كشف الغمة -37- تكملة شرح: كتاب الطهارة وأحكام المياه

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني:  تكملة شرح: كتاب الطهارة وأحكام المياه

 

 صباح الثلاثاء: 23ذو الحجة 1444هـ

يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:

  •  شرح حديث أخذ المريض من وضوء رسول الله ﷺ
  •  ما هي العين وما الذي يزيل ضررها؟
  •  تحصينات من العين
  •  فعل النبي ﷺ مع المصاب بالعين

  •  تزاحم الصحابة على وضوءه ﷺ
  •  التسابق على شعر رسول الله ﷺ
  • شربه ﷺ مما يشرب به المسلمين
  •  حكم الوضوء من المائعات ورفع النجاسة
  •  ما يجوز الاستنجاء به
  •  الصعيد الطيب وضوء المسلم
  •  متى يكون الماء متغيرا ومتى يكون مستعملا؟

نص الدرس مكتوب:

"وكان ﷺ إذا عادَ مريضًا ووجده مغمى عليه توضأ وصبّ عليه من ماء وضوئه، وكان ﷺ يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين، وكان ﷺ إذا توضأ ازدحم المسلمون على وضوئه يتمسّحون بالماء الذي يسقط من أعضائه ﷺ، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه.

وكان الصحابة لا يرون التطهّر بما عدا الماء من سائر المائعات عملاً بقوله  ﷺ: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمِسّه جلدك فإنه خير". وكان جرير بن عبد الله يأمر أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه. وكان ﷺ كثيراً ما يغسل يديه ورجليه في القدح ثم يقول لأصحابه: "اشربوا منه وأفرِغوا على وجوهكم".

وكان ابن مسعود يقول : قال لي رسول اللهﷺ  ليلة الجن: ما في إداوتك أو ركوتك؟ قلت: نبيذ، قال: ثمرةٌ طيبةٌ وماءٌ طهور، فتوضأ منه، وحمل هذا العلماء على غير المتغير بقرينة قوله: وماء طهور، وبقرينة قوله في الحديث المتقدم: "إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه، فإن الماء إذا خرج عن طبعه واسمه خرج عن اسم الماء، وبالجملة فضابط الباب أن كل ما يقذّر استعماله البدن لا ينبغي التطهر به لانتفاء النظافة التي هي المقصودة، والله تعالى أعلم."

اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون (3 مرات)

 

الحمد لله مُكرمنا بالشريعة الغراء، وبيانها على لسان خير الورى سيدنا محمدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الأخيار ومن سار بمسارهم واتبع سبيلهم وبِمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين في الفضل أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ، فيتابع الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الأحاديث المتعلقة بالطهارة والوضوء، ويقول: "وكان ﷺ إذا عادَ مريضًا ووجده مغمى عليه توضأ وصبّ عليه من ماء وضوئه" ﷺ وبارك عليه وعلى آله، والصبّ من ماء الوضوء والتبرّك بماء الوضوء جاء متواترًا عنه عليه الصلاة والسلام في عمل الصحابة في تبركّهم من مسّهم وأخذهم الماء الذي توضأ به عليه الصلاة والسلام، حتى جاءنا في الصحيحين: "..,إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه" أي: على الماء الذي توضأ به. وأمر كذلك في السُّنة لمن أصاب أخاه المسلم بعين، ومعنى ذلك: أن يستكبر ويستعظم شيئًا نازله من شؤون أخيه المسلم فيجد في قلبه استكثارًا لذلك واستكبارًا فيُصاب بالعين، أمَرَ أن يغسل العائن وجهه ويديه وأطرافه ثم يُصَبّ ذلك الماء على المعيون، وذلك من أقوى ما يدفع العين ويرفع أثرها عن المعيون إذا تمّ، ولهذا قالوا إذا استغسلتم فاغسلوا "..كلكم عيّانون إلا من بورك.." يعني: يحصل منكم الأثر من استعظام الشيء من الإنسان ولو في نفسه ولو في جسده ولو في لباسه، إذا استعظمه قد يرتّب الله على ذلك إصابةً من هذه العين توقع الضرر بالمعيون.

 فينبغي التعوّذ بالله تعالى والتحصّن: 

  • وفي تحصيناته ﷺ يقول: "أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ومن كل عينٍ لامّة". 
  • ومن تعوّيذاته: "بسم الله أرقيك من كل شيءٍ يؤذيك" 
  • ومن التعويذات المعروفة المباركة: حصّنتك بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا ودفعت عنك السوء بألف ألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعيذ نفسي بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامّة ومن كل عينٍ لامة.

وممّا يدفع شرّ العين عند خوف الإصابة بها قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، والتي قال عنها سبحانه تعالى في المؤمن الذي يحاور أخاه أو يحاور صاحبه الكافر: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ..) [الكهف:39] فإنّه من أعجبه شيء في نفسه أو أهله أو ولده أو أحد من المسلمين فليقُل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فإنه يُدفع أثر العين، "والعين حقٌّ.." كما جاء عنه ﷺ "..تورد الرجل القبر وتورد الجمل القِدر" أي: يُصاب بها الجمل فيخافون موته فيذبحونه فيرِد على القدور يطبخون لحمه، وتصيب الرجل فيمرض يموت؛ فتورده القبر، وكل ذلك بتقدير الله سبحانه وتعالى، ودفعها بما شاء الله لا قوة إلا بالله وبالصلاة على النبي ﷺ وبِقراءة الإخلاص والمعوذتين.

وجاء الإرشاد أيضًا النبوي لمن توقّع منه العين على أحد من عباد الله تعالى أن يغسل وجهه ويديه وأطرافه ثم تُصبُّ على المعيون. وهكذا كان ﷺ في سفر، فنظر بعض الذين معه إلى بعض الصحابة وهو يغتسل فجاء بكلمة عُجُبْ عليه -أعجب به فأصابه بالعين- فصُرع وصار مدنف-في حالة نزاع-، فأخبر النبي ﷺ فأمرهم أن يأمروا هذا المتكلم أن يغسل وجهه ويديه وأطرافه وأن يصبّهُ، فلما صبّوا عليه الماء قام كأنما نُشِطَ من عقال، لما صبوا عليه الماء وكأنه لم يكن به شيء، وقال ﷺ: "إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله"؛ قال له أتريد تقتل أخاك؟ فيدفع الله هذا الشر بقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

وهكذا ما جاء من تزاحم الصحابة على وضوءه فهذا معلوم، وحتى صار يجمِّع سيدنا بلال الماء الذي يخرج من أعضائه في الإناء فإذا انصرف أقبلوا عليه، وقد جاءنا في الصحيح وغيره: فرأيتُ من لم يصب منهم بللًا أخذ من يد صاحبه فتمسّح به، وهذا أيضًا معلوم وشؤون التبرك أيضًا في حياة الصحابة واضح وبيّن وجاء في صور متعددة، حتى ألّف بعض علماء المغرب من المحدّثين رسالة سمّاها: تبرّك الصحابة، أورد  فيها عشرات من الأحاديث التي فيها تسابق الصحابة إلى التبرّك بأنواع البركات. 

وكذلك ما ذكر من صبّ الماء على المريض المغمى عليه، وقد حصل منه ﷺ ذلك في عدد من الوقائع في المدينة وفي مكة بعد فتحها، وأمرهم يصبوا الماء على ذلك المغمى عليه فإذا صبوا عليه الماء أفاق بإذن الله تبارك وتعالى.

   ثم ذكر أنه: "كان ﷺ يبعث إلى المطاهر.." يعني: أماكن الوضوء أو محلات الوضوء أو الماء الذي يتطهر به الناس ويتوضؤون به "فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين"، وجاء هذا صريحًا في حجة وداعه عليه الصلاة والسلام؛ أنه أقبلَ على عمه العباس وكان وليًا للسقاية يسقي الناس من بئر زمزم، وكانوا قد جعلوا حوضًا يجعلون فيه الماء ينزحون الماء، ويجعلونه فيه وقد يجعلون فيه شيئًا من الزبيب يطيبه ويشرب منه الناس، فلما أقبل ﷺ -بعد أن طاف- نحو زمزم بادر سيدنا العباس وأولاده فنزحوا له دلوًا جديدًا، وجاءوا قرّبوه له فتركه قال: ناولوني من هذا الماء؛ الحوض الذي يشرب منه الناس فشرِبَ منه ﷺ؛ قال الراوي: يبتغي بذلك بركة المسلمين أو بركة أيادي المسلمين، قالوا: إنه تقع فيه الأيادي الذي يغرفون منه وتقع أيديهم فيه، قال اعطوني منه فشَرِبَ منه ﷺ فقال للعباس: لولا أن تغلبوا على سقايتكم لخرجتُ حتى أنزح وأضع هذا الحبل على عاتقي هذا، بينزح الماء من زمزم قال لو عملت هذا بيتزاحم الناس عليكم ولن يدعون لكم سقاية، وهم متولّين أمر السقاية ونزح الماء لسقي الناس، فترك ذلك رعاية لحق أهل السقاية وكانت مع عمه العباس عليه رضوان الله تبارك وتعالى، فشرِبَ من الماء الذي يشرب منه المسلمون، الحوض الذي يجمعون فيه الماء من زمزم ويشرب فيه الناس فشرِبَ منه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، وهو معدن البركة ومصدرها عليه أفضل الصلاة والسلام، جعله الله أبرك عباده وفرّع منه البركات في البرية.

 "وكان ﷺ إذا توضأ ازدحم المسلمون على وضوئه يتمسّحون بالماء الذي يسقط من أعضائه ﷺ، ومن لم يُصب منه أخذ من بلل يد صاحبه" حتى جاءنا  في حجة الوداع أن بعض أهل اليمن قَدِم يريد أن يسأل النبي ﷺ ودلّوه على مكان خيمته والمحل الذي جلس فيه أيامَ كان في مكة قبل طلوعه إلى منى، وأحبّ ألا تشتد زحمة الناس عند الكعبة فأمر من ينصب خيامه بزرود مقابل الحجون، ونصبوا خيامه هناك، فكان معه جماعة من خواصّ الصحابة فيصلّي بهم هناك وما قرب الكعبة؛ خشية من تزاحم الناس؛ لأنه إذا حضر سيأتي الناس جميعهم يحضرون، فتركها لعامة الأمة كل من ورد يأخذ نصيبه من الطواف واستلام الركن اليماني وتقبيل الحجر الأسود والتزام الملتزم؛ فلأجل لا تكثر الزحمة انتحى في هذه الناحية وبقي هناك ﷺ يصلي بمن معه. قال هذا اليمني: فجئت فقالوا لي أنه الآن وقت صلاة وسيخرج من خيمته وتسأله ،قال: فرأيت بلالاً أذّن للصلاة ثم أخذ ماءًا وإناء فارغ فدخل إلى خيمته ﷺ يصب عليه الماء ثم خرج بلال بالإناء الذي أدخله معه -الطست الذي فيه الماء- الذي توضأ به، قال فرأيت أصحابه أقبلوا عليه حتى كادوا يقتتلون فجئت أفعل مثلهم قال: فرأيت من لم يصب منهم شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه فتمسّح به، ثم خرج ﷺ وأقام بلال الصلاة فصلّى بنا، ثم جلست مع النبي ﷺ سألته وسألني عن أهل اليمن وأحوال الإسلام فيهم وأجابه عن مسائله التي يسأل عنها صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

  ولم يزل أمره في حجة وداعه، أحاط الناس به لمّا جلس للحلاقة، فعِلم ما يريدون؛ يريدون أن يأخذوا من شعره الشريف ﷺ، فلما حلق شقّه الأيمن حمل الشعر الشريف فناوله بعض الصحابة قال له: وزّعه عليهم، فصاروا يتنازعون عليه يتسابقون إليه، فجعل الرجل تصيبه الشعرتان والرجل تصيبه الشعرة الواحدة، فيها رأى سيدنا أبو بكر الصديق -عليه رضوان الله تعالى-  سهيل بن عمرو الذي كان في عام صلح الحديبية ما رضى يكتبون في كتاب الصلح محمد رسول الله، حتى بسم الله الرحمن الرحيم أنكرها قال: بسم الله الرحمن الرحيم ما نعرف هذا! اكتب باسمك اللهم كما نكتب، فقال ﷺ للكاتب سيدنا علي: امحها اكتب باسمك اللهم، كتب باسمك اللهم، أما بعدُ، فهذا ما صالح عليه محمد رسول الله... قال: كيف تقول محمد رسول الله؟ لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك! اكتب محمد بن عبد الله، قال: إني رسول الله وإن كذبتموني، امحها يا علي، قال: ما أنا بالذي أمحك، أنت رسول الله! قال: أرني موضعها ووضع إصبعه في الماء ومحاها بيده ﷺ. قال له: اكتب محمد بن عبد الله، فلما كان في ذاك اليوم، وكان أسلم هذا سهيل، فرآه سيدنا أبو بكر يزاحم الناس حتى وقعت في يده شعرة  فرآه يقبّلها ويضعها على عينه، فبكى سيدنا أبو بكر قال: هذا أبى أن نكتب بسم الله الرحمن الرحيم ونكتب محمد رسول الله ذاك اليوم لو قتلناه ذاك اليوم لدخل النار، والنبي نهانا عن قتله وأمرنا.. فبإخلاقه انظر اليوم كيف أصبح بهذا الحال وأصبح بهذه الصورة؛ يزاحم على شعر النبي ﷺ  فالآن لو مات على هذا الحال دخل الجنة، فيتعجّب في خُلُق النبي ﷺ.  حتى سيدنا عمر يقول للنبي في عام صلح الحديبية، يقول له: هذا رجل طويل اللسان يا رسول الله ويتكلم كثير، فدعني أخرج ثنيتيه حتى لا يقوم خطيب عليك في مكان، قال له: لعلّه يقوم مقامًا تحمده عليه؛ يخطب خطبة طيبة حسنة ستحمَده عليها، فلمّا كان يوم وفاة الحبيب ﷺ وبلغ الخبر لأهل مكة وارتجّوا خَطَب فيهم وثبّتهم على الإيمان -سهيل بن عمرو- وأنه جاء بالكلمات التي جاء بها سيدنا أبو بكر في المدينة، وهذا من دون ما يعرف بها، وقال: أيها الناس مما كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فالله حي لا يموت، وتلى الآية: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر:30] (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ..) [آل عمران:144] فثبَت بذلك أهل مكة، فبلغ سيدنا عمر الخبر، قال هذا الموقف الذي قاله لي ﷺ، إنه يقف موقفًا تحمده عليه، ولو تركنا نخرج أسنانه ذاك اليوم ما كان بيعرف يخطب صلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله، (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4] صلوات ربي وسلامه عليه. 

يقول: "وكان الصحابة لا يرون التطهّر بما عدا الماء من سائر المائعات عملاً بقوله  ﷺ: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين.." يعني: إذا ما يوجد ماء فما يتوضؤون بزيت ولا بسليط ولا بشيءٍ من المائعات الأخرى، إنما يرجعون إلى التيمّم أولى، (..فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا..) [النساء:43] انتقلوا إلى التيمّم وهكذا.. واتفق فقهاء الإسلام على أن الماء المطلق هو الذي يرفع الحدث. قال تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ..) [الأنفال:11] (..وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان:48]. 

جاء في حديث أسماء تقول: "جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: تحتُّه ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه". أما رفع النجاسة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: أنه يجوز تطهير النجاسة بأي شيء مائع، بل بأشياء كثيرة بمثل النار بمثل الشمس، وكل ما أزال أثر النجاسة فعندهم يحصل به التطهّر، كما هو من المعلوم أن الخمر أيضًا بالتخلل يصير طاهرًا يصير خلًّا وما إلى ذلك، نعم في الاستنجاء يكون غير الماء؛ الجامدات ولا يجزئ المائعات على قول الجمهور، وحتى قال المالكية: يحرم الاستنجاء بمائع غير الماء لأنه ينشر النجاسة؛ بدل ما يزيلها ينشرها، إنما مذهب أبو حنيفة وأبو يوسف وصاحبه كما علمنا يقولون: إزالة النجاسة بأي شيء كان ولو أي مائع ومنه الاستنجاء. وقد تقدّم أيضًا مع الكلام أنه بحثوا كراهة الاستنجاء بماء زمزم وبعضهم حرّمه تكريمًا له، أو إزالة أي نجاسة به لأنه ماء معظّم ومحترم فلا تزال به النجاسات. 

وكذلك يقول الحنفية فيما يذكر ابن عابدين من فقهائهم يقول: يُكره الاستنجاء بمائع غير الماء، وإن كان يزيل النجاسة عندهم ولكنه يُكره. وبقي كل جامد طاهر قالع للنجاسة غير محترم يجوز أن يُستنجى به. والدبغ يطهّرعند الشافعية وعند الحنفية يطهّر جلد الميتة، جلد الميتة إذا دُبِغ طَهُر "أيما إهابٍ دُبِغ فقد طَهُر"، ولم يقل المالكية والحنابلة بطهارة الجلد بالدباغ فهو مختلفٌ فيه. 

يقول: "الصعيد الطيب.." يعني: التراب عند الشافعية، وفسّر بعض الأئمة بما صعد على ظهر الأرض من جنس الأرض فهو صعيدٌ، "الطيب" يعني: طاهر غير متضمّخ بنجاسة أو غير مختلط بنجاسة، "وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمِسّه جلدك فإنه خير" قال تعالى: (..وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا..) [النساء:43]. 

"وكان جرير بن عبد الله يأمر أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه" يعني: الماء الذي يندّي فيه سواكه أو يغسل فيه سواكه. 

"وكان ﷺ كثيراً ما يغسل يديه ورجليه في القدح ثم يقول لأصحابه: "اشربوا منه وأفرِغوا على وجوهكم". وكان ابن مسعود يقول : قال لي رسول اللهﷺ  ليلة الجن: ما في إداوتك أو ركوتك؟ قلت: نبيذ، قال: ثمرةٌ طيبةٌ وماءٌ طهور، فتوضأ منه، وحمل هذا العلماء على غير المتغيّر بقرينة قوله: وماءٌ طهور، وبقرينة قوله في الحديث المتقدم: "إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه،.." بمعنى أن النبيذ وهو الماء الذي نُبِذَ فيه زبيب أو نُبِذَ فيه تمر لأجل يُحلّيه، أنه إذا لم يتغير لونه وريحه وطعمه تغيّر كثير يجوز الوضوء به، فإذا تغيّر تغيّرًا كثيرًا؛ فلا، وإن كان المشتهر عن الحنفية جوائز التطهّر بالنبيذ؛ ولكن هذا محمول على النبيذ الذي لم يكن فيه التغيّر.

يقول: " فإنّ الماء إذا خرج عن طبعه واسمه خرج عن اسم الماء، وبالجملة فضابط الباب أن كل ما يُقذّر استعماله البدن لا ينبغي التطهّر به لانتفاء النظافة التي هي المقصودة" 

  • فما اختلط بطاهر كان تغيّر به تغيّرًا كثيرًا سَلبَ عنه اسم الماء؛ امتنع التطهير به
  • وإن كان التأثّر أو التغيّر يسير جازَ أن يُتطهّر بذلك الماء. وإذا كان ما تغيّر به مستغنٍ عنه الماء
  • -أمّا إذا كان مضطّر إليه فما يضر ذلك إذا كان شيء في مقر الماء أو في ممّره وما لا يُمكن الاحتراز عنه. 
  • فإذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة تغيّر كثيــر سَلبَ عنه اسم الماء فقد انتقلت الطهورية عنه. 

أما إذا تغيّر بمجاورة من دون مخالطة، فما هي المجاورة؟ يعني: شيء يُـتـميّز في رأي العين ويمكن فصله عنه، مثل عود صلب أو كافور وُضع في الماء إذا لم يذب، فهذا المتغيّر بالمجاور غير المخالط: طاهِر مطهّر؛ لأنه تغير بالمجاور دون المخالط، لم يخالطه شيء. وهكذا هو مذهب الأئمة الثلاثة في قولٍ عند الشافعية -غير القول الأظهر- وكذلك مذهب المالكية: أنه إذا كان تغيَّر تغيُّر كثير ولو بمجاور؛ امتنعت الطهورية عنه وسُلبت منه الطهورية فلا يصح أن يُتوضأ به ولا أن تُزال به النجاسة، فهذا المعتمد عند المالكية وهو قولٌ عند الشافعية. أمّا الأظهر عند الشافعية كقول الحنابلة أو قول الحنفية: أنه ما دام التغيّر بالمجاورة لا يضر؛ إنما يضرّ التغير بالمخالطة، فإذا تغيّر بشيءٍ مجاور غير مخالط؛ فلا يضر هذا التغيّر عندهم. وقال المالكية وقول ضعيف عند الشافعية: أنه إذا تغيّر ولو بمجاور تغيّرًا كثيرًا ارتفع عنه الطهورية.

  وجاء عن ابن عمر قال: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن رسول الله ﷺ من الإناء الواحد جميعًا. ويقول أيضًا ابن عمر: كنا نتوضأ نحن والنساء على عهد رسول الله ﷺ من إناءٍ واحد ندلي فيه أيدينا. ثم تقدّم معنا أن سيدنا عمر أمر أن يستقل النساء بمكان مستقل. 

  • فالماء الذي أُزيل بحدث أو استعمل في بدن في طهارة، يصير مستعملًا إذا انفصل عن البدن.
  • اشترط الشافعية: أن تكون طهارة فرض أمّا السنة؛ فلا، ولم يفرّق الحنفية بل كل طهارة متعبّد بها يصير الماء الذي خرج مستعملًا. 

وأمّا إذا كان للتبرّد فكذلك يقول الحنفية: إن كان محدث يصير مستعملًا وأما إذا كان متوضئ فلا يصير مستعمل، وكل ما استُعمل في تطهير فرضٍ وقلّ ليس بالطهور؛ فهذا هو الماء المستعمل عند الشافعية: القليل الذي استُعمل في رفع ما لابدّ منه من رفع حدث أو إزالة نجس وهكذا، إذا كان الماء قليلًا، 

وأما الكثير فلا يضرّ ولا يصير مستعملًا برفع حدث ولا بإزالة نجس ما لم يتغيّر. وهكذا يقول الحنابلة مثل الشافعية: أن الماء القليل الذي استُعمل في رفع حدث أو إزالة نجس إذا لم يتغيّر أحد أوصافه فهو طاهر لكنه غير مطهِّر؛ لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس. وفي رواية عند الإمام أحمد مثل المالكية: إنه طاهر مطهِّر، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

 

رزقنا الله الاستقامة، وأتحفَنا بالكرامة وفقّهنا في الدين وطهّرنا تطهيرا، ورفعنا مراتب قُربه مع أهل مودّته وحبّه في خيرٍ ولطفٍ وعافية. 

بسِرّ 

الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

23 ذو الحِجّة 1444

تاريخ النشر الميلادي

11 يوليو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام