شرح الموطأ - 303 - كتاب الطلاق: باب ما جاء في مُتْعَةِ الطَّلاَق

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق: باب مَا جَاءَ فِي مُتْعَةِ الطَّلاَقِ.
فجر الأحد 15 جمادى الأولى 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي مُتْعَةِ الطَّلاَقِ
1672 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ، فَمَتَّعَ بِوَلِيدَةٍ.
1673 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ، إِلاَّ الَّتِي تُطَلَّقُ وَقَدْ فُرِضَ لَهَا صَدَاقٌ، وَلَمْ تُمَسَّ، فَحَسْبُهَا نِصْفُ مَا فُرِضَ لَهَا.
1674 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ.
1675 - قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ مِثْلُ ذَلِكَ.
1676 - قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِلْمُتْعَةِ عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ، فِي قَلِيلِهَا وَلاَ كَثِيرِهَا.
نص الدرس مكتوب:
الحمدُ لله مُكرِمنا بشريعته، وبيانها على لسان عبده سيدنا مُحمدٍ الذي أحكم به تشييد بُنيانها، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُصطفى سيدنا مُحمّد، وعلى آله وأصحابه وأمّته التي به رفعت من شأنها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الفضائل في إسرارها وإعلانها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مَالِكْ -عليه رحمة الله تعالى- أحاديث متعلقة بالمتعة؛ وهي مالٌ يجب على الزوج أن يدفعه لامرأته التي فارقها في الحياة بطلاقٍ وما في معناه، فهذه المتعة المشار إليها في الآيات الكريمة (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) [البقرة:236-237].
فالمُتَّعة قال الأئمة الثلاثة؛ الحَنَفِية والشَّافعية والحَنَابِلَة: أن هذه المُتَّعة واجبة لمن طُلَّقت قبل الدخول بها إن لم يجب لها شطر المهر، فإن قد سُميَّ لها المهر فيلزم لها شطر المهر لقوله: (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) وقوله سبحانه وتعالى (إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ).
وكذلك قال الشَّافعية والحَنَابِلَة والحَنَفِية: أنه يلزم المُتَّعة على الزوج إذا فارق زوجته بأمرٍ راجعٍ إليه، ولم تكن هي السبب بأن لم تختلع، ولم تطلب الطلاق، ولم ترتدّ فَفُرِّق بينهما وليس بسببٍ من جهتها؛ بل من جهته هو، طلَّقها.. فلفجيعة الطلاق ينبغي أن يُسلّيها بشيءٍ من المتعة عند الطلاق، فهي واجبةٌ إذًا في هذه الحالات المذكورة.
-
فتجب إذا اطلقها قبل أن يدخل بها إن لم يُفرض لها مهر، (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).
-
على أنه أيضًا يجب لها عند الشَّافعية: نصف مهر المثلِ إذا لم يُسمَّ لها مهر، فيلزم لها نصف مهر المثل؛ كما أنه إذا سُمي لها مهر فيجب أن يدفع إليها نصف ذلك المُسمى لقوله تعالى: (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) [البقرة:237].
-
ويقول الحَنَفِية: أن المتعة تكون مُستحبّة إذا طُلَّق المدخول بها، فإنه بعد الدخول بها يثبت لها المهر، فيُستحب عندهم المتعة.
-
كما قال المَالِكْية أن المتعة مُطلقًا إنما هي مندوبة؛ تُندب المتعة لكل ُمطلَّقة طلاقًا بائنًا في نكاحٍ لازم؛ إلا المُختلعة المفروض لها صداق طُلِّقت قبل الدخول بها، فما يلزم ولا يُندب عندهم المتعة.
ما عدا ذلك فالمُتعة مندوبة عند المَالِكْية لكنها عند الأئمة الثلاثة واجبة في أكثر الحالات كما سمعنا الإشارة،
-
وأما إذا طلَّقها قبل الدخول بها وقد سمّى لها مهرًا فيلزم نصف ما سُمّي، ولهذا قال الحَنَفِية: لا تُستحب المتعة أيضًا لأنه قد فُرض لها نصف ما سُمّي لها فهو متعتها.
وإذًا؛ فهنا أنظارٌ واجتهاداتٌ للأئمة الشريعة فيما يتعلق بالمتعة، أورد لنا فيها هذه الأحاديث يقول: "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ"، تُماضر هذه، "فَمَتَّعَ" إياها "بِوَلِيدَةٍ"؛ أي: أعطاها أمة سوداء هدية لها متعةً لها عند طلاقها.
إذًا؛ فالمتعة تجب وهو ما يُتمتع به من المال قلَّ أو كَثُر إلا أن ينبغي أن يُراعى فيه حال هذا المُطلِّق، لقوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)[البقرة:236].
وقيل أيضًا يُعتبر مع حالهِ حالتها من حيث أن تكون ذات مكانةٍ أو باعتبار ما يكون لها من منزلة وإلى غير ذلك، فيُراعى ذلك في إخراج المِتعة، وما جاءنا نَصّ في تحديد مقدار المتعة، إنما يرجع الأمر إلى اعتبار حال الزوج في قوله تعالى (..عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ).
وتقدير القاضي للمتعة يعتبِر حال الزوجين معًا.
-
وقال الحَنَفِية: يعتبر حالهما من اليسار والإعسار كالنفقة.
-
وقالوا الحَنَفِية في المتعة: أنها درع وخمار وملحفة، لا تزيد على نصف مهر المثل.
-
وهكذا قالوا الحَنَفِية -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى- أنه إذا استوى في الحال الزوج والزوجة المُطلَّقة فالمُتعة تعتبر أقل من نصف المهر، ولا تنقص المُتعة عندهم عن خمسة دراهم.
-
وهكذا يقول الشَّافعية يُعتبر حالهما ما يليق بيساره ونحو نسبها وصفاتها المعتبرة في مهر المثل.
-
وقيل أنَّ العبرة بحالهِ فقط لظاهر الآية: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ)؛ أي: من الأزواج دون الزوجات (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ)، إلا أنه ينبغي أن لا تنقص المتعة في قول بعض الشَّافعية عن ثلاثين درهمًا أو ما يساويها، وكما يُسنّ أن لا تبلغ نصف مهر المثل.
-
وهكذا يقول المَالِكْية والحَنَابِلَة: المتعة مُعتبرة بحال الزوج المُطلِّق في يساره وإعساره كما دلّت الآية السابقة؛ وإنما النفقة أُعتبر في حالهما؛ لأنه ترجع إلى استعمال الزوجة.
وهكذا كما جاءنا أن سيدنا عبد الرحمن بن عوف متع امرأته حين طلقها بوليدة.
قال الحَنَابِلَة:
-
أعلى المتعة خادم إذا كان الزوج مُوسر، مثلما فعل عبدالرحمن بن عوف.
-
وأدناها قال له إذا كان فقير، كسوة تُجزئها في صلاتها، درع وخمار ونحو ذلك.
وهكذا يروى عن أبنُ عبّاسٍ: أعْلى المُتعَةِ خادِمٌ ثم دونَ ذلك النفَقَةُ ثم دونَ ذلك الكِسوَةُ. وجعلوا أقلها ما يُجزئها في الصَّلاة، يعني ما يستر بدنها كله إلا الوجه والكفين.
إذًا؛ فعند الحَنَفِية والشَّافعية: اعتبروا في تقدير المتعة -أي: تقدير القاضي للمتعة- حال الزوجين كلاهما، وقالوا: لا تزيد على نصف مهر المثل.
وهكذا عند الشَّافعية: ينبغي أن لا تنقص عن ثلاثين درهم أو ما يساويها، وألا تبلغ نصف مهر مثلها، وإن كان ذلك لا يَحرُم إذا زادت على نصف مهر المثل وما إلى ذلك.
واعتبر المَالِكْية والحَنَابِلَة حال الزوج الذي طلَّق فقط؛ لا حال الزوجة. وقالوا الحَنَابِلَة كما سمعت: أعلاها خادم إذا كان الزوج مُوسر، وأدناها إذا كان فقير: كسوة تُجزئها في الصَّلاة. فهذا الذي يتعلق بمقدار المتعة.
وأورد لنا: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ، إِلاَّ الَّتِي تُطَلَّقُ وَقَدْ فُرِضَ لَهَا صَدَاقٌ، وَلَمْ تُمَسَّ" لقوله (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة:236] فحسبُها نصف ما فُرِض لها.
"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ". "قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ مِثْلُ ذَلِكَ".
"قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِلْمُتْعَةِ عِنْدَنَا حَدٌّ"؛ فيجوز أن تزيد ويجوز أن تنقص، لا حدّ في جنسها ولا في قدرها.
ويقول الدَردير من المَالِكْية: نُدِبَ المتعة ما يعطيه الزوج ولو عبدًا لزوجته المُطلقة زيادةً على الصَدَاق، لجبر خاطرها على قدر حاله. ويتكلم كم يملك المملوك من الطلاق، فإن الحر يملك ثلاث طلقاتٍ، والمملوك يرث طلقتين، كما سيأتي معنا في هذه الأحاديث التي أوردها عن طلاق العبد.
رزقنا الله الاستقامة والصدق والإخلاص والإنابة، ووقانا الأسواء والأدواء في السِرّ والنجوى، و أصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين، ورقَّانا إلى أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين في خيرٍ وعافية وتمكين، بسر الفاتحة إلى حضرة النَّبي ﷺ.
18 جمادى الأول 1443