إلا القلوب المتصلة بالله - وللمتعبين فيها، ستمر على الجميع، والمسألة أكبر من ذلك.
المسألة أكبر من كل ما يُخطِّط حكام الأرض والدول الصغرى والكبرى! المسألة: فاطر السماوات والأرض ربّ الكل يجمع الأولين والآخرين ثم يحكم، فالقضية أكبر من كل ما في الأرض وأكبر من كل هذه الأفكار والاتجاهات على الأرض؛ هذه قضية إرسال من رب الأرض والسماء، أرسل بها الأنبياء من عهد آدم إلى أن جاء خاتم الرسل سيدنا محمد ﷺ.
وقع على عاتقنا منها حِمل كبير أن جُعِلتم في بلد دخل الإسلام في عهد النبي محمد ﷺ، وكثَّر الله فيه عدد من الصحابة والتابعين والصُلحاء والأخيار من تابعي التابعين.
ثم جاءكم بآل البيت الطاهر، بعلمائهم وصُلحائهم وبأخيارهم، ثم نَشر الخير في كل قبيلة، فما تجد قبيلة من القبائل في حضرموت إلا وفيها على مدى القرون وَرِع وتقيّ وزاهد ومُنيب وخائف وخاشع وحافظ لكتاب الله تبارك وتعالى وقَوّام بالليل، حتى ممن يُعدّون من العوام.
ثم استَخرج من بينكم مَن يحملون هذا النور، وجاءوا إلى جنوب شرق أفريقيا، وذهبوا إلى شرق آسيا، ووصل إلى الفلبين، ووصل إلى الصين نور لا إله إلا الله على أيديهم، فكان تاريخ عظيم، كل هذا ألقى على أعناقنا حِمل.. نجيء من بعدهم كيف نكون؟ نجيء من بعدهم كيف نُفكّر؟
المرجع إلى الله وحده
أيؤثِّر علينا غربي أو شرقي؟ أو روسيا أو أمريكا أو الصين أو أوروبا أو أي بلد في العالم.. يحول بيننا وبين إدراك عَظَمة الخطاب مِن ربّ الأرباب، والاستعداد والتهيّؤ للمرجع والمآب! (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ)
والله ما فينا صغير ولا كبير سيرجع إلى الأمم المتحدة ولا إلى حكومة ولا إلى حزب ولا إلى وزارة.. سنرجع إلى العليّ الكبير كلنا! سنرجع إلى السميع البصير، سنرجع إلى العليم القدير. (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ). (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
فما تقول عند المرجع إليه؟ الحقيقة كما قال خِيار الخليقة على مدى القرون: "لا خير في خير بعده النار"! أي شيء سمّتهُ نفسك أو سمّاه إبليس وجنده بئس لك خير، وهو موصِل إلى النار.. والله ما هو بخير! والله ما هو بخير! والله ما هو بخير!
"لا خير في خير بعده النار"، كما لا شر في شر بعده الجنة"، إن سمته نفسك أو من حواليك.. سمّوه شر ولكنه يوصل إلى الجنة ما هو بشر والله! ما هذا بشر، يعني قَوِّم الميزان بميزان الحق، أما موازين الخلق فهمُ الذين يتَّبِعون الظن ويخرصون.
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، تحمّلنا مسؤولية كبيرة يجب علينا أن نعلم معناها.
شهادات الزائرين ونصر الله لدينه
أنتم تسمعون مِن أحبابنا - الذين شاركونا الإيمان والإسلام وحمل الأمانة والهَمّ في زماننا هذا - مِن آثار بلاغ محمد عن الله، كيف أحسُّوا بأثرِ إرث هنا للنبوة؟ وشعاع أنوار من الرسالة تُنازِل القلوب والأرواح.
وجاءوا من البلدان البعيدة، وساقوا ركبهم إلى هذه البلاد، لا تبع حِزب ولا تبع حكومة ولا تبع سياسة ولا تبع غرض من أغراض الدنيا! ساقتهم العِناية، ويُحَدِّثونكم بما يجدون في صدورهم وبما يحسّون من أثر هذا النور في تلك البلدة وتلك البلدة وتلك البلدة.
لِسِرِّ واحد: أنَّ الله ناصر محمد! لا معنا إعلاميات مثل إعلاميات هؤلاء، ولا عندنا إمكانيات مثل إمكانيات فِرق الشر والفساد الموجودة على ظهر الأرض، ولكن معنا اتصال بفوق.. تعرف معنى فوق؟ اتصال بفوق.. اتصال بالعليّ الأعلى، الاتصال بخاتم النبوة والرسالة.
والحق يخاطب سيدنا ﷺ، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا).
هذا نصر الله لرسوله، مع أنَّ المحاولات من إبليس وجنده - مُستعيناً بالأنفُس وبشياطين الإنس والجن - كثيرة؛ لتُخبي هذا النور، لتُطفئ هذا النور، ولكن هم أول من جاء، وإن كان عندهم الآن وسائل متطوّرة وأجهزة حديثة، مِن قبلهم قد استعملوا إمكانياتهم كلها، وأبى الله إلا أن يُتمّ نوره.
ونقول لهم: استعملوا ما عندكم، ونحن مع ذلك ندعوكم أن تُنقذوا أنفسكم، وترجعون إلى استعمال الطاقات فيما يُرضي خالقكم لتسعدوا في الآخرة، وإلا فاستعملوا ما في وسعكم (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ)، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ).
مخططات الأعداء ومكر الله
يقصدون مثل هذه البلدان، يُحبّون فيها نشر المخدرات، يحبّون فيها نشر التفريق والتقاطع والتدابر بين الناس، يحبّون شغل الناس فيها بالميوعة، وإغراء النساء بالتسفُّل وبالتبرُّج.
ولهم في ذلك أنواع من الجهود، شيء يأتي باسم مُنظّمات تتعلق بالتغذية، وشيء بالتربية، وشيء بالبناء، وشيء بالمِهَن، وشيء بالحِرَف، ويسمّونها بأسماء وغرضهم الإفساد!
ولكن أين تَخفَى النيات على عالم الخفِيّات؟ ما تخفى.. فيرجعون بنياتهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).
(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، الذي سيسقط يسقط مع الخبيث ويذهب مع الخبيث، ولكن يَمِيز الطَّيِّبين - والله يجعلنا وإياكم من الطَّيِّبين.
(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ) مُلحِدي زماننا، كُفار زماننا، فُسّاق زماننا، معادي الدين في زماننا، في من قبل ومن قبل.. إلى عهد عاد، إلى عهد نوح، إلى عهد فرعون، إلى مَن قبلهم (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
الخسران والنجاة
(أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) خسرانهم يقين، ما يغُرَّك أنهم صنعوا طائرات، ما يغُرَّك أن عندهم تكنولوجيا.. خاسرون، خاسرون!
وجميع الناس مُعرّضون للخُسر إلا أتباع الرسل (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، الإنسان في خُسر، أيّ إنسان؟ أي إنسان لم يجمع الصفات الأربع خسران، إن كان رئيسًا وإن كان مرؤوسًا، إن كان أميرًا وإن كان مأمورًا، إن كان غنيًا وإن كان فقيرًا، إن كان قويًا وإن كان ضعيفًا، إن كان مريضًا وإن كان صحيحًا، إن كان في العرب إن كان في العجم.
كل إنسان لم يجمع هذه الصفات الأربع: خاسر، خاسر، خاسر. (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
فمن قام بِحَقِّ الإيمان والعمل الصّالح والتَّواصي بالحق والصبر فهو خارج من الخسران، هو الناجي وهو الفائز، يكون ما كان: كان غنيًا أو فقيرًا، صغيرًا أو كبيرًا، عربيًا أو عجميًا، صحيحًا أو مريضًا، ذكرًا أو أنثى، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وبعدها ما هو أهم: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وكلٌّ يُجزَى بعمله، صَغُر أو كَبُر، قلّ أو كَثُر، أفراد أو هيئات أو أحزاب أو جماعات، سِرِّية أو ظاهرة، تحت أي مُسمّى كانت (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شَرْبَ الْهِيمِ).
وفي القراءة الأخرى: (شُرْبَ الْهِيمِ * هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)، الهِيم: الإبل العِطاش. (هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ). نحن خلقناكم! تذهبون إلى غيرنا؟ تتركون منهجنا وأوامرنا ونواهينا؟
واجبنا في التواصي بالحق
لذا كان من الواجب أن نحرص على التواصي بالحق والصبر مع تقوية الإيمان ومُلازمة الأعمال الصالحة، وكما سمعتم، تُعقد هذه المجالس من أجل أن نظفر بهذا، ومِن أجل أن نحوز هذا، ولأجل أن ننجح في خلال أعمارنا القصيرة لِنَيل نعيم الأبد وسعادة الأبد والدَّرجات الكبيرة، والله لا يُخيِّبنا ويأخذ بأيدينا.
لهذا مِن أهم وخير ما قُمتُم به من الأعمال ما قامت به هذه اللجنة الطبية في حارة المطار - زادهم الله توفيقًا - وكل ما فيه المصلحة للعباد، إذا تتوَّجَ بنورانية الإخلاص لرب العباد فهو من خير الزاد، وهو من خير ما ينفع ويرفع صاحبه.
لأن مبدأنا الذي جاء به نبينا: "الخلق كلهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله" الخلق كلهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله.
فاخرج من أنانيّتك هذه من أجل مصلحتك، اخرج من أنانيّتك والتفكير في خاصة نفسك، فَكِّر في خدمة الدين، في نفع الخلق، في ما يُفيد أهل حارتك، أهل بلدك، أهل زمانك، فهَب بهذا القُرب إلى الرب جل جلاله، مُخلصًا لوجه ربك الكريم جل جلاله.
فضل الإصلاح بين الناس
وإلا أكثر كلام الناس لا خير فيه بل فيه ضُر (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ)، أي المخاطبات والمقابلات بينهم، في أنواع الاتصالات الآن التي تيسّرت وعند مُقابلاتهم وفي ما يكتبونه.
(لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ)، وإلا أين الخير يا رب؟ قال خُذ النماذج هذه: (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
أجر عظيم، حتى جاء في بعض الأحاديث: يمشي يُصلح بين اثنين كانوا متخاصمين مسلمين فيُصلح بينهما خير له من ثلاثين حجة مقبولة، ثلاثين حجة مقبولة في صُلح بين اثنين.
(فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) يقول الله.. أجرًا عظيمًا؛ فَخُذ من عمرك وفكرك نصيبًا، تلقى به ربك الرقيب جل جلاله بوجه أبيض يوم القيامة، تخدم به الدين، تخدم به الشرع، تخدم به إخوانك وقرابتك وأهل بلدك والمسلمين بما استطعت، "الخلق كلهم عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله".
التوبة وصفات المُتقين
فيجب أن نُحسن الأمر بيننا وبين الله في استقامة على ما يحبه منا، ونتجنَّب ما يكرهه من هذه الظلمات وهذه الآفات، وما يطرح علينا دُعاة الضلال على ظهر الأرض، يطرحون علينا احتقار الدين، الاستهزاء بالماضي المُنوَّر الطاهر، استبدال وحي الله ومنهجه بوحي شياطين الإنس والجن، والعياذ بالله تبارك وتعالى!
إضاعة الأُسَر، تفكيك بينها، هُوِي المُجتمعات وراء المُسكِرات والمُخَدِّرات والشَّهَوات المُحرَّمات، التي لا تجلب لصاحبها نفعًا في الدنيا ولا في الآخرة.
وويلٌ لِمَن استلذَّ ما حرَّم الله عليه فأصرَّ عليه، وإنّ الجبار بِفَضله فتح باب التوبة لِمَن وقع في هَفوَة أو زلَّة، لكن نفى عن المؤمنين الإصرار، نفى عن أهل الجنة الإصرار على الذنوب.
قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ينفعون خلق الله تعالى، ما يريدون مدحًا، ما يريدون سُمعة، ما يريدون شُهرة، يريدون نفع العباد من أجل أن يرضى الرب! (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).
قال: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) رأيت؟ (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)، ليست خطة: اسحب معك آخر وامضِ فيها ودُم واسقط مع الساقطين.. أبدًا!
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) زادت عليه نفسه في نظرة حرام وفعل حرام في وقت؛ يرجع بسرعة (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ).
لكن إخوان الشياطين: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) خطة، وأحضر معك آخر، واذهب غرّ الثالث، والعبوا، واعملوا بشكة وشبكة خبيثة ونعوذ بالله؛ هذا شأن أهل النار، شأن المنافقين.
أما هؤلاء: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ) المُحاسب والذي إليه المرجع، (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا): ما عندهم إصرار، ما يرضون ببشكات وشبكات الانحدار والهُوِي في الضلال، ولا في الفتن ولا في سُمِّ الفواحش ولا المحرّمات أبدًا! (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
يغفر لهم ويقبل توبتهم ويُثني عليهم ويمدحهم جل جلاله، والأمر له.
رحمة الله وفضله
كما قال ﷺ في رجل من بني إسرائيل خمسمائة سنة عبد الله - كم عمري وكم عمرك؟ خمسمائة سنة تأخذ جيلي وجيل أبوي وجدي وجدّ جدي وأبو جدّ جدي والى عاشر جد - خمسمائة سنة وهو وحده يعبد الله تعالى، متفرّغ لعبادة الله.
قال ﷺ: "إذا كان يوم القيامة قال الله: ادخل الجنة برحمتي، يقول: يا رب، وعملي؟ يقول: ادخل الجنة برحمتي، يقول: يا رب، وعملي؟ يقول للملائكة: حاسبوه"، فيبدأون بنعمة البصر وتركيبتها، وما آتاه الله وكم انتفع بها في الدنيا وكيف قامت بها الأشياء، فتنتهي عبادة خمسمائة سنة! بقي سمع، بقي نُطق، بقي جهاز هضمي، باقي مُخ! والآن فقط التي في البصر كَمُلت.
قالوا: يا ربنا انتهت حسناته وأعماله في نعمة البصر، وما كملت البصر، بقي فيها، قال: خذوه إلى النار، ويأخذونه إلى النار، يقول: يا رب أدخلني الجنة برحمتك، قال فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ونِعم العبد عبدي".
يمدحه وهو قد خرج صفر لا شيء معه! لكنه مع ذلك هو يعطي وهو يمدح سبحانه وتعالى، هو يُثني (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) قال: "أدخِلوا عبدي الجنة برحمتي ونِعم العبد عبدي"، امدحوه واثنوا عليه، والأفضل كله لله.
حتى قال سيد الأطهار، سيد المعصومين، سيد الأنقياء، سيد الأتقياء: "لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله"، قالوا: "ولا أنت؟"، قال: "ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل"، وهو الأطهر، وهو الشفيع الأعظم يوم القيامة ﷺ.
الخاتمة والدعاء
إذن لنا مُهمّات وواجبات، وما تُعقَد هذه المجالس عبثًا، ووراءها سؤال مِن ذي الجلال، نسأله يجعلها حُجّة لنا لا حُجّة علينا، ورحمة لأحيائنا وموتانا وصغيرنا وكبيرنا.
لندخل في دائرة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر! أحيِ ما مات يا مُحيي الأموات، ورُدَّ ما فات يا حيُّ يا قيّوم مِن جميع الخيرات، وأدِم على بلدتنا الإيمان واليقين والتربية الحَسَنة للصغار والكبار والرجال والنساء على ما تُحِبه وترتضيه ظاهرًا وباطنًا، يا حيّ يا قيّوم، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
زِدنا زيادة وأسعِدنا سعادة، واغفر لآبائنا وأمهاتنا والمتقدّمين في ديارنا وبلادنا من أهل لا إله إلا الله، واجمعنا بهم جميعًا في دار الكرامة وأنت راضٍ عنا.
فيا ربِّ واجمعنا وأحبابًا لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
فيا ربِّ واجمعنا وأحبابًا لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
فيا ربِّ واجمعنا وأحبابًا لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
شكر الله لأهل حارة المطار جُهدهم وما قاموا به، واستقبالهم لهؤلاء الوفود من بلاد شتّى وقبائل شتّى، أهل بلدتهم ومن قبائل شتّى وبلاد شتّى، اجتمعنا على ذكر الله فذكرناه، وتذكَّرنا ما جاءنا به رسوله ومصطفاه.
اللهم وفِّقنا واجعل ذلك كله في حَيِّز القبول عندك، ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، واختم لنا أجمعين بأكمل الحُسنى، واجعل آخر كلام كل واحد مِنّا مِن حياته الدنيا: لا إله إلا الله، متحققًا بحقائقها وأنت راضٍ عنا، بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
21 مُحرَّم 1447