(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة مريم:
واذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
مساء الإثنين 4 ربيع الثاني 1446هـ
لقراءة فوائد من الدرس:
الحمد لله مُكرمنا بالكتاب وتنزيله على قلب سيِّد الأحباب عالي الجناب، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله والأصحاب، ومَن سار في مَنهجهم منهج الهُدى والصّواب؛ فأخلص لله وإلى الله أناب إلى يوم المآب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين صفوة ربّ الأرباب، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه الكريم الوهّاب.
أمَّا بعد،،
فإنّنا في نعمة تأمّلنا لكلام الحقّ -جلَّ جلاله- وما أوحاه إلى خير خلقه المصطفى محمد ﷺ؛ مررنا على آياتٍ في سورة مريم، انتهينا إلى قوله تبارك وتعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41)) وبهذا يأمر الحقّ تعالى بنشر أَلوِيَة ذكر محبوبيه على سبيل المحبّة والإكرام والتّعظيم.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ) ولقد ذكر الله ابراهيم في الكتاب، فما معنى أن يقول لنبيِّنا محمد: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ)؟ يعني انشر بين أُمّتك والخلائق الذين بعثتُك إليهم فضل إبراهيم ومراتبه وأنّي ذَكَرتُه في كتابي، وبيِّنْ لهم مَا مَدَحتُ به هذا النبيّ الخليل ابراهيم وما خصّصته به من خصائص.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ) كما أمره أن يذكرك فيما تقدّم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)) وهناك أيضًا بيَّنَ لنا انحراف العقول في عبادة أناس عقلاء مثل ما كان من النّصارى مع سيدنا عيسى بن مريم، وهنا بدأ يذكر أيضًا ما انحرفت إليه عقول أخرى مِمَّن يعبدون ما لا يسمع ولا يعقل ولا يُبصر من الأصنام، وكلّهم انحرفوا عن الجادّة والهدى؛ فذكّرنا سبحانه وتعالى بزكريّا ويحيى ومريم وعيسى بن مريم، وما ردّ به على من يقول بعبادته، ثمّ ذكّرنا بإبراهيم الخليل.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ) أي اجعل النّبأ لمن يسمعك أنّ هؤلاء مَذكورون في كتاب ربّي بذكر ربّي فأنَا أذكُرهم بأمر ربي، وأذكُر مزاياهم ومناقبهم؛ وهذا كما علِمنا مسلك من مسالك الصّلاح والهداية في البشر؛ أن يذكُروا الأنبياء والأصفياء ذِكر المحبّة والولاء ورغبة الاقتداء والاهتداء؛ فهذا أساس من أساسيّات صلاح العباد فِكرًا وسلوكًا واجتماعًا ومعاملةً؛ أن يُذكر فيهم القُدوات التي اختارها الخالق، التي اختارها مُنشئ الكون ومُكوّنه ومبدئه -سبحانه وتعالى-، اختار لهذا النوع من المكلَّفين من الإنس والجن، اختار القُدوة للأنبياء، وخواصٍّ من أتباع الأنبياء: من العلماء ومن خلفهم وورِثهم من أرباب الصّدق والوفاء والصّفاء، ممّن سمّاهم الحق تعالى:
أهل الذّكر في القرآن
وسمّاهم أهل الخِبرة (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان:59]
وسمّاهم المُنِيبِين، وقال (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) [لقمان:15]
وسمّاهم الصّادقين، في قوله (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]
ثمّ نصّ من بين هؤلاء على خصوص السّابقين الأوّلين المُهاجرين والأنصار، فيقول: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم) [التوبة:100]
فنّص على أنّهم مَحلّ قُدوة ومَحلّ أسوة وأهل اتّباع، يجب أن يتّبعهم كل من بعدهم جاء، السّابقون الأوَّلون المهاجرون والأنصار رؤوسهم ساداتنا أهل بيته ﷺ من أوائل من أسلم؛ بناته الكريمات وسيدنا علي بن أبي طالب، ومن سارع إلى الإسلام من مثل سيدنا أبي بكر الصّدِّيق وبلال وأمثالهم، ومن سبق إلى الإسلام من الأنصار مثل أهل بيعة العقبة ونُقباءها الاثني عشر، ومَن أسلموا على يدِ سيدنا مُصعب بن عُمير قبل مجيء النبي ﷺ إلى المدينة (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم) [التوبة:100]؛
هكذا خاطبنا الرّبّ، هؤلاء القدوة الذين ارتَضيتُهم لكم، فمن الضلال أيَّ ضلال ومن المناقضة لحقائق الإيمان أن نبتعد عن مسلك هؤلاء القدوة فكرًا وسلوكًا واعتقادًا ومعاملة؛ ثم ننصب لنا من الفسقة والفجّار والفسّاق من نجعلهم القُدوة في شمول حياتنا أو في شؤوننا، وأيّ ضلال أكبر من هذا؟ هؤلاء القدوة الذين اختارهم الربّ -جلَّ جلاله- ليقتديَ بهم المكلفون فيُفلحون وينجحون ويفوزون ويسعدون.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا (41)) عظيم الصّدق؛ والصّدق في حقّ الأنبياء له عُمقٌ وغزارةٌ؛ فنِعمَ من اتّصف بالصّدق من عموم النّاس، ولكن خواصّهم أعظم مرتبة ومعنًى في الصّدق أغزر وأعمق، والصّدّيقون أعمق الناس في معاني الصّدق من غير الأنبياء، أمّا الصّدِّيقون من الأنبياء -والأنبياء كلهم صدّيقون- فصدِّيقيّة الأنبياء أعلى مراتب الصّدق مع الحقّ في الظاهر والباطن والحسّ والمعنى؛ في الأقوال والأفعال والأحوال والنّيّات والمقاصد والأخذ والعطاء؛ في جميع الشؤون، هم أهل الصّدق التّامّ.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا) عظيم الصّدق في إيمانه، في يقينه، في معرفته، في أقواله، في أفعاله، في تعليمه، في إرشاده، في كرمه، في صفاته، في أحواله؛ صادق، عظيم الصّدق.
(إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا) ولمّا كانت الصّدِّيقيّة قد تُطلق على غير الأنبياء، جاء بالخصوصية والمزيّة الكبرى الأخرى التّي خصّصه بها، قال: (نَّبِيًّا) أي مرفوع القَدر والمَنزلة بأسرار النبوّة من عندنا؛ فإن الصّدِّيقيّة قد تُطْلق على من لم يصل الى هذا المقام، ولكن إذا أُطلقت على من وصل إلى هذا المقام فهي صدِّيقيّة فوق صدِّيقيّة مَن دون الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وإن كانوا هم الصِّدّيقون من غير الأنبياء أفضل الخلق بعد الانبياء وأقرب الخلق إلى الأنبياء؛ فالأمر يدور على الصّدق الذي قال الله عنه في حكم يوم القيامة، (قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ) [المائدة:119]؛ فليس لنا من الأنبياء قربٌ ولا مُرافقة لهم إلا على قدر صدقنا وحسب صدقنا في إسلامنا وإيماننا وإحسانِنا، وأقوالنا وأفعالنا ومَقاصدنا ونيّاتنا وأحوالنا، فالصّدق يشمُل هذا كلّه؛
وكم من متواضع صادق ومتواضع غير صادق، وكم من زاهد صادق وزاهد غير صادق، وكم من قائم بالليل صادق وقائم غير صادق، "وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ" يبذل وِسعهُ كلّه في أن يكون صادقًا: في أقواله، في أفعاله، في نظراته، في حركاته، في سكناته، في مواعيده؛ صادق في إسلامه، في إيمانه، في محبته، في صلاته، في معاملاته، "يتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتبَ عندَ اللهِ صدِّيقًا" يعني يبلغ أعلى رُتبةً في القرب من الله بعد رتبة النبيّين وهي رتبة الصّدّيقين؛ والصّدّيقُون على مراتب كما أنَّ الرّسل فُضّل بعضهم على بعض، وهناك الصّدّيقيّة الكبرى وأهل الصّدّيقيّة الكبرى على مراتب فيها (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) [الجمعة:4].
فطريقُنا إلى ارتقاء المراتب ونيل المواهب؛ الصّدق وتحرّي الصّدق؛ تحضر وأنت صادق: نصيبك عجيب بديع كبير، تحضر غير صادق: لا تُذكر، لا تُذكر مع الصادقين وإن نالك طشّة أو جاءك خير أو تسبّبت الرّحمة النّازلة في شيء من تخفيف ما في ظهرك أو في تقريبك، ولكن الصّادقون نصيبهم كبير ووسيع؛ فالله يرزقنا الصّدق فيما نقول ونفعل وفيما نتعلم وفيما نَتجالس وفيما ندرس وفيما نحضر المحاضر، اللهم ارزقنا الصّدق وتحرّي الصّدق وارفعنا إلى ذُرى الصّدق حتى تُلحقنا بالصّدّيقين.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ) هذه هي مظاهر الصّدق حِرصٌ على هداية النّاس، وبيانٌ لأقربهم وأبعدهم ممّن يقدر أن يبلِّغهم ممّن أُرسل إليهم؛ فخاطب أباه وهو الذي يترجَّح من خلال الأدلّة أنه عمّه أخو أبيه، وأنَّ أباه تارخ غير آزر قد مات على التوحيد وإبراهيم صغير، وبقي هذا عمّه آزر.
والتّعبير عن العمِّ بالأب وارد في اللّغة التّي نَزل بها القُرآن كثيرًا، وصرَّح به الحق -تبارك وتعالى- في قول أولادِ يعقوب ليعقوب: (نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ)؛ هاتوا آبائه، مَن آباؤه؟ الإنسان معه أب واحد وإلَّا عنده آباء كثير؛ قال: آباؤك إبراهيم؟ على جدّه هذا صحيح، جدّه أبو أبيه، وإسماعيل وإسحاق؟ إسحاق أبوه مباشر، وإبراهيم أبو أبوه، وإسماعيل مَن هو؟ ما علاقة إسماعيل بآبائك؟ عمه أخو أبيه، أبوه إسحاق وأخوه إسماعيل؛ فدعاهم آباء، سمّاهم آباء؛ فالعم يسمى أب (وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133].
(يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42)) ما هذا الانسياق وراء الوَهم؟ وراء الخيال! كيف ترضى بنفسك تخرج عن شرف العقل الذي آتاك الله إياه؟ تتَّزن وتُحسن وزن الأمور به؛ فتقيم الأمر على أساس، تأتي للأصنام بيدك تنحتها ثم تدَّعي بأنها آلهة؟! (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)؟! وأنت آدمي مخلوق ولكنك تَسمع وتُبصر، فأنت أشرف مما لا يسمع ولا يبصر، فكيف تنزل هكذا؟ إذا الذي هو أقلّ منك وأذلّ منك تُرِدُّه إلهك! أين العقل هذا؟!
(لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ..)، لم يؤتَ من السَّمع والبصر مثل ما تميَّزت به أنت عنه، فلك من السمع والبصر ما ليس له!
(لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا) يعني الإله الذي يَعبُده أي عاقل يجب أن يكون هذا الإله: سميع، بصير، نافع، يُغني، ما معنى عبادة ما لا يغني عنك شيئا! ولا يَدفع عنك شيئا! ولا يُقَرّب إليك شيئا! ولا يُبعِد عنك شيئا!
(لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) وفي هذا غاية الأدب من سيدنا الخليل إبراهيم ويُخاطب العم بالأبوة، ولا يقول يا فلان، يقول: يا آزر، يا أبَتِ، يا أبَتِ، إذا كان هذا الأدب مع عمٍّ كافر! فكيف عمك المسلم؟! فكيف أبوك المسلم؟! كيف تخاطبه؟ اضبط لسانك، اضبط كلامك تأدّب، خاطبه بأحسن الكلمات، وتقول: يا فلان؟ يا أبتاه، يا أبتي، يا أبي، يا سيدي، وهكذا.
قال: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ (43))، البساط عندما نتناقش في قضية كبيرة مثل هذه؛ قضية ديانة وقضية عبادة يرجع إلى العقل والعلم، فبالعقل يسقط عبادة ما لا يسمع ولا يُبصِر؛ ومع ذلك أنت مُميَّز عنه تَسمع وتُبصر؛ ومع ذلك أنت مميز تقدر تكسِّرُه، وأنت الذي تُقَوّمُه وتَصنَعُه، هو ما يقدر يَكسِرَك ولا يُقَوّم شيء فيك! هذا ما يُغني عنك شيء، وأنت تقدر تتصرف فيه، كيف تعبده؟! ما معنى هذه العبادة؟! هذا متناقض مع العقل والعلم والدليل! متناقض مع الفطرة مع العقل مع الدليل والعلم!
(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ) عَلِمتُ مِن عَظَمة الإله الذي خَلَق وآياته وأسمائِه وصفاتِه ما لم تعلم!
(إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ) فإنْ رأيتَ نفسَك أكبر سنًا مني فالمسألة لا تدور على السن، ولكن هذه قضايا يجب أن تَرجِع إلى العقل والعلم.
(إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي)؛ فيما أُلقيَ عليك في هذه الحقيقة بحُجَجِهِ ودلائِلِه الواضحة وبراهينه الساطعة.
(فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ) إذا اتبعتني (صِرَاطًا) سبيلًا ومسلكًا، (سَوِيًّا) لا اعوجاج فيه ولا انحراف، لا يَتناقض مع فطرة ولا مع عقل ولا مع العلم.
(فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ) كيف يعبد الشيطان؟! هو يَجيء بأصنام، وهو من كان يُصَلِّح الأصنام! أين الشيطان؟ الشيطان هو الذي يَأمُره بعبادة الأصنام، هو الذي يفرح بعبادة الأصنام، هو الذي يُزيِّن عبادة الأصنام؛ فطاعَتُه له في عبادة الأصنام؛ عبادة له! عبادة للشيطان!
(لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَان إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ) الذي خَلَقَك وسَوَّاك وأَنْعَم عَليك (عَصِيًّا) أي كثير العصيان.
(إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44))، وهذا الذي عصى إلهَهُ الذي خَلَقَه، وعادى آدم وذريته كيف تعبده؟ (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ) كيف تَستجيب لوسوسته؟ كيف تَستجيب لدعوته؟ (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا)، عصى إلهَهُ الذي خلقه فلعنه الله -تبارك وتعالى- وأبى أن يَسجُد لأبيك آدم، كيف تطيعه؟!
(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ (45))، تَخْرُج عن دائِرة رحمَتِه بانتهاك كل الحرُمات وإدّعاؤك إله معه، ولا إله إلا هو جلَّ جلاله.
(فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) أي قرين، هو في العذاب وأنت في العذاب، أنت معه في النار، أنت وإياه سواء، هو في اللعنة وأنت ترجع معه في اللعنة، هو في العذاب وأنت معه، (وَلِيًّا) قرين؛ فمقارنته به واجتماعه معه في المصير عَدَّ هذا ولي؛ لأنَّ هذا من الولاية، من الولاء له.
(فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) تَكون قرينًا مرافقًا لعدوِّ الله -تبارك وتعالى- فينالَكَ عذاب كما يناله العذاب، وتَحِل عليك اللعنة والطرد كما حَلَّت عليه!
(إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45))، ومن المعاني في (إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ):
أَنّي أعلم أنَّك إذا أشركت بالله وكفرت به واتبعت هذا الشيطان؛ أنك سَتُعذَّب مَعَ هذا الشيطان وتُحشَر مَعَه وتكون ولِيَّهُ، قرينَهُ في النار، فقد يُستعمل هذا بمعنى العلم.
إني أخشى؛ (إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ) إنّي أعلم أنَّك إن مُتَّ على هذه الحالة تَعبُد غير الله، أنْ يَمَسَّك عذاب من هذا الجبَّار الأعلى الواحد الأحد فيجعلك قرينًا للشيطان (فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا).
وألقى النُّصح سيدنا إبراهيم بالمنطق والعقل والدليل والعلم وقابل هذا الهوى مِن آزر، يقول له: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ (46))، وهو يعلم أَنّه راغب عنها من الأصل؛ لكن فقط يمهِّد لكي يقول لنا سأنتقم منك وسأوذيك إن استمرِّيتَ، فأجاب بجواب هوى! لا علم فيه ولا عقل ولا حجة ولا ردع!
(أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ) استعمال أسلوب القوة والسلطة، لئن لم تنتهِ عن سَبّ الأصنام هذه، وعن تسفيه عقول من يَعبُدها.
(لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ)، لأرجُمنَّك! هل هذا هو علم؟ هل هذا حجة؟ وهل هذا دليل؟! هات كلام..
(لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) وقديم لمَّا خاطب المؤمن قومه وقال لفرعون وجماعته: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا) -حُجة ومنطق وعقل- فأجاب عليه: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:28-29]، فقط أنا عندي الصواب، ولا حجة ولا دليل؛ إلّا عنجهية! وهذا أسلوب الكفار إلى اليوم، هكذا طريقتهم!
يقول: (لَأَرْجُمَنَّكَ) أرْجُمَنَّكَ! كيف أرْجُمَنَّكَ؟ أرْجُمَنَّكَ يعني:
أسُبَّك وأشتُمَك وأوذيك، الرجم بالقول،
أو أرْجُمَنَّكَ بالحجارة وحتى يُوَصّل إلى قتلك فتقتلك.
(لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)) أبعِد عني، تجاوب مع إبراهيم!؟ هات له كلام عقل، هات له حجة، هات له الدليل!
قال: (لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) ابتعِد عني، مليَّا،
مليَّا وأنت يعني سالمًا سويًا، مليَّا، قبل أن أفعل لك شيء لا تقدر عليه، وبعد ذلك لا تقدر تذهب؛ فما دمت سالمًا الآن بصحتك وعافيتك اذهب من أمامي، مليَّا،
وفي معنى آخر مليَّا أي: زمانًا حينًا، أو زمانًا طويلًا،
(وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) اذهب من أمامي، لا أريد أن أراك ولا أسمع كلامك ولا أسمعك، لن أرجُمك ولا أضرُبك ولا أُقاتِلك ولا أَسُبَّك؛ لأَنّي ما أُمِرت بهذا، ما أمرني ربي بهذا، سلام عليك (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63].
(سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي (47))، يعني سأطلب من الله يَهديك إلى الحق حتى يَغفِرَ لك أوزارك الماضية، (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) هذا الخُلُق عند الخليل -عليه السلام-.
(سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) مَعِي ربّ حفي بي، حفي: رحيم، لطيف، مُكرِم، مُقَرِّب يُقرّبني، يُجيب دعوتي لمّا أدعوه.
(إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) -الله أكبر- يُكرِمني، يُقرّبني، يرحمني، يجيب دعوتي؛ هذه صفات ربي الذي أدعوك إليه، لو أَجَبْت يَنالك من حفاوَتِه هذه، من لطفه، من رأفته، من رحمته، من إكرامه نصيب، ماذا يعمل لك الذي قعدت تعبده؟ كيف ترى ربك هذا؟ وماذا يفعل لك؟! (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)).
قال: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ (48))، واعتزالُ أهل الشر ودعواتهم وفِعلُهُم الشرير أساسٌ من أساسِ صحة الإيمان وسلامة الإنسان وحفظ الدين، وأمَّا الاختلاطات هذه والاختباطات والحضور في أماكن تُنتَهَك فيها الحُرُمات؛ يَهدِم الدين ويُضعف الإيمان، فلابد مِن اعتزال الشر وأهل الشر (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ) [النساء:140]، (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام:68].
(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي)؛ أعبده وحده وأرفع طلباتي إليه، وأعرض شأني عليه معتمد عليه، مستند إليه.
(وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48))، لا أشقى فلا يردني، ولا يقبحني بالرد، ولا يخذلني؛ كما شقيتم أنتم بعبادة هذه الأصنام!
(عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) اضطر بعد البلاغ، وبعد ظهور الآية الكبيرة؛ نار تحرق أسبوع كامل وأربعين يومًا وهو وسطها، وخرج سليم ما به بشيء! حتى أول لمّا خرج هذا نفسه -عمه هذا- كان يقول له: نِعْمَ الإله إلهُك ما تركك للنار! نِعْمَ الإله إلهُك، فطَمع إبراهيم أن يُسلم وناداه ولكنَّه أصر! (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)، (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) -وَعَدَهُ أن يستغفر له؛ فاستغفر له- (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ) -مات على الكفر- (تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة:114].
وهذا أيضًا يُؤكّد أنَّه عمه، ليس أبوه؛ لأنَّه بعد هذا كله، وبعد الاعتزال، وبعد أن مات هذا عمه؛ وضع ولده أيضًا إسماعيل في مكة المكرمة عند البيت المُحرَّم وخرج (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) [إبراهيم:37-41] من هم والديَّ؟ أبي وأمي؟! ربّ اغفر لي، ولو كان هذا؛ هذا تبرأ منه! (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة:114]،
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) يعني والداه مِنَ المؤمنين، والداه من الموحدين، فطلب المغفرة لهم بعد أن رُزِقَ إسماعيل، وبعد أن رُزق إسحاق (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) -عموم المؤمنين؛ يعني والداه مؤمنان- (وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [ابراهيم:41]، أمّا أباه هذا المُراد بيقين أنَّه الكافر المشرك العابِد للأصنام -آزر كما سمّاه الله في الآية- (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) [الأنعام:74].
قال: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ..(49)) (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود:71]، وذلك إمَّا لمَّا حَمَلَت سارَّة بإسحاق بعدما حملت سيدتنا هاجر بإسماعيل، وكَبُر إسماعيل بعد ذلك جاءت البشارة بإسحاق ويعقوب من ورائِهِ، وأدرك يعقوب جَدَّهُ إبراهيم فأنِس بهما بعد أن اعتزل المشركين والكفار وخرج من أرضهم وجاء إلى الأرض المقدسة، وأُمِر أن يَترُك إسماعيل وأمه هناك في أرض مكة، وكان يتردد إليهم فأعطاه الله أولاد كرام صالحين؛ عِوَض عن مفارقة واعتزال هؤلاء المشركين.
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ..(49)) الله تعالى ذكر في سورة الصافات قصة إسماعيل وأمر -الحق تعالى- له بالذبح ثم قال: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات:112] بعد هذا، فالذبيح إسماعيل، بعد ذلك جاءت البشارة بمن؟ بإسحاق، وذلك في وقت متأخر بعد أن جاءوا إليه الملائكة في وقت إرادة الله إهلاك قوم لوط، فدخلوا عليه الملائكة وتكلم معهم، وقَدَّم لهم الطعام وبشروه؛ بشروه بإسحاق، (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) [الذاريات:29]، قالت: (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) (إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [هود:72-73]، فحملت وولدت بإسحاق، وإسحاق كَبُر وتزوّج ولا زال إبراهيم في قيد الحياة، وجاء يعقوب وأنِس سيدنا إبراهيم بمن آمن معه وبإسحاق ويعقوب، وكان من أوّل من آمن له لوط، ثم نُبِّئ سيدنا لوط وأُرسل إلى قوم سَدوم، وذهب إلى قوم يُبلِّغهم رسالة الرّبِّ، وجاء الملائكة يزورون إبراهيم متوجّهين لإهلاك قوم لوط وبشّروه بإسحاق؛
إذًا إسحاق متأخر جداً عن سيّدنا إسماعيل، والدعاء للوالدين في سورة إبراهيم كان بعد وجود إسماعيل وإسحاق (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم:39-41]؛ أمّا هذا المُشرك فقد تبرّأ منه.
قال: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا) -منهما- (جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)) صلوات الله وسلامه عليهم؛ ويأتي أخبارهم إن شاء الله معنا.
رزقنا الله كمال الإيمان واليقين ومُرافقة النبيّين؛ نسألك الصّبر عند القضاء، والفوز عند اللقاء، ومنازل الشّهداء، وعيش السّعداء، والنّصر على الأعداء، ومُرافقة الأنبياء، نسألك اللهم ذلك فهب لنا ذلك، ولم نَكن بدعائك ربي أشقياء، فلا تجعلنا بدعائك أشقياء ولا محرومين، ما شقي بدعائك أنبيائك وأوليائك والمؤمنون بك؛ فنسألك اللّهم أن تجعلنا من أسعد عبادك بدُعائك، فاستجب لنا كما وعدتنا وزِدنا من فضلك أعظم ممّا سألنا، وأكبر ممّا طلبنا، وأجلّ ممّا أمّلنا، وأجلّ ممّا رجونا به فإنّك الواسع رحمته، العظيمة منّته، القديم إحسانه، لا إله إلا أنت! يا كريم يا منّان، يا أرحم الرّاحمين؛
وتدارك أمّة هذا النبيّ بفرج عاجل ولُطف شامل، الطف بالمسلمين في فلسطين وفي لبنان وفي جميع الشّام وفي السّودان وفي الصومال وفي العراق وفي ليبيا وفي اليمن وفي جميع أقطار الأرض، الطف بالمسلمين يا لطيف! وادفع عنهم الآفات والعاهات واخذُل أعداءك أعداء الدّين والمُجرمين والمُعتدين والظّالمين ولا تبلِّغهم مراد فينا ولا في أحد من المسلمين، يا مُنزِل الكتاب، يا سريع الحساب، يامُنشئ السحاب، يا هازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم يا قويّ، يا متين، يا الله! يا الله! يا غوثاه! يا رباه! يا أرحم الراحمين!
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
11 ربيع الثاني 1446