(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل من قوله تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48))
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية في الساحة الشرقية بدار المصطفى بتريم
الحمدلله مُكرِمِنَا بتنزيل الكتاب، وبيانه على لسان سيد الأحباب سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله والأصحاب، وعلى من والاهم في الله واتبعهم على منهج الهدى والصواب إلى يوم المآب، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوة رب الأرباب، وسادات أهل الفضل والمعرفة والاقتراب، وعلى آلهم والأصحاب، وعلى ملائكة الله المقربين الأطياب، وعلى جميع عباد الله الصالحين الأنجاب، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا ذا الجود المُنهَالِ السَّكَّاب.
وبعد،،
فإنَّنا في نعمة تأمُلِنا لكلام ربِّنا -جلَّ جلاله- وتعليمه وإرشاده، انتهينا في سورة النحل إلى قوله تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحى إِلَيْهِمْ .. (43))، رداً من الحق تعالى على من استكبر أن يُرسل إلينا من قِبل الله بشر، وجميع من أرسلهم الله تعالى من آدم إلى نبينا محمد بشر، ولم يُرسِل الله تعالى بالبلاغ والإنذار والتبشير والتبيين والهدى ملائكةً ولا غيرهم من المخلوقات، وإنَّما جرت سُنَّةُ الخالق المُكَوِّن أن يرسل إلى البشر بشراً، و(يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75]، فَيَجعلُ ما بينَ رُسُلهِ من الملائكة ورُسُلهِ من الناس وسائطَ ودقائق في الصِلات، ثُمَّ يَجعَلُ الرُسُلَ إلى النَّاسِ النَّاسَ، كما قال تبارك وتعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا * قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا) [الإسراء:94-95]، ولكنْ الموجودون على ظهر الأرض، الذين خَلقتُهم وكَوَّنتُهُم وأسكنتُهُم الأرض بشر؛ فَأبعثُ إليهم من البشر من اصطفيه، واصطفى الأنبياء والمرسلين وجعل أصفاهم خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحى إِلَيْهِمْ .. )، خُصٌّوا بالوحي، وفيه أيضًا إشارة إلى اختيار الله أن يجعل المُرسَلين من الرجالِ، فلم يُرسل -سبحانه وتعالى- إلى الخلق الملائكة ولا النساء من بني آدم ولم ينبئهن، واختار مِنهُنَّ الصِّديقات والمُقَرَّبَات من أتباع الأنبياء، وأرسل الرجالَ؛ أي من اختاره منهم وهم ما بين ثلاثمائة وخمسة عشر أو أكثر من ذلك، والأنبياء ما يزيدون على المئة ألف والأربعة والعشرين ألف، كما جاءنا في أحاديث عن نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، قال العلماء: والصحيح عدم حصرهم لقول الله تعالى: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر:78] فآمنَّا بكل نبيٍ ابتَعَثهُ الله، وبكل رسولٍ أرسلهُ الله، ولم يُكلِّفنا أن نعرفَ بالاسمِ منهم إلا من سمَّاهم لنا في قرآنه، وهم خمسةٌ وعشرون رسولًا، ذكرَ لنا أسماءهم في القرآن؛ فوجب علينا أن نؤمن بهم بأسمائهم، وهو معنًى من التفصيل، وأما بالإجمال فلم يكلِّفنا معرفة أسمائهم، ولكن كل نبيٍّ ابتعثه الله وكل رسول أرسله الله آمنا بالله، (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) [البقرة:285].
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحى إِلَيْهِمْ.. )؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: يا معشر بني آدم المسائل التي ليس مَرجِعُهُا إلى هوى أحد ولا إلى فكر أحد؛ يجب أن يُرجَع فيها إلى أهل التخصص وأهل المزيَّة ويُسَلَّم لهم، ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)) هذه الحقيقة يُنْبِئُونَكم عنها، فمن أينَ تأتون بخيالات من عندكم لماذا ما يكون الرسول فلان؟ لماذا ما يكونُ الرسول ملك؟ لماذا ما أنزل الله ملائكة؟، ليست هذه سنتي في الوجود، إن جهلتم ذلك؛ فما لكم الحق أن تُكَابِروا في كل مسألة من المسائل التي تستفهمون عنها، أو تريدون إدراك الحقيقة فيها، فما شأنكم؟، ولا يجوز لكم هذا التطاول والاستعجال والقول بغير علم، ارجِعُوا الأمر لأهله، ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )، فإنَّهم يُنْبِئُونَكم وأنتم ربَّما صَدَّقتُم من أرباب الكتب السابقة ما لم تصدقوا المؤمنين برسوله، فاسألوه هل أرسلت إلى البشر من قبل ملكًا؟ وجعلتُ نبيًا بينهم يُعَلِّمَهُم ويَهدِيَهُم؟؛ وإنَّما أرسلت رجالًا وبشرًا كما أرسلت إليكم خاتمهم محمدًا ﷺ.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)) والعجب في تناقض هذا الإنسان وعدم صدقه والاتزان؛ أي عدم الاتزان، أنَّه إذا جاء في جوانب مخصوصة يقول لابد من الرجوع إلى أهل الاختصاص، ولابد من التسليم لهم، ولابد من أن نعلم المسألة عبرهم ولا حق لأحد غيرهم أن يقول ذلك، ثم يأتي إلى قضايا هي أهم من ذلك وأكبر وأعظم وأدق، ولها أهلها الذين اختصهم الله لا مجرد التجارب ولا الوزارات، ثم يقول أنا فيَّ عقل وانت فيك عقلك، من أين يأتي العقل؟ فلا يوجد اختصاص ولا رجعة ولا تسليم، هذا لعب الإنسان وهزوء الإنسان وعدم حسن استخدامه للعقل الذي آتاه الله، ويتناقض في قضايا تتعلق إما بصحته وإما باقتصاده وإما بهندسة أجهزته يقول مختصون، لابد نرجع إليهم، وقضايا أهم وأعظم وأكبر، قيم وأخلاق ودين، أي واحد يتكلم، ما هذا؟ هذا سوء استخدام العقل، هذا تناقض الإنسان وتلاعبه على نفسه وضحكه على نفسه واستهزاءه بنفسه (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، ارجعوا إليهم يأتونكم بالخبر الصحيح، واتركوا هذه البلبلة والهذر وكثرة الكلام بغير حق، وزيَّدُوا هذر إلى أبعد الحدود، وصاروا يُوحُون إلى الناشئة؛ مساكين الناشئة الذين وقعوا تحت حكم بعض هذه الطوائف من الكفار، وسط فصولهم المدرسية في أول دراستهم، يا أولاد؛ أبناء وبنات، أي بنت تحب تتحول ولد ، وأي ابن يحب يتحول بنت تفضلوا الدولة مستعدة توفر لكم ذلك، على رغم أنف أبيك وأمك، ما لهم حق يمنعونك من ذلك، العقل انتهى إلى هنا؟ الحضارة انتهت إلى هنا؟ -سبحان الله- كان مُسكَة من العقل من الفطرة في القرن الماضي يقولون: الأطفال إلى سن الخامسة عشر أمرهم لآبائهم هم الذين يختارون لهم، حتى في الدراسة إذا ما يريد والده يدرس بعض المواد يبعد منها، ولكن لا نعلم كيف راح العقل نهائيًا، وراحت الفطرة وراحت القيم وذهبت، إلى أين يسيرون؟ وصاروا بهذا الحال، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وما الذي يثمر هذا وما الذي يفيد هذا! سبحان الذي خلق، قال عدوُّ الله إبليس الذي وصلهم إلى هذه المراحل: ( ..وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ.. ) [النساء:119]، يُغيِّرون عبث، ثمَّ لا يستطيعون أنْ يُحَوِّلُوا الحقيقة من أصلها وأساسها أبدًا لا في هذا ولا في هذا، (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ) [النجم:45]، سبحانه وتعالى.
وصاروا بعد أن نبذوا أعدل وأوثق الدلائل من كلام الله ورسله، وقالوا نؤمن بالتجريبيات والمحسوسات، وعبدوها من دون الله بُرهةً، فجاء الذي يطوِّرهم في الإنحدار قال: حتى المحسوسات والعلوم التجريبية، الآن خلاص، اعبدوا الهوى فقط، الهوى والشهوات، ولا لها رادع لا من السماء ولا من الأرض، ولا علم ولا عقلية، ولكن في شؤون انحداراتٍ مخصوصة في القيم والسلوك فقط، وأما في الأموال والسياسة فالنظام نظام، نظام لابد تخضعوا له، ما هذا اللعب؟ ما هذا الهُزُوء؟ ما هذه الضحالة في الفهم والوعي والإدراك؟ ما هذا التجاوز لرتبة الإنسانية في إنسانيتها إلى أن نكون أضل من الأنعام -والعياذُ بالله تبارك وتعالى- ( أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف:179]، (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179] صدق الله، صدق الله.
يقول جلّ جلاله: (..فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ .. (44))، الدلائل الواضحة والكتب المُنزَلة، الحُجَج و البراهين. (الْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ): الكتب المُنزَلة من عند الحق -تبارك وتعالى-؛ فهي مصدر العلم الأوثق للإنسان وَالْجَانَّ على ظهر الأرض، أوثق ما يُؤخَذ منه العِلم، أضبط وأدق مصدر لأخذ العلم؛ الْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ المُنزَلة على الأنبياء والمرسلين، هذا أوثق ما يكون في العلم، ولا علم فوقها، وكل معلومةٍ من سواهم فهي عرضة لأن تكون صوابًا أو خَطَأً، ولأن تكون صحيحةً أو فاسدة، ولأن تكون واقعًا أو خيالًا، كل معلومة من دون هذا المصدر، لكن هذا المصدر كل معلومة تأتي منه حق ثابت، فانظر كيف يصرفون الناس عن أقوى المصادر وأضبطها، ويقول تعالوا إلى اللعب، اتركوا الرب وخذوا اللعب، نعوذ بالله من غضب الله.
( .. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ .. (44)) يا خاتم أنبيائِنا، (الذِّكْرَ): الكتاب العظيم المهيمن على جميع الكتب، الذِّكْرَ المُذَكَّر بنا، والذي نذكر تاليه، والذي فيه حقائق بيانِنَا لعبادنا في خلْقنا إياهم، وحكمتنا في إرجاعهم إلينا، (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) يا سيد الذاكرين ويا خير مذكور في العالمين. (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .. (44)) بما خصَّصناك وميَّزناك، وأعطيناك من المزايا في حُسن التبيين والتفهيم، وحسن التعبيرِ والأداء، وحمَّلناك أمانة لم يحملها سواك نبوة ورسالة إلى العالمين، ولم نكن نبعث خِيرتَنا من العبادِ قَبلَك من الأنبياء إلا لأقوامٍ مخصوصين، و (ما أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، وأرسلناك للنَّاس كَافَّة ولِتَكون للعالمين نذيرًا؛ فبَيَّن ﷺ وأُوتي من جوامع الكلم ما لم يُؤْتَ غَيره، ولم يزل في أمته محفوظٌ سرُّ بيانه وتوضيحه وهديه، حتى قال لنا: "ما تركتُ بابًا من أبواب الخير إلا دللتُكم عليه وأمرتُكم به، ولا بابًا من أبواب الشر إلا حذَّرتُكم منه ونهيتُكم عنه" ﷺ، وبقي البيان محفوظًا بقدرة الله -تبارك وتعالى- في هذه الأمة.
تخصيصًا من الله لنبيِّه المصطفى، فتَوَلّى وتكفَّل حِفظَ الذكر الذي أنزِل إليه، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، وحِفظَ البيانِ الذي بيَّنهُ رسُولُه، ولا يزال هذا البيان والذكر الحكيم آياتٌ بيِّناتٌ في صدور الذين أوتوا العلم قرنًا بعد قرن:
"لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي ظاهرينَ على الحقِّ"، "كتابَ اللهِ وعِتْرَتي، لن يَتَفرقَا حتى يَرِدَا عليَّ الحَوضَ"،
"يحملُ هذا العِلمَ مِن كلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ"،
"في كُلِّ قَرْنٍ مِنْ أمتي سابقونَ"،
"أُمَّتي كالمَطَرِ، لا يُدْرى خَيرٌ أوَّلُه أم آخِرُه" ؛أي في أوله خيرا وفي آخره خير، الحمدلله على ذلك.
( .. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)) فلا يُحسِن التفكُّر ويُحسِن استعمال القوى العقلية والذهنية صادق من الإنس والجن إلا اهتَدَى إلى صدق محمدٍ وما جاء به عن الله، بل اهتَدَى به إلى الله، وعرَفَ عظمةَ الذي خلقَه واستعدَّ للقائِه بما آتَاه ويسَّرَ له في هذه الدنيا، (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ) [الليل:12-13]، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ) [الليل:5-11]. فالحمد لله على هذا القرآن وعلى هذا البيان بمحمد المصطفى من عدنان سيد الأكوان.
( .. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)) فندعو كل عاقلٍ على ظهر الأرض، تأمَّل بعقلك وفِكرِك هل يُعقل أن تُوجد أنت وأبوك وأمك والعالم هذا والكون وما فيه بهذا الإتقان العجيب من دون خالق؟ أيُعقل من دون صانع؟ وإذا عرفت ذلك فهذا الخالق بعظمته هل يُمكن أن يسيِّبنا ويترُكَّنا من دون أن يُبَيِّن لنا لماذا خَلَقَنا؟ ولا يُرسل فينا رسل؟ أعقل، تُبَيَّن! واليوم نفسك تدعوك والطائفة هذه والطائفة هذه والحكومات هذه والدول هذه تدعوك إلى ذلك، ولا أحد منهم خلقك، ولا أحد منهم خلقك، تأمَّل يا أخي، تفكَّر تعال، تعال تفكَّر، (هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ) [النازعات:18-19]، تَعلَمْ لِمَا خُلِقت، وخذ الدلائل واقرأ كتاب محمدٍ الذي أنزل عليه، واقرأ شمائله وسيرته واقرأ كلامه، وانظر ما هو حَادِث في العالم اليوم، وهل أشار إليه أو لم يُشِر؟ وهل يَصلُح له ما بُعِثَ به أو لا يصلح؟ تفكَّر بس، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) [سبإ:46]، هذا رسولٌ من عند الله، وهذا بوزارته الفلانية وهذا بدولته الفلانية وهذا بحزبه الفلاني يدعوننا هنا هنا هنا هنا، ما أحد منهم خلقنا!! يا عقلَاء الذي خلقكم أرسل إليكم محمدًا ﷺ لِم لا تفكرون فيه؟ لِم لا تنظرون في سيرته؟ تدرسون عن صاحب النظرية الفلانية والنظرية الفلانية، واحد يتحكَّم في خَلْقِكُم، ولا خَلَقَكُم، ويجيب خيالات في الليل من عنده ويجيبها لكم في النهار، الى أن يُرْجِع أصلكم الى قرد من القرود، وتدرسون نظريته الفاسدة وسط المدارس، اعقلوا من هو هذا؟ واحد من نُطفة تكوَّن مِثلَكُم، محمَّد جاء من عند رب النُطف التي كوّنها في الأرحام، انظر ماذا قال، تدرس نظرية هذا المُرَسَلْ من عند إبليس ومِنْ عند نَفسِه إليك، ولا تدرس خَبر الذي اختاره خالقك وخالق السماء والأرض، أين العقل؟ اعقلوا، ( ..لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.. ) من قِبَل ربِّهم الذي ما تركهم همل، وهذا الذي يدعوهم إلى كل هذه الشرور وهذا الكفر كله سيقول لهم في القيامة إذا اجتمعوا وأعادهم الذي صنعهم: (مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم) [إبراهيم:22]، لكن هذا داعي الله.
( .. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44))، كل من تأمَّل وأنصف وتفكَّر بلا عصبية بلا انحراف في النفسية، اهتدى إلى الحق وهكذا، سمعتم الذي تكلم معكم في ليلة الجمعة في المولد كان داعيًا لإخراج المسلمين إلى الكفر، ولمَّا تأمَّل الإسلام اهتدى وبنفسه نطق بالشهادتين، بنفسه، كل متأمل بأنصاف يعلم الحقيقة. يا عقلاء العالم إنسًا وجنًّا اتقوا الذي خلقكم، وتعرَّفوا مَن خلقكم؟ ولماذا خلقكم؟ وانظروا إلى ما أرسل إليكم وإلى ما أنزل إليكم، واستعملوا العقل بالنزاهة، بالنقاء، بالإنصاف؛ سَتُدرِكُوا الحقيقة، وتَعلَمُوا من خير الخليقة، وتهابوا ربَّ الخليقة -سبحانه-، أن تتركوا عروته الوثيقة ثم تستمسكوا ببيت العنكبوت، (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:41].
يقول تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ .. (45))، (مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ)؛ بنوا أمورهم على المكر، الأمور السيئات مكر خبيث مغالطات، ترويجات زائفات، تضليلات إيهامات، ولها خِطَط من وراء عقل هذا ومن وراء شعور هذا ومن وراء احساسِ هذا، لنصل إلى ما نريده من هذا وهذا. كل المشتغلين في هذا المجال، مكر السيئات، الماضين والموجودين في عصرنا وزماننا هذا، أأمنتم أن يخسف الله بكم الأرض؟ ومن منكم بمكره هذا وخططه يتحكم في الأرض أن لا تُخسَف؟، وإذا جاءت أي هزة أرضية وزلزلة من منكم يمسكها أو يمنعها؟، ما دمتم بهذه الصورة لماذا أنتم بالكيد هذا؟ لماذا أنتم بالغرور هذا؟ لماذا؟. (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ .. (45)) وكم قد خسف بأمثالهم، فمن أنقذهم؟ ومن خلَّصهم؟ ومن منعه؟، وأنتم صنف ثاني وإلّا ماذا ترجعون، (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ). وجماعة خططوا في مكر السيئات قالوا: عشرة شباب من عشر قبائل يتفرق دم محمد ﷺ في القبائل، يضربونه ضربة واحدة وننتهي منه، ولا يستطيع قومه بنو هاشم يطالبون عشر قبائل ولا يقدرون على محاربتهم، يقولون سنطالب بديَّة وسنعطيهم ديَّة وانتهينا، خلاص كتبتم مكركم! (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)) [الأنفال:30]. يا عشرة شبان همُّكم الذي عزمتم عليه يُذكَر بالعار والعيب عليكم ولم تستطيعوا أن تنفذوا منه شيء، والذي أردتم ضَربَتَهُ ضربةً واحدة يٌمَجَّد اسمه اليوم ويذكر في الشرقِ والغرب، و آباكم وقبائلكم وآل دار الندوة الذين خططوا هذه الخطة، مَنْ مِنهُم يُذكَرُ بالخير اليوم؟ انتَهَوا، ومحمد ﷺ منصور، ظاهرٌ غايةَ الظهور.
( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ.. ) وهذه سنة الله في الأرض، قالوا جماعة قوم نبي الله صالح: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل:48-49]، خلاص بَيات واحد في ليلة واحدة وينتهي، نفس الفكر هذا هو السائق هو الذي يقوم عليه تخطيط قوم إبليس في زماننا هذا، هو نفس الفكر هو نفس الطريقة، نفس الخطط، يقولون سنعمل هكذا، ما ستفعلون يا قوم؟ قالوا: (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل:49] مرَّة، قتْله واحدة في الليل ولا أحد يعلم بنا، (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا) [النمل:49] من فعل كذا؟ لا ندري من أين هذا؟ (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [النمل:49]، قال الله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا) [النمل:50]، هذا غاية ما تصلون إليه أيها المخلوقون، (وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:50]، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) [النمل:51]، وهؤلاء التسعة أصحاب صالح والذين قبلهم والذين بعدهم والذين في زماننا نفس الشيء، نفس المصير، القائم فوق أولائك هو القائم فوق هؤلاء، واحد، جلَّ جلَّاله، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) [النمل:51-52]. وإن أردتم آثارها إلى اليوم فهي باقية، اذهبوا إلى مدائن قوم صالح ما بين تبوك والمدينة المنورة وانظروا، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [النمل:52]، لكنَّكم رَميتم بالعلم وراء ظهوركم وسمَّيتُم الدجل والكذب علمًا، سميتموه علم والعلم رميتموه وراء ظهوركم، ( .. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [النمل:52-53].
اللهم اجعلنا من المؤمنين الأتقياء، وكل المؤمنين الأتقياء لهم النجاة في الدنيا والآخرة، وقومهم والذين يناوئونهم ويمكرون بهم، ( أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ) [النمل:51]، وهم هؤلاء وحدهم والذين قبلهم والذين من بعدهم، وجاء من بعدهم قوم موسى، وآيات بعد آيات تأتي عليهم وهم يقولون: هيا، ارفع عنا هذا البلاء فنؤمن بك ونَتَبِعُك، ونتوب إلى الله ونرسل معك بني إسرائيل !!! و لا يرسلون بني إسرائيل ولا يؤمنون، آية ثانية، آية ثالثة؛ تسع آيات ولا يرجعون، وبعدها مكر، فأتتْ النتائج، ( ..يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ.. ) [الأعراف:134]، تعرفون أنه عنده عهود بينه وبين الله، ولماذا تُكَذِّبُونه؟ لماذا تذهبون وراء فرعون؟ مالكم؟ أنتم تعلمون بهذا! تعلمون، وكم من الكفار اليوم على ظهر الأرض عالِمين أنَّ هذا هو الحق وأنَّ محمد ﷺ هو الصادق، ولكن يكابرون ويعاندون، يقولون (إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ) [الزخرف:49]، (لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ) [الأعراف:134-135]، ما الذي حصل؟ ( ..فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ.. ) [الأعراف:136]، و أين راحوا؟ ( ..فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ.. ) [الأعراف:136]، لماذا هذا الذي حصل بسبب موسى كان عنده خطة؟ قال: ( ..بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا.. ) [الأعراف:136] هذا السبب، سبب الهلاك التكذيب بالآيات والغفلة عن الرب، ذلك ( ..بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف:136]، والجماعة الذين كانوا مستضعفين مقهورين مساكين، أين راحوا؟ (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ.. ) [الأعراف:137]، لماذا ؟ لأنه كان عندهم جيش قوي، أقوى من جيش فرعون؟ لا لا لا، (بِمَا صَبَرُوا ) [الأعراف:137]، لمَّا آمنوا وصَدَّقُوا وصبروا؛ تمت كلمة الله الحُسنَة عليهم، والخطط الكبيرة للدولة هذه؟ ( ..وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) [الأعراف:137] دَمَّرْنَا، (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137] وهكذا لا يزال الأمر.
يقول ربنا: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45))، ليس على بالهم، في واقع حياتهم كم تفاجئهم أشياء ما كانت لهم على البال، يعملون كذا، يظهر من كذا، يظنُّون أنه سيأتي من هنا، يأتي من كذا، شوفوها في حياتكم واقعة، ( ..أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ (46))، تَقَلُّبِهِمْ، إما ذهابهم وإيابهم وأسفارهم، وإما تراتيبهم في الأعمال وتخطيطهم، وإما تقلُّبُهُم على فُرُشِهِم وهم نائمون، (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:97-99]، والعياذ بالله تبارك وتعالى، (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46)) لا أحد منهم يمتنع عن الجبَّار الأعلى أصلاً، وهو قدَّر عليهم الموت وواحد بعد الثاني منهم يموت، لماذا ما يردُّون الموت؟ أنتم رؤساء كبار يا جماعة وأكبر رؤساء العالم، لا تموت إنت ولا زوجتك ولا بنتك!! وكيف لا تموت؟! مقهورون ومتكبرون، تحت القهر يتكبرون ويعاندون -نعوذ بالله-.
قال: ( ..فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ .. (47)) يعني تَنَُّقُص، (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ.. ) [البقرة:155]، ( ..أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا.. ) [الأنبياء:44]، أو على تَخَوُّفٍ يعني تحصل أنواع من المؤاخذة والعذاب بهذا النوع وبهذا النوع؛ لأن الله تعالى لا يأتيه بالعذاب دفعة واحدة وبسرعة لكل من كذَّب؟ ( ..فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (47))، رأفتي ورحمتي هي التي أخَّرت هذا العذاب، ولّا إمهالكم وترك الفرص الطويلة لكم فترة بعد فترة اقتضتها رأفتي ورحمتي، إلا أنتم ما تعجزون، لو أردت أن أُهلِكُم، أُهلِكُم في لحظة، ( ..قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.. ) [المائدة:17]، قال: أنا فقط جعلتُ أمامكم هذا الذي تعيشون عليه من الإمهال وترك الفرص؛ لسبب رأفتي ورحمتي اقتضتها رأفتي، ( ..فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ.. ) شوي شوي شوي شوي ويبدأون في الحركة، وهناك تقف، تقفز إلى هناك، تكبر عليهم، شوي شوي حتى انتهوا نهائيًا، في لحظة من اللحظات، "إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى يأخذه فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ.".
يقولُ: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ .. (47)) على تنقص، ( ..فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (47))، وكان سيدنا عمر يقول على التَخَوُّف أن ما معناه: جاء الواحد من قبيلة من العرب الذين يستعملون كلمة التَخَوُّف بمعنى التنقص، قال: ما فعلت في دَينك يا فلان؟ قال: تخوفته، -تَنَقَّصتُهُ-، قال: كنت أريد أكتب إلى العرب في الكلمة هذه، وقد باع من (قبيلة هُذيل) كانوا يقولون: تخوَّفته يعني نقصته، (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ.. )، ( ..وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ .. ) [البقرة:155]، وبعد ذلك ماعلِم بنفسه إلا وهو يستعمل بعض الاحتياط، يقول: يمكن فقط عشرة في المئة، أوه بسبب الظروف خمسين في المئة…، مئة في المئة من الاحتياط ذهب، افتح فمك، قليل، قليل، بعد ذلك يقول: خلاص الأساسي فقط، وبعدين افتكت من هنا وافتكت من هنا، جلَّ القويّ جلَّ القويّ ولا قوي إلا هو.
قال: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ .. (48)) تميل ظلاله، ( ..عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ .. (48))، وكلها آيات تدلُّ على عظمة الخالق المُوجِد الفاعل سبحانه وتعالى، فالله يرزقنا الإيمان واليقين والخوف منه والاستعداد للقائه، يأمننا في ذاك اليوم يوم الهول الأكبر، من عذاب النار ومن العار ومن كل سوء. اللهم خذ بأيدينا وأصلح ظواهرنا وخوافينا، ثبتنا على قدم مُعَلِّمِنَا الذي اخترته لنا، ونبينا وداعينا وصلِّ عليه أفضل الصلوات، وأله وصحبه القادات هم من اتبعوه إلى يوم الميقات، وأنبيائك ورسلك وملائكتك المقربين، وأتباع الأنبياء والمرسلين وجميع الصالحين، وعلينا معهم بأفضل الصلوات وأتمِّ وأزكى التسليمات، وأصلِح الظواهر والخفيات، وثَبِّت قلوب المؤمنين والمؤمنات، وأدفع عنهم الظُلمات والأوهام والخيالات، وارزقهم حقيقة العلم وحقيقة الفهم، وحقيقة الإدراك للحقيقة، والاستمساك بالعروة الوثيقة، واتِّباع القدوة خير الخليقة.
يا حي يا قيوم اجعل سُنَّتَهُ في ديارنا واجعل سُنَّتَهُ في أهلينا واجعل سُنَّتَهُ في مناسباتنا، لا ترويجات الفجرة ولا الفسقة ولا الضالين. يا حيّ يا قيُّوم طَهِّر ديارنا وديار المسلمين من ظلمات وآفات فعل أهل الشناعات وأهل الغفلات وأهل المجون وأهل الخنوع وأهل السوء وأهل الشر، واعمُر ديارنا وقلوبنا ومنازلنا بسنَّة النبي محمد وأخلاق النبي محمد وسيرة النبي محمد وهدي النبي محمد حتى تحشرنا في زمرة النبي محمد، يا حاشر الأولين والآخرين ليوم الدين، اجعلنا في ذاك اليوم من الفائزين، وادخلنا جناتك مع السابقين يا رب، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله
17 جمادى الأول 1444