شرح الموطأ -149- كتاب الزكاة: باب جزية أهل الكتاب والمجوس

شرح الموطأ -149- باب جزية أهل الكتاب والمجوس، من حديث ابن شهاب، قال: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية مِن مَجُوس البحرين..)
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس.

فجر الإثنين 3 رجب 1442هـ.

 باب جِزْيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ

758 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : بَلَغَنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسَ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنَ الْبَرْبَرِ.

759 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ : مَا أَدْرِى كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ".

760 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ: أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً، مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.

761 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ، فَقَالَ عُمَرُ: ادْفَعْهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، قَالَ: فَقُلْتُ وَهِيَ عَمْيَاءُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَقْطُرُونَهَا بِالإِبِلِ. قَالَ: فَقُلْتُ كَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الأَرْضِ؟ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: أَمِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ هِيَ؟ أَمْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ؟ فَقُلْتُ: بَلْ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا. فَقُلْتُ: إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ. فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَنُحِرَتْ، وَكَانَ عِنْدَهُ صِحَافٌ تِسْعٌ، فَلاَ تَكُونُ فَاكِهَةٌ وَلاَ طُرَيْفَةٌ إِلاَّ جَعَلَ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ, فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، وَيَكُونُ الَّذِي يَبْعَثُ بِهِ إِلَى حَفْصَةَ ابْنَتِهِ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ كَانَ فِي حَظِّ حَفْصَةَ، قَالَ: فَجَعَلَ فِي تِلْكَ الصِّحَافِ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَمَرَ بِمَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ فَصُنِعَ، فَدَعَا عَلَيْهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ.

762 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى أَنْ تُؤْخَذَ النَّعَمُ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ إِلاَّ فِي جِزْيَتِهِمْ.

763 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَضَعُوا الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ حِينَ يُسْلِمُونَ.

764 - قَالَ مَالِكٌ: مَضَتِ السُّنَّةُ، أَنْ لاَ جِزْيَةَ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلاَ عَلَى صِبْيَانِهِمْ، وَأَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُؤْخَذُ إِلاَّ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ قَدْ بَلَغُوا الْحُلُمَ.

765 - قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلاَ عَلَى الْمَجُوسِ فِي نَخِيلِهِمْ وَلاَ كُرُومِهِمْ وَلاَ زُرُوعِهِمْ وَلاَ مَوَاشِيهِمْ صَدَقَةٌ، لأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، تَطْهِيراً لَهُمْ، وَرَدًّا عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَوُضِعَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ صَغَاراً لَهُمْ، فَهُمْ مَا كَانُوا بِبَلَدِهِمُ الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَيْهِ، لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ سِوَى الْجِزْيَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِلاَّ أَنْ يَتَّجِرُوا فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَخْتَلِفُوا فِيهَا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْعُشْرُ فِيمَا يُدِيرُونَ مِنَ التِّجَارَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، وَصَالَحُوا عَلَيْهَا، عَلَى أَنْ يُقَرُّوا بِبِلاَدِهِمْ، وَيُقَاتَلَ عَنْهُمْ عَدُوُّهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنْ بِلاَدِهِ إِلَى غَيْرِهَا يَتْجُرُ إِلَيْهَا، فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، مَنْ تَجَرَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَوِ الْيَمَنِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْبِلاَدِ، فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، وَلاَ صَدَقَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلاَ الْمَجُوسِ فِي شَىْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلاَ مِنْ مَوَاشِيهِمْ، وَلاَ ثِمَارِهِمْ، وَلاَ زُرُوعِهِمْ، مَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ، وَيُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِرَاراً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِمْ كُلَّمَا اخْتَلَفُوا الْعُشْرُ، لأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا صَالَحُوا عَلَيْهِ، وَلاَ مِمَّا شُرِطَ لَهُمْ، وَهَذَا الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بالشريعة الغَرَّاء، وبيانها على يد ولسان خير الوَرَى، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه الكُبَرَاء، وعلى من والاهم في الله ومَشى على مِنهاجهِم سرًّا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين أعلى الذَرَّى وعلى آلهٍم وصحبهِم وتابعيهم والملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ،

 فيتحدث الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- عن جٍزية أهلِ الكتاب والمجوس وعقد هذا الباب فيما جاءت به الشريعة الغَرَّاء، في ترتيب أوضاع الناس على ظهر الأرض، وكيفية التعايش بينهم، والرعاية العامة للكُليّات من النفوس والدماء، ومن الأعَراض ومن الأموال ومن العقول ومن بسط حكم الدين الحق على الدين كله.

فجعل الحق -سبحانه وتعالى- وجوب البلاغِ على النبي المصطفى ﷺ، وقيامه ومن آمن معه بحسن التنفيذ والتطبيق لأمرِ الله على ظهر الأرض، وخطابهم جميع أجناس المكلفين على ظهر الأرض، بدعوتِهم إلى الله -سبحانه وتعالى- والأخذ بما بعث بهِ رسوله المصطفى ﷺ.

والناس بعد ذلك:

  •  ما بين مُحاَرب مقاتل صادٍ عن سبيل الله، لا يقبل الدعوة ولا يقبل أن ينشرها أهلها في الربوع والناس.
  •  وما بين من يُصالح المسلمين أو يعاهدهم، أو يدفع الجِزية مقابل سكن في بلاد المسلمين وحمايةً للدماء والأعراض والأموال.
  •  وما بين مُؤمَّنٍ، إما أفراد من الأفراد وإما جماعةٌ من إمام المسلمين.

 وهكذا تأتي المراتب في هذا التعامل البديع الحسن الجميل، الذي لا أجمل منه ولا أصوب ولا أطيب ولا أحسن للبشرية.

فذكر جزية أهل الكتاب والمجوس،

  • وأهل الكتاب: من تعلقوا بِكُتُب من كتب الله المنزلة على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- واشتهر في الأوساطِ من القرون الأولى أنهم اليهود والنصارى، والمراد: من بقي لهم إنتماءٌ إلى كتابٍ من كتب الله المُنزلة، فهم على العموم يؤمنون بالآخرةِ، ومن المعلوم ما وقعوا فيه من ضلال ومن انحراف ومن كفرٍ بتكذيبهم للنبيّ محمد ﷺ، الموجب ذلك الكفر لخلودهم في النار، لكل من مات منهم على ذلك الكفر، قال تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ)[البينة:6]

ومع ذلك فقد شرع -الحق تعالى- حسن التعامل والتعايش والكفّ عن الدماء والأموال والأعراض لكل من لم يعتدِ ولم يصدّ عن سبيل الله ويمنع القيام بالدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، وأن يعيش الناس في هذه الحياة الدنيا بما يمكن من أمنٍ ومن سكينةٍ وطمأنينة، حتى يقضي كُلًّا نحبه ويلقى ربّه فيجازيهم بما عملوا. نسأل الله الثبات على الحق والهدى وكمال حسن الخاتمة، وأن يجعلنا من أهل جنته وداخلها والساكنين في أعاليها من غير سابقة عذاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب. 

يقول: "باب جِزْيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ"؛ 

  • الجِزية: الذي يؤخذ منهم مقابل حمايتهم أو حراستهم وإقامتهم في بلداننا، 

فالجِزية -التي على وزن لحية، وتجمع على جزاء مثل لِحَاء- 

  • تطلق أيضا على خَراج الأرض وعلى الجزاء، فهي مُجازاةٌ على إسكانهم في ديارنا، وعصمتنا دماؤهم و أموالهم وعيالهم وما إلى ذلك
  •  وقيل أنها أيضًا مشتقة من جزاء يجزي بمعنى قضاء يقضي، فقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)[البقرة:48].

إذًا، تعريف الجزية في الشرع: 

  • الحنفية والمالكية: أن الجِزية اسم لما يؤخذ من أهل الذِمّة، فهو عام يشمل كل الجِزية.
  • ويقول بعض الشافعية: المال المأخوذ بالتراضي لإسكاننا إياهم في ديارنا، والحقن لدمائهم وذراريهم وأموالهم، والكف عن قتالهم.
  • وهكذا يقول الحنابلة: أن الجِزية مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلًا عن القتال، والسماح بإقامتهِم بدارنا.

الأصل فيها قوله -سبحانه وتعالى-: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)[التوبة:9] ومعنى: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) كما جاء عن الإمام الشافعي وغيره في التفسير:

  •  أنهم خاضعون لأحكام الإسلام؛ هذا معنى صغارهم لا يتجاهرون ولا يتظاهرون بما يخالف أمر الشريعة والدين
  • ويحتكمون  إذا احتكموا إلى أمر الله سبحانه وتعالى
  • ولا يخرجون عن الدين والعرف الذي أقره الدين حيثما كانوا، بمعنى لا يكونون مصدر فوضى ولا قلق ولا مشاكل ولا إثارات ولا تحدٍّ ولا باب فتنةٍ وخديعةٍ وغرور للمسلمين؛ هذا معناه.

 (..حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) أي: ملتزمون للحكم وغير متجاهلين ولا متظاهرين بما يخالفُ أمر الشريعة، ولا عاملين بما يتناقضُ مع الشرع والعرف الذي أقرّه الشرع في البلد التي هم فيها، (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

وعلمنا أنها يُراد منها ما يؤخذ من الذِمّي، ويُقال فيها: جِزية وجِزاء كلِحية ولِحاء، وتطلق على العقد وعلى المال الذي يؤخذ بذلك العقد، وجعل لها بعضهم اشتقاق من جزأتُ بمعنى: قسمت الشيء. 

ويذكر -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- المجوس مع أهل الكتاب لما يأتي عندنا في الحديث فيما حُفِظَ عن النبي ﷺ في أنه سَنّ بِهم سنةً أهل الكتاب، فالظاهرون بأهل الكتاب: اليهود والنصارى؛ هؤلاء ينتمون للتوراة، وهؤلاء يؤمنون بالإنجيل، والمؤمنون يؤمنون بالتوراة والإنجيل المنزلة على سيدنا موسى وعلى سيدنا عيسى كما أنزلها الله -تبارك وتعالى-، ويكفرون بما بدّلوا وغيّروا وحرّفوا فيها، إنما نؤمن بجميع كتب الله المنزلة كما أنزلها الله على أنبيائه فهي حقٌّ وصدق وذلك من أركان الإيمان عندنا، وأما ما غيّروه وبدّلوه وحرّفوه عن مواضعه، فذلك من باطلهِم وضلالهم ليس من كلام الله، وليس من الكتب المنزلة على أنبياء الله -صلوات الله وسلامه عليهم-، وخلطوا وخبطوا… فبقي شيء من الكلام المنزل وأضيف إليه كثير من كلام المتجرئين منهم على رُسل الله، وعلى كتاب الله -تبارك وتعالى- يغيّرونه ويبدّلونه ويحرّفونه عن مواضعه (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) [البقرة:130] .

  • قال الحنفية: تؤخذ من مَجوس العجم دون مَجوس العرب.
    • وفي رواية عنهم حكاها الطحاوي: تؤخذ من أهل الكتاب ومن جميع كفار العجم ولا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام، أو السيف عند الإمام أبي حنيفة لقوة الحجة عليهم بظهور النبي فيهم، ووضوح كلامه والقرآن المنزل عليه بلسانهم.
  •  وعند الإمام مالك: تقبل الجِزية من جميع الكفار إلا المرتد، كل أصناف الكفر تُقبل منهم الجِزية غير المرتد.
  •  والذي عليه الشافعية والحنابلة: أنها إنما تقبل من أهل الكتاب بخصوصهم، ومن سُنّ بِهم سنّتهم كالمجوس فيما جاء كما نقرأ في هذا الباب.

وهل المجوس لهم كتابَ أو ليس لهم كتاب؟ فاختلفوا في ذلك، ولم يفرّق الإمام الشافعي بين أهل كتاب أن يكونوا عربًا أو عجمًا، وكذلك المجوس، ولا فرق بين أن يكونوا عربًا أو عجمًا عند الشافعية، فهم على اختلاف طوائفهم من يهود ونصارى ومن لم شبهة كتاب كالمَجوس يقبل منهم الجِزية، بما ذكر الحقّ -جل جلاله وتعالى في علاه-، وإنما يعقدها الإمام.

ولم يكن سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقبل يأخذ الجِزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أنه ﷺ أخذها من مجوس هَجر، وجاء عن سيدنا عمر أنهُ قال: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِى كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ:" لشهدتُ أو "أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ".

 وهذا فيما يتعلق بالجِزية، أما ذبائحهم فلا تحلّ لنا ولا نساؤهم كذلك، وإنما ورد النص في أن: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ" فيما يتعلق بالجِزية، فلما أُخبِر سيدنا عمر بذلك وقَبِلَ منهم صار ذلك محل إجماع بعد ذلك في أخذ الجِزية من اليهود والنصارى ومن المجوس. 

أورد لنا عن ابن شهاب قال: "بَلَغَنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ"، وقد جاء في صحيح البخاري ما يُشير إلى ذلك، "وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسَ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنَ الْبَرْبَرِ"؛ قَوم من أهل المغرب؛ يشبهون الأعراب في أرض المشرق من جهة الغرب، قبائل منهم في جبال المغرب من باديتها يسمون: البَربَر. 

وأورد لنا "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِى كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ"، وجاء في رواية عند الطبراني: "سُنُّوا بالمَجُوس سنة أهل الكتاب"، فجاء أخذ الجِزية من المَجُوس في عدة أحاديث، وجاءت في روايات عن الإمام أحمد بن حنبل والإمام البخاري والإمام أبي داود والإمام الترمذي، لما شَهد سيدنا عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذ من مجوس هجر، قضى بذلك سيدنا عمر فصارت محل اتفاق بين العلماء.

فقوله: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ"

  •  قالوا: أنه من الكلام العام الذي أريد به الخاص؛ أنه في أخذ الجِزية فقط .
  • ويقول الإمام مالك وأبو حنيفة: أنهم ليسوا أهل كتاب أصلا، وهذا في قولٍ للشافعي.
  • والقول الآخر: أن لهم أصل كتاب من الكتب المنزلة على الأنبياء، وحصل لهم ما حصل لحمَلة الكتب من قبلنا من التحريف والتَغيير والتَبديل.

قال: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ: أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً"؛ أي: قَدّرها على أهل الذهب أربعة دنانير في كل سنة، يعني على الفرد منهم؛ وهو البالغ منهم، "وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ"؛ أي: الفضة "أَرْبَعِينَ دِرْهَماً" في كل سنة، وهي مساوية للأربعة الدنانير في صرف ذلك الوقت.

  • قال الإمام مالك: لا يُزاد عليه ولا يُنقص، إلا من ضَعُف عن ذلك يُخفّف عنه الإمام بقدر ما يراه.
  •  قال الشافعي: إن أقلها دينار ولا حَدّ لأكثرها.
  •  وهكذا جاء في رواية الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد في مذهبيهم: 
    • إن أقلها على الفقراء وأهل العمل: اثنا عشر درهم أو دينار.
    •  وعلى أوساط الناس: أربع وعشرين درهم أو ديناران.
    •  وعلى الأغنياء: ثمانية وأربعون درهم أو أربعة دنانير.

وذلك أن صرف الدينار في ذلك الوقت صار اثنا عشر درهم، بدل ما كان قبل عشرة دراهم، صار في وقت الإمام أبي حنيفة صرف الدينار اثنا عشر درهم، فجعلوا على الدينار، والزيادة إذا راجعة إلى نظر الإمام لمن كانوا قادرين على أن يدفعوا أكثر. 

  • وعلمت ما جاء عن المالكية: أنه لا يُزاد ولا ينقص. 
  • وعلمت ما قال الجمهور: إن أقلها دينار ويمكن الزيادة عليه. 
  • وقال المالكية: أربعة دنانير أو أربعين درهم لا تزيد ولا تنقص. 

يقول: "مَعَ ذَلِكَ"؛ أي: متضمّن مع ما ذُكِر "أأَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ" يعني: رفد أبناء السبيل المارّين بهم، أو من كان عندهم من جنود المسلمين إذا كانوا على ثغر من الثغور، " وَضِيَافَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ"  للمُجتازين بهم؛ يعني: ما كان هناك نظام المطاعم ولا الفنادق هذه، ولكن يقول: كل أهل منطقة يحملون الذي يمر بهم، وكانوا يتَسارعون الناس إلى ذلك بحكم الفطرة، وأقرّ الدين هذه المكارم، فصار الناس بعد ذلك عندما ادّعوا التقدم والتطور إنما يتخذون مَجيء الغُرباء مكسبًا يكتسبون منهم! وكان السابقون يجعلون أهل كل منطقة أو مكان يمر بهم الناس الغرباء أن عليهم أن يكرموهم وأن يضيّفوهم وأن يقوموا بحقهم وكانوا يتسابقون إلى ذلك، فلما جاء التطوّر الحديث… كما هو الحال في الحجاج، كان الحجاج والعُمّار وفد الله ووفد رسوله يذهبون، وكل من كان مُقيمًا بمكة من أي أصل من البقاع يتعرّض للذين يجيئون من بقعته، وأنهم من موطن أجداده ويكرمهم ويقريهم، وبذلك سمّوهم المطوّفون.

وكانوا إلى عهدٍ قريب بمكة قبل هذه التي سمّوها تطورات، من كان مستطيعًا يبذل من ماله ولا يأخذ من الوافدين للحج والعمرة شيء، بل يُكرمهم من عنده، ومن كان ليس معه شيء فيأخذ مقدار ما يُنفق عليهم وما يعجز عنه ويفرح بتقديم ما يستطيعه بعد ذلك، ولا يأخذ إلا مقدار ما أنفق من غير ما يقدر على دفعه من عِنده، ثم تحوّل الأمر إلى ما نشاهد في الحرمين وغيرها، ويا محوّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال. 

قال: "عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ"، الإبل التي يُحمل عليها، منها ناقة عمياء، "فَقَالَ عُمَرُ: ادْفَعْهَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ"؛ يعني: فقراء من المسلمين، "يَنْتَفِعُونَ بِهَا، قَالَ: فَقُلْتُ وَهِيَ عَمْيَاءُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَقْطُرُونَهَا بِالإِبِلِ" تمشي معهم، فإنهم يربطون كل جمل بالذي قبله ويجعلونها وسط الجمال بتمشي، قال: "فَقُلْتُ كَيْفَ تَأْكُلُ مِنَ الأَرْضِ؟"؛ لأنها لعماها ما تَرى الأرض، فلما رأى سيدنا عمر مراجعتهم؛ أنه لا يمكن اقتناؤها ولا تصلح إلا لأن تؤكل، "قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: أَمِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ هِيَ؟ أَمْ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ؟" 

  • نَعَم الصدقة تختصّ بالمساكين والفقراء وأصنافهم
  •  وأما نَعَم الجزية مجالها واسع 

"فَقُلْتُ: بَلْ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ"، فزع سيدنا عمر أن يكون شوقهم إلى اللحم أنهم يريدونها، قال: "أَرَدْتُمْ وَاللَّهِ أَكْلَهَا" تريدون أن نقول لكم اذبحوها من أين تأكلوها، قلت: "إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ"، وضعوا علامة حق الجزية يقينًا، ليس تَحيّل حتى تذبحها لنا، فلهم وسم خاص غير وسم الصدقة، كان سيدنا عمر حتى يُفرّق بينها؛ يجعل للجِزية وسم، ولنَعَم الزكاة وسم آخر؛ حتى يفرق بينهم، فقال:"إِنَّ عَلَيْهَا وَسْمَ الْجِزْيَةِ".

وهكذا احتاط سيدنا عمر فاطمأن، لما اطمأن أنها من الجزية وأنها ما تصلح للسير لعماها، "فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ فَنُحِرَتْ"،  ذُبِحت "وَكَانَ عِنْدَهُ صِحَافٌ"؛ جمع صحفة؛ إناء مثل القصعة، "تِسْعٌ"؛ تسع صحاف، عددها تسع، يقول: فلا تكون عند سيدنا عمر -رضي الله عنه-"فَلاَ تَكُونُ فَاكِهَةٌ وَلاَ طُرَيْفَةٌ" شيء مما يُستَطرف ويُستَملح من الفواكه ونحوها، وكذلك يقولون: من أموال الجِزية " إِلاَّ جَعَلَ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ" التسعة على عدد أزواج النبي ﷺ، "فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ" مراقبةً للنبيّ وحفظًا له في أهله بعده ﷺ، فكان سيدنا أبو بكر ثم سيدنا عمر يتفقدون أمهات المؤمنين ويخصّونهم بما يأتي ممّا يسع تقسيمه لمكانتهم من النبي ﷺ.

 وجاء في صحيح البخاري: باب وسَم الإمام إبل الصدقة بيده، وأخرج فيه عن سيدنا أنس -رضي الله عنه- قال: "غَدَوْتُ إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ بعَبْدِ اللَّهِ بنِ أبِي طَلْحَةَ، لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ في يَدِهِ المِيسَمُ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ" اعتنى بنفسه ﷺ من أجل يميّزها من غيرها، ومن أجل يصرفها في مصرفها، فوسمها يعلمها؛ أي: جعل لها علم، وكيفية في الوسم يعرف أن هذه من إبل الصدقة. 

وهكذا كان يكتب بعض الأمراء على إبل الزكاة ويكتب فيها: زكاة، أو يكتب: صدقة؛ ليُميزها عن غيرها، ويكتب على الأخرى: جزية، والقصد أن يكون هناك عَلَم لهذه عن هذه، وفيه رعاية الخلفاء لأزواج المصطفى ﷺ وانتباههم منهن إكرامًا لرسول الله.

قال أسلم: "فَجَعَلَ" يعني سيدنا عمر "فِي تِلْكَ الصِّحَافِ" التسع بحسب العدد، "مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ"،  لمّا ذبحوه، أخذ منه قطع وحط في كل واحد من الآنية التسعة، الصحاف التسعة، "فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ"من دون طبخ يطبخنه كيف شِئن أو يتصدقن به. "وَأَمَرَ بِمَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الْجَزُورِ فَصُنِعَ"؛ يعني: طُبِخ، "فَدَعَا عَلَيْهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ". وهكذا قالوا: كان عمر -رضي الله عنه- يُفضّل أمهات المؤمنين لموقعهنّ من رسول الله، كما يُفضّل أهل السابقة معروف في مذهبه السابقين الأولين، وتلاه عثمان.

"قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى أَنْ تُؤْخَذَ النَّعَمُ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ إِلاَّ فِي جِزْيَتِهِمْ"؛ يعني: ما تؤخذ منهم الصدقة لأنه ما في زكاة عليهم، ما نأخذ منهم زكاة نحن في الدنيا.

"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَضَعُوا الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ حِينَ يُسْلِمُونَ"، وإذا أسلم خرج من ضمن أهل الكتاب وصار من أهل دين الحق والهدى، يعني: يضع ما بقي عليهم ثم يطالبون به، فإن كانوا قد دفعوا حق عام فيرجع إليهم شيء ممّا يناسب ما بقي من هذا العام الذي أسلموا فيه.

  • فذهب الإمام مالك وأبو حنيفة إلى أنه يسامحه في الباقي كما أشرنا.
  •  جاء عن الشافعي: لا يسقط عنه ما بقي من الجِزية ويؤديها حال إسلامه.

 إذًا، من أسلم منهم ما بعد الحول، سقطت عنه الجِزية، كما ذكر عن الإمام أحمد -رضي الله تعالى عنه- وهو مذهب الأئمة الثلاثة كما سمعنا، ليس على المسلم جزية من غير شك. وإنما تجب بعد الحول.

واختلفوا: إذا أسلم بعد ما حال الحول هل تؤخذ منه الجزية للحول الماضي؟ أو ما مضى منه إذا أسلم؟

  • فالجمهور قالوا: إذا أسلم لا جِزية عليه بعد انقضاء الحول كان إسلامه أو قبل انقضاء الحول.
  •  ومن أهل العلم من قال: إن أسلم بعد الحول وجبت الجِزية ويسلمها وإن كان قد أسلم، وأما من بعد الإسلام فليس على مسلمٍ جِزية.

"قَالَ مَالِكٌ: مَضَتِ السُّنَّةُ، أَنْ لاَ جِزْيَةَ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلاَ عَلَى صِبْيَانِهِمْ،" إنما تؤخذ على رؤوس الذكور البالغين، فتجب:

  • بالذكورية 
  • والبلوغ 
  • والحرية 

"وَأَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُؤْخَذُ إِلاَّ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ قَدْ بَلَغُوا الْحُلُمَ". 

"وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلاَ عَلَى الْمَجُوسِ فِي نَخِيلِهِمْ وَلاَ كُرُومِهِمْ وَلاَ زُرُوعِهِمْ وَلاَ مَوَاشِيهِمْ صَدَقَةٌ، لأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، تَطْهِيراً لَهُمْ، وَرَدًّا عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَوُضِعَتِ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ صَغَاراً لَهُمْ،"؛ لإعلان خُضوعهم وعدم تعدّيهم لحكم الشرع ولا معاندتهم، فهم كانوا ببلادهم الذي صالحوا عليه ليس عليهم شيء سوى الجِزية في شيءٍ من أموالهم، وعلى هذا أجمع أهل العلم. إِلاَّ أَنْ يَتَّجِرُوا فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ"، ويستعملوا التجارة "وَيَخْتَلِفُوا فِيهَا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْعُشْرُ فِيمَا يُدِيرُونَ مِنَ التِّجَارَاتِ" لا زكاةً؛ ليس هذا من الزكاة إلا مقابل السماح لهم بالحركة في بلادنا والمتاجرة فيها.

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، وَصَالَحُوا عَلَيْهَا، عَلَى أَنْ يُقَرُّوا بِبِلاَدِهِمْ، وَيُقَاتَلَ عَنْهُمْ عَدُوُّهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنْ بِلاَدِهِ إِلَى غَيْرِهَا يَتْجُرُ إِلَيْهَا، فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ"، كمن خرج من أهل مصر إلى الشام، مَنْ تَجَرَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ"، أو عكسه "وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ"، أو عكسه "وَمِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَوِ الْيَمَنِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْبِلاَدِ، فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ"، إذا اشتغل بالتجارة، "وَلاَ صَدَقَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ"، من يهود ونصارى "وَلاَ الْمَجُوسِ" ولا غيرهم من الكفار، لا نقبل منهم زكاة لأنهم ليسوا أهلًا لها، وإن كانوا يُعذّبون عليها في الآخرة. "فِي شَىْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلاَ مِنْ مَوَاشِيهِمْ، وَلاَ ثِمَارِهِمْ، وَلاَ زُرُوعِهِمْ، مَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ".

 "وَيُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ"؛ بمعنى: لا نُكرههم على الدخول في الإسلام وليس معنى أن نقرهم على دينهم أن نقول: أنهم على حق، ولا أنهم على هدى، كما يتجرأ بعض الجهّال ويقول: الأديان كلها وحدة وكلها سماوية وممكن أي حد يدخل الجنة!! فلا والله.. ما يدخل الجنة بعد بعثة محمد إلا من شَهِد له بالحق والرسالة من كل من بلغته رسالته، ومن كذّب بمحمّد فقد كذّب بما جاء عن الله فهو كافرٌ مخلّدٌ في النار، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [البينه:6]. ولا مجال لأن يتحكم أحد بعقله ولا بحكمه ولا يقول: إن كان يهودي أو نصراني أو كان له نفقات خير، أو كان عنده أخلاق… هذا الحكم لا لي ولا لك ولا لملك ولا لإنسي ولا لجني، الحكم حكم ربنا الذي خلقنا -جلّ جلاله- فلا ينفعهم في الآخرة لا أخلاق ولا دعوى اتباع موسى ولا عيسى ولا غيرهم إذا خالفوا أمر الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- فهم كفّارٌ يخلدون في النار بحكم الخالق القهار، ولا أحد يملك تقديم ولا تأخير في هذا، نعوذ بالله من غضب الله، ونعوذ به ناره الموقدة، ونعوذ به من التجرؤ على أحكامه وشريعته، وأن تنصب النفوس نفسها معه شركاء وآلهة يريدون أن يحكموا في الدنيا أو في الآخرة! (..إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ..) [يوسف:67] جلّ جلاله.

قال سيد العارفين بالله، والمبلغين عن الله والمقرّبين عند الله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ) [الأحقاف:9] (قُلۡ مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَاۤىِٕ نَفۡسِیۤۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّۖ إِنِّیۤ أَخَافُ إِنۡ عَصَیۡتُ رَبِّی عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیم) [يونس:15]. فهذا هو الدين، وهذا هو الإيمان، ما هو لعب ولا مسخرة ولا تبع فكر.

 قال: "أَنَّهُمْ إِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، وَصَالَحُوا عَلَيْهَا، عَلَى أَنْ يُقَرُّوا بِبِلاَدِهِمْ، وَيُقَاتَلَ عَنْهُمْ عَدُوُّهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنْ بِلاَدِهِ إِلَى غَيْرِهَا يَتْجُرُ إِلَيْهَا، فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ". قال: "وَيُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ"؛ يعني: لا نكرههم على دخول الإسلام، قال تعالى: (لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِۖ قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَیِّۚ) [البقرة:256]، وليس معنى أن نقول: أنهم على حق ولا على هدى، بل على باطل وكفر وضلال، جميع من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله على كفر وعلى ضلال وعلى باطل وعلى زيغ، وليس لهم من الحق ذرّة، وليس لهم من الهدى ذرة، بل هم أهل الكفر والضلال والزيغ، كائنين من كانوا، ولا يكون على دين الحق إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

"وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِرَاراً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِمْ كُلَّمَا اخْتَلَفُوا الْعُشْرُ"؛ لأن هذا في كل سفرة وكل حركة لهم في تحصيل موسم للتجارة ليس متعلقًا بالزكاة يحتاج إلى حول، "لأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا صَالَحُوا عَلَيْهِ"؛ وهو: تردّدهم في التجارة "وَلاَ مِمَّا شُرِطَ لَهُمْ، وَهَذَا الَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا"؛ أي: في المدينة المنورة. 

  • وجاء عند الحنفية: إنما يؤخذ هذا منهم العشر في عروض التجارة في العام مرة واحدة.
  •  وسمعت قول الإمام مالك: أن كل ما مروا ببضاعة جديدة وعمل جديد يؤخذ منهم العُشر. 

والله أعلم. ويتكلم في الباب الآتي معنا على العُشور المتعلقة بأهل الذمة في تجارتهم و يأتي فيه التفصيل.

ثَبتنا الله على ما يُحب، وجعلنا فيمن يحب، ووقانا كل سوء أحاط به علمه في الدنيا والآخرة، وجعلنا في الوجوه الناضرة التي إليه ناظرة، ودفع عنا الآفات، وبلغنا الأمنيات في عوافي كاملات وإلى حَضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

04 رَجب 1442

تاريخ النشر الميلادي

15 فبراير 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام