مرجع انطلاقات المكلفين في الحياة ومكانة نداء الحق على لسان رسوله

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ59، شرقي جامع التوفيق، باستضافة حارتي التوفيق والإيمان بمدينة تريم، ليلة السبت 19 ذو القعدة 1446هـ، بعنوان:

مرجع انطلاقات المكلفين في الحياة ومكانة نداء الحق على لسان رسوله 

نص المحاضرة:

 

مقدمة: أهمية الاستجابة للنداء الإلهي

الحمد لله، وبين يديه اجتمعنا في هذه الحياة، استعداداً للوقوف بين يديه في تلك الحياة، والحياة الأولى والآخرة خلقه وإيجاده، كَتَبَ فيهما إسعاده لمن سبقت له السعادة وأرادها له، والشقاء - والعياذ بالله تعالى - لأنواع لمُعرضين عنه وعن ندائه.

الذي أكرمتم بالاستماع إليه والتذاكر حول استجابتنا لهذا النداء الإلهي الرباني، الذي حُمِل إلى المُكلفين على ظهر الأرض على أيدي الأنبياء والمرسلين، وخُصِّصنا أنّ حامله إلينا سيد الأنبياء والمرسلين صلوات ربي وسلامه عليه.

ونحن في نعمة الإصغاء لنداء هذا الإله جلّ جلاله ونداء حبيبه إليه، لنُطبِّق، لِنُنفِّذ، لنقوم بِحَقّ هذه العبادة التي من فقدها فقد الجمال والكمال والفضل والسعادة بكل معانيها - والعياذ بالله تبارك وتعالى.

الفرق بين المستجيبين للنداء الإلهي والمعرضين عنه

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ). وأثناء تمتعهم وأكلهم كما تأكل الأنعام، يوقعون أنفسهم والناس في شدائد وآفات كثيرات؛ كلما ادَّعوا أنهم يُصلحون، تبيّن لكل ذي بصيرة وعقل أنهم يُفسدون (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ).

وهكذا جعل الله مسرح الحياة الأولى مليئاً بالعِبَر والعظات والبيانات والدلالات، وفيه نداؤه ونداء رسله مقابل أنواع النداءات من الأنفس والأهواء والدنيا وشياطين الإنس والجن، والواقعون في حبائلها والتلطُّخ بالاستجابة لها يبدو لهم في الحياة الدنيا قبل الآخرة ما قال خالق الدنيا والآخرة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).

فقد كثيراً من المظاهر الحسية في الدنيا ليس هو الضنك، والضنك الأشد أن يجد أنواع المظاهر والمتاع، ومع ذلك عنده ضيق وهمّ وانقطاع عن الجبار الأعلى جلّ جلاله، وظلمة في الباطن، وزيادة في التعب المُعجَّل في الدنيا الذي هو عنوان لتعب أشد وأشق كما ذكر الله تبارك وتعالى في العُقبى.

أثر الاستجابة لنداء النبي ﷺ

فبِحُكمِ إيماننا بهذا الإله وتصديقنا لحبيبه ومصطفاه محمد ﷺ وهو المنادي الكريم: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ).

وكانت الاستجابة لهذا النداء أوجدت في بلدتكم المباركة مَن يقول: ملكت أعضائي السبعة ما صرفتها إلا في طاعة لله جلّ جلاله. ومن يقول: ما من سنّة سنَّها رسول الله إلا وأرجو أني قد عملت بها. 

وكانت هذه الأحوال هي حقائق الرِّفعة والعلو والسمو والشرف، بل والخير الذي نِلناه من بعدهم في البلدة المباركة والوادي الميمون. ساقه الله تعالى من هذه الجداول والأنهر والبحار المتلاطمة بهذا الإرث لحضرة النبوة والرسالة.

قصة أبي سعيد الخدري والرقية

وانتشار الخير الذي كان يقول عنه مجتمعات الكفر وأُسر الكفر، لما أُصيبَ رئيس حيّهم ولُدغ بالحيّة، جاؤوا إلى الصحابة وكانوا قد نزلوا عندهم فأبَوْا أن يُضيِّفوهم لما غلبتهم من نفوسهم، وقالوا للصحابة بهذا المنطق: "هل عندكم من راقٍ؟ فإنّ صاحبكم جاء بخير". من صاحبهم؟ محمد ﷺ، صاحبكم جاء بخير، سنجد خلاص لبلايا التي عندنا من طريقكم؛ "إنّ صاحبكم جاء بخير".

وهذا هو حقيقة أهل الأرض كلهم، الخير - إن أرادوا الخير - صاحبنا جاء بالخير، نبينا جاء بالخير ﷺ. وسيدنا أبو سعيد الخدري قال: نعم، لكنكم ما رضيتم تضيّفونا، قالوا: تفضلوا، ماذا تريدون الآن؟ أجرة على الرقية، قال عمري ما رقيت أحد - يقول سيدنا أبو سعيد - ولا استعملت الرقية مع أحد، قالوا: "تفضلوا الآن، ما تريدون نعطيكم".

حتى تصالحوا معهم على قطيع من الغنم، ثلاثين رأساً من الغنم، لو كانوا ضيّفوهم كان قليلاً يكفيهم، فجاء إلى عنده وقرأ: بسم الله، يقرأ الفاتحة أول مرة، ويقرأ مرة ثانية ومرة ثالثة.. كأنما نُشِط من عقال، كأن ما به شيء، قالوا رقية كبيرة هذه، وأعطوهم.

فجاءوا حتى بعض الصحابة قالوا نأكل هذا مقابل ماذا؟ ما عملت؟ حتى وصلوا إلى رسول الله ﷺ قال: "من أكل بِرُقيَة باطل فقد أكلتَ بِرُقيَة حق، وما يدريك أنها رُقيَة فاتحة الكتاب".

فكان هذا المظهر لأن مشاكل أهل الأرض لا يمكن أن تنحل من غير منهج رب الأرض والسماء، وما حمل المنهج إلا السيد الأطهر ﷺ والنبي الذي شُرِّفنا بأسرار نبوته ورسالته ووراثتها، خصّ الله الوادي منها بالنصيب الوافي الكبير؛ الذي يجب علينا أن نرعاه وأن نرعى مكانتنا فيه ونصيبنا مِن نورانيته ومِن أحقِّيته.

أثر المجالس الإيمانية وفضلها

كما سمعتم في كلام إخواننا، كل الكلام الذي يدور على ظهر الأرض منه ما يتحوَّل إلى هباءً منثوراً، ومنه ما يتحوَّل إلى سعير وإلى فضائح وقبائح وآلام وعذاب شديد في الآخرة - والعياذ بالله تعالى، ولكن هذا الذي يدور في مثل هذه المجالس هو الذي يتحول إلى نور وإلى نعيم، وإلى قُرب وإلى تكريم، وإلى مرافقة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

فالحمد لله على هذه المِنَن، ويجب أن نجتهد ونبذل الوسع في تطبيق أمر الحق جلّ جلاله، بل والحرص على سنّة النبي محمد ﷺ في البلد، وبِذَلِكُم - كما سمعتم - تندفع أنواع الشرور والبلايا والآفات، وأنتم شعرتم أو لم تشعروا، وإن شعرتم فبعض الشيء في ألطاف مِن ربكم جلّ جلاله، وتسخير وتسيير وحُسن تدبير لأمور كثيرة ظاهرة وباطنة، وفي لطف عظيم من ألطافه جلّ جلاله وتعالى في علاه.

وأساس ذلك وحصوله من الحق كان بهذه الوسائط، بوسائط النور النبوي، بوسائط أهل القلوب المُتّصلة به، بأهل القلوب المُلَبِّية لنداء الله جلّ جلاله، أهل حضرته من أهل قُربه وأهل معرفته جلّ جلاله وتعالى في علاه، وجزاهم الله عنا وعنكم خيراً.

مفتاح البركات

يجب أن نغتنم هذه الأعمار وننتبه من هذه المُهِمات في أُسرنا وفي حاراتنا وفي مجتمعنا، لنسعد بتطبيق شرع الله وأمره، ونُقيم ركيزتي الإيمان والتقوى، والنتيجة حَتمية: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).

والله يُحقِّقنا بحقائق الإيمان والتقوى، وسترون هذه النتيجة لكل من تحقَّق بذلك: الفرد منها للفرد، والجميع منها للمجتمع، على حسب ما يكون في المجتمع وفي الفرد من التحقق بالإيمان والتقوى.

وهذا مشروع رب الأرض والسماء إذا أردنا صلاح أمورنا واستقامتها: انطلاقنا من حقيقة هذه التقوى وبلباسها في شؤون حياتنا، وتكاتفنا وتعاوننا على ذلك - كما سمعتم -. 

تنبيه عن اتخاذ القدوة السيئة

ورفضنا لما يَعرِض علينا من أعداء الله في أزيائنا، في معاملاتنا، في عاداتنا، ومَن هم حتى يتحوّلون قدوة بدل الأنبياء، بدل الأولياء والأصفياء؟ مَن هم؟ تأتي بواحد ساقط من عين الله تبارك وتعالى ويكون القدوة لبنتك وقدوة لزوجتك بدل محمد بن عبد الله، بدل فاطمة الزهراء، بدل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين يترتب على اتباعهم وولائهم رضوان رب السماوات والأرض.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وما يترتب على اتباع أولئك: (وَإِنْ تُطِيعُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ". 

(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).

كيف تفسح له المجال أن يُتَّبع من وسط بيتك ومن وسط أسرتك؛ في مناسبة زواجك وفي مناسبة ولادة عندك وفي لباس أو في غناء أو إلى غير ذلك؟ (لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

فضل الاقتداء بالنبيين والصالحين

فلنعتز بطاعة الله وطاعة رسوله، وطاعة أرباب التقوى والخير من النبيين وأهل وراثتهم، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، كما يقول جلّ جلاله وتعالى في علاه. ونتائج ذلك هي حقائق السعادة لنا في الغيب والشهادة، في الدنيا وفي الآخرة، إلى أن تُوصِل إلى نيل الحُسنى وزيادة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ).

وهي مهمة كبيرة أمام هذه الأوضاع القائمة في الأرض والمُتقلِّبة والمُذكّرة والمُنبِّهة. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

ولتطرقوا أبواب الفرج ورفع الشدة عنكم وعن الأمة؛ بهذا الصِّدق مع الله في الإقبال عليه والتوجُّه، متعاونين على ما يرضيه جلّ جلاله وتعالى في علاه.

قصة ملوك الأرض وسر انتصار أتباع النبي ﷺ

ولقد قال مِن آثار ما أُنزل في الكتب بعض النصارى، وقد اشتُكي إليه من هزيمتهم ملوك الأرض أمام أتباع محمد ﷺ، في كل مكان وقفوا معهم، فقال: هاتوا لي أوصافهم، بثّوا عيونهم بينهم قالوا: في الليل إذا أخذوا نصيبهم من النوم، قاموا واشتغلوا بالكتاب الذي نزل على نبيهم، وما بين قيام وركوع، ولهم بكاء ولهم حنين بوحي ربهم، وهم متعاونون بينهم البين، وفي صباحهم ونهارهم، وراجعون إلى كبارهم وإلى أميرهم لا يتجاوزونه في أمر.

قال لهم - وهو من ملوك الصين وعنده من علم الكتاب - يقول لهرقل وأتباعه الذي كتب إليه ليستنجد: إنني أستطيع أن أمدّكم بجيشٍ أكون أوله عندكم وآخره عندي، من كثرة مَن معي من الجيوش، ولكن مَن هذا وصفهم لو استقبلهم أهل الأرض كلهم لهُزموا دونه، لو قابلتهم الجبال لأُبيدت، أو البحار لهلكت أمامهم، فلا تتعرضوا لهم، سيفتحون البلاد ويدخلون، ولكن ابعثوا منكم من يُلهيهم عن هذه الأعمال، ومن يشغلهم عن هذه الأوصاف، فإن تمكنتم من ذلك فستردون مُلككم منهم، أنتم أو أولادكم من بعدكم، إذا انحرفوا عن هذا السبيل.

الانحراف وتسليط الأعداء

وكانت حقيقة؛ هي المذكورة في كتب الله المُنزَلة، وإنما يُسلَّط الفجار والكفار بمعصية المسلمين، بخروجهم عن أمر الحق، استبدالهم تعاليم الإله الذي خلق، وتعاليم مَن اصطفى مُن أهل النبوة، بما أدري من الفلاني، مِمّن لا خلاق له ولا صِلة له بالله جلّ جلاله وتعالى في علاه. وبذلك يأتي السقوط المُرعب المريب - والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وصية ودعاء

فأمامكم الأمانة والمُهمة، تعاونوا عليها وتكاتفوا، جمعنا الله وإياكم على صِدق الإقبال عليه، وكتب لنا القبول لديه، وحَفظ على بلداننا سِرّ الاقتداء والاهتداء بنبي الهدى وبأهل الهدى من بعده.

فهمُ القوم الذين هُدوا ** وبفضل الله قد سعدوا

ولغير الله ما قصدوا ** ومع القرآن في قرنِ

ثبتوا على قدم الرسول وصحبه ** والتابعين لهم فسل وتتبعِ

ومضوا على قصد السبيل إلى العلا** قدماً على قدم بجدٍّ أوزعِ

 يا مُنزِل القرآن ويا بارئ السماوات والأرضين: لا تقطع هذا النور عنا، ولا تفصِل هذه الوجهات عن أجيالنا، وألحِق مَن خلَف بمن سلف، وثبِّتنا على قدم التقوى والشرف، في كل ما ثقل وخَفّ، في كل ما ظهر وبطن، يا عالم السر والعلن، يا حي يا قيوم.

بارك في هذه الحارات والقائمين عليها وعقلائها وعلمائها وصلحائها وشبابها، وزدهم تعاوناً على البر والتقوى في السر والنجوى، وعلى ما يُقرِّبهم إليك. وابسط علينا بساط التأييد والنصرة والتسديد، ورُدَّ كيد المعتدين الظالمين الغاصبين من الصهاينة ومن والاهم من الكفار والمجرمين، وخالِف بين وجوههم وكلماتهم وقلوبهم، واردُد شرهم عنا وعن الأمة أجمعين.

واجمع شمل أهل لا إله إلا الله على التحقُّق بحقائق لا إله إلا الله، وأنت راضٍ عنا يا مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين.

تاريخ النشر الهجري

22 ذو القِعدة 1446

تاريخ النشر الميلادي

18 مايو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية