كشف الغمة -10- تكملة باب فضل سماع الحديث وتبليغه، وفضل مجالسة العلماء
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: تكملة باب فضل سماع الحديث وتبليغه، وفضل مجالسة العلماء
الأحد 24 شوال 1444هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:
- تقديم النبي ﷺ لأهل العلم من الصحابة في المجالس
- تقديم الموتى في قبورهم!
- خصوصية استجابة دعاء الشائب
- المقصود من قوله ﷺ: ليس منا
- سوء معاملة كبار السن في بعض الدول
- أهمية معرفة حق الكبير
- وصف أحوال العلم مع الأدب والسكينة، وحال العلم اليوم
- إخلاص الإمام الشافعي ونتيجة ذلك
- متى يصبح الناس قلوبهم قلوب الاعاجم؟
- من هم الثلاثة الذين لا يستخف منهم إلا منافق؟
- إذا اجتمع 20 من الأمة ليس فيهم من يستحيا منه فقد ضاع الدين عليهم
- معنى قوله ﷺ: العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا
- ثلاث خصال خاف منها النبي على أمته
- التجرؤ على تأويل القرآن بالرأي (القرآني)
- خطر الإنكار على العالم التقي
- عاقبة ترك النهي عن المنكر، وما يحصل من فتن في آخر الزمان
- محاولات إيذاء العلماء لمحو الدين، وما أنتجت
نص الدرس مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الإمام أبي المواهب سيدي عبدالوهاب الشعراني في كتابه: (كشف الغمة عن جميع الأمة)، إلى أن قال رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين..
"وكان ﷺ يقدِّمُ أهل العلم والصلاح في المجالس وغيرها، ولما كان يوم أحد كان يجمع بين الرجلين من القتلى في القبر ثم يقول: "أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد".
وكان ﷺ يقول: " إن من إجلال الله عزَّ وجل إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط"
وكان رسول الله ﷺ يقول: "البركة مع أكابركم"
وكان ﷺ يقول: "ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر"
وفي رواية: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا"
وفي رواية: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعطِ لعالمنا حقه"
وفي رواية: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا"
وكان ﷺ يقول: "تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تعلمون منه"
وكان ﷺ يقول: "اللهم لا يدركني زمان أو قال: لا تدركوا زمانًا لا يُتبع فيه العليم، ولا يستحيا فيه من الحليم قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب".
وكان ﷺ يقول: "ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق : ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط".
وكان عبد بن بشر يقول: لقد سمعت حديثاً منذ زمان "إذا كنت في قوم عشرين رجلاً أو أقل أو أكثر فتصفحت وجوههم فلم تر فيهم رجلاً يُهابََ في الله عزَّ وجل فاعلم أن الأمر قد رق".
وكان ﷺ يقول : " العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا" .
وكان يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال: أن تكثر لهم الدنيا فيتحاسدون، وأن يفتح لهم الكتاب يأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبَّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أولوا الألباب) [آل عمران:7] ، وأن يَرَوا علم فيضيعونه ولا يتألّبون عليه"، والله أعلم."
الحمد لله مكرمنا برسوله وبلاغه عن إلهه بالحق والهدى صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن والاه وبهديه اقتدى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات السعداء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين.
وذكر لنا الشيخ الشعراني - عليه رحمة الله- ما جاء في فضل مجالسة العلماء وإكرامهم وإجلالهم وتوقيرهم، وأنه ﷺ كان كما أرشد إلى ذلك يفعل ذلك ويطبقه وكان ﷺ يقدم أهل العلم والصلاح في المجالس وغيرها، وكان يأمر بأن يُوسع للداخل من أهل بدر، وإذا ضاق المكان أن يقوم لهم من يقوم ونزل في ذلك قول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ …) [المجادلة:11]. كان يقدم أهل العلم والصلاح في المجالس وغيرها، ويكرم كريم القوم، وينزل الناس منازلهم، وقال: "أُمرنا معاشر الأنبياء أن ننزل الناس منازلهم" ثم قيام الاعتبارات في أذهان الناس وعقولهم وثقافاتهم إذا كانت بميزان الحق ورسوله؛ صَلحوا وأصلحوا ونجحوا وأفلحوا، وإن تعطلت وتغيرت عندهم موازين وصار الاعتبار للإكرام والاحترام والتقديم بأوصافٍ أُخر وبأي نوع من الأنواع وبأي وسيلة من الوسائل لا تتفق مع ميزان الله في تقديم العلماء والصلحاء والأولياء؛ فَسَدُوا وأفسدوا إذا كان الأمر كذلك وتعطلت عليهم حقائق صلتهم بالله تبارك وتعالى؛ فيجب أن تكون الأسر في المسلمين ومجتمعات الإسلام مقيمة لميزان الحق جلّ جلاله؛ يُكرّم العالم، والولي الصالح التقيّ، وذو الشيبة في الإسلام، والإمام العادل القسط، وحامل القرآن وما إلى ذلك، فيعتبرون التقديم والفضل بما هو عند الله فضلٌ.
قال: ولما كان يوم أحد وجرح جميع من حضر معه من السبعمائة من الصحابة، وقتل منهم سبعون ويحتاجون إلى دفن، والدافنون جرحى؛ فكان يضع الرجلين في القبر الواحد فإذا جيء له بشخصين من الشهداء "يقول: أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟" أي: من كان الأعلم والأحفظ لكلام الله منهما؟ فإن أشير إلى أحدهم قدّمه جعله الأول إلى جهة القبلة في اللحد وجعل الثاني وراءه، فهو يراعي هذا التقديم لأهل العلم والصلاح، حتى في وضع الموتى في قبورهم ﷺ، "كان يجمع بين الرجلين من القتلى في القبر ثم يقول: أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أُشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد" ﷺ؛ فيجب أن يقوم هذا الميزان بيننا.
"وكان ﷺ يقول: "إن من إجلال الله عزّ وجل إكرام ذي الشيبة المسلم.." "، وفي رواية: "إنّ من تعظيم إجلال الله عزّ وجل.."، وفي رواية: "إن من توقير إجلال الله عزّ وجل إكرام ذي الشيبة المسلم"، من شاب في الإسلام شيبة، بلغ سن الشيب وهو على الإسلام، فمن إجلال الله إكرام هذا وتوقيره، ولذا تجد طالب العلم أو العابد إذا لم يعرف حق كبار السن ولم يقدمهم لا يُفتح عليه ولا يصل إلى رب هذا العابد؛ حتى يعرف قدر كبار سن و"البركة معَ أكابركم". "إن من إجلال الله عزّ وجل إكرام ذي الشيبة المسلم…" إكرام ذي الشيبة المسلم، "وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه" يعني: حافظ القرآن حافظ كلام الله تعالى إذا كان لا يتجافى عن القرآن: يتباعد عن العمل به وعن تدبره، ولا يغالي فيه يطلب به الفخر والكبرياء والعزة، فغير الغالي فيه أي: بعيد عن الغلو وعن الجفاء إجلاله من إجلال الله، توقِيره وإكرامه من توقير الله سبحانه وتعالى.
"..وإكرام ذي السلطان المقسط"؛ لأنه إذا أقسط حمى الدين وحمى الشريعة ووَزَع الله به ما لا يزع بالقرآن؛ فلذلك يجب إكرامه واحترامه وكان أيضًا ﷺ يقول: "إن الله تعالى يستحي من ذي الشيبة" في الإسلام، "إذا كان مسددًا.." ومسددًا: مقيمًا للسنة ومُلازمًا للسنة إذا سأله أن لا يعطيه، يستحي أن لا يعطيه وإذا دعاه وسأله يعطيه، وما من شايب يكون متمسك بالسنة ومراقب لله في أحواله إلا وكان دعاؤه أقرب إلى الإجابة، ويستحي الله منه إذا سأله أن لا يعطيه. لا إله إلا الله!
يقول: "وكان الرسول ﷺ يقول: "البركة مع أكابركم" " أكبركم سنًا وهكذا… وجاء له في بعض مرائيه ﷺ وأنه معه سواك وأراد أن يُناوله بعض الذين أمامه، فقيل له: كَبّر كَبّر فابتدأ بالكبير، وقال لبعض من جاءه أيضًا ليتحدّثوا، كَبّر أي: ابدأ بالكبير، قال: "البركة مع أكابركم"؛ وهكذا تقوم آداب الإسلام والشريعة. "وكان ﷺ يقول: "ليس منّا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر" "؛ فهذا إنذارٌ لمن خرج توقير الكبير منه ورحمة الصغير، وقِوام الإسلام: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران :104]... (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، في قوله: "ليس منّا.." تهديدٌ ووعيدٌ شديد، وإن أوَّله بعضهم: بما أنه ليس على سنتنا وليس على هدينا، وعلى كل الأحوال فالتعبير من حضرة النبوة بهذا مخوفٌ وشديدٌ يُخاف على صاحبه أن يخرج عن الركب ولا يلحق بهم يوم القيامة! "ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر"، ويقول: ما وقّر شاب شيخًا لسنه إلا وسخر الله له من يوقره إذا كبرت سنه وهكذا.
وممّا جاء من طغيان بني آدم، مرّت فترات على بعض الدول التي توصف بالتقدم، وكانت لها بين الناس في شؤون حياتهم ريادة وقيادة مرت عليهم فترات يقولون: إذا كبر الواحد فيهم وضعف وسَن؛ يقولون: صار عنصر غير عامل يجب أن يتخلص المجتمع منه، ورتبوا في مستشفياتهم أن يأتون بهم ويعطون له إبرة يداونه كأنهم.. ويخارجُونه -يخلّصونه- من الحياة يقتلونه، فكانوا هذا منطقهم يعدّون نفسهم قادة في العالم وساسة متحضرين متقدمين وهكذا. ومقابلهم: دول أخرى منهم أيضًا انتزع من كثير من نَاشئتهم توقير كبارهم فصار إذا كبر أب أحدهم فضًلا عن جده حمله إلى دار العجزة فتخلّص من أن يخدمه أو يعاني القيامَ به في بيته، واضطروا يصلحون لهم ديار خاصة بكبار السن والعجزة يرمونهم فيها لا إله إلا الله!
والذين مشوا مع الفطرة السليمة و تأدبوا بأدب الفاطر الخالق، تجد مجتمعاتهم كلما كبر فيهم رجل أو امرأة ازداد في الأسرة والمجتمع مهابة وتوقير واحترام وخدمة، فيصير على العجوز في البيت هالة من التوقير والاحترام من أولادها وأحفادها ومن بناتها ومن أسبَاطها؛ وإذ الأسرة كلها تعظّم أمرها وتَمتثل له؛ ويرجعون إليها في الأمر، وهؤلاء الذين مَشَوْا على قدم الهدى وقدم السواء. "ومن إجلال الله تبارك وتعالى توقير ذا الشيبة المسلم". وفي رواية: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا" حتى قال بعض خيار الأمة: أنا عبد من سبقني ولو بيوم، بالولادة سبقني وُلد قبلي في الدنيا حتى بيوم أنا مثل العبد أكون له. لا إله إلا الله!
قال وفي رواية: "ليس من أمتي من لم يُجلّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعطي لعالمنا حقه" يقول في لفظ آخر:" ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه" هنا قال: ويعطي لعالمنا حقه، قال وفي رواية: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شَرَفَ كبيرنا".
"وكان ﷺ يقول: "تعلموا العلم.." - اللهم زدنا علما- "تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة الوقار.."، ما يكون طلب علم بفوضى ولا بقلقلة ولا بقرقرة ولا بإساءة أدب، "..تعلموا للعلم السكينة الوقار، وتواضعوا لمن تعلمون منه" وفي رواية: "ولمن تُعلمونه"، فأمر بالإزدياد من العلم ورغَّب ﷺ في طلب العلم، وأمرنا أن نتعلّم للعلم السكينة والوقار قال سيدنا الشافعي: كنت أصفح الورقة بين يديّ مالك صفحًا رقيقًا لئلا يُسمع وقعها، قال أنا في الدرس عند شيخي مالك إذا أفتح الورقة أفتحها فتح رقيق ما يسمع أحد صوت الورقة تنفتح؛ أدبًا مع الحديث الشريف؛ ومع العلم المنيف، فكيف صارت فصولهم وقاعاتهم بالمدارس؟! ما تسمع فيها حس الورقة؟! وإلا فقد ما تسمعها تصيح حتى هي والجدران حقها تصيح كلها، وساعة يستهزؤن بمدرس، وساعة يضحكون على بعضهم البعض، وساعة… فأي علم يتلقّون؟ وأي فهمٍ يفهمون؟ وأي نتيجة تحصل من ذلك؟ لا إله إلا الله!
يقول ابن عباس: ذُللت طالبًا فعُززت مطلوبًا! وكان من أدبه وتوقيره يقف على باب شيخه سيدنا زيد بن ثابت، فلا يرضَ أن ينصرف ولا يرضَ أن يدقّ الباب ويطرقه، قال: خشية أن يكون في ذكرٍ أو قراءةٍ أو استراحةٍ في منام؛ فيُزعجه. فرّبما صادف يوم رياح وتهبّ الغبار وتحمل التراب؛ فيمتلئ وجهه وثيابه طين حتى يمرّ المار لا يعرف من هذا ما يدري به من كثرة الغبار عليه.
ولما حضر جنازة أم شيخه سيدنا زيد بن ثابت، قٌرّبت البغلة لسيدنا زيد ليركبها فأمسك ابن عباس بخطامها، فلمّا رآه قال: خلِّ-دع- عنك يا ابن عم رسول الله! خلِّ واحد غيرك أنت ابن عم النبي ﷺ، لا تكون أنت الخادم! قال: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فتناول سيدنا زيد بن ثابت يده وقبّلها وقال: وهكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا، رضي الله عنهم.
قال الربيع من أصحاب الشافعي: ما اجترأت أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبةً له! لا إله إلا الله، كيف كان أدبهم؟ "..وتواضعوا لمن تعلّّمون منه" كان أبو يوسف صاحب أبو حنيفة يقول: يا قوم أريدوا بعلمكم وجه الله، فإنّي لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوَهم إلا لم أقُم حتى أفتضح، ولم أجلس مجلسًا أنوي فيه أن أتواضع إلّا لم أقُم حتى أعلوَهم. وكان يقول سيدنا الشافعي: ما ناظرتُ أحدًا إلا وددت أن يكون عليه من الله رعايةٌ وحفظ، وما ناظرت أحدًا إلا وددت أن يُظهر الله الحق على لسانه، وقال: وددتُ أن الناس انتفعوا بعلمي هذا على أن لا ينسب إليّ منه حرف، قال بعض أهل العلم عندنا: أن نيّته هذه الصالحة في إخلاصه أثّرت؛ فصار المتأخرون من أتباع مذهبه يقولون: قال النووي قال الرافعي قال ابن حجر قال الرملي وقال فلان وفلان.. ما يذكرونه إلا قليل، وهو أصل علمهم كله هو، وددتُ أن الناس انتفعوا بعلمي هذا على أن لا ينسب إليّ حرف منه، رضي الله عنه.
"وكان ﷺ يقول: "اللهم لا يدركني زمان أو قال: لا تدركوا زمانًا لا يُتبع فيه العليم،.." " ما يأخذون برأي العالم ولا بقوله ولا ينصتون إليه "..لا يُتبع فيه العليم ولا يستحيا فيه من الحليم.." فإذا ذهب منهم حُسن الإنقياد وذهَبَ منهم الحياء فكما وصفهم: "..قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب." يضرب الله بعضهم ببعض، تكون فيهم فتن تدعُ الحليم حيران.
"وكان ﷺ يقول: "ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق : ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط"." فما يستخفّ بهم إلا منافق، فعلى قدر الإيمان يقوى إعظامهم وإكرامهم وإجلالهم، الشيبة وذو العلم والإمام المقسط، وعلى قدر النفاق يُستخفُّ بهم "ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق : ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط".
قال وكان عبد بن بشر يقول: لقد سمعت حديثاً منذ زمان "إذا كنت في قوم عشرين رجلاً أو أقل أو أكثر.." يعني: قريب من العشرين "..فتصفحت وجوههم فلم تر فيهم رجلاً يُهابََ في الله عزَّ وجل.." يُستحيا منه "..فاعلم أن الأمر قد رق." أي: الدين ضَعُف، ضَعُف دينهم. وهكذا إذا كان الأمة يجتمع منهم نحو العشرين ليس فيهم من يُستحيا منه؛ فقد ضاع الدين عليهم والعياذ بالله تبارك وتعالى. وكان في كل بيت من يُستحيا منه، ولا تجلس مجلس مع المؤمنين إلا وفيهم من يُستحيا منه، والآن ما عاده عشرين، عشرين وثلاثين وأربعين يعرفون الهيصات والشلّات ولا واحد يُستحيا منه! قال: "فقد تُودِّع منها" يقول، إذا قد رأيت الأمة هكذا يجتمع نحو العشرين ليس فيهم من يُستحيا منه فقد تُودِّع منهم، ذهب الخير عليهم، الله يكثّر فينا الأخيار والأبرار.
"وكان ﷺ يقول : "العلماء أمناء الرسل.." " في خلافتهم في الفقه عن الله وتبليغ العلم والدعوة مع القدوة "ما لم يخالطوا السلطان.." مخالطة طمع واتّباع له ومداهنة "..ويداخلوا الدنيا" رغبةً في زخرفها وفانياتها، فإذا كانوا كذلك فليس بأمناء لله ولا لِرُسله، وصاروا وزراء الشيطان؛ يتوصّل بهم إلى ما لا يَتوصّل إليه من دونهم في إفساد الناس وضرّهم.
"وكان ﷺ يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال: أن تكثر لهم الدنيا فيتحاسدون،.." " عليها ويتنافسون، قالوا هنا معدن ذهب وهنا منجم، وقالوا هنا آبار نفط وهنا … وكلٍّ يتحيّل عليها، هذا الذي خافه ﷺ على الأمة "..فيتحاسدون، وأن يفتح لهم الكتاب يأخذه المؤمن يبتغي تأويله.." يعني: يتجرأون على معاني كلام الله تعالى ويُؤَولونَه بغيرِ تأويله، ويتّبعون ما تشابه منه، فإذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله؛ فاحذروهم (..فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ..) [آل عمران:7]. قالوا وفي عصرنا أيضًا ظهر من يتجرأ على القرآن بأشدّ من ذلك؛ بأن يؤوِّلْ أي شيء كما يروق له وكما يُمليه عليه رأيه وفكره وقناعاته في عاداته أو حضارته أو بلدته ويريد يعسف القرآن له ويمشّيه عليه، ويقول: أنا قرآني وما هو إلّا شيطاني! أما أهل القرآن؛ فهم أهل الله وخاصّته، وأمّا هؤلاء.. فهؤلاء أهل الكذب وأهل الزيغ وأهل الهوى "مّن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".
وسُئل سيدنا أبو بكر ما هو الأبّ في قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس:31]؟ قال: لا أدري أيّ سماءٍ تظلنّي وأيّ أرضٍ تقلّني إن قلت في كتاب الله مالا أعلم! لا أدري فاسألوا عنها غيري. وهو الصدّيق، رفيق خير رفيق، رفيق حبيب الله من قَبل نزول الوحي عليه، ثمَ رافقه وقال عنه: (..إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..) [التوبة:40]، مع ذلك توقّف في كلمة؛ ولا رضي يُجيب فيها؛ أدبًا مع القرآن، "مّن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".
"..وأن يفتح لهم الكتاب يأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبَّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أولوا الألباب) [آل عمران:7]"، قال: "وإن يَرَوا ذا علم فيضيعونه، ويتألّبونَ عليه" يتألبون عليه ليس معناه يجتمعون للاستفادة، لا! يتألبون عليه: يؤذونه، يمكرون به، يذمّونه، فخاف على الأمة أن يظهر فيهم صاحب العلم التقّي؛ يضيّعونه، يشوفونه يقولك: هذا ما عاد ينفع الزمان هذا..الوقت هذا ما عاد ينفع!! "يتألبّون عليه".. يقولون: سيشغلنا هذاويردّنا للقرون الوسطى سيعمل فينا كذا وكذا…إنّا لله وإنّا إليه راجعون!! هذا الذي خافه ﷺ على الأمة، ووقع من الأمّة ما وقع، فقاله مقالة مُحذّر ومنذر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. كما جاء عن سيدنا أبوبكر الصديق أيضًا في المقابل يقول لكم: تقرأون هذه الآية وتُؤولونها غير تأويلها: (..يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ..) [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من قومٍ عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن يُنكر فلم يفعل إلا يوشك أن يعمّهم الله بعذابٍ من عنده" كما قال الله تعالى: (..وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً..) [الأنفال:25] تعمّهم كلهم. لا إله إلا الله!
يقول ﷺ: "يا أبا ثعلبة، مُر بالمعروف وانهَ عن المنكر فإذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوىً متّبعًا ودنيا مؤثَرة وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بنفسك ودَع عنك العوام" بيصلّحون فوضى ومظاهرات وصراعات ونزاعات..اتركهم.. أصلح حالك مع مولاك واستعد للرجوع إليه! "..دَع عنك العوام" ﷺ "وإن من ورائكم فتنًا كقطع الليل المظلم للمتمسّك فيها بمثل الذي أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: منهم يا رسول الله أم منّا؟ قال: بل منكم؛ لأنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون عليه أعوانا"، إذا قام بالخير للغير يقولون له: بتضيّع نفسك! ويستهزئون به، فللعامِل في ذاك الزمن أجر الخمسين من العاملين في القرن الأول، لا إله إلا الله، "..وإن يَرَوا ذا علمٍ فيضيّعونه ويتألّبون عليه" يعني: يجتمعون على الاستخفاف به وعلى إيذاءه.
وفي عددٍ من الأحوال والفترات والأوضاع في مختلف البلدان، في مختلف الأزمان، سيقَ العلماء إلى السجون وأوذوا وعُذّبوا وقُتلوا وسُحلوا وهكذا… مرّت مدة على أهل روسيا وكان فيهم الإلحاد، وغيّ كبير وراء احتقار الدين كله، دين الحق وحتى الأديان الباطلة ويقولون على الدين أنه: أفيون الشعوب، وقد قال لنا أهل الشيشان أن هذه البقعة كانت مطحنة العلماء! ما مطحنة العلماء؟ فيها طواحين يضعوا العلماء وسطها ويخرجون جثثهم إلى نهر قريب من المكان الذي رأيناه، ولكن ارتفع هذا، والآن بنوا فيها جامعة علمية لتعليم العلم، ولكن سنين وكم علماء عملوهم كذا وتحت دعوى التقدّم والتطوّر والتحرير ومصلحة الناس!! وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، حتى في ثوراتهم تلك كم قتلوا ألوفًا؟ عشرات بل مئات الألوف من العلماء والصلحاء، وهذا الفكر كله اضمحل وتلاشى وراح.. وأصبحوا الآن ثانيين، وزادت المساجد… فكل من يُعارض الحق فاشل، ولو كان يقول إنه أكبر قوة على ظهر الأرض، فهو فاشل ضعيف!
فيا ربّ ثبّتنا على الحق والهدى*** ويا ربّ اقبضنا على خير ملّةِ
وأصلح شؤوننا والمسلمين بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
24 شوّال 1444