(231)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ38، لحارتي التوفيق والإيمان - مدينة تريم، ليلة السبت 21 ذي القعدة 1444هـ ، بعنوان:
آثار الخطاب الرباني في واقع الأمة
الحمدُ لله على هذا الفضل والامتنان والجود من الرحمن، واتّصالنا باستماع نِداء القرآن ومن أُنزِل عليه القرآن، الذي تمَّت به حياة خِيار الناس على مدى الأزمان، ولم يأتِهِم خِطابٌ من غير خِطاب الله فأوجَب لهم حقيقة السعادة لا في الغيب ولا في الشهادة، لا في الأجسام ولا في الأرواح، لا في الدُّنيا ولا في الآخرة؛ إلا ما كان مُوافِقاً لهذا الخِطاب الرباني والبلاغ النَّبَوي المُحمّدي، الذي تشرَّفت بلدتكم في البلاد التي تشرّفت بِحُسنِ الإصغاء والاستماع لِنداء الله ونداء رسوله، وتعظيم ذلك وَوَعيهُ وفهمهُ وفِقهه وتطبيقهُ وتنفيذهُ والعمل به والقِيام بِحَقِّهِ.
تِلكُم هي المِيزة على ظهر هذه الأرض لِمَن يعبُد رب السماء والأرض وعرف عَظَمَة خالق السماء والأرض، والذي خلقنا لِنَنتهِج المنهج الذي ارتضاهُ لنا في الاعتقاد والفِكر والتَّصَوُّر والنَّوايا وفي حركات الأعضاء، مطعومات ومشروبات وملبوسات وسَكَن، ومركوبات وتِجارات وصناعات وزراعات وتعليمات ودروس، حركة الحياة نَظَّمها خالق الحياة بهذا النظام البديع القائم على واجِب ومندوب ومُستحب مسنون ومباح ومكروه وحرام، نِظام الرَّب جلَّ جلاله يحكُم جميع حركة الناس، جميع علومهم، جميع مُعاملاتهم مَحكومة بِهذا النظام، إمّا تدخل في هذه الدائرة أو هذه الدائرة أو هذه الدائرة بِبَيَانٍ بديع مِن إلهنا السَّميع جلَّ جلاله، تشرَّفَ بِحُسن العمل به سَنَدكُم الكريم المُبارَك، سَنَد أخيارنا، سَنَد علمائنا، سَنَد أهل الوِجهة الطَّيِّبة فينا، الذين وُضِع منهم القَدَم على القَدَم إلى المقتدى الأعظم ﷺ، فصار الحال كما قال الإمام الحداد:
ثَبَتوا على قَدَمِ الرَّسول وصحبهِ ** والتابعينَ لهم فَسَل وتتبَّعِ
ومضوا على قصدِ السَّبيلِ إلى العُلا ** قَدَماً على قدم بِجِدٍّ أوزَعِ
أثر هذا النداء في بلدتكم أرسل الله حِسَّهُ إلى قلوب كثير في مُختلف أقطار الأرض، والوافدون الذين تَرَونَهُم، وأضعافهم الأصناف مِن القارات الخمس عندكم يَفِدُون، وأضعافهم مِمَّن يُتابِعون وما حضروا بأجسادهم، وأضعافهم مِمّن يتمنَّون ويريدون، كلّ هذا في مجلى مِن مجالِ بقاء نِعمة ظهور هذا المصطفى ﷺ، وما بُعِث به، لأنّ المرجعيَّة والخلفيَّة فوق خُطّة إبليس وفوق عقول الخلائق.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ)، (هو) تعرف معنى هو؟ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [الصف: 9] فتبقى المظاهر محفوظة في القلوب المُخلِصة الصَّادِقة في العرب والعجم في الشرق والغرب، وأمثال اليمن والشام والحجاز وما حَوَاليها مخصوصة بِكَثير مِن عِناية الله ورِعايته وعِناية نَبِيّهُ ﷺ وإشاراته، فلها في هذا المجال قِيادة لِمَن صلح منهم وتأهَّل وتهيَّأ، وتقدُّم على الكثير مِن عِباد الله تبارك وتعالى.
حتى إذا انكشفت حقائِق الزَّيف فيما يُسمّى بالحضارات في الشَّرق والغرب وتفكَّكَت أُسُسها وبِناها، أو قُل دُمِّر! لأنَّ ما قال الله تعالى: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137] سُنّة هذه من السنن، هي لفرعون وحده؟ والذي قبله والذي بعده، نفس الشيء! يقول سبحانه وتعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان: 38 - 39] فهذه سُنّة من سُنّن الله تبارك وتعالى.
هذه الأصنام المطروحة اليوم من دَعوَى الحضارة والتقدُّم لابُدّ تتكسّر، وعند هَيَجان الفِتَن ما يجد الناس تهيئَة لِأوضاع يستقِرُّون فيها إلا مثل الشام واليمن، و "إذا هاجتِ الفِتَن فعليكُم باليمن" و "عليكم بأقصى اليمن"، إيش هذا؟ ذلك تقدير العزيز العليم! وهذهِ آثار الرِّعاية الرَّبَّانِيّة!
انظروا هذه النعمة التي أنتم فيها، يُعاني الناس ما يُعانون وأنتُم بِحمدِ الله تبارك وتعالى كُلّ صادق منكم مُخلِص يستطيع أن ينطلِق ويُصلِح أسرته وأهله وأولاده، ويقعد مع هذا وهذا ويتواصل بهذه الأجهزة، وننشر فيما عندنا من قنوات، ونعقد جلسات ظاهرة في الساحات وفي المساجد وفي الزوايا، ومدارسنا قائمة وآثار السَّلَف، مِن أين جاء هذا كُلّه؟ وإيش من نظام في العالم رتَّبَ لِهذا؟ لا والله الأنظمة التي عندهم كانت تقتلع هذا وتبعده، بل فكّروا وباشروا إرادة الاقتلاع في فترات مُتعددة مِن جهات متعددة، ولكنه باقي، ولكنه قوي! ولكنه مُتجدد! هذه خلفيته، تعرف هو؟ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [الصف: 9] وإن كان هناك مَكر وترتيب (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، بل قال عنهم (وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر: 10] (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) [ابراهيم: 46-47] فالله يزيدنا وإياكم شرف بالاقتداء بالحبيب الأشرف.
وخُصوصِيَّة قُوة صفاء السَّنَد بيننا وبينه، فيهم أقوام يقول قائِلهم: "ما مِن سُنّة سَنّها رسول الله إلا وأرجو أنّي قد عَمِلتُ بها"، ويرى الإمام عبد الله بن عمر بن يحيى رسول الله ﷺ ، يقول له: أنت يا رسول فرحان بخروج أحمد بن عيسى المهاجر إلى حضرموت؟ التفت اليه يُنبهّه ما قدر المهاجر، قال له: أنا أفرح بِكُل ما يفرح به أحمد بن عيسى، أنا أفرح بكل ما يفرح به أحمد.. يعني صار نائب عني، حامل سِر "حُسين مِني وأنا من حُسين"، ما يُرضيه يُرضينا وما يُغضبه يُغضبنا، في جود مِن جود الله تبارك وتعالى، وهكذا الحمد لله على هذه النعم، الله يحفظ علينا سر الاتصال به وبرسوله، وإصغاء قلوبنا وأرواحنا لندائه وخطابه ونداء رسوله عليه الصلاة والسلام، على وجه العبودية ووجه الوَعي والفِقه والفَهم الذي يُسنَد إلى الأصل والمصدر، وذلك عبر أهل التُّقى، أهل الصِّدق، أهل الإنابة (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) [لقمان: 15] و (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119] جعلنا الله وإياكم مِن مَن يكون معهم ويُحشر معهم إنه أكرم الأكرمين.
باركَ الله في أحبابنا وإخواننا وجهودهم وما يقومون به، وسَّع الله لهم ذلك وأعانَهُم، وهيَّأَ لهم بذلك نُزُلاً كريماً لديه جل جلاله وتعالى في علاه، ومَن أنزله الله نُزُل وضَيَّفهُ مِن عنده ضِيافة فَعَجائِب جود تجديده وهو على ظهر الأرض، رُبّما بعض العيون ما تلتفِت إليه ورُبّما ما يُظَن أنه شيء، وربما بعض الأنظار تقول هذا مسكين مُضيّع مستقبله، وهو في نفس الوقت عِند العرش يُذكَر بالذكر الجميل، في البيت المعمور فوق السماء السابعة يُذكَر بالذكر الجميل، عند سدرة المنتهى يُذكر بالذكر الجميل، في حضرات الأنبياء، في حضرات الرُّسل، في حضرة سيدهم ﷺ، في حضرات أهل الصِّدِّيقِيّة! يعني صاحب مَجد عظيم ما يُتصوَّر، وهُو ما يُؤبه له على ظهر الأرض، وهكذا ثُمّ بِالنسبة لذاته تتكشَّف الضيافة تماماً هذا هو النُّزُل الكريم من الرحمن من عند الغرغرة، نُقدِّم له شيء من نور بصيرته أو مرائيه أو ما يتجلّى به الحق عليه في الحياة الدنيا، فيكون (لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس: 64] لكن عند الغرغرة انكشاف دقيق لِأشياء كثيرة وهي لبداية، يستمِر انكشافها في البرزخ وبعدين على وجه ظهوره بين الأولين والآخرين في مواقف القيامة، وتمام النِّعمَة بدخول الجنة، يقول ﷺ لبعض أصحابه: أتدري ما تمام النعمة؟ قال: ما تمام النعمة؟ قال: دخول الجنة، وصول إلى دار الكرامة ومُستقر الرحمة، جمعنا الله فيها مع أهلينا وأولادنا وأحبابنا.
يا رب لا يعترضهم قاطع يقطعهم عن هذا السبيل وعن الدخول إلى ذاك الظِّلِّ الظَّليل بِشيء يُصدِّقونهُ مِن أوهام وخدع وخيالات ينشرها إبليس بِمختلف الصور وتأتي هنا وهناك، حتى تعود شوارعنا شوارع الذكر والتذكير والعلم كما كانت شوارع سلفنا من قبل، وعنها قالوا شوارع تريم شيخ من لا له شيخ، وبعض المتأخرين في زماننا على ما عندنا من الضَّعف والتأخُّر، موجود عندنا إذن ما خرج عن المسار، لكن هذا جاء كان عائش في أمريكا ثم قضى فترة في الإمارات وجاء، ومرَّ عند واحدة مِن برّادات المسجد وتناول الكأس بيشرب من جهة اليسار، فجاء واحد طفل قال: يا شيخ باليمين خُذ الكأس، واذا تشرب جالس أحسن، قال: والله شوارع تريم شيخ من لا له شيخ، أنا غفلت عن هذا ومع نفسي حملت الكأس كذا وبشرب وأنا قائم، طفل صغير جاءنا قال: يا شيخ سُنّة باليمين، وأنت جالس أفضل من أنت قائم، جاءنا وقال لي رأيت الولد عندكم طفل ذكَّرنا بالسنن وعلمنا إياها، وأنا غفلت عنها أعرفها ولكن ما تمكنت.
وهكذا جاءنا دكتور أطفال جاءنا أيضاً من اليابان، يمرّ عند ولد يبيع في البَسطَة، اشترى منه حاجة فسقطت عليه كمِّيَّة من الدولارات وراح، قام الولد قال له تعال انظر حقك هذه سقطت ، نظر إليه وقال ولد صغير ما يبيع في البسطة في الشارع إلا وهو من أسرة فقيرة، والدولارات سقطت عنده يقدر يأخذها وأنا ما أدري بها، الآن في بلدنا ما شيء يحصل مثل هذا! ايش السبب؟ قال قلت له: ليش ما أخذتها؟ قال حرام! قال ما أحد عندك، قال الله يرانا! اهتزّ الرجل جاء وأسلم، أسلم الرجل هذا بِدَعوة هذا الطفل الصغير، هذا التصرُّف منه كفى! المُحافظة على هذا حتى تعود شوارعنا كما كانت، والسوء الذي دخل إليها يرتفع ويندفع، أدخلوا لنا سب، أدخلوا لنا شتم، أدخلوا لنا مناظر سيئة، أدخلوا لنا أفكار خبيثة، أدخلوا لنا ظُلُمات قلوب، الله يرفعها ويدفعها وينزعها من شوارعنا وديارنا ومساجدنا وأماكننا، ويعود إلينا إن شاء الله صفاء الصِّدق والإقبال، ويؤدون حق هذه الأمانة في هذه الأمة، وكم يُرتِّب الله عليها من خيرات كثيرة هنا وهناك.
اللهم ثبِّتنا على الحق فيما نقول، ثبِّتنا على الحق فيما نفعل، ثبِّتنا على الحق فيما نعتقد، زِدنا زيادة وأسعِدنا بأعلى السعادة، وأصلِح الغيب والشهادة، يا بر يا ودود والحمد لله رب العالمين.
21 ذو القِعدة 1444