(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل من قوله تعالى:
(وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَأَنۡهَٰرٗا وَسُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ (15) وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ (18) وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ (19) وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَخۡلُقُونَ شَيۡـٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ (20) أَمۡوَٰتٌ غَيۡرُ أَحۡيَآءٖۖ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ (21) إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ فَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٞ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُونَ (22) )
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية
الحمدُ لله مُكْرِمُنا بالقرآن وتنزيله وبيانه على لسانِ رسوله، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرِّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل ولائه ومتابعته والإقتداء به وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الحق -سبحانه وتعالى- من بريته وصفوته من خلِيقتهِ وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقرَّبين وجميع عبادِ الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعدُ،، فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا وإلهنا وخالقنا وتنزيله؛ وما بسط لنا من إرشاد وتعليم وتوجيه وتنبيه، انتهينا في أوائل سورة النحل إلى قولهِ -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ) ، وفي قراءة، (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ): أرسى الجبال بأوتاد لها فرَسَت؛ وفي الرجال جبالٌ بل وأوتادُ، (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ)، أقامَ هذه الرواسي من الجبال وما يتبعها من العمق في الأرض؛ ورتَّب على ذلك استقرار الأرض وألّا تميد وتنحرف بالساكنين عليها والمستقرِّين عليها.
(وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) -جلّ جلاله وتعالى في علاه- (وَأَنْهَارًا)، وجعل في الأرض أنهارًا، والمعنى: أنَّه أحسن خلقها وتمَّها؛ وجعلها على هيئة يكْمل فيها الصلاح لعِيشة هذا الإنسان وما خلق الله من حيوان على ظهر الأرض كلٌّ بأنواع مصالحه في الحياة إلى حين أجلهِ. وجعلَ لنا بهذهِ الأرض رابطة؛ فأصْل تكوين أجسادنا جعلهُ من ترابِها وخلَطهُ بالماء فصار (...حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) [الحجر:26]، ثم صار (...صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن:14]، ثم نفخ فيه الروح -جلَّ جلاله- وقال لنا عن هذه الأرض: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) [طه:55]: نعيد أجسامكم إليها، (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ): عند البعث والحشر والنشور -جل جلاله- صاحب القدرة المطْلقة، هيأَ الأرض وجعل فيها الرواسي لئلا تميد بنا؛ وجعل لنا أمثلة: تميدُ السفن بأصحابها في البحار فجعل أثقالًا توضع في جوانب منها أو في مواضع فترسى وتستقر.
والأرض بما فيها مُهِّدتْ تمهيدًا كما قال: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [عم:6]، وهي ورواسيها وأنهارها وسبلها والعلامات التي فيها فعل واحدٍ لم يشاركه فيه أحد هو: الواحد الأحد -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-؛ لم يشاركْ في ذلك أحد سواه، فلا يجوز لساكنٍ على ظهر الأرض وُطَّدت له ومُهَّدت هذا التوطيد وهذا التمهيد وسُخرت وأُعدت يما يحتاج إليه أن ينصرف عن عبادة خالقها؛ وأن يستبدل بتعليماتهِ وتوجيهاته فكرًا أو نظامًا أو مسلكًا؛ أو نظامًا أو مسلكًا لغير الله كائنًا ذلك الغير من كان، ولكن بلى أن يتخذ الناس بعضهم بعضًا اربابًا من دون الله -جل جلاله وتعالى في علاه- والذي يحيق بهم ويخرجهم عن سواء السبيل ويوقعهم في أنواع الأضرار والأتعاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64]، لهذا الإله لا نرتضي أن نستبدل بعبادته عبادة سواه ولا أن نُقدِّم فِكر أحد ولا منهج أحد على تعاليم الله ومنهجه وفكره وما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ): لئلّا تميد بكم وجعل فيها (أَنْهَارًا وَسُبُلًا)؛ طرقاً: تمضون فيها من وادٍ إلى واد ومنطَقة إلى منطَقة وقرية إلى مدينة وبادية إلى حضر وقارة إلى قارة من قارات هذا العالم (وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)؛ بما جعل لكم من هذه المِنن والأرزاق والسُبُل إلى مصالحكم القصيرة في عالم الدنيا وإلى الحقيقة التي خُلِقْتم من أجلها فتهتدون إلى أنكم مخلوقون، لكم خالق عظيم خلقكم لأمر عظيم وهو: توحيده وعبادته والعمل بشريعته، (لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ…)؛ جعل لكم علامات تستدلُّون بها في مساركم الحسِّي والمعْنوي وفي مختلف مصالحكم بتقديره وتكوينهِ، جعل هذه التمييزات جعل هذه الدلالات، جعل هذه الإمكانيات في التفريق بين ذا وذا والاستدلال بذا على ذا، أي: صُنعهُ -سبحانه وتعالى-.
فجعل لنا سبيلًا للإستدلال على الطُرق من رؤية بعض الوِهاد وبعض الجبال وبعض الأشجار بل وحتى من الرياح! إذا تعلَّمنا وتتبعنا فيها أسرارها كيف تهبُّ؟ ومن أين تهبُّ؟ وما يترتب على ذلك، أو ما نستدل به على أن الطريق هنا أو أن في سنة الله أن يُحْدث بهذا من الأمر كذا وكذا إلى غير ذلك، جعل لنا دلالات وعلامات بالنجوم والكواكب والشمس ومعرفة المشرق من المغرب؛ جعل علامات من الألوان: واختلاف ألوان الجبال والأراضي والتراب نفسها والأحجار، (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ…) [فاطر:27]، وكلها فيها استدلالات وعلامات، الله رتب ذلك، ولو لم يرتب ذلك ما كنتم تستطيعون أن تستدلوا بشيء على شيء! ولا أن تهتدوا بأمر إلى أمر لا في مسالككم في الطريق الحسي؛ ولا في مسالككم المعنوية ولا في جلْبِ مصالحكم المختلفة؛ لكن الله جعل التكوين والنشأة والفطرة على هذا الترتيب وجعل العلامات والاستدلالات منه وبقدرته -جل جلاله وتعالى في علاه-.
(وَعَلَامَاتٍ..)؛ ولما كانت قريش: الذين بعث فيهم صلى الله عليه وسلم لهم الرحلات في الشتاء والصيف؛ ولهم ركوب البحار ولهم الاستدلال في الطرق حين يمشون بالنجوم فكانت لهم فيه خبرة واسعة، نصَّ على ذلك بقوله (...وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)، بِالنَّجْمِ: جنس النجم؛ يعني: بأنواع النجوم يهتدون على أن الطريق كذا والمشي هنا يوصل إلى بلدة كذا والانحراف كذا يوصل إلى مكان كذا يعرفون ذلك، وكان لقريش خبرة بذلك لكثرةِ أسفارهم وتأملهم القوي في شؤون النجوم والاستدلال والاهتداء بها قال: (وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)، وبعد ذلك؛ كما جعل هذه الهدايات بالنجوم هذه الحسيات، فكذلك نجوم الدلالة من النبيين وورثتهم: تتم بهم الهداية في سواء السبيل والرأس في ذلك محمد رسول الله الذي قال الله عنه: (...وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا…) [النور:54]، وقال له مخاطبًا إياه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى:52-53].
(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)، يقول الله: وقد بيّن لنا بديع هذا الخلق والتكوين من الأرض والسموات والنجوم والأنهار والجبال وما بين ذلك وما تعلَّق بذلك ومن الثمرات ومن الحيوانات التي خلقها لنا، يقول -جلَّ جلاله- (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ): الذي خلق كل هذا؛ هل تقيسونهُ وتساوونه بمن لم يخلْق من هذا الشيء؟! (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف:4] يقول -جلَّ جلاله-: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ)؛ بل هو في حد ذاته الذي مخلوق له خالقٌ كوَّنه يمكن يقاس بالخالق، هيهات مَالمخلوق مثل الخالق! - جل جلاله- (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ)؛ فما معنى عبادة غير الله؟ وما معنى ترك منهج الله؟ لأجل ذا وذا وذاك! ولأجل وسوسة عند ذا! وفكر عند ذا! ونظر عند ذا! وتجرِبه عند ذا؟ من هم هؤلاء؟ ما المعنى؟ (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ)؟ من كوَّن وفطر وأبدى وأبرز وأوجد ونظم ورتب - سبحانه وتعالى- (كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ )؟! ما لكم رجوع؟! إذا ما خُوِّلتم وأوتيتم وأنعم عليكم من عقل وفهم تتدبرون الأمر وتتذكرون الواجب وتتذكرون الحقيقة؛ وتتذكرون ما الذي يجب أن يُقبل؟ وما الذي يجب أن يُرفض؟ وتتذكرون أنه لم يخلقكم عبث؟ وتتذكرون أن الذي أطعتموه من دونه وخالفتم أمره لم يخلقكم أصلًا! وليس مرجعكم إليه! (أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ)، ما (لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ)، وفوق ذلك كله أنتم من قِبَل هذا الخالق مصبوبه عليكم نعماؤه حسًّا ومعنى سرََّا وجهرًا ليلًا ونهارًا من حيث تعلمون! ومن حيث لا تعلمون!؛
(وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)، فأنتم عاجزون عن إحصائها فكيف تقدرون على شكرها؟ (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا): أنعم عليكم بهذا التكوين والإبداع وخلقنا في (..أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4]، ومن أي شيء؟ من أقذر الأشياء من نُطف! هذا التكوين الجسماني الجسداني، الي كوَّنهُ الله لنا كوَّنهُ سبحانه بقدرتهِ وإرادتهِ؛ من ماذا؟! (مِنْ نُطْفَة) [عبس:19]، -طيب!- أين موضع العظم في النطفة؟! أين موضع الشعر في النطفة؟! أين موضع الدم في النطفة؟! أين موضع اللحم في النطفة؟! أين موضع السمع والبصر في النطفة؟! نطفة! وبعدين قده سمع وبصر ولحم ودم وشعر وعظام! كيف؟! كيف؟! هذه عظمة المُكون! التي يجب أن تخضع له، -لا إله إلا الله- ثم بعد ذلك؛ أحسن تكوينك من نطفة إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ثم إلى هيكل عظمي ثم كسا اللحم، ثم بتكوين حسن وتدبير عجيب ثم نفخ الروح (...ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:14]، (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) [عبس:20]، ومن أيام كل واحد منا في بطن أمه، مدَّ له حبل السُّرة ليتغذى من غذاء أمه من يُركِّبهُ؟ من يُرتبه؟ عسى ما هي الشركة حقك! ، عسى ماهو الحزب الذي رحت وراءه هذا! عسى ماهي الوزارة! من يرتب ذلك؟ أنت الآن موجود أمامنا من الذي رتب تكوينك في بطن أمك وتغذيتك وأنت في بطن أمك؟ ومن الذي رتب لك مكان مكين وقرار في بطن الأم من حين نُفِخ فيك الروح بعد الشهر الرابع؟ وأنت تجد متكأ عن يمينك! كبد، متكأ عن يسارك! طحال، ترتيب من؟ من الذي أعطاك كل هذا؟ وجعلَ وجهك إلى جهة ظهر الأم لا تؤذيك رائحة الطعام! مُعتني بك وأنت داخل هناك في بطن الأم، (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) [آل عمران:6]، (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) [الزمر:6].
ثم من يتفاهم معك! يقول لك: انقلب الآن وقت الخروج! واخرج وفك هذا الحجاب وانقلب كذا وخل راسك أول يخرج! وعلَّمك في تلك الفترة قيام وقعود لتأخذ نصيبك من الرياضة! لهذا الجسد وأنت وسط بطن الأم! من الذي عمل لك كل هذا؟! ثم يسر لك السبيل وخرجت من بطن أمك، ما لك سن يقطع ولا يد تبطش ولا رجل تمشي، من الذي قذف في قلب الأبوين رحمتك؟ ما كان يمكن يرمونك؟ ما كان يمكن يقتلونك؟ ما كان يمكن يرمونك؟ من الذي سلط عليهم في قلوبهم الرحمة؟ ينظفونك! ويصلحونك! ويرضعونك! ويغذُّونك! ويلبسونك؟ منين هذا جيت به؟ وكيف تم لك كل ذلك؟ وخرجتَ بسمع من أين؟ وبصر من أين؟ وخلايا وآيات عظيمة! ، شي في مخك وشي في عصبك وشي في خلاياك وشي في سمعك وشي في بصرك وشي في لسانك وإذا قدك خرجْتَ من بعد تلك النطفة والتحويل من طور إلى طور وقدك عندك جهاز تنفسي وجهاز تناسلي وجهاز هضمي وجهاز بولي ويش ذي الأجهزة هذه؟ نريد أن نعرف الشركة حق هذه الأجهزة صناعة من؟!
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه المكوِّن الفاطر، وجيت حصلت قدامك ماتحتاج إليه من هواء تستنشقه موفر هنا وهنا وهناك، ملأ الأرض لك بالأكسجين الذي تحتاج إليه وفي مصنع من؟ ، ايش من مصنع صنع الأكسجين ذا؟ يتنفسه الإنسان وأنواع الحيوان! ويحيون عليه من أين جاء؟ من مصنع من؟ وليل ونهار وأنت تستنشق، بكم تدفع مقابل؟ ولو كان على كل نفس يأخذون منك مقابل، كيف بتجيب؟ كيف تعمل؟ -الله أكبر- وفوق ذلك كله وهبك عقلًا ووهب لك آله تتذكر بها تتفكر بها تدرك بها وجعل لك أنواع الإحساس (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) و (إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:34]، و (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)، يتجاوز عن تقصيركم. قال: فلو اشتغلت بعبادة الذي كونك لأجل نعمة الإيجاد وحدها! طول عمرك ما أديت حق نعمة الإيجاد! فكيف بباقي النعم؟!
وضرب للنبي مثل: من عابد من عُبّاد بني إسرائيل، عبد الله تعالى خمسمائة عام خمسمائة عام! كما العبادة حقي وحقك ؟ خمسمائة عام وهو عابد لله! معتزل معتكف على العبادة صارف عمره كله للعبادة ما عصى الله فيها؛ قال صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة قال الله تعالى لملائكته: أدخلوا عبدي هذا الجنة برحمتي، يقول: ياربِّ وعملي؟! عنده عبادة خمسمائة سنة صيام وقيام وقراءة وتسبيح وذكر وعبادة وصدقة، يقول: ادخل الجنة برحمتي، يقول: يا ربِّ وعملي؟ أو ادخل الجنة برحمتي؟ يقول: يارب بعملي؛ يقول: حاسبوه على عمله، حاسبوه بعمله على ما أنعمنا عليه، يبدؤون بنعمة البصر، كم عدد الخلايا فيها؟ وكم انتفع بها واهتدى بها في عبادته هذه كلها فتؤخذ عبادة أول سنة، ثاني سنة تجي خمسمائة سنة وعادهم في نعمة البصر! ما وفت، عاد باقي سمع، عاد باقي شم، عاد باقي ذوق، عاد باقي طعام، عاد باقي شراب، عاد باقي تنفس، عاد باقي مخ، عاد نحن في البصر! كملت عبادة الخمسمائة عام. قالوا: يا ربنا ما وفت عبادته بنعمة البصر، قال: ادخلوه النار خلاص، يريد عبادته، يقول: ياربي ادخلنا جنتك برحمتك، يقول الله: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ونعم العبد عبدي، يمدحه سبحانه وتعالى وهو قد طلع ما عنده شيء!، والفضل فضل الله وحده جل جلاله وتعالى في علاه.
فما أقل عقل هذا الإنسان! الذي إذا قام بشيء من العبادات يريد يدل بها على ربه يمن بها على ربه هي فوق النعم التي أنعم بها! عليك هي نفسها نعم! هي نفسها نعم أنعم بها عليك! تحتاج إلى شكر فالمن له والفضل له والشكر له سبحانه وتعالى (قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات:17].
(وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيم (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)، فإن كان عندكم عقول تهديكم الى الحذر من مراقبة من يطَّلع عليكم فالأوْلى أن يُحْذر منه ويراقب، الذي يعلم (مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)، الله الله، علمٌ محيطٌ قبل أن تُسِروا وقبل أن تعلنوا؛ وحين أن تُسِروا وحين أن تعلنوا؛ وبعد أن تُسِروا وبعد أن تعلنوا، علمٌ واحد محيط بكل شي (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]. يقول سبحانه وتعالى: في من ظنَّ ظنَّ السوء بل (....ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) [فصلت:22-23]؛ أهلككم هذا الاعتقاد الباطل في إنكار إطلاع الله عليكم وعلى دقائق أحوالكم، (...أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ۖ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت:23-24]، والعياذ بالله تعالى.
(وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)، أنت حالك مع الناس اللي ما خلقوك تتستر على أمور لو ظهرتْ لقلَوّك والحق يعلمها منك يقول:
تخفى القبائح عن أخيك سفاهة *** وإذا برزت تُشابه النساكا.
ولكم عمل كنت تخفيــه ولو *** علم الصديق بفعله لجفاك.
والرب يعلمه ولم يكشفه بل *** أجرى بألسنة العباد ثناك.
فلو راقبت هذا الذي يطّلع على سرِّك ونجواك، كان خيرًا لك (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)، فاتقوه في السر والعلانية، واقصدوه في السر والعلانية، واخضعوا لجلالهِ في السرِّ والعلانية، واطيعوهُ في السر والعلانية، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، هم نفسهم مخلوقون مثلكم (....الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأعراف:194]، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ) يعبدون أصنام حجر، وأحيانًا بعض المطعومات يكوِّنون منها صنم (أَمْوَاتٌ)؛ جمادات (غَيْرُ أَحْيَاء)؛ يعني ما فيها حتى شرف الحياة التي أُعطيها الحيوان، وأنتم تعبدونها من دون الله -جل جلاله-، يا كواكب يا نجوم يا أصنام أو أي شيء من هذه الكائنات الجمادات والأجهزة وما إلى ذلك (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)، آلهتهم هذه ما تدري بهم متى يموتون؟ ومتى يبعثون؟ حتى تجازيهم أو تعطيهم ثواب! فما هو الثواب على عبادة الأصنام عند عبَّادها؟ وما هو الجزاء من طاعاتها؟ عند من يطيعها ويعتقدها آلهة؟ وبماذا تحاسبه إذا أخل ميزانه في تعامله مع الناس وإخوانه؟ ماذا تعمل له الأصنام؟ وبماذا تعاقبه؟ لا عندها جزاء ولا عندها عقوبة ولا عندها ثواب!! ، يا جماعة ما فيكم عقول؟ الإله الذي يعلم بكم ويحيط بكم ومرجعكم إليه ويجازيكم ويحاسبكم على ما كان هذا هو الإله.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) )، ما لهم شعور، متى بعثكم متى نشوركم؟ متى قيامكم من القبور؟ متى موتكم؟ متى حياتكم؟ ولا بيجازونكم ولا بيحاسبونكم على شيء، (إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ) (إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ)، فما أعجب ما دعانا سبحانه إلى توحيده له الحمد، (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ)، الذين عاندوا، الذين شذوا وانحرفوا عن حسن الإصغاء والإستماع واستعمال العقل كما ينبغي، أنكروا الآخرة فإذا أنكروا الآخرة واستنكرتْ قلوبهم الحق والهدى الذي بُعث به الأنبياء تمكَّن هذا الكبر من أفئدتهم فكان جزاؤهم الخلود في نار جهنم والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ)؛ تنكر الحق والهدى، (وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ)؛ مغترون بما عندهم؛ إما يرونه مظهر قدرة أو قوة أو إمكانية كما قال قوم عاد: (..مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً..) [فصلت:15] قال النمرود: (...أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ..) [البقرة:258] وقال فرعون: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ …) [الزخرف:51]، وقال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24] وقال: (...مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي…) [القصص:38] وقال: من قال ما قال! وهكذا، في استكبارهم يُصرفون عن آيات الله ولا يُدركون الحقيقة، (قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ).
( إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ )، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل:4] (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)، تراهم مُزيّن لهم أعمالهم وما هم فيه؛ مغترين بذلك (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)، في عمَه يخادع بعضهم بعض، ويراوغ بعضهم بعض، ويتربص بعضهم ببعض، ويتنافسون على الحقير الفاني، ولا يبالون بظلم ذا ولا بظلم ذاك ثم يتبجّح كلٌ منهم أنه مستقيم، أنه ساعي في المصالح، أنه يرعى حقوق الخلق، أنه يصلح البلاد والعباد، كل واحد منهم يقول هذا. وواقعهم وعملهم غير ذلك تماماً وقواهم مصروفة للضُر وللفساد، يعمهون ، عمَه كامل (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [النمل:5] فأين النور؟ وأين الحقيقة؟ وأين الهدى؟ (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل:6] هذا هو النور هذا هو الهدى؛ ما هو فكر بشري ولا مقايسات خَلقية ولكن نور من نور الله، ووحي من عند الله (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل:6] فلما حمل الأمانة وقام بحقها قال له: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) [الشورى:52-53]، (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) جلّ جلاله.
شرح الله صدورنا، نوَّر الله قلوبنا ورزقنا كمال الإيمان والتوحيد واليقين وحعلنا على ظهر الأرض كاسبين لموجبات السعادة الأبدية مترقيين في مراتب القرب العلية اللهم بخير البرية وما بعثته به إلينا ، نوِّر قلوبنا وطهرها ونقِّها وارزقنا إيثارك على ما سواك وإيثار ما تحب على كل ما لا تحب في الأقوال والأفعال والمقاصد والنيات والمطاعم والمشارب والحركات والسكنات يا حي يا قيوم حققنا بحقائق العبودية وتولَّنا بأسرار ربوبيتك ولا يتقينا بها شر نفوسنا وشر إبليس عدوك وجميع جنده من الإنس والجن وتقينا بها شر الدنيا وغرورها وتقينا بها كل سوء أحاط به علمك يا قوي يا متين وارزقنا التذكر والاعتبار والاتعاظ والاهتداء وحسن الإقتداء لنبي الهدى، يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وكما أحضرتنا وبلغتنا أيام ذكرى بروز نبينا وميلاده فاجعلنا من الظافرين بمحبته ووداده والمستضيئين بأنوار تبيينه وإرشاده والقائمين بنصرته والمتحققين بحقائق محبته والداخلين في دائرته والمحشورين في زمرته بجاهه عليك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله
الفاتحة.
20 ربيع الأول 1444