كشف الغمة -203- كتاب الصلاة (94) مواصلة أحاديث صلاة الجماعة
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 203- كتاب الصلاة (94) مواصلة أحاديث صلاة الجماعة
صباح الثلاثاء 21 ربيع الأول 1446 هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:
- حديث: بشر المشاؤون في الظلم إلى المساجد
- من أحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر لله
- شرح معنى: رأيت ربي في أحسن صورة
- فيما يختصم الملك الأعلى؟
- دعاء: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين..
- 4 أعمال بسببها ترفع الدرجات
- حديث إسلام عبدالله بن سلام
- العتق من النار لمن صلى في المسجد 40 يوما
- قصة الأعرابي الذي فاتته تكبيرة الإحرام
نص الدرس مكتوب:
"وكان ﷺ يقول: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"، وفي رواية: "من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة"، وفي رواية: "المشاؤون إلى المساجد في الظلم أولئك الخواضون في رحمة الله عز وجل"، وكان ﷺ يقول: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر لله عز وجل وحق على المزور أن يكرم الزائر".
وكان ﷺ يقول: "من سره أن يلق الله عز وجل غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن"، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "أتاني الليلة آت من ربي عز وجل" ، وفي رواية: "رأيت ربي -عز وجل- الليلة حين نعست في صلاتي في أحسن صورة فقال لي: يا محمد، قلت: لبيك رب وسعديك قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أعلم فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بین ثديَيَّ، أو قال: في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض، أو قال: ما بين المشرق والمغرب، ثم قال لي: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في الدرجات والكفارات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في السبرات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال: يا محمد قلت: لبيك وسعديك فقال: إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام والصلاة بالليل والناس نيام"، والسبرات في الحديث شدة البرد."
وكان ﷺ يقول: "من صلى في المسجد جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقًا من النار".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمدلله مكرمنا بشريعته وبيانها على لسان عبده وحبيبه وصفوته، خير البرية سيدنا محمد، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومحبته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الرحمن في خليقته، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد؛
فيواصل الشيخ -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالجماعة، ويذكر هذه الأحاديث المتعلقة بالذهاب إلى المسجد في الوقت الذي يكون فيه ظلام الليل؛ وذلك ينطبق على صلاة العشاء وصلاة الفجر، وهما أثقل صلاة على المنافقين، قال ﷺ: "لو يَعلَمون ما فيهما لأتَوْهما ولو حَبْوًا"، فالمشي في وقت الظلمة أي: الوقت الذي يكون فيه بحكم أصل التكوين الظلام بمغيب الشمس؛ ثم مغيب آثارها حتى يكون وقت الظلمة وقت العشاء، وكاذلك في وقت الفجر؛ في أول الفجر.
يقول: "بشر المشائين -أي: الذين يكثر مشيهم- في الظلم -في وقت الظلمة وقت العشاء والفجر- إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة".
ولا شك أنه يدخل في ذلك من يخرج في الليل إلى المسجد؛ بل قد تقدم معنا الإشارة إلى ما كان يعدُّ أبو هريرة: أن الحضور لأجل صلاة الفجر في الجماعة قبل طلوع الفجر كانوا يعدُّونه بغزوة على عهد رسول الله ﷺ، كانوا يحسبونه في الفضل بفضل غزوة، وهو أن يحضر إلى المصلى وإلى مكان صلاة الفجر قبل أن يطلع الفجر.
"بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة".
وجاء بلفظ المشائين: فعَّال؛ وهو يحمل المبالغة، أي: الذين يحافظون على صلاة الفجر في جماعة، وصلاة العشاء في جماعة دائمًا؛ فهُم مشَّائون أي: كثيري المشي إلى المساجد في وقت الظلمة.
وفي رواية: "من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة".
قال تبارك وتعالى: (یَوۡمَ لَا یُخۡزِی ٱللَّهُ ٱلنَّبِیَّ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ یَسۡعَىٰ بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَبِأَیۡمَـٰنِهِمۡ) [التحريم: 8].
كذلك قال: " وفي رواية: "المشاؤون إلى المساجد في الظلم أولئك الخواضون في رحمة الله عز وجل".
أي: كثيري الخوض في رحمة الله، أي: حظهم موَفَّر وكثير من رحمة الله؛ فينبغي الاعتناء بالجماعة عامة وبالعشاء والفجر خاصة، وواظِب عليها في الجماعة دائمًا وحافظ عليها في العشاء وفي الفجر.
يقول: "وكان ﷺ يقول: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر لله -عز وجل-، وحق على المزور أن يكرم الزائر"، هكذا جاء في رواية الطبراني في الكبير، يقول الهيثمي -وأحد إسناديه رجال الصحيح.
"من توضأ فأحسن الوضوء" أتمَّه وأسبغه وأدَّاه بفرائضه وسننه، "فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائرٌ لله عز وجل" يخرج من بيته إلى بيت الله فيكون زائرا لله -سبحانه وتعالى-، قال: "وحق على المزور أن يكرم الزائر" . ولا مزُور أعظم من الله، ولا مزُور أكرَم لمن يزوره من الله؛ فليستشعر المؤمن في كل جيئة -مرة- يجيئها إلى المسجد أنه يزور رب العالمين -جل جلاله- وأرحم الراحمين رب السماوات والأراضين؛ فينظر كيف يزور ربه؟ ولعله لو استشعر زيارة من له مظهر وسمعة في الدنيا لحَسَّن من حاله ومن أقواله ومن هيئته؛ وأكثَرَ التفكير كيف يتكلم؟ وكيف يقول؟ فكيف حال من يزور رب العالمين؟! الواحد الأحد الحي القيوم القوي المتين، الله أكبر!
"فهو زائر لله عز وجل وحق على المزور أن يكرم الزائر"، وكرم الله تعالى فوق كل وصف لمن قَبِلَه؛ فالله يقبلنا.
وفي الحديث: "مَن غَدا إلى المَسْجِدِ، أَوْ راحَ، أَعَدَّ اللَّهُ له في الجَنَّةِ نُزُلًا -أي ضيافة-، كُلَّما غَدا، أَوْ راحَ" أي: جاء المسجد في الصباح غدوة - غدا، أو جاء المسجد في المساء: راح، "أَعَدَّ اللَّهُ له في الجَنَّةِ نُزُلًا، كُلَّما غَدا، أَوْ راحَ"، بكل ذهاب إلى المسجد نُزل أي: ضيافة في الجنة، والضيافة ثلاثة أيام، والثلاثة أيام في الآخرة بثلاثة ألف سنة؛ (وَإِنَّ یَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج:47]؛ فالله يقبلنا، ويجعل لنا خطوات مقبولات إلى بيوته وحيث تقام الصلاة.
قال: "وكان ﷺ يقول: "من سره أن يلق الله عز وجل غدًا مسلمًا -أي: يحفظ عليه نور الإسلام ولا ينزعه من قلبه حتى يتوفى عليه- فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن"، أي: يُأَذَّن لهن، يعني: المساجد أنَّ فيهن إقامة الأذان للصلوات، وفيه إشارة إلى أن المحافظ على الصلوات في الجماعة في المسجد يُثَبِّت الله قلبه، ويحفظ عليه الإسلام حتى يتوفاه مسلمًا. "من سره أن يلق الله عز وجل غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن".
"وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "أتاني الليلة آت من ربي عز وجل"، وفي رواية: "رأيت ربي -عز وجل- الليلة حين نعست في صلاتي في أحسن صورة" أي؛ في أكمل تجلي وأعظم وصف، عبَّر عنه "في أحسن صورة، فقال لي: يا محمد.."، وهذا من الأمور المعنوية لما يقول: ما صورة المسألة؟ ليس المراد جسم للمسألة ولا هيكل؛ صورة المسألة معناها الذي تتبيَّن به؛ ما صورة كذا؟ وهكذا يقال عن الصورة في المعنويات بعيدة عن الهياكل والجسمانيات وكل ما تعلق بذلك.
يقول: "فقال لي: يا محمد، قلت: لبيك ربِّ وسعديك قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟" وهم الملائكة المقربون؛ يعني: ما يدور النقاش بينهم في أي شيء؛ على أي شيء يعدُّونه عظيمًا ومُهِمًّا؟ "قلت: لا أعلم"، ثم كان هذا أيضًا من حديث الصفات مثل حديث الآيات التي تأتي بألفاظ ظاهرها يوهم الجسمانية أو شِبه الخلق، ولا يشك أن ذلك غير مقصود، ومعناها معنىً لائق بجلال الله تبارك وتعالى بعيد عن الجسمية وتوابعها.
قال: "فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديَيَّ"، يقول: أنه تجلى علي وكشف لي من الحُجُب بما عبَّر عنه بوضع اليد، وكما أن المعتني أمره بالإنسان يضع يده عليه، فعبَّر عن عناية الله به ورعايته له و تجلِّيه عليه بهذا اللفظ.
"حتى وجدت برد أنامله بین ثديَيَّ، أو قال: في نحري فعلمت" علمني ووهبني في تلك الساعة الاطلاع على العلوم كلها، "أو قال: في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض، أو قال: ما بين المشرق والمغرب ثم قال لي: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم". أول قال: لا أدري؛ قبل التجلي عليه؛ فلما تجلى عليه وعلَّمه، عَلِمَ كل شيء ومنها هذه، قال: "نعم في الدرجات والكفارات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في السبرات". يعني: عند شدة البرد، أو عند ثقل الإسباغ للوضوء بسبب مرض أو شدة، أو وجع أو بُعد مكان الماء؛ أو أي معنى من البرد وغيره الذي يصعب معه الإسباغ والإحسان والإتمام للوضوء.
"وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن"، مِن "نَقل الأقدام إلى الجماعات"، والمحافظة على صلاة الجماعة، ومواصلة خطوات قدميه إلى محل الجماعة، "وإسباغ" إتمام وإحسان "الوضوء في السبرات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة" بأن يكون قلبه معلق في كل وقت بالصلاة إذا صلى يترقب الصلاة التي بعدها شوقًا وتعظيمًا ومحبة.
"ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، -قال في تجلي الرحمن على نبيه سيدنا محمد- "قال: يا محمد قلت: لبيك وسعديك"، يعني: أنا مقيمٌ على إجابتك إجابة بعد إجابة؛ لأنك ربي وأنا عبدك، "وسعديك": أي أطلب إسعادك لي فتسعدني سعادة بعد سعادة على الدوام، "لبيك وسعديك" يعني: أقوم بتلبيتك وأطلب إسعادك، "لبيك وسعديك".
قال: "إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون".
هذا من الأدعية المستحبة بعد كل صلاة:
"اللهم إني أسألك فعل الخيرات"، يعني: توفيقك لي لاغتنام ما أقدر عليه من فعل الخير في الحياة.
"وترك المنكرات": بأصنافها من كل قصد لغيرك وإرادة لسواك، وكل معصية، وكل ذنب، وكل زلة، وكل إظهار غير ما أبطن، وكل ما نهيتني عنه، ترك المنكرات.
"وحب المساكين": أهل التذلل والخضوع والمسكنة لله -جل جلاله- من المنكسرة قلوبهم من أجل الله؛ فحبهم من أوثق عرى الإيمان، وهو علامة صدق المحبة؛ فإن النفس تميل إلى محبة من تدرك منه حظًا وتنال منه شيئًا من أغراضها من الحياة الدنيا؛ إنما يكون ذلك في الغالب على أيد الأغنياء، وأهل المظاهر في الدنيا؛ ولكن حب أهل المسكنة والخضوع والتذلل لله تعالى علامة خالص الإيمان؛ لذلك قال: "وحب المساكين".
"وإذا أردت بعبادك فتنة": عما تنشرها بينهم وتفتنهم بها
"فاقبضني إليك غير مفتون": أي توفني غير مفتون.
"قال: والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام والصلاة بالليل والناس نيام"، وذَكَر الدرجات يعني الأعمال التي بسببها ترتفع الدرجات عند الله: "إفشاء السلام".
إفشاء السلام:
- لفظًا بقوله: "السلام عليكم"، وكان ﷺ يبدأ من لقيه بالسلام من كل صغير وكبير، وأبيض وأسود وأحمر؛ يبدأهم بالسلام -عليه الصلاة والسلام- لفظًا.
- وفعلًا: تنشر السلام فعلًا؛ أن لا يصدر منك إيذاء ولا إضرار بحق أحد.
- ونيةً: فلا تضمر السوء لمسلم قط ولا لأحد من خلق الله، ما تنطوي على الشر.
هذا إفشاء السلام، إفشاء السلام بالقول: السلام عليكم، وبالفعل: ما تضره ولا تؤذيه ولا تخدعه ولا تغش، وبالنية بالقلب: ولا تضمر شرًا لأحد من خلق الله تعالى، ولا تنوي فعل سوء بأحد، هذا إفشاء السلام؛ إفشِ السلام.
قال: "إفشاء السلام وإطعام الطعام"، رغبتك أن يوصل الله الطعام على يدك لعباده من الآدمين خاصة، ثم كل ذي كبد رطبة ولو من الحيوان.
قال: ولمَّا كانت تغسِّل بعض المُغسِّلات امرأة عجِبَت من تبسمها أثناء التغسيل؛ فرأتها في ليلتها تقول: ما بالك؟ أنتِ على المُغتَسل وأثر ابتسامة على فيكِ؛ قالت: إنما ابتسمت لأن أول ما لاقاني من أعمالي كسرة من الخبز وضعتها في فمِ دابة، وكانت هي سبب رحمة الله لي، وأول ما لاقاني من حسناتي؛ قالت: كنت أتصدق كل يوم بكسرة من صبوحي أول من ألاقيه في الطريق أعطيه إياها؛ فصادفتُ يوم خرجتُ وإذا بعِفْوَة -أنثى الحمار الصغير- فرحمتها وناولتها الكسرة، فأخذتها مني وأكلتها؛ قالت: فكانت هذه أول ما لاقاني من حسناتي وسبب رحمة الله لي؛ ولهذا رأيتيني تبسمتُ لما عُرِضَت علي هذه الحسنة، إنه ما كان في بالي أن أحصل بها هذا المقام، ولا بها هذا الثواب فظنيتُ المسألة عادية؛ لكن لما كانت صادرة عن رحمة، وكانت بعيدة عن الرياء وعن العُجب، ولا تأمل من هذه الدابة أن تثني عليها، ولا أن تمدحها، ولا أن تعطيها شيء، كانت خالصة وقعت موقع عند الله تبارك وتعالى؛ لا إله إلا الله!
وو فقال: إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام والصلاة بالليل والناس نيام"، والسبرات في الحديث شدة البرد."
يقول: "إفشاء السلام وإطعام الطعام"، وتقدم أيضًا فيما يُذكر أن أحد الأثرياء من السلاطين "الحبوظي" كان من ظفار وله صلة بحضرموت، وكان كثير الإنفاق والصدقة؛ وتصدق ليلة في حرم مكة بصدقات كثيرة؛ حتى خطر على باله وهو يطوف أني لا أظن اليوم أحد في الدنيا تصدق بمثل هذه الصدقات؛ فأراد الله تعالى أن ينبهه رحمة به، فسمع هاتف فوقه يقول له: بلى فلان بن فلان "باكزبور" في الهجرين من حضرموت تصدق الليلة بصدقة أفضل عند الله من جميع ما تصدقت به؛ فحفظ الإسم وخرج إلى حضرموت وجاء إلى الهجرين وقال لهم: وين باكزبور؟ قالوا: باكزبور إنسان ضعيف فقير؛ قال: بغيت عنده؛ جاء إلى عنده وصلى هو وإياه المغرب والعشاء في المسجد وجابه إلى البيت؛ دخل وجاب قرص من الخبز، قَسَمه وخرَّج له كسرة أعطاه إياها، وأكل كسرة؛ وأخذ يحادثه ويكلمه فيقول له: أريد منك طلب.. ما هو؟ قال: تعطيني ثواب صدقتك التي تصدقت بها في ليلة كذا وكذا وخذ ما تريد مقابل ذلك؛ ضحك الشيخ باكزبور يقول له: الهاتف اللي سمعته في الطواف فوق الكعبة أنا سمعته أيضًا كذلك، قال له: أوه!..لا سبيل أعطيك ذلك؛ قال: أيش تصدقت به في ذيك الليلة؟! قال: شفت الكسرة ذي اللي أعطيتك إياها كماها..أوه! قال: كماها؛ قَدِم واحد إلى البلد ما أحد انتبه منه، وله عند الله منزلة كبيرة، أخذت بخاطره جيت به إلى بيتي وعطيته كما هذه الكسرة، ففاقت حقك كلها الصدقة؛ وقال له: وكيف الوصول لهذا الثواب؟ قال له: أنت تَعَرَّض ابنِ أماكن للغرباء في البلدان، وليلة ينزل واحد في ما بنيته من اللي لهم قدر عند الله كما صاحبي ذا وتحصل مثل ما حصلت؛ خزائن الله ملئى فبنى أماكن كثيرة في المدن ديار للغرباء خاصة، الغريب ينزل فيه مجان ويجعل فيه طعام موجود من جاء يقدمون له الطعام رجاءًا؛ فقد تعظم ثواب حسنة ما يلقي لها الإنسان بال عند الله تعالى.
"وإطعام الطعام وصلة الأرحام"، الله.. فإنها عظيمة الشان بنص القرآن، يُهدَّد قاطع الرحم بلعنة الجبار -جل جلاله- (﴿فَهَلۡ عَسَیۡتُمۡ إِن تَوَلَّیۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوۤا۟ أَرۡحَامَكُمۡ * أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰۤ أَبۡصَـٰرَهُمۡ) [محمد: 22-23]؛ فمن ذا يرضى لنفسه يشتري لعنة الجبار الأعلى بقطيعة أخ ولا ابن ولا عم ولا ابن عم ولا عمة ولا خالة؟! لماذا؟ تشتري ماذا بماذا؟! لا إله إلا الله!
"صلة الأرحام".
يقول: (وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوۤءُ ٱلدَّارِ) [الرعد: 25]، (وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ) [البقرة: 27].
وإلى هذه الثلاث الآيات أشار سيدنا جعفر الصادق يقول: إياك وقطيعة الرحم فإني وجدتُ قطع الرحم ملعون في ثلاث مواضع من كتاب الله:
- (وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ) [البقرة: 27].
- (وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوۤءُ ٱلدَّارِ) [الرعد: 25].
- (فَهَلۡ عَسَیۡتُمۡ إِن تَوَلَّیۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوۤا۟ أَرۡحَامَكُمۡ * أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰۤ أَبۡصَـٰرَهُمۡ) [محمد: 22-23].
فما أخطر قطيعة الرحم، وأكثر ما يستجر الشيطان إليها إنسان عابد أو صالح من شان يحبط عبادته ويكون له، ويكتفي الاجتهاد عليه في إحباط العبادة وفي الدفع عن نور العبادة؛ يخليه يقاطع الرحم وخلاص؛ ولاعاد يقبل له عمل، ويعمل في غير ما عمل يبقى يصلح صلواته وعباداته ولا عاد شي منها أثر؛ لأنها مردودة عليه -والعياذ بالله تعالى؛ تعرض الأعمال على الله كل إثنين وخميس فلا يقبل عمل قاطع رحم، قال: "تُفتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ ويومَ الخَميسِ، فيُغْفَرُ لكلِّ عبدٍ لا يُشركُ باللهِ شيئًا، إلّا رجلٌ كانَت بينَهُ وبينَ أخيهِ شَحناءَ، فيُقالُ: أنْظِرُوا هذين حتّى يصطَلِحا".
"صلة الأرحام والصلاة بالليل والناس نيام"، ففيها منزلة خاصة عند ربنا العلام، لمن يترك منامه ويقوم في الظلام، والناس نيام يستحلون النوم وهو يستحلي القيام بين يدي رباه جل جلاله؛ قالت السيدة عائشة: "كان ﷺ إذا جنّ الليل وخلا كل حبيب بحبيبه خلا هو بحبيبه وقام يناجي الله" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، "والصلاة بالليل والناس نيام".
"والسبرات" في الحديث شدة البرد؛ وحتى العوام يقولون سبرة: شدة البرد؛ وبمثل أيضًا هذا الحديث أول ما سمع سيدنا عبد الله بن سلام، كان عالم من علماء اليهود فهداه الله للإسلام فكان من علماء الأمة؛ قال لما قدم النبي المدينة ذهبتُ إليه أنظر إليه؛ فجيته والنبي في قباء قبل توجهه إلى داخل المدينة قال: فأقبل؛ قال: فأول ما وقع نظري عليه عرفتُ أنه ليس بوجه كذاب، لما رأيته ووقع نظري علمت أنه ليس بكذاب، هذا وجه ما يكذب؛ قال: وسمعتُ أول ما سمعتُ يقول: "أيُّها النّاسُ، أَفْشُوا السَّلامَ، وصِلوا الأرحامَ، وأَطْعِموا الطَّعامَ، وصَلُّوا باللَّيلِ والنّاسُ نِيامٌ، تَدْخُلوا الجنَّةَ بسلامٍ." فهذا أول ما سمعه؛ فأكَنَّ في نفسه الإسلام ثم جاء إلى النبي ﷺ لما استقر بالمدينة وأسلم على يديه؛ وقال له: قبل أن يعلم يهود بإسلامي إنهم قوم بُهت، أريد أن تسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي؛ فتركه ﷺ في مكان ودعا من أحبار اليهود وكبارهم من جماعته، فدعاهم للإسلام وأبوا؛ قال: إنكم تعلمون أني رسول الله وأنا وصفي عندكم في التوراة؛ قالوا: لا ما نعلم؛ قال: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وعالمنا وابن عالمنا، وحبرنا وابن حبرنا عبد الله بن سلام؛ قال: ما تقولون لو أسلم؟ قالوا: لا لا لا مايسلم؛ قال: ما تقولون أن تبيَّن له الحق وأسلم؟ قالوا:لا لا هذا مايسلم؛ قال: اخرج عليهم عبد الله؛ خرج عبدالله بن سلام وقال: وَيْحَكُمْ إِنَّكُمْ لَتَقْرَأُونَ صِفَتَهُ في التوراة، وهو الذي بشَّر به موسى إنه رسول الله؛ قالوا: هذا شرُّنا وابن شرُنا وجاهلنا وابن جاهلنا؛ قال: ألم أقل لك يا رسول الله إنهم قوم بُهُت؛ كذابين يبهتون؛ أول قالوا واعترفوا عالمنا وابن عالمنا وخيرنا وابن خيرنا، ورجعوا ينقضون كلامهم لمَّا علموا بإسلامه، لا إله إلا الله! قال سيد الوجود: "إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي" لا إله إلا الله!
إذا كان مولاي راضي *** فمن أراد يغضب فيغضب
إذا الله راضي علينا *** سواء عندي المدح والسب
من بيمدح يمدح ومن بيسب يسب؛ القصد: أن رب العالمين راضي.
قال: وهكذا يذكر لنا قوله ﷺ: "من صلى في المسجد جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقًا من النار"، وكذلك ورد في الحديث وصحَّ فيه تكبيرة الإحرام مع الإمام: وهو أن يدرك الركعة الأولى مع الإمام من كل فرض، فلا يكبر الإمام إلا نوى وكبر خلفه مباشرة، فمن فعل ذلك أربعين يومًا كتب الله له براءتين: براءة من النار وبراءة من النفاق، وهذا دواء عجيب تتخلص به من شؤون النفاق الخفية والصعب التخلص منها، والمتخلص منها فائز، وللخيرات حائز؛ بالمواظبة على صلاة الجماعة أربعين يوم، لا تفوته في فريضة منها واحدة التكبيرة الأولى مع الإمام.
ويُروى أن أعرابيا كان له إبل تركها بباب المسجد ودخل يصلي، فلما خرج وجد الإبل قد ذهبت عليه، فبقي في حالة حزين على فقد الإبل وما يدري فين يبحث عنها حتى تغاش الناس عليه من أثر ما به؛ فخرج ﷺ ووجد الناس يتغاشون عليه؛ قال: ما له؟ ما به؟ قالوا: يا رسول الله ضلت إبله؛ قال: "ظننتُ أنه فاتته التكبيرة الأولى مع الإمام" متحسر وحزين على فوات التكبيرة الأولى مع الإمام، ماهو على الإبل؛ وسمعه الأعرابي وقال: يا رسول الله وتكبيرة الإحرام مع الإمام خير من إبلي؟! قال له: "ومن ملء الدنيا إبلاً" خير من ملء الدنيا إبل، أكثر وأعظم فائدة ونفع من ملئ الأرض إبل؛ لا إله إلا الله! أعز أموال العرب! قال إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام شأنها شأن؛ ولذا وجدنا من مشايخنا من يواظب على تكبيرة الإحرام ما هو أربعين يوم، أربعين سنة وزيادة ما تفوته تكبيرة الإحرام، لا إله إلا الله!
الله يرزقنا الاستقامة مع من استقام، ويبارك لنا في الجماعات ويجمع قلوبنا عليه، ويرزقنا صدق الإقبال عليه والوجهة إليه؛ اللهم نقِّنا عن الشوائب، اللهم نقِّنا عن الشوائب، اللهم نقِّنا عن الشوائب، واسقنا من أحلى المشارب، وارزقنا الإنابة إليك والخيشة منك، والتوفيق لمرضاتك بسِرّ الفاتحة .
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الفاتحة
21 ربيع الأول 1446