(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل، من قوله تعالى:
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَالله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية
الحمد لله مكرمنا بالوحي والتنزيل، على لسان عبده خير داع ومعلم ودليل، الهادي إلى سواء السبيل؛ سيدنا محمد ﷺ وعلى اله واصحابه خير جيل، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان؛ في النية، والقصد، والفعل والقيل. وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ سادات أهل التكريم والتفضيل. وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ: فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا وخطابه، وتوجيهه وتعليمه وإرشاده وبيانه؛ على لسان المصطفى ﷺ. وصلنا في سورة النحل إلى قوله جل جلاله: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64))؛ فذكر الله لنا حكمة تنزيل هذا الكتاب على سيد الأحباب. وأن مهمته في هذا العالم والوجود؛ أن يبين للناس ما يختلفون فيه؛ فكل واعٍ عاقلٍ منصفٍ؛ ينتهي عنده الاختلاف (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة:213] جل جلاله، (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].
(وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(64))؛ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ من اختلف من سائر من زاغ ومن ضلَّ، ومن تنكب عن سواء السبيل من مختلف الكفار، ومختلف الزائغين الضالين على ظهر الأرض؛ بيانُ ما اختلفوا فيه من قِبَلِ ربهم الذي خلق. بعث به عبده المصطفى محمداً ﷺ؛ أصدق من في الخلق نطق. وبين لهم وجه الهدى والحق بما أنزل عليه من الكتاب العزيز؛ الحق المطلق (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)). وإننا ننادي ونخاطب أنفسنا، وكل عاقل على ظهر الأرض من إنس وجن؛ ما اختلف الخلق فيه في هذا العالم من القضايا وأهمُها: ما كان من شان الخلقِ، والإيجاد، وحكمةَ الخلق والإيجاد، والمرجعِ والمآبِ، والمآلِ والمصيروالمعاد. يجب أن نرجعَ لحل الإشكال فيه، وإبعاد الاختلاف إلى ما لم يتركنا فيه إلهنا الذي خلقنا عُرضةً لما تتفرق فيه أفكارنا، وتتباين فيه عقولنا، وتذهب به أهويتنا يمنةً ويسرةً.
قد أكرمنا بالتبيين، وقد أكرمنا بالتنزيل، والتعييَّن، وقد أكرمنا ببعث النبييَّن، وقد ختمهم بسيد المرسلين ﷺ. فلنرجع، يا كل منصف فيه لرفع) هذا الخلاف إلى ما قال الخلاق جل جلاله، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [تبارك:14]؛ وما قضى به وأنزله، على لسان عظيم الأخلاق حبيبه المصطفى محمد ﷺ، إن كنا نرتجي حلَّ قضيةٍ مهمةٍ، مختلفٍ فيها من عند غير الله تبارك وتعالى؛ فما نزداد إلا اختلافاً، وما نزداد إلا سوءَ تباعدٍ وشقاقٍ_ والعياذ بالله تبارك وتعالى- ولكن إنما نهتدي إلى الحق؛ من الذي خلق؛ بما أنزل من حق: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64))، اللهم زدنا إيمانا، وهب لنا ما خبأتَ في الكتاب، وطويت في الكتاب، وأبطنْت في الكتاب؛ من الهدى، والرحمة للمؤمنين. (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )؛ فاجعلنا يا رب من المؤمنين، وزدنا هدىً ورحمة. كلما سمعنا آية، وكلما تلونا آية، وكلما حفظنا آية، وكلما سمعنا كلمةً من آياتك، وتنزيلك؛ زدنا هدىً، وزدنا رحمة؛ برحمتك يا أرحم الراحمين.
(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الاعراف:204] وَهُدًى؛ هدايةً يتبين بها وجه الحق؛ في كل مقيد ومطلق. في كل مسلك. وفي كل خلق، وفي كل حقيقة من الحقائق، وفي كل معنىً من المعاني؛ يتبين الهدى بنور القرآن لمن به اهتدى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [المائدة:16]؛ فالهدى في كتاب الله. والرحمة في كتاب الله. وخيرنا في كتاب الله. جعلنا الله من أهل هذا القرآن؛ المُنْعَمْ عليهم بالهدى والرحمة. وتوفير الحظ منهما، واجزال القسمِ والسهمِ من حقائقهما، وأن يزيدنا من ذلك؛ في كل لمحة ونفسٍ أبدا إنه أكرم الأكرمين.
(وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64))؛ هدىً من الله، بواسطة مصطفاه؛ يهدي به الله من شاء من براياه؛ أعظم الهدايات؛ بكل أنواع الهدايات؛ في العلم، وفي العمل، والعبادة. والتطبيق له؛ في الأوصاف، والتخلق، وفي إدراك الحقائق الإلهية، والحقائق الكونية؛ التي تعلقت بها إرادة المكون جل جلاله، وتعالى في علاه؛ بتكوينها. الهداية في كل هذا وما اتصل بهذا، وما وراء هذا؛ من الله، في كتابه الإشارة إليها؛ فالفوز والبشرى لمن يتصلون بسر الكتاب، ومعاني الكتاب، ويغوصون على الدلالات والإشارات التي فيه. والهدايات من الرب جل جلاله. (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)). ويقول سبحانه وتعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [ القيامة: 19] ثم يقول: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (44)) يقول: (لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ (64)) أي: إنما نُنْعِمُ؛ بالبيان والإيضاح وظهور الحقيقة لمن خضع واتصل بعبدنا ورسولنا محمدﷺ. فنسب البيان إليه: ونبييِّن؛ هو الحق، وهو الهادي جل جلاله. ولكن بهذه الواسطة: يقول (لِتُبَيِّنَ)؛ لتبييِّن أنت يا محمد (لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)).
وهكذا كانت مهمة الأنبياء في أقوامهم وأممهم؛ لكن اتسعت المهمة عند نبينا خاتم الأنبياءﷺ. فكان بيان ما اختلف فيه جميع الخلق إنساً وجناً إلى يوم القيامة؛ منوط به ﷺ، ومتصل به (لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ). يقول سبحانه وتعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) [البقرة:213]؛ في أصل خلقهم على الإيمان بالله، وتوحيده جل جلاله، والإيمان بالآخرة، والمرجعِ إليه، وبعد ذلك؛ دخلت الأهواء والأفكار والظلمات، وعاقتهم عن إدراك الحقيقة واختلفوا؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين؛ ليحكم بين الناس. (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة:213] جل جلاله وتعالى في علاه. يقول سبحانه: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [البقرة:213] أي؛ أنهم مع البيان إذا لم يصحب التوفيق بتنزيه الإنسان عن أهويته؛ فإنه يضلُّ وان علم بضلُّ والعياذ بالله، ويخرج عن سبيل العلم الصحيح؛ بالبغي والهوى (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) الحسد والهوى؛ يزيغُ الإنسان عن سواء السبيل، وعن طريق الحق. يقول: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة:213]، كذلك قال للنبيين (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
فيا أي إنسان: بعقلك تعظم تجربة غيرك، أو تفكير غيرك؛ أفراد أو جماعات. وتنسى أن الخالق الذي خلقهم وخلق عقولهم؛ أعلم وأحكام. وقد أنزل اليك الكتابَ. لمَ لا تتلقى عن الله بواسطة رسوله؟ وكيف تقدم غيره؟ كائنًا ذلك الغير ما كان؟! قل لي عن أي حجة ومنطقٍ وعقلية؟ سلمت لعقليات أمثالك ونظرائك من الناس أفرادً وجماعات؛ بأنهم يهدونك للحق دون الخالق الذي خلقك وخلقهم أعاقل أنت؟! ألبيب أنت؟! أواعٍ أنت؟! بمنطق تتكلم؟! تقدم منْ؟! على الذي خلق؟! فإن كنت تطلب حلاً لشيء من إشكالاتك، أو مشكلاتك من قبل تجربة ذا، أو تفكير ذاك، فذا وذاك مخلقون لواحدٍ؛ كونه وكون أفكاره؛ هو الأعلم وهو الأحكم؛ ارجع اليه؛ وقد أنزل إليك بيانا. فتعرض عن بيانه، وتذهب لتستسلم مستعبداً لعبيد مثلك!
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [ال عمران:64]؛ اشهدوا اننا تعززنا بالله وسلمنا زمام الأمر له، وانقذنا وخضعنا له، ولسنا مستعدين أن نباع لأحدٍ؛ يشترينا في سوق الفكر، ولا في سوق الخلق؛ لنصير عبيداً له؛ غير الله تبارك وتعالى. لسنا عبيداً لغير الله: (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [ال عمران:64]؛ نحن المستسلمون لهذا الإله الذي أبيتم حكمه، وأبيتم بيانه، وأبيتم ما بعث به المرسلين. (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). نحن على هذا الإسلام معتزون بالحق تبارك وتعالى، وبعبوديتنا له وذلتنا له، ويقول تعالى: (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64))، فزدنا اللهم إيمانا، وزدنا هدى ورحمة، وانعم على أمة حبيبك محمد بزيادة الإيمان الذي ضَعُفَ في كثير من رجالهم ونسائهم، وامنن عليهم بالهدى والرحمة؛ حتى لا يضحك عليهم ويخدعهم إبليس بجنده؛ يتبعونهم كأنهم أرباباً من دونك؛ ولا رب إلا أنت. وكأنهم آلهةٌ سواك؛ ولا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك. فأنقذ المسلمين وشرفهم، وأعزهم بالهدى والرحمة؛ بزيادة الإيمان يا رحمن.
(وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)؛ يقول هذه الدلائل، هذه العلامات، هذه الحجج، هذه البراهين؛ في مأكلكم، في شربكم، في دخولكم، فيما فوقكم، فيما تحتكم، فيما عن يمينكم، آيات ربكم جل جلاله وتعالى في علاه. لِمَ هذا الإنكار؟! لِمَ هذه المعاندة؟! لم هذا الإصرار على الهوى، ومخالفة الحق؟! (وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً -جل جلاله وتعالى في علاه- فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (65))، وكيف ترون الأرض ماتت بيبسها، وماتت بتصلبها، وماتت بأجزائها، وماتت بجدبها؛ ثم يُنْزِلْ مطر من السماء وماء؛ تتحول إلى خضرة، وإلى أشجار، وإلى أثمار، كيف هذا؟ (تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39].
(وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (65)) وكذلكم ليش تتعجبون في موتكم وحياتكم. ما تموت الأرض أمامكم! فيحييها. وما يصعب علينا في احيائكم؛ وقد خلقناكم من العدم! ما لكم لا تعقلون؟! لمَ هذا العناد؟! لمَ هذا الإصرار؟! لمَ هذا الكبر عن الأمر الواضح البين؟! (وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65))؛ قال هذه آيات في ظهورها ووضوحها ما تحتاج إلا سماع فقط، حتى ما قال يبصرون؛ لألَّا يدل على البصير وما تحتاج تفكير كثير. تحتاج تنصت فقط وتسمع انصت وأسمع، واضح عليك؛ بينً (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [الروم:23] مجرد ما تسمع العقل يقف أمام شيء واضح. أمام أمر لا انبهام فيه، ولا إشكال فيه، (وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65))؛ اسمع فقط اسمع وانصت بإنصاف؛ وانتهت المسألة. راح الظلمة والظلال والزيغ كله.
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً .. (66)) يجعل السماء والأرض والنبات والأنعام كل شيء دلالة على عظمته، هو بيننا ونحن نعيش معه، ومع ذلك نُصُر على الجحود. ونُصّر على التكبر. ونُصّر على نسيان هذا الإله (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)؛ تعبرون بها، كما أن العلم تعبرون به؛ من ظلمة الجهل، إلى نور العلم. (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ)؛ مما في بطون الانعام. (نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ)؛ في شرق الأرض وغربها؛ يشربون الناس مما في بطون الأنعام؛ وماذا وسط بطن الانعام، الابل والبقر والغنم؛ (مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) هو مستقذر لونه وريحه وطعمه لا أحد يريده، فرث ودم؛ فرث الذي يتجمع في كرش الحيوان، والدم الذي يمشي. من بين الفرث والدم خرجنا لكم لبن، لا يشبه لون الفرث، ولا طعم الدم، ولا رائحة الفرث، ولا رائحة الدم؛ (لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66)). كم المساحة والمسافة اللي في بطن الناقة، وأصغر منها البقرة وأصغر منها الشاة؟ كم المساحة هذه من أجل يجري لنا ماء عذب؟ لحم ودم وعظم وفرث؛ من أين هذا يأتي اللبن؟! وأين مصدره ؟ إذهب و شرِّحها، هل وجدت في وسطها شيء يصدر اللبن؟ ماهي مواد اللبن؟ قال من بين فرث ودم؛ نُخلِّص لكم (لَّبَنًا خَالِصًا)؛ ما فيه شوب، ولا وسخ؛ (خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ)؛ يسهل بلعه، وحتى قالوا كما يقول ابن أبي كبشة: لم يشرق أحد بلبنٍ قط، يشرقون من أنواع المشروبات لكن بلبن مافي أحد غصَّ، مافي أحد شَرِق من اللبن؛ (سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ). وهذه الخصائص كلها، من أين جاءت؟ إذهب وحلِّل المواد اللي في بطن البقرة وفي بطن الناقة ، المواد حق اللبن، من أين هي؟ من الشعر! وإلّا من اللحم! وإلّا من أين تجي؟ يخرج شيء ثاني.
( نسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66)). وهذا الوحيد الذي يغني عن الطعام والشراب معًا؛ يكفي طعام وشراب؛ تغذية للبدن وشراب، هو كافي؛ لهذا كا نﷺ إذا أكل أي شي؛ جعل الدعاء: "االلهم بارِكْ لنا فيما رزقتَنا، وارزقنا خَيرًا منه"، فإذا شرِب اللبن قال: "اللَّهُمَّ بارِكْ لنا فيه، وزِدْنا منه". وهذا اللبن بخصائصه النافعة المفيدة، والتي يُستَخرَج منه أشياء كثيرة؛ انما يتم أيضاً بتمام النعمة؛ من الخصب، ومن سلامة الحيوانات هذه، ومن وجود الرحمة والأمطار، وما إلى ذلك. فوجود اللبن معنى وجود خيرات كثيرة؛ لذلك يقول: "وزِدْنا منه". (لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66)).
يقول تعالى: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ .. (67))؛ تأكلون؛ نحن نطعمكم، ونحن ننبتها: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة:63-74]، (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ)؛ وخص النخيل والأعناب، على وجه الخصوص من بين بقية الأشجار والنباتات، يقول: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا)؛ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ؛ مما أنبتنا لكم؛ في النخيل والأعناب؛ من التمر والعنب؛ (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا)؛ ما يزيل العقل، (وَرِزْقًا حَسَنًا)؛ وهذا التمهيد لتحريم الخمر، والآية لم تزل عادها في مكة المكرمة قبل تحريم الخمر ولكن تمهيد لتحريم الخمر؛ لأنه يقول: سكر وَرِزْقً حَسَن، معناه؛ ذا ما هو حسن، الرِزْق الحَسَن أين ؟ تمر، عنب، المريس (عصير التمر) والدبس الذي يخرج منه، وكل هذا رزقاً حسناً وذاك بعَّدَهُ من الرزق الحسن. قال: (سَكَرًا-وحده- وَرِزْقًا حَسَنًا (67))؛ معناه: هذا ما هو حسن وهكذا.
من الأقوام من لم يشرب الخمر حتى في الجاهلية، مثل: سيدنا علي بن أبي طالب، سيدنا ابوبكر الصديق -مجموعة من الصحابة- حتى في أيام الجاهلية ما كانوا يشربون الخمر قبل تحريمه. ولما جاء مثل التنبيه؛ سكرًا، ورزقاً حسن؛ بدأت بعض النفوس تقول: ما هو حسن هذا، نأخذ الرزق الحسن . بعد ذلك بدأ التحريم عند الصلاة فقط : (لَا تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ) [النساء: 43]؛ فبدأ الناس يتباعدون عن الخمر؛ لأنه كان منتشر في مجتمعاتهم؛ بكثرة، وقوة، في كل بيت. بعد ذلك إذا أراد أن يصلي الصبح مع النبي ﷺ؛ فلا بد يتجنب من آخر الليل، لا يقرب شيء من الخمر لأنه يريد أن يصلي مع النبي ﷺ. وبعد ذلك يريد أن يصلي الظهر مع النبي ﷺ في النهار، أيضا صعب عليه وبعدين العصر قريب وبعدين المغرب قريب. ومتى يتناول هذا بحيث يجي وقت الصلاة وهو غير سكران؛ حتى يصلي مع النبي ﷺ فتباعد، ومع هذا التباعدات كلها في يوم نزول تحريم الخمر، سالت شوارع المدينة بالخمر، رموها ؛ يعني: موجودة في بيوت الناس؛ رموها بمجرد سماع النداء (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:90-91]. أمر النبي ﷺ المنادي؛ إن الله ورسوله حرَّم عليكم شرب الخمر؛ كل من سمع النداء كبَّ الخمر الذي في بيته؛ فسالت شوارع المدينة خمرا؛ حتى يظن الداخل أنها أمطرت خمرا. ومن ذاك اليوم نفذوا الأمر، وأراقوا ما عندهم من الخمور ولم يزل إبليس وجنده يحبون أن يوقعوا العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة بواسطة هذه المسكرات والمخدرات ولا تزال سلاح بيد عدو الله يضرُّ بها الإنس والجنّ ضرراً بالغاً، وسخَّر جندهُ من الإنس والجن لينوعوها ويصنفوها، ويسهلوها ويرسلوها؛ ويغروا بها الناس، ويسمونها بمسميات، ويحملوا الناس عليها، حتى انتهوا في اوقاتكم الأخيرة؛ تسمعون عن ما يسمى بالشبو؛ الذي يجُمع من مصائب المسكرات ما يجعل صاحبه الذي يتناوله لأول مرة كأنه مدمن؛ من أول مرة. عن بقية الأنواع التي تحتاج ما يتأثر بها ويصير صعب عليه تركها، ويصير مدمن إلا بتكرارها، هذه من أول مرة كأنه مدمن. وتنساق وراءها شر بعد شر، وسوء بعد سوء (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة: 91]وهكذا؛ عمل إبليس وجنده.
لكن نحن معاشر المؤمنين، ومع هذا البيان من رب العالمين، ماذا عملنا؟ ما عرفنا نحرس أولادنا! ماعرفنا نحرس أبناءنا! وحتى بناتنا ما عرفنا أن نحرسهم من هذا! أمر غريب! ما هذا الإغفال؟! ما هذا الإهمال؟! ماهذا التسييب؟! ما هذه الإضاعة؟! ما هذا التبلّد للحس؟! ما فقد الشعور هذا؟! حتى يتمكّنَ أعداء الله من نشره من البلد هذه الى البلد هذه ويتقصَّدون ما بقي من بلدان المسلمين، على تمسك بالدين، وعلى ظهور للشريعة فيه، يقصدون أبناءه وبناته. ويحبون أن يخططوا في البلد الفلاني -إذا استمرينا على الطريق الفلانية، في خلال سنة نحوِّل أكثر من 70 % من شبابها، إلى مدمنين، إلى وغير ذلك يفكرون في مثل هذا. فليفكروا؛ هم أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء الإنسانية وأعداء البشرية لكن معشر المؤمنين: فينا يكون هذه الخطط؛ مبثوثة، ومعمول بها؛ من إهمالاتنا، من غفلاتنا، من عدم انتباهنا من أبنائنا من بناتنا؛ نصير نحن ممهدين لهم، ولسوءهم هذا، ولشرهم؛ حتى يخطتفوا من بيننا من يخطتفوه وهي متواصلة؛ حتى إذا تعلق الشاب أوالشابة بالمناظر المحرمة ، والكلمات الساقطة، ويتعلق بالمخدرات والمسكرات، وهي مترابطة بعضها البعض؛ بعضها يجر الى بعض؛ وقليلها يوصل إلى كثيرها؛ وصغيرها يؤدي إلى كبيرها. وهكذا فلابد من حزم، لابد من صدق، لابد من انتباه، لابد من حسن تربية، لابد من إقامة لأمر الله تبارك وتعالى، وانتباه من الأبناء والبنات وأن لانفسح لعدو الله وجنده؛ مجالات في قرانا، ولا في مدننا، ولا في ديارنا ومساكننا؛ لهؤلاء العابثين؛ بعقول البشر، وبأديان البشر، وبقيم البشر، وبإنسانية الناس، هؤلاء العابثين والعياذ بالله تبارك وتعالى.
قال: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)) يتعقَّلون الأمر ويفكرون فينتبهون الى إدراك العظمة في خلق هذا النخيل، وهذه الأعنابُ، وما يترتب عليها من: منافع، وفوائد، وكيفية تكوينها؛ فسبحان المكون الحكيم. وواصل أسرار الحق في الوجود.
(وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ ...(69))؛ أوحى ربك إلى النحل؛ والوحي في عموم معناه: أن يُعْلِم الموحي الموحى إليه بعلمٍ في خفاء. ويأتي منه الأشرف الأعظم: وحي الله للأنبياء والمرسلين؛ بواسطة الملائكة: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) [الشورى:51] جل جلاله وتعالى في علاه. وبعد ذلك ما يأتي لعموم الكائنات والمخلوقات من هذا الوحي.
فأقرب من وحي الأنبياء؛ إلهامات الحق تعالى لأرباب القلوب الصافية، والسرائر النقية، وما يُتَحَدَثْ عنه في لسان النبوة؛ بالفراسة: "وإن في أمتي محدَّثين" وإلى غير ذلك. وبعد ذلك يأتي الوحي بواسطة الرؤيا. والوحي بواسطة الإلهام، كما قال تبارك وتعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص:7]. إذًا؛ فالوحي بالنبوة والرسالة مخصوص بالأنبياء والمرسلين، وبِمَلَكٍ؛ يرون شخصه، ويسمعون صوته. أو أنواع الوحي التي خُص الله بها الأنبياء والمرسلين. ويتسع معنى الوحي بعد ذلك. (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7]؛ (رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)؛ أمور غيبية ومستقبلية بعيدة ستكون؛ أوحيت إلى (يوحانذ) أم سيدنا موسى. (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ)، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه. هذا نوع شريف من الوحي بعد وحي الأنبياء. ويأتي إلهامات الحق تبارك وتعالى؛ للأولياء، وللعارفين بالله تبارك وتعالى؛ بما يلهمهم، أو يخصهم به؛ من إنكشاف أمرً، أو إتضاح أمرً، أو إلهام في أمرً. ثم بعد ذلك يأتي الوحي حتى لعموم الناس. يأتي الوحي للحيوانات. ويأتي الوحي حتى للجمادات: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت:11]. (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) [الزلزلة:1-5]؛ اوحى الى هذه الارض (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا). وهذا الوحي لهذا النوع من الحيوانات؛ فصارت عجائب في هندسته، وترتيبه، وتركيبه، وذهابه، وإيابه، وكيفية أكله من الأزهار المختلفة، وشكله الهندسي السداسي؛ الذي يبني عليه بيوته. (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68))؛ من الجبال: في كهوف الجبال. ومن الشجر، (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)؛ من الجبال وفي كهوف الجبال ومن الشجر (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي يبنوا لكِ ـ ابن آدم ـ ويهيؤون؛ لتضعي فيه عسلكِ ومكانكِ من الجُبُوح هذه التي يقيمونها؛ واتخذيها فلهذا تسكن فيها، ولو كان ما عندها وحي لتسكن فيه لن ترضى تدخل لنعمل لها البناء وتروح هنا وبعد ذلك قال لها الله: ادخلي هنا. الي يعرشون لك؛ ادخلي وسطه. فتدخل سبحان الله (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ)؛ مباحة لك أنواع الثمرات. خذي الزهور حقها (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ (69))؛ الطرق التي هيأها لك سبحانه وتعالى. لكِ طرق بعيدة، وطرق قريبة، وتجيء منه، وترحل من مكان لمكان، وبلاد لبلاد، والطريق آمنة مطمئنة؛ (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ)؛ طرق ما أحد ينازعك عليها، ولا يمنعك منها. (سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا (69))؛ الطريق مذللة لكِ من دون مقاومة، ولا مصادمة؛ لا تتصادم من بينكنَّ البين، ولا تجي حيوانات ثانية تصدمكنَّ، ولا بني آدم، ولا غيرهم؛ طريق مسهلة وميسرة؛ إلى محل الزهر، ورجعة إلى محل الذي تضع فيه ما في بطنها- لا إله إلا الله -ترتيب عجيب. (ذُلُلًا)؛ أيضاً أنتم متذللات لما أوحينا إليكنًّ، ولما أردنا منكنَّ من حكمة متذللات.
(ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ (69)) والمتذلل لأمر الله تعالى؛ هو الذي تصدر منه المنافع للخلق، وتأتي منه الفوائد للناس؛ بتذلله. أما المتكبر؛ المترافع؛ ما يجي منه الخير- هذا-، وما يجي العسل من الحيوانات المؤذية والمتعفرتة، هل شيء من السباع تجيب لك عسل؟! ما تجيب لك عسل. بل حيوانات أخرى ما شي فيها تذلل وأدب مثل النحل! تجيب لك لسع، وليس عسل! تقلب العسل لسع تلسعك! حتى بعوضة كما هذه صغيرة؛ تخليك ما تنام سواء، أنت أكبر ولا هي! وهات القوة التي عندك والكُبْرهذا -سبحان الله- والكِبَر أين يصل؟ -لا إله إلا الله- هذه سلطها، وهذه سخرها- سبحانه وتعالى- ولمّا تذللت؛ خرج منها نافع للناس كبير، (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ (69))؛ أحمر، وأصفر، وأخضر وأسود؛ باختلاف المراعي التي ترعاها، وباختلاف سنَّها؛ هي النحل.
يقول سبحانه وتعالى: (فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ (69))؛ هكذا حتى كان عبد الله بن عمر؛ أي مرض فيه يأخذ عسل؛ فيه جروح؛ دُمَّل؛ يجيب عسل يحط فوقه. قالوا له : تحط العسل للدُمَّل ؟ قال: ما قال الله: (فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ)؟. فكان يحصل العلاج. كذلك عبد الله ابن عامر مرض، قالوا له: نجيب لك علاج؟ قال: أئتوني بماء السماء؛ فإن الله يقول: مبارك. (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا) [ق:9]. قال: أئتوني بعسل، إن الله يقول: (فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ). قال: أئتوني بزيت الزيتون، فإن الله يقول: شجرةٌ مباركة. خلطه وشربه فصح؛ راح منه (فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ).
قال الصحابي للرسول ﷺ: يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه -أصابه الإسهال- قال: فاسقه عسلا، سقاه عسل رجع قال: يا رسول الله سقيته عسل؛ فزاد استطلاقا. قال: اسقه عسلًا. راح رجع ثاني مرة يقول: يارسول الله سقيته عسلا ومازاد شئ، قال: صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً. رجع سقاه العسل شُفي وبرئ من العسل؛ لما وصلت الكمية المحتاج اليها انتهى. قال له: صدق الله وكذب بطن أخيك (فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ) -لا إله إلا الله-. ويجي لك هذا الشفاء، وأعز المشروبات على يد هذا الحيوان الصغير جدا؟ ماهذه العظمة ! اللي فوقكم. بتعظم نفسك! بتعظمها،من انت؟! اعز الاشياء حقك، من اين تجي؟ وحتى أعز اللباس من دودة القز -الحرير- حشرات حيوانات، وأعز شي تلبسه و تطعمه؛ منها يجي -جل القوي جل العظيم جل العزيز جل القادر- ولكي يلزم كل واحد حده وأدبه؛ ويعرف ان الامر أمره، ويخضع لجلال الحق سبحانه وتعالى. (إنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)) أفكارنا، ونوِّر بصائرنا، وأبصارنا.
واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم انفعنا بالقرآن، وعمنا بالغفران، واجعلنا من خواص أهل الإيمان، وارفعنا إلى أعلى مكان، برحمتك يا أرحم الراحمين. ثبتنا على الحق فيما نقول، وفيما نفعل، وفيما نعتقد، واجعل هوانا تبعا لما جاء به نبيك محمد ﷺ؛ ظاهراً وباطناً، بخير ولطفٍ وعافية.
17 جمادى الآخر 1444