شرح الموطأ -150- كتاب الزكاة: باب عشور أهل الذمة

شرح الموطأ -150- كتاب الزكاة، باب عشور أهل الذمة، من حديث: (أن عمر بن الخطاب كان يأخذ مِن النَّبَط مِن الحِنطة والزَّيتِ نِصف العُشْرِ..)
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الزكاة، باب عشور أهل الذمة.

 فجر الثلاثاء 4 رجب 1442هـ.

باب عُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ

766 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ، مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكْثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَيَأْخُذُ مِنَ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ.

767 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ غُلاَماً عَامِلاً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكُنَّا نَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ الْعُشْرَ.

768 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ، عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ يَأْخُذُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ النَّبَطِ الْعُشْرَ، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ.

باب اشْتِرَاءِ الصَّدَقَةِ وَالْعَوْدِ فِيهَا

769 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ قَدْ أَضَاعَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "لاَ تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ".

770 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "لاَ تَبْتَعْهُ، وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ".

771 - قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ، عَنْ رَجُلٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَوَجَدَهَا مَعَ غَيْرِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ تُبَاعُ، أَيَشْتَرِيهَا ؟ فَقَالَ: تَرْكُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرمنا بشريعتهِ العظيمة البَيّنة، وبِبيانِ رسولهِ صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم الذي بيَّن الأمر على خيرِ الوجوه وأَحسنه. اللهم أدم صلواتك على عبدك المُصطفى مُحمَّدٍ، مَنْ جعلته لكل خيرٍ مَعدِنه، وعلى آلهِ وأصحابهِ ومَنْ سارَ على منهجهِ وطريقهِ المُستحسنة، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِنَ الأنبياءِ والمرسلينَ أهلِ المراتب العُلى، والوجهات الصادقة الحسنة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكةِ المُقربين، وعلى جميع عبادكَ الصَّالحين وعلينا معهُم وفيهم برجمتك يا أرحم الرَّاحمين.

وبعدُ،

 يواصل الإمام مَالِك -عليه رضوان الله تعالى- الأحاديثُ المُتعلقة بأَهْلِ الذِّمَّةِ، وتَقدَّم الكلامُ في الجِزيَة، ويتكلمُ عنْ هذا العشُور الذي يُؤخذ، والذي يُؤخذ في هذا التَّرتيب للشَّريعة الغَّراء مِن غيرِ المسلمينَ، فإنَّ المسلمينَ تؤخذُ منهم الزَّكاة وما ترتَبَ على أموالهم، وتَقدَّم معنا ما يُؤخذ مِنْ غيرِ المسلمين مِنَ الجِزيَة، وما يُشترط عليهم من إقراء ضيفٍ ونحو ذلك ممَّا تَقدَّم الكلام فيه.

 فإنَّ الجِزيَة كما ذكرنا في القرآن ثم في السُّنةِ الغَّراء، إذًا ثابتةٌ ومِنْ أهلِ العلمِ مَنْ قسمها إلى:

  •  الجِزيَة العْنوية التي تؤخذ على الكفار لإقرارِهم على الإقامة في البلد وحراستهم.
  •  ومنها الجِزيَة الصلحِيَة، التي تؤخذ بالصُّلح بيننا وبينهم وما يُسلمونه ليُكَفَّ عنهم ولا يُقاتلون.
  •  وأمَّا هذه العُشرية فهذه أيضًا تؤخذ عند الإمام مَالِكْ والإمام أبي حَِنيفَة ممَّا يتجرون فيه مِنَ المال في بلاد المسلمين، عُشُراً أو نصف عُشُر.

 قال الشَّافعية: إنما يرجع ذلك إلى رأي الإمام واجتهاده، وما يفرضه من العُشُر أو نِصف العُشُر أو أقل أو أكثر  فمرجعه إليه.

يتحدث الشيخ -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- فيما يُؤخذُ مِنَ العُشُر باختلاف الأشخاص الذين يؤخذون له، فيتكلم على عُشُور أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ 

  • فيقول الحَنَفِية والحنَابِلة: أنَّ الواجب في مال الذِميِّ نِصفُ العُشْر، لما جاء عن سيدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: يؤخذ ممَّا يمر به الذِميِّ نِصفُ العُشْر.
  •  ويقول المَالِكْية: أنه يلزم في مال الذِميِّ إذا اتجر العُشْر. 

وجاء عن سيدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أنهُ كان "يَأْخُذُ" في "الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ" وفي ما عداها العُشْر، وذلك أنَّ هؤلاء النَّبَطِ الذين يأتون بالبضائع مِنَ الشام، يوجدُ عندهم الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ،  ويوجد عندهم القطنيات التي أشرنا إليها مِنَ الحبوب والعدْس وغيرها، ولكن حاجة المسلمين في المدينة وحواليها إلى الْحِنْطَةِ وإلى الزَّيْتِ أكثر، فكانت مُرتكز أغذيتهم، فجعل فيها نِصف العُشْر، ليحملوا كثيرًا من هذه البضاعة، فصاروا يحملون كثيرًا منها إلى المدينة فتَرخُص، فيَرخُص الْحِنْطَةِ وَالزَّيْت، فيستقر حال النَّاس، وليس حاجتهم إلى بقية الحبوب كحاجتهم إلى هذا، فمهما غَلت لم يتضرّروا فخَفف في هذا الْحِنْطَةِ وَالزَّيْت مِنْ أجل تتوفر بكثرة وترخُص للمسلمين، فكان هذا مِنْ تدبيرهِ في قيامه بالإِمارة عليه رضوان الله تبارك وتعالى، ورعاية مصلحة المسلمين.

 ويؤذنُ لأَهْلِ الذِّمَّةِ، بل ولبعض الحربيّين مِنَ التُّجار أن يدخلوا إلى بلاد المسلمين، غَيْرَ الحِجَاز في مذهب أكثر أهل العلم، أما مكة فبالإجماع يَحرُم دخولهم إليها لا لغرض التجارة ولا لغيرها، وكذلك المدينة المُنورة ثُمّ بقية الحِجَاز، وقد أُمرنا بإجلائِهم عنها، وعن ما عُبِّر عنه بجزيرة العرب، وأن لا يبقى فيها دِينان؛ ولكن بعد ذلك فلاجتهاد العلماء نظر في جواز دخولهم إلى الأماكن المختلفة غير مكة المكرمة. 

ثُمَّ إذا دخلوا لأجل رسالة يؤدونها، أو لأجل تجارةٍ في مواد يحتاج إليها أهل البلد التي يدخلون إليها مِنَ المسلمين، فينبغي أن يُؤخذَ منهم العُشْر أو نِصْفَ الْعُشْرِ، أو ما يراهُ الإمام على مذهب الإمام الشَّافعي رضي الله تعالى عنه، لحصول التبادل المؤدي إلى تيسير المنفعةِ للكُل، فيرغب هؤلاء في كسب الأرباح، فيُؤخذُ منهم نصيبٌ ليكون لذوي الحاجة، والفقر والمسكنة، ويُوضع في موضعه، فيُؤخذُ العُشْر أو نِصْفَ الْعُشْرِ بحسب اجتهاد الإمام، ويُؤخذُ في السَّنة مرة. وقد تقدم معنا الخلاف، هل إذا كل ما مروا بنصيبٍ من التجارة يؤخذ الْعُشْر، أو لابُدَّ مِنْ أن لا يكون في السَّنة إلا مرة واحدة، وكذلك هل لابُدَّ أن يبلغ النِصاب مئتي درهم فضة، أو يكفي أن يكون أقل من ذلك كما هو مذهب الإمام مَالِكْ رضي الله تبارك وتعالى عنه.

  • فمذهب مالك: أنَّ الطعام الذي يخضع لهذا التخفيف إلى نِصْفَ الْعُشْر، الْحِنْطَة وَالزَّيْت، بل المُقرر في مذهبه بعد ذلك كلُ المُقتات، ومع قولهم أنَّه في بقية الأطعمة يؤخذ مِنْ مال الذِّمَّي الْعُشْر كاملًا.
  •  وعلمت مذهب الحَنَفِية والحَنابِلَة أنه نصف العشر.
  •  وأن مذهب الإمام الشَّافعي أن ذلك راجع إلى تجتهاد الإمام، ونظره في الأمر، ليستقرَ الأمر في توفير الحاجاتِ للمسلمين ولو على أيدي أَهْلِ الذِّمَّةِ أو الحَربيين مِنَ الكفار، في ضوابطَ تُحمى وتُحرس فيها الأعراضُ، والأموالُ، والِّدماء، والقِيَم، والأخلاق، ولا يُفسح فيها لفتحِ الثغرات فيما يضرُ بالخُلُقِ، ولا بالسلوكِ، ولا بالإعتقاد.

 وقد اتخذَ جماعةٌ مِن أهلِ الكفر خصوصًا في أزمنتنا، التبادل للمنافعِ المادية، وسيلةً وملازماً للنيل مِنَ الشَّرع أو الهديِّ أو الُخلق -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وبذلك أفسدوا كثيرًا مِمن أطاعهم مِنَ المسلمين، وخيَّلوا إلى الكثير أنه لا يتم تبادل هذه المصالح المادية إلا مع التخلّي عن قيم، أو التخلّي عن أحكام شريعة وما إلى ما ذلك، فوقعوا فيما وقعوا فيهِ من الزيغِ والضَّلال، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ)[يونس:32] ولكنَّ الشَّريعة جاءتنا بالهُدى البَيِّن الواضح، ورتبتْ التَّعامل حتى مع الحربيِّ الكافر، في تجارةٍ بما لا يمسُ الخُلقَ ولا القِيم ولا المُثل، ويُفسح له المجالُ أن يأخذ ربحًا ماديًا، دون أن يتطرّق ذلك إلى تدخّله في فكرنا، ولا في أخلاقنا وقيمنا؛ بل ومع خضوعهِ لعمومِ أمر الشَّريعة في ديارنا وبلداننا. والله يُحيي ما مات مِن حقائق الإيمان والعمل الصَّالح في المؤمنين، ويردْ عليهم ما فات عليهم مِنْ هذا الخيرِ الثمين.

 وذكر لنا حديث "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ"؛ كفار أهل الشام الذين عَقَد لهم الذِّمَّةِ، "يَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ، مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ"؛ يُخفّف عليهم في هاتين لحاجة المُسلمين إليها، "يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكْثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ" مِن هاتين البِضاعتين، "وَيَأْخُذُ مِنَ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ" الحبوب التي تَقطُن في النَّاس ويُدّخرونها في بيوتهم غير الْحِنْطَةِ فيأخذ العُشْر كاملة. وجاء: أنه قِيلَ لسيدنا عُمَر: كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم إذا دخلتم عليهم؟ قالوا: العُشْر، قال: فكذلك خذوا منهم.

كما جاء أيضًا عن بعض أصحاب النبي ﷺ  قيل: لمَ كنتم تأخذون العُشْر مِنْ مُشركيّ العرب؟ قال: لأنهم كانوا يأخذون منا العُشْر إذا دخلنا عليهم، إذا دخلنا إليهم بتجارتنا يأخذون علينا العُشْر، فإذا جاؤوا إلى عندنا بتجارة أخذنا عليهم العُشْر. وكذلك ذلك الحَربيّ الذي يدخل بأمان لأجل تجارةٍ أو لأجل طبٍّ ونحوِ ذلك ممَّا يحتاج إليه المسلمون، إذا دخل بأمان حكمه حكم الذِّمَّيِّ. وهكذا إذا دخلوا في  نقلِ مِيرة بالنَّاس إليها حاجة، أُذِنَ لهم بالدخول ِلمَا يترتب عليه مِنَ النَّفع، وفِهمتَ قول الشَّافعي أنَّ أخذَ الشيء مقابل ذلك عليهم راجعٌ إلى إجتهاد الإمام.

 وذكر: "عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ غُلاَماً عَامِلاً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكُنَّا نَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ الْعُشْرَ" وأرادَ الإستدلالَ بهذا لأن سيدنا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كان يمضي في أحكامهِ على مَرأىَ مِنَ الصَّحبِ الكرام، وكثيرًا ما كان يستشيرُ أهلَ العِلم والرأي منهم، فكان عامةُ ما يبرزهُ مِنَ المسائل يقوم عليها الإجماع بين الصَّحابة، فكان الاستدلال بذلك. و"قَالَ: كُنْتُ غُلاَماً عَامِلاً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكُنَّا نَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ الْعُشْرَ"  وما كان يفعل في زمانِ عُمَر كانَ بمشورة من الصَّحابة غالبًا، فإذا لم يثبُت فيه الخلاف، ولم يظهر، فهو إجماع، فلِذلك كانوا يستدِلون بما كانوا يصنعون أيام عُمَر.

 وقال: "حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ، عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ يَأْخُذُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ النَّبَطِ الْعُشْرَ، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ"؛ أيّ: وكانَ بمحضرٍ مِنَ الصَّحابة ولم يُخالفهُ أحد، فهو داخل في الإجماع السّكوتي، 

  • فأَهْلُ الذِّمَّةِ هم: غير المسلمين مِنَ اليهود والنَّصارى والمجوسَ، الذين يقيمون في دار الإسلام بموجب عقد الذِّمَّةِ، فإذا أنتقلَ الذِّمَّيُّ بتجارتهِ مِنْ بلدٍ إلى بلد فكما سمعت:
    • يقول الحنفِية: على الذِّمَّيُّ إذا أتجر نِصْفُ الْعُشْرِ، يؤديه في العام مرة، كما أنَّ على المسلم زكَاة يؤديها وهي رُبْعُ الْعُشْرِ في السنة مرة.
    • ويقول المالكية: يؤخذ الْعُشْرِ مِنْ هؤلاء.
    • وقال الشافعية: أنَّ الواجب عليهم هي الجِزية التي فُرضت، وأمّا ما يتناقلون فيه من الأموال فمرجِعه إلى الإمام، ولا يلزمهم بعد ذلك شيء ما داموا وسط بلاد الإسلام؛ إلا أن يشترط عليهم الإمام شيء.
    • يقول الحنابلة: الذي يمضي ويَجوز مِنْ بلده، بلد المسلمين من أَهْلِ الذِّمَّةِ  عليه أن يؤخذ منه نِصْفُ الْعُشْرِ في كل سنة.

 

باب اشْتِرَاءِ الصَّدَقَةِ وَالْعَوْدِ فِيهَا

 

ثُمَّ ذكر لنا استحسان التَّنزه عن أن يعودَ الإنسان في صدقةٍ إذا تصدّق بشيء، فلا ينبغي أن يعود إليه بأي وجه من الوجوه، وذلك مكروهٌ عند الجمهور، 

  • وقيل بحُرمَته 
  • وجماهير أهل العلم على أنَّ ذلك مكروه وأنَّه ﷺ أستقذره وقذَّره للسائل.

 وأوردَ لنا حديثَ سيدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أنَّهُ قال: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ يعني: أعطاه رجلًا يُجاهد عليه في سبيل الله، فأخذ الرجل ذلك الفرس، فغزى عليه بعض الغزوات ثمَّ أهمله وتركه، جاء في بعض الروايات أنّه كان فقير، فأضرَّ بهِ أضاعه من حيث أنه لا يُحسن النفقة عليه، فأرادَ أن يبيعهُ وذلك أنَّه قد مَلّكه بتمليك سيدنا عُمَر له إياه، لأجل الجهاد في سبيل الله، فيلزمه أن يُجاهد فيه ثُمَّ يكونُ مُلكه، ولم يكن ذلك الفرسُ موقوفًا مُحبَسًا في سبيل الله، فلا يجوز أن يُبْتاع ولا أن يُشترى؛ ولكن كان ذلك تَمليكًا له من أجل أن يُجاهد عليه، فجاهد عليه ثم ضَعُفَ عن القيام بنفقتهِ والإحسان إليه.

 قال: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ"؛ يعني: كريم سابق، فالسابق مِنَ الخيل يُقال له عاتْق، أو يقال له عَتَاق، وعاتِق، وعتيق، ويُقال له أيضًا: الفائق مِنْ كلِ شيء، عتيق؛ كما يُطلق على القديم، العتيق، والمراد بالعتيقِ مِنَ الفرس، الكريم السابق، "وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ" الذي حملهُ عليه، وقد جاهد عليه مدة، "قَدْ أَضَاعَهُ"؛ لم يُحسن القيام عليه، بل كان عاجزًا عن توفير النفقة لهُ فأضرَّ بهِ ولذلك قال أضاعه، "فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ"؛ لأنه عرضهُ للبيع، "وَظَنَنْتُ، أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ" لتغيّر الفرس وإضاعته، أو لأنه حان الرُّخص وقت السوق، أو لكونه سيراعيهِ لأنه هو الذي أعطاه الفرس، فسينقصُ له في السّعر لهذا قال: "وَظَنَنْتُ، أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ "؛ يعني: إشترائه مِنْ هذا الرجل الذي أعطيته إياه، "رَسُولَ اللَّهِ ﷺ"  سألته، "فَقَالَ: لاَ تَشْتَرِهِ" وفي لفظٍ: "لا تَبتعهُ"، "وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ" مبالغة في الرُّخص، إذا كانَ يحملكُ على شراء الرُّخص ولو بدرهمٍ واحد سيُعطيك؛ لا تشتره.

  • فقال الأكثرونَ: أَّنه مكروهٌ كراهة تنزيه، لكونه قبيحٌ أن يرجع بشيءٍ تصدَّق به ثمَّ يرجع يشتريه، و المُتصَدَّق عليه يسامح المُتصَدِّق في الثمن، بسبب تقدّم إحسانه إليه، فيكون كالعائد في صدَقته في المقدار الذي سومِحَ فيه، فهذا النهيٌّ نهيُّ تنزيه.
  • قال بعض أهل العلم: تحريم، فلا يجوز
  •  كما قال الظَّاهرية: لا يجوز أن يعود في صدقتهِ، ولا في هبته.

 ولو انتقل مِنَ المُتَصدَّق عليه إلى ثالث؟ 

فقد اختلفوا في ذلك، فيقول: يُكرهُ لمن تصدَّق بشيءٍ أن يشتريه لِمنْ دفعه هو إليه، أما إذا ورثهُ تنتَفي الكراهة، دفعهُ إلى قريب له وبعد ذلك مات، انتقل إليه بالإرث، هذا ليس فيه كراهة، أو انتقل مِنَ الذي دفعه إليه إلى ثالث، ثمَّ الثالث أراد أن يبيعه فتخف الكراهة أو تسقط في هذا، فهذا هو مذهب الجمهُورِ مِنَ العُلماء.

  • وقال جماعة: أن النهيَّ للتَّحريم فلا يجوز شراؤه، وقد تصدَّق به. 

 وفي الحديث: "العائد في هِبته كالعائد في قيئه"، كما عندك يقول: "وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ"؛ أي: أمر مُستقذرٌ لا ينبغي، والذين حملوه على الحُرمة لذلك، أجابوا عليهم أنّهُ ما يُوصف فِعلُ الكلب بالتَّحريم لأنه غير مُكلف، الكلب غير مُكلف إنما أمرٌ مُستقذر تستقذره الطِّباع، كذلك كرهه ﷺ أن يعود في شيءٍ قد تصدَّق به.

 يقولون: وإنما نهاه ليحصل فيه انقطاعٌ بالكُلية، ولا تبقَ النّفس مشرفةٌ إليها بعد التصدّق بها، فإذا اشترى صدقته لم يُفسخ بَيعه، وأولى به التَّنزّه عنه. ورخَّص في شراء الصدقة الحسن البصري وعِكرمة وربيعة والأوزاعي.

"فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ" كما يَقبُح أن يقيءَ ثُمَّ يأكل من قيئه، كذلك يَقبُح أن يتصدَّق بشيءٍ ثم يجرّه إلى نفسه! وأما رجوعهُ في الصَّدقة بعد إخراجها وقبضها، فلا يجوز بالاتفاق؛ لا يجوز أن يرجع في صدقته بعد أن تَصدَّق بها وقبضها المُتَّصدِّق عليه، ويُكره أن يشتريها منه.

"وعَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: لاَ تَبْتَعْهُ، وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ" وهذا أيضًا في الصَّحيحين، جاء هذا الحديث، وهو نهيّ النَّبيِّ ﷺ سَيدنا عُمَر أن يعود في صدقته، ولو بالشراء، والحَمل على الفرس إما أن تهبه لأحد يغزو عليه، وإما أن تَحبسهُ وقفًا لوجه الله تبارك وتعالى، فإذا حبسه صار لا يُباع، ولا يُوهب. أو يتصدَّق به على غيره لوجه الله، أو يهبهُ له هدية كذلك. "حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ" يعني أعطاه لرجلٍ ليُجاهد عليه، فمَلَّكه ذلك الرجل.

"قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ، عَنْ رَجُلٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَوَجَدَهَا مَعَ غَيْرِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ تُبَاعُ، أَيَشْتَرِيهَا؟ فَقَالَ: تَرْكُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ" يعني: وإن كان مِنْ غيرِ نَفسْ الذي تصدَّق عليه، على خلافٍ فيه ذكرهُ الإمام النَّووي وغيره، إذا كانَ قد انتقلت إلى يدٍ ثالثة. وفيه أيضًا معنى التربيةَ التي أشار إليها بعضُ أهلِ العِلْم من أن تبقى نفسهُ شريفة عن شيءٍ أخرجهُ لوجه الله؛ فلا يلتفت إليه أصلا، وفي ذلك جاء في هدي الصَّحابة الكرام أنَّ المُهاجرين منهم كانوا إذا دخل مكةَ لعُمرةٍ ونحوها، أو لحجٍ، إذا مرَّ بالبيت الذي كان فيه قبل الهجرة يلوي رأسه فلا ينظر إليه، وقال قد تركناه لله! فلا يلتفت حتى بالنظر، فإذا مرَّ تحت داره الذي كان يسكنه قبل الهجرة يلوي برأسه ولا يلتفت إليه أصلًا، ِلمَا استقّرَ في قلوبهم من طلبِ وجه الله بترك هذا لله جلَّ جلالهُ، عليهم رضوان الله، ونِعمَ المُربي مُربيهم، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبهِ وسلم.

 فهذا الكلام في الشراء، وأما الرجوع فكما ذكرنا أنه متفق الأئمة أنه إذا قد تصدَّق فأمسكَ المُتصدّق عليه الصدقة لا يجوز له الرجوع فيه، ثبتت، وأما الشراء فهو مكروه كما تقدم، والله أعلم. 

رزقنا الله الإستقامة وحُسنَ الخُلق، ورَزقنا حُسن النظر فيما يُرضيه عنَّا، ورزقنا حُسن البذل له وفي سبيله، موفّقين لكمَال الإخلاص لوجهه، وكمَال الرِّضى عنه، وطِيب النفس في كل ما تُؤتي لوجه الله، وأن لا تتشوّفَ إلى شيءٍ تشوّفًا ينقص عند الله ثوابها، أو يحطّ مقدارها، ويجعل نفوسنا مُزكاة، ُمنقّاة، طاهرة، مُقبلة على الله بالكُلية، مقبولة لديه بأتمِّ القبول في عافية، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

07 رَجب 1442

تاريخ النشر الميلادي

18 فبراير 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام