كشف الغمة- 288- كتاب الجنائز (25) فصل في التعزية وأجر المصابين
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 288- كتاب الجنائز (25) فصل في التعزية وأجر المصابين
صباح الأحد 22 شوال 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- التهنئة والتعزية في الشريعة
- أجر تعزية المصاب بمصيبة
- من الذي يُعزَّى؟
- التعزية بين الرجال والنساء
- كيفية الرد على من يعزي
- ما مدة التعزية؟
- أين تكون التعزية؟
- تجنب ذكر ما يزيد الحزن
- المُصاب من حُرِم الثواب !
- تعزية السلف من فاتته تكبيرة الإحرام
- ثواب المرأة إذا احتسبت السقط
- حديث: الصبر عند الصدمة الأولى
- خطاب سمعوه عندما توفي النبي ﷺ
- قصة عن عاقبة صبر أم سلمة
- معنى قوله: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي
- فضل قول: إنا لله وإنا إليه راجعون
- حكم تعزية الكافر والدعاء له
- الاجتماع عند أهل الميت لأكل الطعام بتركة الميت
نص الدرس مكتوب:
فصل في التعزية وأجر الصابرين
"قال أنس -رضي الله عنه-: كان رسول الله ﷺ يحث على تعزية المصاب بمصيبته ويقول: "ما من رجل يعزي أخاه بمصيبة إلا كساهُ الله -عز وجل- من حلل الكرامة القيامة وصلى على روحه في الأرواح، وكان له مثل أجره"، وكان ﷺ يقول: "والذي نفسي بيده إن السقط ليجرُّ أمهُ بسرره إلى الجنة إذا احتسبته"، وكان ﷺ يقول: "ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن قدم عهدها فيحدث لذلك استرجاعًا إلا جدد الله -تبارك وتعالى- له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب"، وكان ﷺ يقول: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولما توفي رسول الله ﷺ سمعوا قائلاً يقول ولا يرون له شخصًا: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حُرِمَ الثواب".
وكان ﷺ يقول: "إذا دعوتم لأحد من اليهود النصارى فقولوا أكثر الله مالك وولدك"، وكان ﷺ يقول: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف علي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها"، قالت أم سلمة -رضي الله عنها-: فلما توفي أبو سلمة زوجي -رضي الله عنه- قلتها فأخلف الله -عز وجل- لي خيرًا منه رسول الله ﷺ"، وكان ﷺ يقول: "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب"، وفي رواية: "سيعزي الناس بعضهم بعضًا من بعدي بالتعزية بي"، وكان سعيد بن جبير -رضي الله عنه- يقول: "ما أعطيت أمة من الأمم ما أعطيت هذه الأمة إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب لقوله: يا أسفًا على يوسف".
فرعٌ: وكان ﷺ يأمر جيران أهل الميت بصنعة طعام لأهل الميت ويقول: "إن أهل الميت أتاهم ما يشغلهم"، وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- يكرهون الاجتماع عند أهل الميت لأكل الطعام بعد دفنه ويعدون ذلك من النياحة، وكان أهل الجاهلية يعقرون عند القبر بقرة أو ناقة أو شاة فلما جاء الإسلام نهى رسول الله ﷺ عن ذلك وقال: "لا عقر في الإسلام"، والله سبحانه وتعالى أعلم."
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بالشريعة وبيانها على لسان عبده وحبيبه محمد للمراتب الرفيعة والجاهات الوسيعة، صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن غدا تبيعه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين جمع الله لهم الخير جميعَهُ، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين ذي الغيوثاتِ السريعة.
وبعد،،
فيتكلم الشيخ -عليه رحمة الله- عما ورد في التعزية، وفي أجر الصابرين، وذكر أجر الصابرين، وذكر أجر الصابرين من التعزية للمصابين، فإن معنى التعزية: هو التصبير والمواساة بذكر الثواب والأجر لمن صبر، والتحذير من الجزع والضجر، فمساعدة المصاب بالمصيبة على أن يتجلّد ويصبر ويتحمّل ويرجو ثواب الله ويكون راضيا بقضاء الله هذا معنى التعزية؛ أن تدخل على قلبه ما يحمل على الرّضا بقضاء الله والتسليم له، وعدم الجزع والتضجّر.
فهذه التعزية مما جاءت بها الشريعة الغراء التعزية كما جاءت التهنئة:
-
فعند ورود الأفراح الكبيرة والمرجوات الخطيرة ينبغي التهنئة، كالتهنئة بالعيدين، أو بحلول مثل شهر رمضان، أو بولادة مولود، أو بقدوم مسافر، أو ببناء بيت، إلى غير ذلك، ومن أعظمها ما كان من تهنئة بمثل حفظ القرآن الكريم، وبمثل حيازة العلم الشريف، وبمثل هدايةِ أناسٍ إلى الحق والهدى، إلى غير ذلك، فهذه التهنئة بهذه العطايا والمنح سنة في الإسلام.
-
كذلك التعزية لمن أصيب بمصيبة من هدم بيت، أو من فراق أب، أو أم، أو أخ، أو أخت، أو ابن، أو بنت، أو قريب، أو صديق، أو زوج، أو زوجة، إلى غير ذلك مما يصابون به، أو وقوع حادثة، أو وقوع زلزال، أو وقوع شدائد أخرى.
فيسنّ عندها التعزية، أي: حملهم على الصبر والرضا لقضاء الله -تبارك وتعالى-، وعدم الجزع والتبرّم بذكر الأجر والثواب للصابرين على مثل ذلك.
وهكذا يقول: "قال أنس -رضي الله عنه-: كان رسول الله ﷺ يحث على تعزية المصاب بمصيبته ويقول: "ما من رجل يعزي أخاه بمصيبة إلا كساهُ الله -عز وجل- من حلل الكرامة القيامة وصلى على روحه في الأرواح، وكان له مثل أجره".
فجاءت سنية التعزية باتفاق أهل العلم -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، فمن أصابته مصيبة من المسلمين ينبغي لكل من عرفه واتصل به أن يعزيه:
-
وفي الحديث الذي رواه الترمذي يقول: "من عزَّى مصابًا فله مثل أجره".
-
وكذلك ما جاء في رواية الخطيب في التاريخ: "ما من مُؤمِنٍ يُعَزِّي أخاه بمصيبةٍ، إلا كساه اللهُ سبحانه من حُلَلِ الكرامةِ يومَ القيامةِ" وهكذا.
من الذي يُعزَّى؟
كما يعزِّي أهل المصيبة كبارهم وصغارهم وذكورهم وإناثهم إلا الصبي الذي لا يعقل، وكذلك الشابة من النساء إنما يعزيها النساء ومحارمها وهكذا.
وبالنسبة للتعزية بين الرجال والنساء:
-
شرطها الأمن من الفتنة؛ الفتنة من النظر الحرام، أو ميل القلب، أو بعث أي سوء، فإذا أُمِنِ من ذلك فلهُ التعزية.
-
وإلا اختصت بين النساء بينهن البين، وبين الرجال بينهم البين والمحارم.
إذا عُزِّيَ المصاب ينبغي أن يجيب بمثل:
(جزاك الله خيرا)، أو (تقبل منكم) أو مثل ذلك، أو (لا أراك الله سوءًا) أو (أحسن الله إليك)، يكون جواب المعزِّي لمن عزَّاهُ.
ما مدة التعزية؟
فمدة التعزية بالموت إذا مات الميت، فيُعزَّى أهله وأقاربه وأصحابه وجيرانه مدة ثلاثة أيام.
ثلاثة أيام من أين تبتدئ؟ من عند الموت، أو من عند الدفن؟
-
وهو ما مال إليه ابن حجر على أن هذه المدة من الدفن.
-
قال الرملي: من عند الموت من لحظة الموت، وهذه تبتدئ لمن كان في البلد؛ أما من كان مسافرًا سواء المُعزِّي، أو المُعزَّى، فإذا وصل البلد فمن حين وصوله التعزية ثلاثة أيام؛ من حين وصوله إلى البلد، وما بعد ذلك ما عاد لها معنى هذه التعزية؛ لأنه تجديد للحزن وتذكير بأمر قد مضى وقت التأسف الطبعي عليه.
-
والجمهور؛ رأوا أن الأفضل في التعزية تكون بعد الدفن؛ لأن قبل الدفن أهل الميت مشغولون بتجهيزه وما إلى ذلك، ووحشتهم بعد دفنه أكثر، فكان هذا أولى بالتعزية.
-
وقال جماعة من الشافعية: إلا أن يظهر من أهل الميت شدة جزع قبل الدفن؛ فتُعجّل التعزية ليذهب جزعهم أو يخفّ، والأمر واسع فيه إنّما الكلام عن الأفضل.
-
والغريب ما يحكى عن الثوري: أنه بعد الدفن خلاص تكره التعزية -ما عاد في تعزية-؛ ولكن الجمهور قالوا: أنها أفضل منها قبل الدفن.
أين تكون التعزية؟
-
ولا ينبغي أن يجلسوا من أجل التعزية في المسجد، ولا أيضًا خارجه كما يقول الشافعية والحنابلة، إنما يتجمّعون في مكان ليأتي إليهم الناس للتعزية.
-
وكذلك يقول الحنفية: يكره أن يجلسوا على باب الدار لكن إذا اشتمل على ارتكاب محظور كفرش البسط، والأطعمة من أهل البيت وما إلى ذلك.
-
وعلى كل حال يقول المالكية: الأفضل أن تكون التعزية في بيت المُصاب.
-
ويقول الحنابلة: إنّما المكروه البيتوتة عند أهل الميت، يأتي يبيت عندهم؛ أو يجلس إليهم إن عزّا مرة، أو يستديم المعزي الجلوس زيادة على قدر التعزية ويطول ويقعد عندهم يوم أو يومين عندهم كضيف عليهم؛ هم مشغولون تعال قابلهم وادعوا لهم، وشل نفسك -روح-؛ وهكذا الأصل فيها.
ومن المعلوم أن أي دعاء يحصل به التعزية، ومما اشتهر بينهم (عظم الله أجرك وأحسن عزائكم، ورحم ميتكم، وغفر لميتكم) وما إلى ذلك، لا إله إلا الله.
وجاء في الحديث الذي أخرجه الإمام الشافعي: إنَّ في اللهِ عَزَاءً مِن كلِّ مصيبةٍ، وخَلَفًا مِن كلِّ هالكٍ، ودَرَكًا مِن كلِّ فائتٍ؛ فباللهِ فثِقُوا، وإيَّاه فارجُوا؛ فإنَّ المُصابَ مَن حُرِمَ الثَّوابَ.
وكل ما كان من تصبير وتخفيف للوطأة، وحمل على التسليم بقضاء الله فهو التعزية المطلوبة، وأما ما يفعله بعض الناس يذكر شيء يزيدهم اهتياجا في الحزن، فهذا ما هو تعزية، هذا مصيبة فوق المصيبة؛ بعده يذكرهم، وإنما يذكر لهم ما يخفف حزنهم، وما يخفف نزول المصيبة على نفوسهم وقلوبهم، هذا هو التعزية، أما يجيب كلام يهيجهم ويخليهم يحزنون أكثر ويبكون أكثر، أنت معزي؟ أم مُصَيّب لهم؟ المُعزي ما جاء من تخفيف عليهم، ورفع الشدة على ما ينازلهم في مصيبتهم التي أصيبوا بها.
ومن غير شك أن هذه المصائب الدنيوية كلها لها أجور، ولكن المُصاب من حُرم الثواب كما يقولون، فلهذا كان أرباب الذوق والمعرفة يخافون من المصائب الدينية أكثر، فكانوا يعزّون من ضيّع صلاة الجماعة، ويقولون: هذه مصيبة، ويقولون: ليس المصاب من فارق الأحباب لكن المصاب من حُرِمَ الثواب، أنت تضيع على نفسك، يعزّون من فاتته تكبيرة الإحرام كانوا يعزونه.
وكان بعض المسلمين في بعض المواطن لقوة ارتباطهم بعظمة الدين، والإقبال على الرب -جل جلاله- والاستعداد للدار الآخرة، إذا لم يحضر المعتاد لصلاة الجماعة معهم، حملوا جنازة إلى عند بيته، أيه مالكم؟ يقولون: الرجل ما جاء، مات نقوم بتجهيزه، إذا قالوا: لا، ما مات، كيف ما مات وهو ما جاء إلى الجامع!؟ كيف ما جاء إلى الجامع وهو عاده ما هو ميت؟! أو حتى مريض نساعده يجي، فيجلسون يعزونه على فوت الجماعة، قالوا: قد تصل إلى أسبوع، كل من لقيه من أصحابه: ليس المصاب من فارق الأحباب، المصاب من حرم الثواب، ولا عاد يتخلّف مرة من المرات، كل المجتمع قام عليه، هذا تعظيمهم لسنّة من السنن، فكيف بالفرائض؟! فكيف بالواجبات؟! ويعزون من فاتته تكبيرة الإحرام إذا حصلوه متأخر ركعة ثانية، أو ثالثة ثلاث أيام يعزونه، فكل من حصله يقول: أخي لا حول ولا قوة إلا بالله، عوضك الله خير عما فقدك، ليس المصاب من فارق الأحباب، إنما المصاب من حُرِمَ الثواب، الله لا إله إلا الله.
ويُروى في الحديث أنه ﷺ خرج يوما، وإذا برجل كان قد معه إبل، فدخل للمسجد يصلي، فلما خرج وجدها هربت، فتأثر فتغاشى الناس عليه، فلما خرج ﷺ قال: ما له؟ ما به؟ قالوا: ظلت إبله يا رسول الله، قال: ظننت أنه فاتته التكبيرة الأولى مع الإمام، أنّ تأثره هذا وحسرته على فوات التكبيرة، ما هو على فوات الإبل، سمع صوت النبي الرجل، قال التفت قال: يا رسول الله أتكبيرة الإحرام خير من إبلي؟ قال له: ومن ملء الدنيا إبلًا، لا إله إلا الله.
ِ
ولهذا قال سيدنا سفيان: فاتتني تكبيرة الإحرام ما أحد عزاني، مات عندي ولد دفن عزونا نصف أهل البصرة، وكلهم جاءوا يعزونا، وذا أشد من ذا، هذا فيه ثواب عاده إذا في صبر، لكن هذا أشدّ لا إله إلا الله.
يقول: وكان ﷺ يقول: "والذي نفسي بيده إن السقط -الطفل الذي خرج قبل تمام أشهره من بطن أمه- ليجرُّ أمهُ بسرره إلى الجنة إذا احتسبته"، إذا كانت عند موته أو خروجه ميتا احتسبت ذلك وسلّمت الأمر لله تعالى فيكون سببا لدخولها الجنة، قال: أخرجه ابن ماجة وأحمد في المسند، والطبراني في الكبير.
"إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته"، وفي هذا أيضًا أنه ما يصيب المؤمن شيء جليل، ولا كثير من المصائب، إلا والحق تعالى له قائم بالمرصاد ليؤجره وليثيبه وليعوضه -سبحانه وتعالى-، فمن كان معه مثل هذا الرب فمن حقه أن يحسن اللَّجأَ إليه، ويسلّم الأمر ويفوضه إليه، ولا يحزن على شيء، يقول: (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد:23]
وإذًا تتضمن التعزية:
-
الأمر بالصبروالحث عليه بوعد الأجر.
-
والدعاء للميت بالمغفرة.
-
والدعاء للمُصاب بجبر المصيبة، فمثل (عظم الله أجرك وأحسن عزائك وغفر لميتك وجبر مصيبتك وخلف عليك بخير خلف) وما إلى ذلك.
-
ومن المعلوم أنه أيضًا قد يُعزّى المسلم بموت أحد من أقاربه، ولو كان القريب كافرا، إلا أنه لا يُدعى للكافر بالمغفرة، ولكن يدعى للمؤمن بالأجر والتثبيت.
وقال: "وكان ﷺ يقول: "ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن قدم عهدها فيحدث لذلك استرجاعًا -إنا لله وإنا إليه راجعون- إلا جدد الله -تبارك وتعالى- له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب"، كل ما ذكرها فاسترجع له مثل أجرها ما شاء الله، أخرجه ابن ماجة، والإمام أحمد في المسند.
ويقول: وكان ﷺ يقول: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، فالثواب الكبير في بداية النزول للمصيبة، وأما إذا جزع ثم رجع يتصبّر له أجر ولكن فاته عظيم الأجر، ولكن في أول ما تنزل المصيبة يسترجع ويُسَلِّم هذا هو الصبر، وهذا هو المُوجب لرضا الله عنه -سبحانه وتعالى-، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط. لا إله إلا الله.
"قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولما توفي رسول الله ﷺ سمعوا قائلاً يقول ولا يرون له شخصًا: -جاء في عدد من الروايات هذا وأنهم كانوا يرون أن ذلك الخضر عليه السلام- يقول لهم: "إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حُرِمَ الثواب"، يوم وفاته ﷺ، وحوله جماعة من الصحابة في قوة الأثر سمعوا هذا الخطاب.
وكان ﷺ يقول: "إذا دعوتم لأحد من اليهود النصارى فقولوا أكثر الله مالك وولدك" -يعني: لا دعاء لهم بالمغفرة ولا بشيء من رحمة الآخرة-، لأنهم لم يؤمنوا بالله ورسوله، وما جاء عن الله -تبارك وتعالى- فلا نصيب لهم في ذلك، وإنما في شؤون الدنيا ماله وولده ونحوه من هذا يجوز الدعاء به.
وكان ﷺ يقول: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني اللهم -أجرني- أو -آجرني- في مصيبتي واخلف علي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها"، هكذا جاءنا في الأحاديث.
وجاء عن أم سلمة أنها سمعت ذلك من النبي ﷺ، ثم أصيبت بزوجها أبي سلمة قتل في أحد، فلمّا بلغها خبر قتله تذكرت قول النبي وقالت، ولكن قالت في نفسها: من بيجي لي خيرٌ من أبي سلمة!؟ كان حسن الأخلاق، وحسن المعاملة، وحسن القيام بحقوق الأهل والزوجة، ولكن كما قال رسول الله امتثل أمره، ولا أظن أني أجد خير من أبي سلمة، وبعد انقضاء العدة جاء الخاطب يخطبها لزين الوجود ﷺ، فكان خير من أبي سلمة، ومن ملء الأرض من مثل أبي سلمة -رضي الله عنه- وصلى الله على حبيبه ومصطفاه محمد ﷺ، فصارت أم المؤمنين.
ومع ذلك خافت في البداية، وقالت للرسول: قل له أني عندي غيرة شديدة وأخاف أن أسيء الأدب معه فأهلَك، وقد كبرت في السن، وعندي الأولاد، وهو كان أراد أن يكفل الأولاد، فلما جاء رسول الله قال: قل لها أولادك أولادٌ لي، وما ذكرتِ من السن فقد أصابنا مثل الذي أصابك، والغيرة أدعو الله تعالى فيذهبها عنك، فتمّ الأمر وكان كذلك، فكانت من ذوات اللبّ والعقل اللاتي حفظن عنه ﷺشؤونا كثيرة، ونفعن مجتمع الصحابيات بما يحتجن من أمر الدين في أخذه عن رسول الله ﷺ.
يقول: "أم سلمة -رضي الله عنها-: لمّا توفي أبو سلمة زوجي -رضي الله عنه- قلتها فأخلف الله -عز وجل- لي خيرا منه رسول الله ﷺ، وكان ﷺ يقول: " إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب"، فقدت من؟ قريب، جار، أب، أم، أخ، وفقدت قبلهم محمد ﷺ زين الوجود أعظم وأجلّ، فهذه أعظم.
اِصبِر لِكُلِّ مُصيبَةٍ وَتَجَلَّدِ…
فَاِذكُر مُصابَكَ بِالنَبِيِّ مُحَمَّدِ
يقول: وكان ﷺ يقول: "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب، ولن تصاب أمتي بعدي بمثلي"، من غير شك ﷺ، وفي رواية: "سيعزي الناس بعضهم بعضًا من بعدي بالتعزية بي"، يقولون فارقنا رسول الله وفارقنا من قال الله له: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30].
وكان سعيد بن جبير -رضي الله عنه- يقول: "ما أعطيت أمة من الأمم ما أعطيت هذه الأمة إذا أصابتهم مصيبة قالوا: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)" فإيش يحصل؟ ﴿أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 157-156]، نعمة العدلان ونعمة العلاوة -قال سيدنا عمر- "قال: ولو أُعطيها أحد لأُعطيها يعقوب -عليه السلام-" فيما أصيب من فقد يوسف، وقال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: 84]، ما قال: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156]، أُلهمتها الأمة عند مصائبها.
ثم ذكر أنه ﷺ كان يأمر بعمل الطعام لأهل الميت، أما فيما تقدمت الإشارة إليه من هذه التعزية:
-
فيقول الشافعي وأبو حنيفة: يُعزى المسلم بالكافر، وبالعكس الكافر غير الحربي هذا معلوم.
-
وذهب الإمام مالك إلى أنه لا يُعزى المسلم بالكافر.
-
وكذلك يقول ابن قدامة من الحنابلة: إن عزّى مسلماً بكافر قال: أعظم الله أجرك وأحسن عزائك؛ بس ماشي دعاء بالمغفرة معلوم هذا، معلوم لقول الله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].
قالوا: وتعزية الكافر بالمسلم، إذا واحد من المسلمين توفي، أو كافر آخر توفي من أقاربه، هل يُعزى؟
قالوا: هي جائزة، واختلفوا في مندوبيتها، هل هي تندب أو لا؟
-
قالوا: محله إن لم يُرجَ إسلامه، وإن رُجِيَ إسلامه فاستُحب أن يُعزى من أجل ترغيباً له في الإسلام، وتقريباً له إلى اعتناق دين الحق.
-
وذكر الاستشكال أيضًا في المجموع في تعزية الكافر بالكافر، واختار تركه، والأمر فيه أيضًا سعة، ويدور على ما يترتب عليه، وعلى ضبط الألفاظ حتى لا تخرج عن مقتضى الشرع، وهكذا.
يقول ابن النقيب وغيره: أن الدعاء للكفار بكثرة عددهم ما هو منوط ولا معلق ببقائهم على الكفر، يكثر عددهم وإن شاءالله يسلمون، ما هو شرط أنهم باقين على الكفر بكثرة عددهم، ويكثر عددهم يدخلون في الإسلام هذا من ناحية، ومن ناحية كان يشير أيضاً بعض الفقهاء إلى أنه يكثر منهم الجزية -إعطاء الجزية- والأمر أوسع من ذلك عسى الله يهديهم (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35] -جل جلاله-.
فيسنّ مساعدة أهل الميت إذا مات الميت عندهم بصنع الطعام لهم، وكان عليه عمل بعض الأماكن، وكانوا يحملون إلى بيت الميت الطعام يكفيهم، ويكفي من حضر عندهم من المعزين وغيرهم.
فيقول: "إن أهل الميت أتاهم ما يشغلهم"، وجاء هذا في وفاة سيدنا جعفر لمّا جاء الخبر في وفاته مع أنه في الشام، قال: "اصنعوا لأهل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم".
"وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- يكرهون الاجتماع عند أهل الميت لأكل الطعام بعد دفنه ويعدون ذلك من النياحة".
والحكم فيه:
-
إن كان بتبرع أحد سواء من الورثة، أو من غيره من دون أن يمسوا تركة الميت، أو كان أوصى بشيء وهو دون الثلث، الثلث ودونه من تركته فجاز ذلك.
-
أو كان أحد من أقاربه وأخرجه صدقة عن الميت فذلك جائز.
-
وأمّا إن كان بتكلّف، أو بأخذ شيء من التركة من دون رضا الورثة، إذا كانوا كلهم بالغين، فأما إن كان بعضهم قصّر فلا يجوز أخذ شيء من التركة، إلا من نصيب الآخذ، أو من نصيب البالغين إذا رضوا بذلك، وإلا فيحرم ويكون بعد ذلك إطعام من مال اليتيم، أو يأكلون أموال اليتيم لأن هذا حق لهم صار من بعده وفاته.
وهكذا لمّا حضر بعض الصالحين عند ميت فاضت روحه، قال: أطفئوا السراج، قالوا: ما لك؟ قال: السراج ما عاده له الآن صار لورثته فيهم محجور عليهم، فيهم صغار لا تستعملوا حقهم، روحوا هاتوا لنا سراج من الخارج. قال: هذا قده حقهم الآن ما عاد له، في من أولاده صبيان عادهم ليسوا بالغين هذا حق لهم لا تستعملوه، فهكذا كان ورع المتقين، قال: كان من ملكه الآن لما فاضت روحه خلاص خرج من ملكه، ماعاد يملك شيء.
ولذا كان يقول الحبيب علوي في وعظه: المفتاح اللي كان ما تعطيه أحد قده بيت غيرك شلوه -أخذوه-، انتهت مدتك في الحياة، ما لك إلا ما قدمت فيها، يالله بحسن السابقة، يالله بحسن الخاتمة.
قال: "وكان أهل الجاهلية يعقرون عند القبر بقرة أو ناقة أو شاة" يعني: هم أهل الميت، ثم جاء الإسلام ونهى رسول الله ﷺ عن ذلك وقال: "لا عقر في الإسلام"، ولكن ساعدوا الأموات بالأخذ منهم، ويبقى إطعام الطعام على حاله، هو من خصال الإسلام ولكن ما هو من أموال الأيتام، ولا هو بتكلف ولا مباهاة، ولا هو بإيذاء، إطعام الطعام من أعظم أوجه الإسلام لكنه بضوابطه وبشروطه.
يقول صاحب بشرى الكريم: يسن لنحو جيران أهل الميت وإن لم يكونوا جيرانه أوْ كانوا ببلد غير بلده ولأقاربهِ الأباعد تهيئة طعام يشبعهم يوماً وليلة، وأن يلحّ عليهم في الأكل ر وأن يلحّ عليهم في الأكل، ولا بأس بالقسم عليهم إذا عرف أنهم يبرون قسمه بلا تضرر.
قال: وحرّم تهيئة الطعام بنائحةٍ ونادبة، يعني إعانة على المعصية.
يذكر أن عندهم كان في دوعن قال: ما اعتيد من العمل لأهل الميت طعاما جزاءً لما عملوه له في من مات له قبل، قال: هذا من قرض الحكم، كأنه قرض عليه، عمل أهل جهتنا، يقولوا: كانوا هنا كذلك إذا مات الميت فأقاربه ومعارفه يحملون جفان، يقولون جفان -جمع جفنة- ليكفيهم ومن يفد عليهم هناك، فما يحتاجون إلى طبخ شيء، ولا إلى شيء أيام الموت، ثم إنه إذا مات لأحد هؤلاء الآخرين ميت، فيحمل إلى بيته مثل ما حمل هو في ميته، ويصير قال: من قرض الحكم كأنه قرض، لأنه بعرف المجتمع صار قرضا يجيب لك وإذا وقعت مصيبة عندي هات لي وهكذا، فيصير مثل القرض يعني إذا وقعت مصيبة عند الثاني وهو قادر يعطيهم ولا أعطاهم يأثم؛ لأن ذاك أعطاك بالعرف، وأنك بالمقابل ترد له وقت حاجته وهكذا.
رزقنا الله الاستقامة وأتحفنا بالكرامة، وأحيى فينا شريعة حبيبه محمد ﷺ وسننه الكريمة، وأصلح أحوال أمته في المشارق والمغارب، ودفع عنا وعنهم جميع المصائب والنوائب، وأثبتنا في ديوان أهل الصدق من خيار الخلق، ودفع عنا كل ما أحاط به علمه في الدارين، وختم لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنا.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
22 شوّال 1446