كشف الغمة -4- باب ما جاء فيمن لا يعبأ بما بلغه من الحديث

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب ما جاء فيمن لا يعبأ بما بلغه من الحديث

يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:

- قصد الأغراض الفانية بالعلم

- تنبيه عن التساهل في رد الحديث بدون علم، والتساهل في نسبة كلام للنبي

- متى يعمل بالحديث الضعيف

- تخبط الذين يضعّفون ويردون الأحاديث بأهوائهم

- الحذر من الجراءة على أهل السند والحديث

- استفتاء القلب راجع لأهل البصيرة والرسوخ في الدين

- بقاء أهل الإخلاص لله إلى آخر الزمان

- من هم أول من تسعر بهم النار؟

- آفة الدين ثلاثة.. فما هي؟

- الجمع بين وجوب البلاغ عنه ﷺ وحرمان كتمان العلم وبين من يطلب الشهرة والمكانة

نص الدرس مكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

رضي الله عنكم وبسندكم المتصل إلى الإمام عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في كتابه كشف الغمّة عن جميع الأمّة إلى أن قال:

باب ما جاء فيمن لا يعبأ بما بلغه

من الحديث إذا خالف قول إمامه

كان سلمان الفارسي يقول : سمعت رسول اللهﷺ يقول : "من رد حديثاً بلغه عني فأنا خصمه يوم القيامة"

وفي رواية عن جابر قال : قال رسول اللهﷺ: "من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب ثلاثة كذب الله تعالى، وكذب رسوله، وكذب الذي حدث به ".

وكان ﷺ يقول: "إذا حدثتم عني بحديث تعرفونه ولا تنكرونه قلته أو لم أقله فصدقوا به فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني بحديث تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف".

باب إثم من تعلم العلم لغير الله تعالى

كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من تعلم علماً مما يُبتغي به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها"

وفي رواية: "أول ثلاثة تسعر بهم النار فذكر الحديث إلى أن قال : "ورجلٌ تعلم العلم والقرآن وعلمه للناس فأُتِيَ به بين يدي الله عز وجل فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار".

وكان رسول الله ﷺ يقول: "من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماريَ به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار".

وكان ﷺ يقول: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا تماروا به السفهاء، ولا تخبروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار".

وكان ﷺ يقول: "من تعلم علمًا لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار".

وكان ﷺ يقول: "سيكون من أمتي ناس يتفقهون في الدين يقرؤون القرآن، يقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا". 

وكان ﷺ يقول: "آفة الدين ثلاثة: فقيه فاجر، وإمام جائر، وعابد جاهل". 

وكان ﷺ يقول : "لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو مراء". 

والأحاديث في ذلك كثيرة، والله تبارك وتعالى أعلم.

 الحمد لله على شريعته وبيانها على لسان عبده محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وعلى من اقتدى به واتبع هداه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وبعدُ:

فقد ذكرَ الشيخ عليه رحمة الله تعالى الشعراني في هذين البابين ما جاء في من لا يُعظِّمُ حديث النبي ﷺ، ويعطيه حقه من الإجلال والإكرام والنية الصادقة الجازمة في العمل به، كما أنه حدّثنا بالباب الثاني عن من صرف نيته في العلوم التي تراد للقرب من الله سبحانه وتعالى ونيل الرضا؛ فصرف قلبه إلى قصد محمدةٍ أو ثناء من الناس أو نيل حطام من متاع الدنيا ولغير ذلك من الأغراض الفانية، وأنه كيف يتعرضُ للعذاب الأليم والطرد والبعد والعياذ بالله -تعالى- بسوء قصده في هذا العلم وسوء أخذه له.

 فذكر لنا في هذا الباب الأول هذه الأحاديث التي تبين لنا كما أن الجراءة ونسبة القول إلى رسول ﷺ عظيمة وشديدة، وإنّ كذبًا عليّ يقول نبيُّنا ليس ككذبٍ على أحد، و"من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، كما عظُمَ الإثم والجراءة في التقوّل عليه ﷺ؛ فكذلك يعظُم الإثم في رد ما جاء عنه، وفي التساهل بما نُسب إليه ﷺ خصوصا ما يكون متطابقا مع المتواتر عنه والأمر الواضح من هديه، أو يكون مندرجًا في شيء مما صح عنه ﷺ فوجب إقامة الميزان، لا يجوز الرواية لمن يشك، ولا يجوز ردُّ روايةٍ محتمل فيها الصحة ومندرجة تحت الأصول الصحيحة الواضحة من الكتاب العزيز والسنة الغراء؛ وبذلك تعلم أيضًا خطأ من يتساهل بنسبة الحديث إلى رسول الله ﷺ على غير بينة، وخطأ من يتساهلُ في ردِّ المنسوب إلى رسول الله ﷺ، وبذلك كان ما اضطر إليه علماء الأمة من حدوث علم أسماء الرجال وعلم الجرح والتعديل في الحديث، كانوا فيه أحد من السيف فيما أخذوا واضطروا أن يبينوا ما ظهر لهم وما انتهى إليه علمهم من حيث الظاهر، ومن حيث ما يُرى من أحوال الإنسان؛ ولكن مع ذلك كله ففيهم من وُصفَ بالتساهل في حكاية الوضع للحديث، والوضعُ غير الضعف، والوضعُ هو الاختلاق، ومن عَلم وضعَ أيَّ حديث فلا يجوز أن يرويه على أنه حديث، وكما أن منهم أيضا من يميل إلى ترجيح ما يُحتمل من الصحة مع وجود قرائن على الضعف إلى غير ذلك.

وذكر أهل العلم في الحديث الذي ليس بموضوع؛ ولكنه على اصطلاح أهل العلم يقال له ضعيف السند أن هذا الحديث الضعيف بسنده مهما كان مندرجا تحت أصل صحيح؛ وهو متعلق بفضائل الأعمال أنه يُعمل به، حتى حكى الإمام النووي في مقدمة كتاب الأربعين النووية اتفاق الحفاظ على ذلك، ومن العلماء من أفرد هذه المسألة بالتأليف في جزءٍ جمعه عما يتعلق بالحديث الضعيف والعمل به في فضائل الأعمال، وفيما يندرج تحت أصل، فكل ما لم يشتدّ ضعفه ولم يُعرف وضعه ويندرج تحت أصلٍ من أصول الشريعة، ثم لا يُجعل من العمل به الجزم والقطع بثبوته وصحته؛ ولكن على سبيل التقرب احتياطا وشدة رغبةٍ في الخير والعمل الصالح؛ فالأمر في ذلك واسع على أنه قد تتعدد الأسانيد للضعيف فيرتقي إلى درجة الحسن لغيره، وتتعدد أسانيد الحسن فيرتقي إلى درجة الصحيح، وقد تتوافر وتتكاثر عدد الرواة في كل طبقة حتى يصلوا عدد التواتر، فالمتواتر من الحديث مقطوعٌ ومجزوم بنسبته للنبي ﷺ، وأحاديثُ الآحاد منها ما يكون على الاصطلاح في الصحيح أو الحسن أو الضعيف، وهو أقسام كثرة بعضها أشد ضعفا من بعض، وخرجَ عن الحديث ما عرف اختلاق إنسان له واجتراء وافتراء إنسان في نسبته لرسول الله ﷺ، ويسمونه الحديث الموضوع وليس من الحديث في شيء؛ ولكنه لما تجرأ المتجرئ ونسبه إلى رسول الله ﷺ سموه الحديث الموضوع.

 يقول عن سيدنا سلمان الفارسي أنه سمع النبي يقول: "من ردّ حديثا بلغه عني فأنا خصمه يوم القيامة"، يقولون له: قال رسول الله ﷺ قال: هذا حديث ضعيف ولم أعمل ومل أقبل هذا، أنت من أنت؟ وما يدريك بحقيقة الأمر ومن وضعه؟ من أين تقطع ومن أين تجزم؟ وبذلك تعلم تخبط هؤلاء الذين تجاوزوا الحد، وأخذوا يصفون الحديث بالضعيف، والضعيف، والضعيف، وكل شيء ما يوافقهم ويوافق هواهم ويوافق مذهبهم هو الضعيف، بسم الله الرحمن الرحيم من أين جئتوا؟ هو الضعف بالهوى؟ ولا فيه مرجعية؟ وإذا جاء سند فيه ضعف فهل أيقنت وجزمت بأن لا سند غير هذا ورد؟ قد يُروى بأسانيد أخر يكون أقوى؟ أو تجتمع قوتها بكثرتها إلى غير ذلك مما يعلمه أهل الصناعة في الحديث الشريف.

 يقول ﷺ هذا الذي يركز هواه أمام أحاديثي ويسمع الحديث ويردها خصم لي يوم القيامة، بيخاصم من؟ بيحاجّ من؟ بيجادل من في يوم القيامة؟ وقد بلغه أن النبي قال وبعدين ينتبه لنفسه قال: "من ردّ حديثا بلغه عني فأنا خصمه يوم القيامة".

وجاءت روايته عند الطبراني في المعجم الكبير كما ذكره في مجمع الزوائد وغيره، ويقول عن سيدنا جابر يقول ﷺ: "من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذَّبَ ثلاثة، كذَّبَ الله تعالى وكذَّبَ رسوله وكذَّبَ الذي حدث به" فإن كان يروي عن عدد فكذَّبُهم كلهم، كذَّبَ بالسند هذا كله، وكذَّبَ بكلام النبي، وكذَّبَ بالله سبحانه وتعالى يعني كذَّبَ الله فيه؛ لأن ما يقوله ﷺ مؤيد فيه بوحي الله في شاهد قوله جل جلاله {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم:3-4]، ولذا بعض الأئمة مِمّن اشتغل بعلم الأسانيد الرجال وأسمائهم وعلم الجرح والتعديل، أخذ ينتفض باطنه خشيةً وقال: إننا نضطر للكلام على أقوام، ونرجع إلى ما ظهر من صفاتهم ولعلهم لدى الله بالمنزلة الكبيرة، ونخاف على أنفسنا من ذلك.

 فإذاً الأمر ليس بتبجح ولا تطاول ولا جراءة، وإنما حفظت السنة الشريفة بواسطة هذا المصطلح وما جاء؛ وإن ضاع كثير منها وإن ضاع للناس كثير منها؛ ولكن ما تحتاجه الأمة في بيان القرآن والشريعة الغراء تكفَّلَ الله بحفظه، الحمد لله موجود محفوظ على مدى الأزمان؛ مهما كان فيه من اعتداء طوائف الكفر على كتب المسلمين، وعلى مذخوراتهم وتراثهم فقد حصل ما حصل؛ ولكن لا يزال إلى يومنا محفوظ من حديث رسول الله ما يكفي بياناً للكتاب العزيز ولما يُحتاج إليه من الشريعة الغراء فإن الله تعالى بتكفله بحفظ القرآن حفظ بيان القرآن وهو السنة الغراء {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل:44]، فما يحتاجونه في البيان موجود بحمد الله تبارك وتعالى ومحفوظ في هذه الأمة إلى آخر الزمان.

وهذا الحديث أيضا جاء معناه في مسند الإمام أحمد بن حنبل، أن الذي يكذب بالحديث يكذب الحق ويكذب رسوله ويكذب الراوي الناقل لهذا الحديث، أي: فيتحول هؤلاء كلهم خصماؤه يوم القيامة، وكيف له بالنجاة والعياذ بالله تبارك وتعالى؟ فاحذر من التجري واحذر من التقوُّل بغير علم.

ويقول: "إذا حدثتم عني بحديث تعرفونه ولا تنكرونه قلته أو لم أقوله فصدقوا به فإني أقول ما يُعرف ولا يُنكر"، ومرجع هذا إلى راسخي العلم في معرفة شأن الشريعة، والمعروف منها وما يخالف الأصول، فأمَرَهُم بقبول كل ما توافق مع الأصول ومع قواعد الشرع الذي بعث به، وما هو واضح المخالفة لصريح المعروف والمنقول عنه ﷺ فحينئذ هو الذي يردُّ على صاحبه "إذا حدثتم عني بحديث تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإني لا أقول ما يُنكر ولا يعرف"، وعلى كل الأحوال أيضا هذه الأحاديث جاءت بألفاظ متقاربة في عدد من كتب السنة المطهرة وأمثالها، وقريب منها في الألفاظ أيضا ورد عنه ﷺ.

إذًا فلا سبيل لأحدٍ أن يتقوّل على رسول الله ما لم يقله؛ ومن فعل ذلك فليتبوأ مقعده من النار، ولا سبيل لرد ما نسب إليه ﷺ وإن كان في السند في ذلك ضعف، ما لم يعرف فيه الوضع فليس من الحديث في شيء كما هو معلوم، فوجب التأدب مع ما جاء عن رسول الله ﷺ، كما جاء في رواية "ما حُدثتم عني من حديث هو من الحق فاقبلوه" أو "يوافق الحق" قريب من هذا اللفظ، وما لا..؛ فليس بقولي..، وكذلك يقول جاء في الرواية عنه ﷺ يقول: "ما حدثتم عني من حديث ترق له قلوبكم وتقبله أفئدتكم فأنا أولى به وأنا أحق به، وما حُدثتم عني من حديث تقشعر له آذانكم وتنكره قلوبكم فأنا أولى أن أقول ما ينكر" هو أبعد من أن يقول مثل ذلك ﷺ.

إذًا فقد أشار إلى شيء مما يتوافق مع قوله لسيدنا واقصة بن معبد "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك"، وهذا راجع إلى أرباب البصيرة والرسوخ في الدين، فهؤلاء أعلم، ولذلك لما قالوا للشيخ عبد العزيز الدباغ كيف تفرق بين الأحاديث حتى تعرف الموضوع من غيره؟ فقال لهم: ليس يخفى ما خرجَ من بين شفتي رسول الله ﷺ بنوره وما يكون فيه، فرق كبير بين ما خرج من شفتي رسول الله ﷺ وما لم يخرج منها، والعجيب أنه عندما عرض عليه الأحاديث في عامة وأكثر ما عرض عليه كان ما يصححه أو يرده مطابق لما جاء في كتب المحدثين من أهل العلم عامتهم، وهو لم يقرأ كتاباً أبداً من هذه الكتب ولم يرجع إلى شيء منها؛ كان أميًّا صاحب بصيرة ونور ويُفرّق، ولما يطّلع على بعض الأحاديث يقول هذا ما خرج من بين شفتي صاحب الرسالة من أين جاء هذا؟ ويجدوه أيضاً عند أهل الحديث موضوع، وما خرج من أحاديثه ﷺ يعرفه، ويقول لا يخفى شأن نور الكلام النبوي، وما خرج من بين يديه ﷺ ومن بين شفتيه ﷺ وهو القائل للصحابي "اكتب فوالذي نفسي بيده -وأشار إلى لسانه- ما يخرج منه إلا حق" ما خرج منه إلا حق ﷺ، رزقنا الله الأدب معه ومع سنته وحديثه والاقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 ثم ذكر شر وسوء الانحراف في القصد في طلب العلوم، وأمر أمته أن يخلصوا قصدهم في علوم الشريعة المطهرة التي يتقرب بها إلى الله، ولا يأذن أحدٌ منهم أن يغلب على إرادته وقصده مالاً أو جاهاً أو أي غرض دون الله تبارك وتعالى، فيجب أن تُصان هذه العلوم وتطلب لله وتعمل بها لله وتعلم من أجل الله جل جلاله وتعالى في علاه.

يقول "من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل -وعلوم الشريعة وما تعلق بها- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا -شيئاً من متاعها الفاني- لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة" أي: ريحها، لم يجد ريح الجنة "وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام" ولا يجده الذي طلب العلم لغير الله تبارك وتعالى، طلب علم الشريعة لغير وجه الله؛ لأجل يصيب عرضاً من الدنيا والعياذ بالله تبارك وتعالى، وبذلك أيضاً كان في حفظ الله للقرآن والسنة الغراء أن أبقى في الأمة أرباب إخلاص في أخذ العلم والعمل به وتعليمه؛ فلا يزال منهم من يبقى كذلك إلى آخر الزمان فضلاً من الله على هذه الأمة، وألحقنا الله بأولئك الصادقين المخلصين، وطهرنا عن إرادة غير وجهه وقصد سواه تبارك وتعالى ظاهراً وباطناً.

"من تعلمَ علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" اللهم أجرنا من ذلك، والحديث في سنن أبي داود وفي سنن ابن ماجة وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عليه رضوان الله تعالى، وعند غيرهم كذلك.

 والحديث الآخر الذي أشار إليه جاء فيه من لفظ الإمام مسلم في صحيحه "أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة: رجل تعلم العلم والقرآن وعلمه للناس،" هذا واحد من أول من تسعَّر بهم النار، اللهم أجرنا من النار، "فإذا وقف بين يدي الله يعرفه نعمه عليه يقول: ما عملت؟ يقول: تعلمت فيك العلم وقرأت فيك القرآن وعلمته. يقول: كذبت؛ بل تعلمت ليقال هو عالم،" من أجل السمعة والظهور بين الناس والشهرة بين الخلق، نسيت الخالق وقدمت الخلق يا متجرئ، يقول: "تعلمت ليُقال عالم وقرأت ليُقال هو قارئ فقد قيل، فأُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار".

وذكر الذي كان كثير التصدّق كثير المال وكثير الإنفاق ويقول الله: ما عملت فيما أتيتك؟ يقول: تصدقت به في وجوه الخير، يقول الله: كذبت؛ إنما فعلت ليُقال هو سخي هو جواد فقد قيل، فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، والثالث صورة شهيد قاتل كفار وقُتل، فيقول الله: ما عملت؟ يقول: أني قاتلت فيك حتى قُتلت، يقول الله: كذبت؛ إنما قاتلت ليُقال هو شجاع هو جريء فقد قيل، فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.

جاء في صحيح مسلم قال ﷺ: "يا أبا هريرة إن هؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" اللهم أجرنا من النار وارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم لا إله إلا الله.

وذكر حديث "من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء -في لفظ ليباهي- به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار"، نعوذ بالله من غضب الله، الله الله لا إله إلا الله.

والحديث في سنن الترمذي وجاء أيضا عند ابن ماجة وغيره يقول: "من طلب العلم ليجاري به العلماء -في لفظ- ليماري به العلماء أو ليباهي به العلماء وليماري به السفهاء من المراء والجدال، -وفيه إشارة إلى أنه لا يتعلق بالمجادلة إلا سفهاء الناس- ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه -ليعَظم- ويمجَد بين الناس أدخله الله النار" والعياذ بالله تبارك وتعالى بسوء نيته في طلب العلم. 

ويقول: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء ولا تخبروا به المُجالِس" من أجل فقط التحدث بين الناس والتقدم عليهم، "فمن فعل ذلك فالنار.. النار"

"من تعلم علما لغير الله وأراد بغير الله فليتبوأ مقعده من النار" يعني: ليتخذ المقعد ويقال له اقعد في هذا المقعد، أعوذ بالله من غضب الله.

"سيكون من أمتي ناس يتفقهون في الدين يقرؤون القرآن يقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا".

عند انتشار وغلبة فساد الأمراء والحكام، فالتقرب إليهم لا يورثك إلا الوقوع في الخطايا، وأما تمنيك نفسك بأن تقول نصيب من دنياهم وأعتزلهم بديني، وحتى قال ﷺ للذي سأله عند حاجة الناس وقت خروج الخبيث الدجال وإعطائه إياهم الخبز، والناس في شدة مجاعة وجوع، يقول: "أرأيت إن أظهرتُ الإيمان به وأكلته من خبزه ثم كفرت به قال ﷺ: لا؛ بل يغنيك الله بما يغني به المؤمنين" الذي يغني به المؤمنين من عباده يغنيك به، أنت لا تتخيل هذا التخيل بل أمر أن من سمع عن الدجال أن لا يأتي إليه وأن لا يقابله؛ ولكن إن أدركه فليثبت ولا يذهب ليلاقيه، فإن لقاءه شر إلا لمن عصم الله سبحانه وتعالى، وهو من أعظم الفتن. لا إله إلا الله.

وذكر أن الحديث عند ابن ماجة والطبراني كذلك ذكر "آفة الدين ثلاثة: فقيه فاجر،" عنده معرفة بالأحكام في الشرع ولكنه مخالف لأمر الله تعالى فاجر، "وإمام جائر" يتعب خلق الله ومتعب الرعية، "وعابد جاهل" يخبط بجهله يظن الناس به الخير والصلاح وهو عباداته فيها بطلان، وفيها أسباب الرد عليه بسبب أنه عبَدَ الله على جهل، لم يأخذ نصيبه من العلم الذي تصح به العبادة.

وذكر قوله ﷺ:" لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور" بذلك من قبل أميرنا ومن قبل أهل الحل والعقد، "أو مراءٍ" متعرض من نفسه يريد الفخر بين الناس، ومن هنا قامت الفوارق بين محبة الظهور والحرص على الكلام في المجامع، وحيث يوجد أهل العلم وحيث يوجد من يكفي، وبين واجب الحرص على البلاغ لكل من قدر عليه، فالمواطن مختلفة؛ والذي ما يحب أن يتكلم إلا في مجمع كبير أو حيث يكون الظهور أو في المدن أو في الشهرة، ويثقل عليه أن يتكلم ويعلم واحد واثنين وثلاثة أو بادية بعيدة ما يعرف أحد هذا متهم في قصده، قال بعض الصالحين وهو رجل من الصالحين العلماء اللي يتكلم مع جاريته يقول: ما لي إذا دخلت إلى المدينة بغداد ينطلق لساني أكثر؟ قالت له: لأنك مرائي -الجارية حقه- في محل الشهرة والناس قدامك كثير ينطلق لسانك، قال: صدقتي، وراح يحاسب نفسه ما غضب منها؛ ولكن قال لها كلامك هو الصدق، قال: ليش -لماذا- يطلق لساني في الجمع الكبير وعند الناس؟ هذا لما تكون في المدينة بين الناس تميل نفسك، ولما تكون في القرى والبادية عندنا ماشي عندك باعث؛ لأن النفس ما لها غرض مالها طمع فيه، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم ارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم.

 وكان يقول: قُلْ كلامك وعلمك ليصدقه الله لا ليصدقه الناس، فتعلم أيضا الجمع بين وجوب البلاغ عنه ﷺ، قال: "بلغوا عني ولو آية" وحرمان كتم العلم، وبين أيضا ما جاء في من يتكلف ذلك، أو يطلب به الشهرة والمكانة بين الناس، فقارن بين هذا وهذا، وخذ الطريق الصواب الحق الوسط وحيث حاجة الناس، ومثل ما ذكر ﷺ في حديث آخر عن أحوال تصيب الأمة يظهر فيها البدعة والتجرؤ على خيار الأمة وصلحائهم وسلفهم، يقول: "إذا سُبَّ أصحابي فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أُنْزِلَ على محمد ﷺ"، وهكذا جاء الحديث في معناه "إذا انتشرت البدعة ولعن آخر هذه الأمة أولها إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، من كان عنده علم فليظهره" المعنى: أنه لا يأتي لعن متأخريهم لمن تقدم قبلهم إلا من ضلال وانحراف وفساد، فإذا وصل الأمر كذلك فابذلوا ما في وسعكم لحماية الأمة وحفظها من هذا الزيغ واظهروا ما عندكم من العلم، فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أنزل على محمد، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة:159] والعياذ بالله تبارك وتعالى.

 اللهم ارزقنا الإخلاص وارزقنا قصد وجهك الكريم وارزقنا الإقبال الكلّي عليك، وارزقنا اتباع نبيك ﷺ وتعظيم ما جاء به وما جاء عنه إنك أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 جاء أيضا في الروايات عندنا في الحديث يقول: "من بلغه عن الله تبارك وتعالى فضلًا فعمل به أعطاه الله ذلك الفضل" إذا بلغك فضل في أعمال من الأعمال الصلاح وإن الله يعطيك هذا فاعمل به يعطيك الله، وإن لم يكن نقله صحيح، وإن لم يرد، وهكذا ما دام عملت طامعا في أمر داخل في جملة المحبوبات عند الله وفي جملة ما رُغِّبَ فيه على وجه العموم وهكذا، حتى أخذ الفقهاء في معاملة الناس بعضهم البعض، وأن من بلغه عنّا أن أحدا جعل جعالة في من يرد عليه غائبا له أو يرد له شيئا من ماله فاجتهد وكان قد ألغى ذلك الأمر، يقول: ما دام عمل طامعا نسلم له أجرته، أعطوه مقابل لأنه عمل طامع، فإذا كان هذا عمل طامع في حق المخلوق ووجب تسليمه! فمن عمل طامع في حق الخالق إيش بيعمل به؟ يردُّه ولا يعطيه شيء! فالمتقربون لله بكل ما دخل في دوائر القربة على خير فيما تقربوا به إلى الله جل جلاله وتعالى في علاه.

يكتبنا وإياكم في ديوان المُوَفّقين والهداة المهتدين الصالحين المصلحين في خير ولطف وعافية

بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

16 شوّال 1444

تاريخ النشر الميلادي

06 مايو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام