تفسير سورة مريم - 6 - من قوله تعالى: {فلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ..} الآية 49 إلى 53
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة مريم:
فلمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
مساء الإثنين 11 ربيع الثاني 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله رب العالمين، على الذكر الحكيم المُبين، وتنزيله على قلب خاتم النبيين، وإيصالهِ إليْنا بالكمال والتمام والتبيين، اللهم لك الحمد شُكرًا ولك المنّ فضلًا، فصلِّ وسلِّم على خير مُبلِّغ عنك ومبيِّن لآياتك ووحْيك سيد المرسلين محمد، وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه مِن أحبابه، وآبائه وإخوانه مِن أنبيائك ورسلك وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد،،
فإنَّنا في نعمة تأملنا لكلام ربنا واستمدادنا فهْم وحْيِهِ وبلاغ نبيِّه وبيانه عنه؛ مررنا في سورة مريم على آيات سيدنا الخليل إبراهيم، وحوارهِ مع أبيه، وقيامهِ بأمر الدعوة إلى الله -جلَّ جلاله-، واعتزاله للكفر وأهله (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي (48))؛ الذي هو الإله الحق الذي يجب أن لا يُدْعى غيره، وأن لا يُطلَب إلاَّ منه، وأن لا يُعتمد إلاَّ عليه.
(وَأَدْعُو رَبِّي) في الوقت الذي تنصرفون فيه إلى دعوة أصنامٍ لا تنفع ولا تضر، أنا قائمٌ بدعوة إلهي وخالقي (وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48))، كيف وقد قال فيما تقدّم (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)) فهو الذي يُكرِمهُ ويُلاطفهُ ويجيب دعاءه.
قال: (عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا) فإنَّما يشقى:
-
مَن اعتمد على غير الله
-
ودعا مَن لا ينفعه ولا يضره مِن سائر الكائنات والمخلوقات.
أمَّا دعاء الرحمن فهو سبب مِن أسباب السعادة للداعين (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) يقول أهل التفسير: ومِن معاني العبادة هنا دعاؤه؛ لأنه أمر بالدعاء وقال: (الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) أي عن دعائي (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186]، وتقدّم معنا في أول السورة، قول سيدنا زكريا عليه السلام في دعاء ربه: (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)) فإنَّي تعوّدتُ حصول الخير والبر والبركة مِن دعائك كلَّما دعوتك.
ولذا لا يدعو المؤمن ربهُ في أي وقتٍ مِن ليلٍ أو نهار بصدقٍ وتوجَُه إلاَّ أثمر له ذلك الدعاء خيرات كثيرات؛ ولأجل بيان منفعة الدعاء ووجوب أن يرتبط به المؤمن ولا يسأم منه، قال لنا -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "ما من داعٍ يدعو الله تعالى إلاَّ كان له إحدى ثلاث خِصال: إمَّا أن يُعَجِّلَ ما سأله ويعطيه إياه، وإمَّا أن يصرفَ عنه مِن سوءٍ وشرٍ كان سيلحقهُ لولا هذا الدعاء بمقدار ذلك، وإمَّا أن يخْبأهُ له ويدَّخره عنده له درجات"؛ فهو رابحٌ على كلِّ حال.
فلا يشقى مُخلصٌ صادقٌ بدعاء الله؛ ولهذا تعلَّقت قلوب الملائكةِ والنبيين والصديقين بدعاء الإله -جلَّ جلاله -الله أكبر-، وكان مِن أفضل ما يتواصلون به مع الحق:
-
لتقوية تذللهم، وإعلان فقرهم واحتياجهم إليه
-
واستفراده سبحانه وتعالى بالأمر تقديمًا وتأخيرًا، ونفعًا وضرًا، ورفعًا وخفضًا
وبذلك عبَّر الإمام الحداد عمَّا يذكُر المقرَّبون مِن مشاعر الافتقار إلى الحق -قد كفاني- فقال:
قد كفاني علمُ ربِّي *** من سؤالي واختياري
فدعائي وابتهالي *** شاهدٌ لي بافتقاري
فلهذا الســرِّ أدعو *** في يساري وعساري
أنا عبدٌ صارَ فخري *** ضِمنَ فقري واضطراري
وهكذا وجدنا الحق -سبحانه وتعالى- يؤكِّد آثار الدعاء في العاجل والآجل، حتى قال: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) [الفرقان:77]، وقال ﷺ "إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء، فيتعالجان إلى يوم القيامة" لا يصيب أهل الأرض بسبب دعوة مقبولة عند الله مِمَّن دعاه.
وبذلك ذكر لنا ربنا لونًا مِن عبادة الملائكة، مِن عبادة حملة العرش (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) مَن حول عرش الرحمن (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ) أتى لنا بنماذج من الملائكة كانوا يدعون الله (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) [غافر:7]، في إشارةٍ لنا مِن اللهِ أنَّ دعاءنا لأهل الإقبال عليه والتوجه إليه، وأهل الدرجات عنده، وأهل التوبة إليه مَقْرَبةٌ لنا إليه، ومرحَمة منه لنا، وسبب لرضوانه عنَّا، فحتى شَغَلَ حملة العرش بالدعاء لهؤلاء، وهم على ظهر الأرض (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر:7-9]، فهذا مِن دعاء حملة العرش، ومَن حول العرش؛ مِن الملائكة الكرام مِن أعالي الملائكة.
إذًا فعلى المؤمنين أن يقيموا واجب الدعاء لله تعالى موقنين بالإجابة، ومعتمدين على الله، وواثقين بقدرةِ اللهِ وعظمته، ويعلمون أنَّهم رابحون، حتى كان يذكرُ بعض أهل المعرفة ويقول: لو فرضنا أنَّ داعيًا دعا الله تعالى في نيل مسألة -عشرين مرة دعاه- فالاستجابة تكون بواحدة، وبقية العشرين مُدَّخرة كلها ثوابًا له وأجرًا، وتحقيق المطلب بواحدة، والبقية كلها درجات له ومنازل عند الله -سبحانه وتعالى-، فذلك مِن فضل الله؛ فالداعي للرحمن رابح غير شقي، إذا أخلص لله وصدق معه.
وقال: (عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ (49))، يشير الحقُّ بهذا الكلام، إلى أنَّه يترتّب إعطاء ووهب كثير مِن الخيرات والمواهب على اعتزال العبد المؤمن ما أمره الله باعتزاله، فإذا اعتزل وانْتحى عمَّا لا يرضاه الله تعالى، فتح له أبواب هذه المواهب.
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49))، قال الله: أظهرْنا مِنَننا عليهِ ونعمتنا التي خصَّصناهُ بها وادّخرناها له لمَّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله:
-
فجعل له ذريةً صالحةً مباركةً طيبةً
-
وأولادًا أنبياء ومرسلين
وأي شيء أكبر مِن ذلك وأعظم؟! (وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) وكلًا مِن إسحاق ويعقوب (جَعَلْنَا نَبِيًّا (49))
(وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا (50))؛ مكارم وفضائل وأخلاق، وعلوم ومعارف وعطايا كثيرة، (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ (50)).
-
(وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ) ينطقون بها بالنبوة والرسالة.
-
(وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ) ثناءً حسنًا في الملأ الأعلى، وفي الخلق مِن بعدهم إلى آخر الزمان، وتجد مختلف أهل المِلل يُعَظِّمُون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ويُحبّونهم ويُمجِّدونهم ويُثنون عليهم.
-
(وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) رفيعًا شريفًا؛
يعني أنَّ كثيرًا مِمَّن قد يُذكر بخيرٍ، على أي ميزان مِن الموازين قد لا يكون هذا الثناء له نافع، ولا مفيد ولا له حقيقة، وأنَّه ليُنشَر لبعض الناس مِن الثناء ما بين المشرق والمغرب وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة، فهذا الثناء كله عليه ليس لسان صدق وليس بعليّ، ليس برفيع وشريف وعليّ؛ ولكن مَن يُثنى عليه بصدقٍ وحق بأوصافٍ يحبها الله ويرضاها؛ فهذا لسان صدق عليّ؛ يدوم لصاحبه ويتأبَّد ويتخلَّد، ذلك الشرف والكرامة (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا).
أمَّا هذا الثناء مِن غافل لغافل وجاهل لجاهل لا يفيدهم شيء، لا تفيدهم شيء هذه النشرات وهذه الدعايات وهذه الكلمات الفارغات، لا يفيدهم شيء؛ لكن إذا أثنينا على نبيّ أو وَلِي بصفاته؛ هذا لِسَان صِدْقٍ علي، وثناؤنا عليهم:
-
يُقرِّبنا إلى الرب.
-
ويكون سبب لرضوانه عنّا.
-
يكون سبب للقرب منهم في مواقف القيامة وفي الجنة.
فهذا لِسَان صِدْقٍ عَلِيّ، فالمُثنَى عليهم مِن الأنبياء والعباد المقربين عند الله؛ الثناء عليهم ثناءَ صدق وثناءٌ عَليّ، رفيعٌ وشريف، أمَّا ثناء الغافلين على الغافلين، والجاهلين على الجاهلين، والكافرين على الكافرين ماذا يفيد؟ ماذا ينفع؟ وما عاقبته وما نهايته؟
قال: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا)، نحن في زماننا؛
-
الدعاة إلى عبادة الأصنام بأصنافها المختلفة موجودون
-
والدعاة إلى استبدال الألوهية، أو دعوى الألوهية لغير الله بمسمى علمٍ أو اكتشافٍ أو تقدُّم أو غير ذلك موجودون
-
وما ينشرون على هذا الأساس بيننا كثير ومُنوع، ويصل إلى كثيرٍ مِن الناس
على قدر الاعتزال لهؤلاء ودعواتهم، تواجهك منَن ومواهب من فوق.
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ)، فنحن ننال مواهب مِن الله على قدر ما نعتزل مِن دعوات فُسَّاق الأرض، ونُوَّاب إبليس على ظهر الأرض مِن شياطين الإنس والجن: الدعاة إلى السفور، الدعاة إلى التبرُّج، الدعاة إلى التقاطع، الدعاة إلى التباغض والتدابر، الدعاة إلى الزنا واللواط، الدعاة إلى الخمور والمسكرات؛ هؤلاء كلهم نُوَّاب عن إبليس، وينشرون هذا الأمر، ويدعوننا لأن نُعظِّم غير الله، وأن نُقدِّم على الأنبياء بعض الفساق والأغبياء بدعوة اكتشاف أو تَقدُم إلى غير ذلك، وعلى قدر اعتزالنا لهم، تنفتح لنا باب المواهب مِن الوهَّاب، فحظُّ كلِّ واحدٍ منَّا على قدر قوة اعتزاله لدعاة السوء والشر، وما يبثونه بيننا لننحرف عقيدةً أو سلوكًا، كلَّما اعتزلنا ذلك قرُبنا إلى الله وعظُمت علينا مواهب الله.
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)) فذِكرُهم هو في الدنيا الآن قبل الآخرة، الباقي الذكر الحسن الجميل، والثناء عليهم بالألسن المختلفة، وقُل لي مَن عاداهم ومن دعاهم إلى السوء في أيامهم، بماذا يُذكَر اليوم؟ بماذا يُذكَر اليوم؟ وماذا لهم على ظهر الأرض؟
ولكن هذا مِن إرث العباد الصالحين للأرض أنَّ الذكر الجميل الحسن يبقى لهم، دون مَن عاداهم، دون مَن آذاهم.
وإذا جئنا إلى الأنبياء ومن عاداهم، ذهب أعداؤهم، فبِمَ يُذكَرون؟ بِمَ يُذكَر قوم نوحٍ الذين كذَّبوا به وآذوه؟ وأيّ شرف باقٍ لهم على ظهر الأرض؟ لكن نوح والذين ركبوا معه في السفينة هم المذكورون بالذكر الجميل.
ومَنْ بعدهم من الأنبياء والمرسلين، النمرود يُذكَر وسيّدنا موسى يُذكَر؛ بماذا يُذكَر النمرود؟ بأيّ ثناء؟! بأيّ شرف؟ بأيّ مَزيّة؟ يُذكَر أنَّه متغطرس متكبر، جبار، طاغية ادَّعى ما ليس له؛ لكن إبراهيم يُذكَر؛ خليل الرحمن، عظيم الشأن -صلوات الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
وهكذا مَن بعده -موسى وفرعون- بمَ يُذكَر موسى؟ بمَ يُذكَر فرعون؟ فمن الذي ورث الأرض؛ موسى أو فرعون؟ وفي حياته أهلكَ الله فرعون وقومه (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) -الله أكبر- (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]، فالذي ورِث الأرض موسى وهارون ومَن تَبِعَهم، ليس فرعون، بمُلكه وبزمجرته وبدعواه انتهى.
أمَّا الذين آذوا سيَّدنا هود وكذَّبوه، ماذا بقي لهم من ذكر؟ وهود مذكور ويُزَار، ويُعظَّم شأنه، ويُقرأ خبره في القرآن الكريم، وسورة باسمه "سورة هود" وسورة باسم الموطن الذي بُعِثَ فيه -سورة الأحقاف- (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ) [الأحقاف:21]، وتكرَّر ذكره في سورٍ عديدة مِن كتاب الله، وصالح كذلك، وهكذا…
والذين آذوا نبينا، والذين كفروا به، والذين سبَّوه وشتموه، بِمَ يُذكرون؟ وبقي ذكره المرفوع، ما مِن بقعة من بقاع الأرض إلاَّ فيها "أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أن محمد رسول الله" أين الذين آذوه، أين الذين حاربوه وقاتلوه -صلى الله على سيدنا محمد-، صحابته الكرام ظهر مَن يقاتلهم، ظهر من يؤذيهم، ظهر في وقت من الأوقات من يسب بعض الصحابة وآل البيت على المنابر، وبعد ذلك، ذِكْر مَن الآن باقي؟ بماذا يُذكر هذا وبماذا يُذكر هذا؟
وهكذا، اتّصِلْ به واصدقْ معه وهو الذي يُحِيز لك، ويرسل خيرات الدنيا والآخرة، ويحميك من شرورهما وهو القوي القادر، اعتزِل مَن يصدُّك عن سبيل الله، لا ترتضي إغراءاتهم، ولا تخف مِن تهديداتهم، ولا ترتضي برامجهم تلعب بعينك ولا بأذنك ولا بفكرك (اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) وادعُ ربك، تجد المواهب (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى (51))،
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى) على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
-
(إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا (51)) ويصف أنبياءه بهذه الأوصاف لنرغب فيها ونتَّصف بها، مخلصًا لله في وجهته وعبادته، شديد التواضع -عليه السلام-.
-
(مُخْلَصًا) كما في القراءة الأخرى، أي منتخَبًا مصطفىً مختارًا، أخلصه الله لنبوته ورسالته ولكلامه، وخصَّه من أسرار تكليمه بما لم يجعله لأكثر الأنبياء (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء:164].
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى (51)) -الكتاب الذي أوحينا إليك- واذكر عبادنا هؤلاء المقربين عندنا؛ لتتعلم أمتك التعلق بهم، وتتعلم احترامهم وموالاءهم وموادتهم من أجلنا؛ ليكون ذلك سبب لتثبيت قلوبهم على ما نحبه وتقريبهم إلينا.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا) لكي تتعلق أمتك بالإخلاص، ويُنقُّون أنفسهم من الرياء وقصد غير وجهنا، فغيرنا لا يقدِّمهم ولا يؤخرهم، ولا يضرهم ولا ينفعهم، فليُخلصوا لوجهنا فيه، وجهاتهم ونيَّاتهم وأعمالهم (مُخْلِصًا).
(مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا (51)) أرسلناه إلى فرعون وقومه وإلى بني إسرائيل، (نَّبِيًّا (51)) نبّأناه بالوحي والتنزيل.
(وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ (52)) يذكر الله مظاهر موادَّته لأحبابه، وإيناسه إياهم وتقريبهم، (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) جبل الطور -الله لا إله إلا الله-، (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي من جانب يمين موسى عليه السلام.
(وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)) (قَرَّبْنَاهُ)؛ كشفنا عنه الحُجب، (نَجِيًّا)؛ مُنَاجًا مُخاطِبًا لنا، فكشفَ عنه حجابًا، وحجابًا، وحجابًا، وحجابًا حتى صار يسمع صريف الأقلام تخطُّ قَدَر الله -جلَّ جلاله-، وما نفذ به قضاؤه، فصار في المقام الرفيع، حتى لمَّا أُدني ذلك الدنوّ وقُرِّبَ ذلك التقريب، غلبه شوقه إلى ربه وقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف:143].
(وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) مُنَاجًا مُخاطِبًا مُكَلِّمًا لنا، مباشرة من دون واسطة، من دون واسطة مَلَكٍ ولا غيره.
(وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) وبذلك تعرف شرف المناجاة للعُبَّاد والمقبلين على الله من خواص المؤمنين، حتى يكون من أعلى ما يُعجِّل لهم من النعيم في الدنيا ذوق لذة المناجاة، ذوق لذة المناجاة وإن كانت ليست بمناجاة الأنبياء، وليس بكشف الحجاب الذي يسمعون فيه خطاب الله لهم؛ لكنَّهم يوقنون بسماعه إياهم فيتلذذون بخطابه بقوة شهودٍ كأنهم يرونه فيذوقون لذة المناجاة.
قال بعض أهل الغفلة من بني إسرائيل: إنِّي عصيتُ ولم أرى عقوبة -ما عاقبني الله بشيء- فأوحى الله إلى نبيّ ذلك الزمان قل لفلان: إنِّي عاقبته ولم يشعر، قل له: ألم أحرمك لذيذ مناجاتي؟ قل له: ألم أحرمك لذيذ مناجاتي؟
ولذا جاء أيضًا في الخبر عن الله تعالى: "إنّ أدنى ما أصنع بالعالِم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي" يعني أمر فضيع كبير! وهو أقل ما يفعله بالعالِم الذي يركن إلى الشهوات، وإلى الدنيا وإلى مظاهرها، ويخون الأمانة في علم الشرع المصون، فيًحلِّل أو يحرِّم أو يفتي على غير وفق الاتباع والاقتداء والاهتداء والفهم الصحيح؛ "إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي، أن أُحرمه لذيذ مناجاتي"؛ ولذا طابت المناجاة للصادقين المخلصين فذاقوا منها ذواقًا، هاموا فيه وقالوا: لولا قيام الليل ما أحببنا البقاء في الدنيا.
وقال الإمام أبوبكر العدني بن عبد الله العيدروس:
نُصبت لأهل المناجاه *** في حُندس الليل أعلام
واستقبلتهم لطائف *** بهجات فضلٍ وإكرام
من لذّة لا تُكيَّف *** ولا تُصوّر في الأوهام
واستعذبـــوا السُهـــــد -السهر- وأمسوا *** قيام إذ نام من نام
وكان نبينا يقول: "أيُّها الناسُ أفشوا السلامَ وواصِلُوا الأرحامَ وأطعِموا الطعامَ وصَلُّوا بالليلِ والناسُ نيامٌ تدخلوا الجنةَ بسلامٍ"، (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) فكان موسى نجيُّ الله، (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) [النساء:164].
(وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)) وكانت تنبئة النبيّ هارون بطلبٍ من النبيّ موسى، فلمَّا خاطبه الله وكلَّمه قال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) [القصص:34]؛ ولذا يقول أهل العلم: أنَّه ما نفع أحدٌ، وتسبب أحدٌ من الإخوان في نفع أخيه ما تسبب موسى لنفع أخيه، تسبب في وصول النبوة والرسالة.
قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) فعدَّ هذا الوهبَ للكليم موسى؛ نبوُّة أعطاها الله سيدنا هارون، فقال له: يعني إرضاءً له لطلبه، ومساعدةً له على القيام بالأمر، ومعونةً له.
(وَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) فنبَّأناه، ليقوم بهذا الإنباء مُعينًا لأخيه موسى ومساعدًا له، (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا) [الأعراف:143] يقول سبحانه وتعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف:142]؛ وهكذا تترتب الخيرات على اعتزال ومجانبة المفسدين بأصنافهم (وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).
(وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) والحقُّ يوالي؛ اذكر فلانًا واذكر فلانًا، فما أعجب ذكْرهم وما ألذَّه! وما أحوجنا إلى ذكر هؤلاء: لتنقية بواطننا، ولزيادة إيماننا، ولتصفية أفكارنا، ولتقويم صفاتنا، ولتهذيبِ نفوسنا، ولتقويمِ أقدامنا وتثبيتها، (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120]
فلنحرِص عليها وعلى تأمُّلها، ولنتذاكر فيها بيننا البين، ولنُذَكِّر بها أبناءنا وبناتنا، ولنخفِّف وطأة ما يَنشر لنا القُطَّاع للطريق وأعداء الحق ورسوله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فقد لعبوا كثيرًا بأوقاتنا وأعمارنا وأفكارنا وأخلاقنا، فيجب أن نعتزلهم، وما يعبدون من دون الله وندعو ربنا، ونستبدل بذْكرهم وذكْر أفكارهم؛ ذكر المقربين من النبيين والصديقين وأخبارهم؛ فإنَّها تُنوِّر، وتُطهِّر، وتُزكِّي، وتُصفِّي، وتُقرِّب.
الله يُكرِمنَا بصدق الإقبال، ويُصلِح لنا كل حال، ويتولانا في الحال والمآل، يغمرنا بفائضات الجود والنوال، إنَّه خير مجيبٍ للسؤال، ومعطٍ للعطايا الجزال، لا إله إلا هو عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.
اللهم فَرِّج كروب أمَّة نبيِّك محمد، وأصلح قلوب أمَّة نبيِّك محمد، واجمع شمل أمَّة نبيِّك محمد، وألِّف ذات بين أمَّة نبيِّك محمد، وادفع السوء عن أمَّة نبيِّك محمد، وارفع عنهم عضال الداء وسلطة الأعداء، رُدَّ عنهم كيد المعتدين من الصهاينة ومن عاونهم، واجعل الدائرة على أولئك المعتدين الظالمين الغاصبين، يا مُنزِل الكتاب يا سريع الحساب يا مُنشِئ السحاب يا هازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم، وادفع عن المسلمين كيدهم وشرهم وضرهم، وحوِّل أحوال المسلمين إلى أحسن حال، وزدنا من إفضالك والنوال ما أنت أهله يا خير من يجيب وأعظم من يستجيب، يا ربنا يا قريب يا أكرم الأكرمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
12 ربيع الثاني 1446