تفسير سورة طه - 6 - من قوله تعالى: { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) إلى الآية 70
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
مساء الإثنين 27 رجب الأصب 1446هـ
فوائد مكتوبة من الدرس:
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بالوحي والتّنزيل، والبيان على لسان الهادي الدّليل، عبده المصطفى سيّدنا محمد، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه مِن أحبابه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرّبين وعلى جميع عباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
أما بعد؛
فإنّنا في نِعمة تأمُّلنا لكلام الإله الذي خَلَق، الواصِل إلينا على لسان رسوله الأصدق، وتدبُّرنا لدلالاته وإشاراته وتوجيهاته وما حمله إلينا من عِلم وحكمة، انتهينا في سورة طه إلى قوله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- على لسان سيّدنا موسى عليه السلام: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50)).
(أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ): تمامه وكماله وإقامته على الوجه الألْيَق والأَوفَق والأحسن الأزْيَن.
(ثُمَّ هَدَىٰ)؛ كلّ شيء إلى مَصَالِحه:
-
وهَدَى النباتات وهدى الحيوانات إلى مصالحها،
-
وهَدَى البشر والنّاس والجنّ،
-
بل هَدَى الجمادات لتكون مُسخّرة بحسب ما سبق في إرادته للنّباتات والحيوانات والجمادات.
(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ (51)) هذا الذي أقام لك -سبحانه وتعالى- هذه الأرض التي أنت عليها يا فرعون، هل خلقتها؟ هل شاركت في خلقها؟ كيف نسيت الذي خلقها ومكّنك من المُقام عليها؟! وجئت إلى الدّعاوي الباطلة هذه كلها! (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا (53)) سبحانه وتعالى.
(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) وهدى؛ فقامت ممالك النّحل وممالك النّمل وممالك الطّيور بأنواعها، بترتيبات وتنسيقات لكيفيّة حياتها ومعيشتها وطيرانها وأدائها لمهمّاتها،
(قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ)، الذين مَضَوْا، وأين هم الآن؟ ولماذا لم يرجعوا؟ وأين ذَهَبُوا؟ (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي (52))، جلّ الذي خلقها وكوّنها، والذي أُخبرك عنه أنّه يُميتها ويُعيدها إليه سبحانه وتعالى (فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي) لا يخطئ (وَلَا يَنسَى (52)) شيئًا من الوجود والكائنات فهو خالقها والمُتصرِّف فيها.
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا)، فمهّدها لكم تمهيدًا، في قراءة (مَهْدًا)، (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا (53)):
-
جعل لكم فيها طُرقًا لِمَعايشكم، لِزَرْعِكم، لِسَكَنِكُم، لِثِيَابِكُم ومَلَابِسِكُم،
-
وجعل لكم طُرقًا لِأسفاركم، لِإقاماتكم.
(وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا (53) وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، بالأمطار (فَأَخْرَجْنَا بِهِ)، يقول الله: (أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ (53))، أنواعًا من النّبات المُتكاثر، المُختلف في لونه وفي طعمه، وإن كان يُسقى من ماء واحد، ويُفضَّل بعضه على بعض في الأُكل (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة:63-64]، يقول جلَّ جلاله: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ) [النمل:60].
(فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ (54))، التي تركبون عليها وتَحملون متاعكم، وتأكلون منها وتشربون من ألبانها، وتَستعينون بها على توصيل أرزاقكم أو استثمارها واستخراج الأرزاق لكم.
(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ) علامات ودلالات واضحات (لِّأُولِي النُّهَىٰ (54))؛ أي لكلّ مَن استعمل ما آتيناه من نعمة العقل، (أُولِي النُّهَىٰ): أرباب العقول؛ فكلّ مَن استخدم هذه الطّاقة الموهوبة مِن قِبل الرّحمن بالاستخدام الصّحيح الحَسن اهتدى إلى عظمة الخالق، وخضع له وامتثل لأمره واجتنب ما نهاه عنه واستعدّ للقائه، وإنّ في هذا الذي بين أيدينا مِن السّماوات والأرض والنّبات آيات واضحات ودلالات، كلّ عاقل يقطع بأنّها فِعل فعّال، قويّ، كبير، عظيم، حكيم، جليل، بيده الأمر وإليه يَرجع الأمر.
(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ (55)) يقول الله؛ بتكوين جسد أبيكم آدم مِن هذه التّربة التي على ظهر هذه الأرض وخَلْطِها بالماء؛ فتحوّلت إلى حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ويَبِست فصارت صلصالًا كالفخّار ثمّ نَفَخَ فيه الرّوح فكان خلقًا آخر، كما نشاهد بعد ذلك فيما يكوِّن من النُّطف إلى العَلق إلى المُضغ إلى الهيكل العظميّ إلى ما يُنبَت عليه مِن اللّحم ثمّ نَفْخ الرّوح فيصير شيئًا آخر، (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنين:14].
قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) من هذه الأرض (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ (55))؛ (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ): فتَكَوُّن أغذيتكم من هذه الأرض، وتتكوّن من أغذيتكم بأمرنا وإرادتنا النُّطف، وثمّ بعد ذلك يكون من هذه النُّطَف تحويلَها إلى علق، وإلى مُضغ، وإلى هيكل عظمي، ثمّ كِسْوتها باللحم، ثم نَفْخ الرّوح فيها، (مِنْهَا) من هذه الأرض (خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) بالموت؛ فتُقْبَرُوا فِيها وتَكُونُوا من جُملة أَجزائها.
ثمّ قال تعالى: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ (55)) عند البعث والنّشور، كما أخرجناكم أوّل مرة فنُخرجكم كما نشاء مرةً أخرى.
-
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104]
-
(فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) [الإسراء:51-52]
-
(وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم:66-67]
-
(قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء:50-51]
مَن الذي جاء بكم أوّل مرة؟ أوّل مرّة هل حكومة صنَعتكم أو حزب قَوَّمَكم؟! كيف جئتم أنتم؟ لا يوجد لكم عقول؟! مَن الذي قَوَّمَكم حكومة أو دولة؟! مِن أين جئتم؟ والذي جاء بكم أوّل مرة ما الذي يُعجزه أن يجيء بكم ثاني مرة؟! يردّكم كما شاء ويُنشِئُكم كما شاء -جلَّ جلاله-؛ فلا مجال لاستبعاد البعث إلّا خَبَل، خَبَل العَقل، عدم إدراك العقل للبداية من أين جئت؟ والذي جاء بك أول مرة كيف يَعجز أن يرُدّك؟ أنت مجنون؟! وأمام عينك خلَقك مِن لا شيء، ويَرجع يُعيدك كما يشاء جلّ جلاله.
(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ) فرعون (آيَاتِنَا كُلَّهَا (56)) كيف آياتنا كلها؟ لأنّها في ضِمن العصا، وضِمن إدخال اليد في الجيب عدد مِن الدّلالات والعلامات، حتّى لمّا ألقى عصاه أمام فرعون فتحتْ لها فمًا كبيرًا وتوجّهت نحو فرعون فخاف خوفًا شديدًا وقال: يا موسى أسألك بالذي أرسلك أمسكها، فأمسكها ورجعت العصا كما كانت، فكانت عدد من الآيات في ضِمن العصا، وضِمن إدخال اليد وإخراجها واسْتنارتها؛ فلهذا جمعها آيات (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا) أي العلامات الواضحات التي أجْرَيناها على يد موسى وهارون.
قال: (فَكَذَّبَ) أبى أن يُصدّق، (وَأَبَىٰ (56)) أصرّ على الكُفر وعلى ادّعاء الألوهيّة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ (57)) ردّ هذا مِن نوع السّحر الذي كان مُنتشرًا بَينهم وظاهرًا بَينهم، وله صَوْلة في مُجتمعاتهم -السّحر- وكان السّحرة لهم مكانة بين المُجتمع، ويَخافهم المجتمع. قال: أنت جئت لنا بسحر تريد أن تضحك علينا مثل هؤلاء السّحرة، وتدَّعي أنّك رسول والأمر ليس بسحر، ولكن هكذا أراد أن يَنسبهُ إلى هؤلاء حتّى لا يُتَّبع، وحتّى لا يَرغب في اتّباعه أحد إذا رأى هذه الآيات يَقيسها على ما يَراه من السّحرة، ويقول هذا مثلهم، وفيه نوع من التّحايل والكيد والخداع في الأرض، وطرح الأمر حتى يُتصوَّر الحقّ أنَّه باطل.
فقال: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ (58))، سنُقابلك بالسّحر الذي عندنا نُنهي سِحرك هذا.
(فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ) لا نتخلّف عنه ولا نتأخّر، (نَحْنُ وَلَا أَنتَ) المَوعد (مَكَانًا سُوًى (58)) سِوى وسُوى: أي مُستويًا جامعًا للنّاس، مُهيّئًا صالحًا للقاء فيه (مَكَانًا سِوًى).
وجاء في بعض الرّوايات أنَّه في البداية قال له سيدنا موسى: إنَّ الله ما أمرني بهذا، وأمرني أن أناجزك الآن؛ تؤمن بي أو أدخل عليك، فأوحى الله إليه خُذْ منه موعد، أوّلًا موعد (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ (59)) يَوْمُ الزِّينَةِ: هو مكان مُهيأ ومعدّ كبير لهم، يوم في السّنة لهم عيد فيه، ويجتمعون فيه، ويتزيّنون فيه، فالمكان هذا كبير وواسع يسع النّاس كلهم، ومُمهّد ومُهيّأ، (مَكَانًا سُوًى (58)) هذا الموعد بيننا وبينك.
قال: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ)، وكان أيضًا ذلك يوم عاشوراء، (وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59))، قال: اجْمع النّاس لرؤية الأمر، وأنّي ما جئتكم بسحر ولكن رسول من عند الله تبارك وتعالى، يأتون وقت الضحى وقت ظهور الشّمس، ووضوح الأمر للقريب وللبعيد، فإنّ الآيات التي معي بيِّنات واضحات، ما فيها لُبس، ولا تحتاج سَتْر بِلَيْل ولا بِظُلْمة ولا بغيرها.
(مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ) يُجمع الناس (ضُحًى) وقت ضحوة النهار تعالوا سنجتمع ونُقدّم ما عندنا.
(قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ (60)) قال: ذهب يُعِدّ عُدّته، ويريد بكل طريقة أن يَصرف النّاس عن موسى ليوم النوبة هذا، يُزَعْزِعْ عليه مملكته، دعواه الباطلة كلّها، ويصبح كذّاب من الكذّابين بين القوم الذين استخفّهم فأطاعوه:
-
وكان يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]،
-
وبعد ذلك تطوّر وقال: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، ما عاد أحد إلّا أنا فقط.
-
قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، ثم يقول: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) [القصص:38].
قال: (فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ (60))، قال: (ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) [يونس:79] وفي قراءة أخرى (ائْتُونِي بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) من نواحي مملكته ومُدنه وقُرَاه وجمّع السّحرة مِن هنا ومِن هناك، حتّى يكونوا عدد كبير ويُواجهون الاثنين -موسى وهارون-، و هؤلاء مئات ألوف، قيل بضعة ألوف، قيل ثلاثين ألف، قيل سبعين ألف، سحرة كلهم، وكلّ واحد منهم بعد ذلك جاء له بحبل وعصا، ووضعوا الحبال والعصيِّ؛ سبعين ألف عصا، سبعين ألف.. منظر يهزّك يفزّعك، وهؤلاء اثنين نفر موسى وهارون فقط، وهؤلاء الحكومة والمملكة والشّعب والسّحرة الكثير، كلّهم ضدهم هؤلاء الاثنين نفر، لا إله إلا الله القويّ، سبحان الله العزيز الحكيم.
(قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ (60)) استنفذ كلّ ما في وِسعه في جمع السّحرة، وإقباله عليهم وهم يتزلّفون إليه؛
-
(إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا) [الأعراف:113] قال: تمنّوا، ماذا تريدون؟
-
قال: (نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الأعراف:114] أُقرّبكم عندي في المملكة، ويُغريهم ويُغويهم، ويحثّهم على أن يَستنفذوا وسعهم من أجل أن يَغلبوا موسى وهارون، وإذا غلبوا موسى وهارون، المملكة كلّها والسحرة كلّهم، وهؤلاء اثنين نفر، اثنين نفر، سبحان الله! الله أكبر!
(قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)) قال سبحان نَاصرهم القهار قوي.
ولم يَزل يَحثهم ويُرغِّبهم ويُمنِّيهم -فرعون- حتّى تَجمّعوا، (فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ (60)) في الموعد الذي ضربه سيّدنا موسى عليه السلام، (ثُمَّ أَتَىٰ) اجتمعوا بسيدنا موسى ومعه هارون فقط اثنين نفر، يُخاطبهم يقول للسحرة: (قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ (61)) اتّقوا الله الذي خلقكم، لا تعبدوا غيره، ولا تُوهِمُوا النّاس أنَّ الحقّ باطل، ولا تَصُدُّوا النّاس عن سبيل الله وعن الهُدى بسحركم هذا الذي تلْقونه، قال لهم سيدنا موسى عليه السلام، أداءً لحقّ الرّسالة والأمانة، وهكذا شجاعة الأنبياء وأدائهم لأدوارهم الكبيرة في الحياة بلاغًا عن الله تبارك وتعالى.
يُخاطب هؤلاء السحرة: (لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، لا تكذبوا على الله، تَدْعُون لغيره، وتَصُدُّون النّاس بسحركم هذا، (فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ) يستأصِلكم بعذابه لكم، لا يُبقي أحد منكم إذا أَغضبتموه، (فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ (61)) مَن كان مُفتريًا كذّابًا هو الخائب الخاسر.
ولمّا ألقى هذه الكلمات سيّدنا موسى هزّت قلوب الجماعة -وهم سحرة-، ولكنّهم أيضًا راغبين في الطّمع وما سيأتيهم مِن يد فرعون وقعدوا يتكلّمون بينهم البَيْن، (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ (62))، هل نُقابله أو لا نُقابله، نتهيأ أو لا؟ وكيف نعمل مع هذا؟ كأنه رسول من عند الله وليس ساحرًا، ماذا نفعل؟ قعدوا بينهم البين ينظرون ويتكلّمون.
(فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَىٰ (62)) بَيْن خاصَّتهم، لا يَسمعهم أحد فيَحتجُّ عليهم، ولا أرادوا فرعون أن يَسمعهم -بينهم البين- حتى انتَهَوا إلى.. (قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ).
أجْمَعوا أنهم ساحران، لا تقولوا ولا تُصَدّقوا، أجْمَعوا أنَّهم ساحرين، أكيد (إِنَّ هَٰذَينِ لَسَاحِرَانِ) وفي قراءة: (إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ) على أنَّ المُثنّى يُلازم الألف في بعض لُغة العرب.
قال: (إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ (63)) أنتم تعيشون في رفاهية، وهناك وَعِد الآن جديد مِنْ فرعون ليُعطيكم.. وستفقدون هذا كله! وهكذا النفس تطمع في الحقير الفاني الحاضر وتؤثِرُه! قال: (يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ (64)) اجتمعوا كُلُّكم، قولوا ساحر ساحر، لا تفكروا في شيء غير هذا!
فاجتمعوا (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ)، في قراءة: (فاجمَعوا كَيْدَكُمْ) ما عندكم من السحر؛ دفعةً واحدة، ثُمَّ تُصَفّ صفًا واحدًا، عدد كبير.. ويَفْزَع، ويفزع فرعون، و موسى وهارون ماذا سيعملون؟
(ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ (64)) باعتقادهم يفوز من غَلَب، هو الذي سيُحصّل المكانة عند فرعون، الذي سيحصل على المكافآت، وسيرتفع شأنه بين المجتمع.
(أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ) أجمعوا على ذلك، وأقبلوا عليه مرة دفعة واحدة، وعلى قلب واحد، وعلى جمعية؛ لأنّ فيها القوة حتى لا يقول واحد كذا وواحد كذا، كُلنا نقول هذا ساحر، ونحن نتحداك، ونأتي بسحرنا دفعة واحدة (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ).
ومع ذلك قالوا: (يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ (65)) قالوا أنَّه نوع من الأدب؛ لأنَّ لين القول مع الخَصِم إذا لم ينفعك لن يضرك! لين القول إذا عندك حجة لا يضرك -لين القول- فلانَوا القول؛ فقابلهم سيدنا موسى بأدب أكبر؛ نبوة!
(قَالَ بَلْ أَلْقُوا (66)) تفضَّلوا..
(قَالَ بَلْ أَلْقُوا) فلمَّا جاءوا وألقوا العِصِيّ والحبال الكثيرة وإذا بها في أعين الناس كأنها حيَّات تمشي، تقول كذا وكذا كمية هائلة (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ (66))؛ يعني أنَّ السحر ما يُجاوز العيون -ما يَقلِب عَينَ الأمر-، لكن في العين ترى شيء والواقع هو نفسه، لا يقدرون أن يغيروا الواقع، لا يقلِبون العين نفسها إنَّما أبصار الناس يجعلونها تتخيل وترى شيء غير واقعي مثلما يعملونه في الخدع السينمائية وكذا، (يُخَيَّلُ) ترى عينك أنّه انقلب كذا وما انقلب! ويعمل كذا ويعمل كذا وهكذا..، والسحر مثل هذا يجعلك تظن أنَّه هذا تحول حيوان وهو لم يتحول الى حيوان، هو نفسه حبل مثلما هو! وهذه عصا محلها! بخلاف -سيدنا موسى- يُحوّلها الله من حية إلى عصا حقيقة، تحويل حقيقي وليس تخييل عين -الله أكبر-.
قال: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ (67)) خاف أنَّ الله يختبرهم ويبتليهم بما لا يَقدرون عليه، يُكذِّبون ويُحرَمون الجنّة، يصدقون هؤلاء السحرة ويظنون أنَّ ما جاء به مِن نظير ما عند هؤلاء.
(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ (68)) أوحى الله إليه مباشرة: (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ) أنتم اثنين فقط ما أحد معكم، القوم كلهم ضدكم، واصطفوا، وجاءوا بالكرسي لفرعون الكبير وجلس عليه، وكِبار مملكته عن يمينه وعن شماله، والشعب من ورائهم من هنا ومن هنا، وأمامه السحرة، منظر هائِل فَزِع! وأولائك اثنين نفر جاءوا -لا إله إلا الله-.
(قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ (69)) ضع العصا انظُر إلى ماذا سنحولها؟ وكيف وماذا ستعمل؟
(وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) فألقى العصا، قال: (تَلْقَّفْ مَا صَنَعُوا (69)) حتى ما قال: تأكل ولا تأخذ! تَلْقَف، والتَّلَقُّف: بسرعة، أخذ الشيء بسرعة، وبسرعة فتحت فمها وأخذت الحبال والعصيّ كلها بلعتها، كميات هائلة؟! وهذه حية واحدة! وماهذه الحية؟ وماهو كبرها؟ وأخذت جميع الحبال والعصي!
أيقَنَ السحرة أنَّ ما هذا بسحر؛ وهم يعرفون السّحر مِن أوله لآخره، وهم سحرة كبار، ولا يقدرون على هذا، وهذا رسول من عند الله!
ويقول في الملاحظة بعض المفسرين العارفين، يقول: لمّا تأدبوا في البداية قالوا: (إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ (65)) جاءتهم العناية وأسلموا؛ جاءهم الخير.، قال: لأنهم تأدّبوا، ولو أنّهم أتَوا بأنفسهم وقالوا سنعمل كذا ربما لم يُهدَوا، فهداهم الله تعالى، -سبحان الله- بسرعة تغيرت الأحوال دخل نور الإيمان في قلوبهم فامتلأوا، في لحظات خَرُّوا سُجدًا! (آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ (70)).
قال: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ (70)) كيف؟ قبل قليل كنتم تقولون لفرعون أن لنا أجرًا وأعطنا، والآن تقولون (آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ)!! وتتعرضون الآن لسخطة فرعون؟ أما كنتم خائفين منه أن يخرجكم من أرضكم، ويُذهب بطريقتكم المُثلى، وينزع الجاه منكم؟!
الإيمان إذا دخل في القلب تتلاشى الأوهام كلها، تذهب الظنون كلها، والإشكالات الباطلة تذهب؛ على قدر قوة الإيمان.
(قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ) وإذا بالسحرة من طرَفهم إلى طرفهم مؤمنين! -الله الله الله-.
وآمن بنو إسرائيل التابعون لسيدنا موسى -عليه السلام-، في البداية ما آمن له إلّا قليل (عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ) [يونس:83]، آمنوا فتحداهم فرعون (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ (71)) هل الإيمان يحتاج إذن منك؟ وإذا حقيقة قامت بعينها، ماذا يعني إذن منك؟! حتى الإيمان أرادوا له إذن من فرعون! وهكذا بعض الطّاغين حتى إذا أحببت شيئًا يقول لك احضر رخصة مني، وبعد ذلك؟ هذا ما لك سبيل إليه! (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ (71)) وأرادَ ألّا يتبعهُ بالجمهور.
(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ(71)) قال لابدَّ أن هؤلاء متفقين مع موسى، عمل له دعاية مباشرة؛ ينشر دعايات لكيلا يتبعوه الناس -لا يتبعون موسى-، قال -فرعون-: هذا الرجل متفق مع الجماعة هؤلاء -بينهم البين- هو كبيرهم، والآن يريدون أن يُزحزحوا أمورنا ويلعبون علينا سنقوم عليهم الآن، وهو واحد من هؤلاء السَّحَرة، حتى لا يتبع موسى أحد!
(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ (71)) من خلاف يعني: يد يمنى ورجل يسرى، أو يد يسرى ورجل يمنى (مِّنْ خِلَافٍ).
(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي على جذوع النخل (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (71)) أنتم فَزِعتم من عصا موسى هذه؟ أنا سأعمل لكم تنكيل لكي تتأدبون، أنا عندي العذاب الأكثر، وأنا عندي العذاب الأكبر؛ هكذا في تصوره!!
فهددهم، وتوجّهت قوة المملكة إلى تهديد هؤلاء، فتحولوا إلى شيء آخر لا يتأثرون بالتهديد، كيف لا يتأثر من التهديد؟ كانوا متأثرين، لكن بعد الإيمان هذا لم يعودوا يتأثروا، (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ)، (لَن نُّؤْثِرَكَ) انظُر لكلامهم قبل: (قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) [الاعراف:113]، الآن يقولون: (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ (72)) دلالات واضحات؛ عَرَفنا فيها ربنا الذي خلقنا وخلق كل شيء.
(لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا (72)) لستَ أنت الذي أوجدتنا، أنت واحد مثلنا مخلوق! خلقنا الله الذي أوجدنا.
(لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا):
-
إما حلِف بالذي فطرهم،
-
أو لن نؤثرك على إلهنا الذي خلقنا،
(فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ (72)) لا نفزع مِن قراراتِك، كيف هذا؟ لم يكن أحد يُكلِّمُه هكذا! أول من كَّلمه موسى والمملكة كُلَّها كانت تحت أمره، لا أحد ينطق بكلمة مخالفة لفرعون، لا أحد إلاّ موسى! قالوا: أنت ما الذي أتى بك؟ من أين جئت بهذا الكلام؟ مَن ربكما يا موسى؟
ورجع السَّحرة كلهم يقولون: (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ) لا نفزع منك (إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)) ما هذا الإيمان؟ قالوا: أنت قضاؤك وعمرك مُدَّة الحياة القصيرة هذه وكلنا سنخرج منها، المهم الحياة الباقية التي أمامنا.
(إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يعني: مُلكك حقير، وشأنك صغير، دنيا فقط معك لا تقدر أن تقضي في غيرها! أمامنا برزخ قاضي غيرك، أمامنا قيامة يَحكُم غيرك ليس أنت، أنت الآن في العمر القصير، ليس عندك شيء، دنيا فقط حقيرة؛ سبحان الله!
قالوا: أصبحوا سحرة فجرة، وأمْسَوا شهود بررة، أخيار صالحين أقوياء في الإيمان واليقين -لا إله إلا الله-.
قال: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا) وهكذا المؤمنون أمام كل الحضارات الزائفة يقابلونها هذه المقابلة، (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (73)) هذا قرارنا وعقيدتنا؛ ربنا خير لنا منك، وأبقى لنا جوده وكرمه وإحسانه منك ومن مملكتك الزائلة البائدة هذه، اذهب! تَغيّر القوم؛ وتغيرت نظرتهم وكلامهم وخطابهم! -سبحانه- هذا خطاب المؤمنين.
(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) لماذا؟ لأن الحقيقة؛ متى علَّمهم موسى؟!! -في لحظات الآن بينه وبينهم-، وجاءوا له بالخلاصة الكبرى لليقينيات الكبرى، والقضية العظمى التي إليها المَرَد! (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (74) وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ (76))
ماهذا الإيمان؟ ماهذا الانقلاب العجيب الذي حصل ببركة سيدنا موسى وهارون -عليهم السلام-؟
وبعد ذلك؟ لا يزال يحاول هذا، ويُسمّي هذا سحر ولا أحد يتبعه؛ ومن أجل أن لا يتَّبع موسى أحد، فبقي من بقي معه، ويأتي لهم بحيلة بعد حيلة، وتخييل بعد تخييل، إلى أن أوردهم البحر وهلك وإياهم فيه، انتهوا!
هذه نهايات المفترين الكاذبين المخادعين، وإلى متى تستمر؟ إلى حد محدود تنتهي؛ ولكن بعد مرور سنوات، لا أحد من هؤلاء صلبه أو قتله، بقوا في حفظ الله تعالى مع أنَّ المملكة مملكته والأمر استمر سنوات، ولم يستطع أن يصلب أحدًا منهم؟! -لا إله إلا الله- أبدًا،
(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ) ولم يصْلب أحدًا منهم مجرد تهديدات، قال الله لا تَكون فما كانت، انتهى، لا يستطيع فرعون ولا غيره إذا أراد -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- إلى آخر ما ذكر ربُّنا -جلَّ جلاله-.
وهكذا قبْل فرعون قد استكبر عاد قوم النبي هود (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت:15] (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ) [فصلت:16] -لا إله إلا الله-، قال سبحانه وتعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحآقة:7-8] -لا إله إلا الله-، قال: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) [القمر:18-21]، كيف كان عذابي؟ كيف كان إنذاري؟ -لا إله إلا أنت- كيف كان عذابي؟ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17].
فسبحان الإله القوي، آمنا به وبعظمته وألوهيته وربوبيته، وأنَّه لا إله غيره، ولا ربّ لنا سواه، وعليه توكلنا وعليه اعتمدنا.
اللهم ردَّ عنَّا كيد الكافرين والفاجرين والمعتدين والظالمين والغاصبين، وعن جميع المسلمين في شرق الأرض وغربها يا قويّ يا متين، وأعِنّا على ما تحبه منا وترضى به عنا يا أكرم الأكرمين، يا أقدر القادرين، يا حاكم يوم الدّين، يا أحكم الحاكمين عاملنا بالفضل وما أنت له أهل، (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة:4].
ومن كلامهم -قوم سيدنا موسى- قالوا: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس:85-86]، فنجّاهم من القوم الكافرين، ومن تَبِع سيدنا موسى وهارون خرجوا معهم بعد أن مرَّت سنوات وفي منازعة ومقاومة بينهم وبين الكفار، وحتى أمرهم الله أن ينتحوا ناحية بالبيئة الإيمانية ويكونوا وحدهم فيها (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً): محل التعليم، ومحل الإيواء للفقير والمحتاج واليتيم والسائل إذا جاء يسأل، قبلة تُقصد (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:87] بشِّرهم؛ لن يُصلّبهم ولا..، هو الذي سيغرق بعد ذلك، فكان ما أراد الله -سبحانه وتعالى-.
لا إله إلا هو لا شريك له، نسأله أن يرينا في أمة حبيبه محمد ما تقرُّ به عين حبيبه محمد، وما يُسَرّ به قلب حبيبه محمد، اللهم أرِنا في هذه الأمة ما تَقرُّ به عين حبيبك محمد، وما يُسَر به قلب حبيبك محمد؛ في أحوالها وشؤونها، في شامنا وفي يمننا وفي الشرق وفي الغرب، يا ربّ المشارق والمغارب أرنا ما تقر به عين نبينا، وأرنا فيهم ما يُسر به قلب نبيّنا، ويُسِر قلوب الصالحين، وأُخذُل جميع المُعتدين الظالمين الغاصِبين المفسِدين، ولا تبلغهم مراد فينا ولا في أحد من الأمة يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
الفاتحة
30 رَجب 1446