تفسير سورة النحل، من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ الله مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}، الآية: 48

تفسير سورة النحل
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل من قوله تعالى: 

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۩ (50) ۞ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ۚ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ ۚ فَتَمَتَّعُوا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55))

ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية في الساحة الشرقية بدار المصطفى بتريم

نص الدرس مكتوب:

الحمدُ لله مُكرِمنا بِوحيه وتَنزيله وبَيانِهِ على لِسان عَبده وَحَبيبهِ وَرَسولهِ، سَيدنا مُحمدٍ المَخصوص بأعلى معاني تَبجيل الله وتَفضيله، صلى الله وسلمَ وباركَ وكرمَ عَليه وعلى آله وأصحابه وأهل مُتابعته والاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، من جَعلهم الله -تبارك وتعالى- خيرة أصفيائه وسادة أحبابه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى المَلائكة المُقَربين وعلى جَميع عِباد الله الصالحين، وعَلينا مَعهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

  وبَعدُ،،

فإننا في نِعمة تَأمُلِنا وتَدبُرِنا لِكلام رَبنا وإلٰهنا وخاَلقنا الواحد الأحد الفردُ الصمد -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.  انتهينا في سورة النحل إلى قوله -جلَّ جَلاله-: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48))، وَلَمْ يَزَلِ الْحَقُ -جَلَّ جَلَالُهُ- يُقِيمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَيَتَلَطَّفُ بِعِبَادَه وَيَتَنَزَّلُ لَهُمْ؛ بإقامة الأدلة الواضِحة ولَفت أنظارِهم إلى العَلامات البَينة، وما أمر سُبحانه من الرُّؤيا التي أراد بها رُؤيا بصرٍ مُقترِنةً بتأمُّل وتفكُّر بصيرة (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ (48)) يُرِيدُ مِنْ أَصْنَافِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ، مِنْ أصنافِ هذهِ الأجرام.. مِنْ حَدِيدٍ، وَشَجَرٍ، وَعُودٍ، وَبِنَاءٍ وَكُلُّ مَا يُوْجَدْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنَ الْأَجْسَام.

يَقولُ (أَوَلَمْ يَرَوْا (48)) يعني: ما كان منهم التفات؟ ما كان منهم تأمُّل؟ ما كان منهم فِكرة؟ كيف يَعيشون مع هذه الأشياء كلها لا تَحمِلهم عُقولهم على أن يُبصِروا؟! كيف جاءت؟ ولماذا جاءت؟ وكيف تَكوَّنت؟ ومن مُكوِّنُها؟ فإنَّ الذي يَعيش مع هذه الكائنات كُلها ثُمَّ لا يُفكر هذا التَفكير بعيدٌ عن العقل تمامًا، بعيدٌ عن الوعي والإدراك تمامًا، تعيش مع واحد، اثنين، ثلاثة، وعشرة، ولا تدري من أين جاءت، ولا كيف جاءت، ولا ماذا فيها، ولا على ماذا تدل؟! مُغفَّل إلى هذا الحد؟! أبله بليد إلى هذا المستوى؟! 

(أَوَلَمْ يَرَوْا) لماذا لم يُفَكِروا؟ لماذا لَم يَنظُروا؟ لماذا لم يَتبَصَّروا؟ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ) لمَّا كانت الرؤية لا مُجرَّد وقوع البَصر؛ فَعدَّاها بــ: (إِلَىٰ) ولم يقول: (ألم) يروا ما خلق الله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ) يَعني: رُؤية مَقرونة بالتأمل، والتَدّبر، والتَفَكُر والتَبَصُر، والإسّتِهداء، لِمَا تَهدي إليه هذه الآيات؟ والإستِفهام.. كيف جاءت؟ وكيف قامت؟.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ (48)) أي: من عُموّمِ جَميع الأجسام الكائنة ما عِندَهم على ظَهرِ الأرض.  

قال: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ (48))، وفي قِراءة أَبي عَمرو ويَعقوب: (تَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ)، ومع قراءة عامة القّرَّاء: (أَوَلَمْ يَرَوْا)، وجاء في قراءة حمزة والكسائي: (أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ (48)) فالحق خاطَب، والحق ذكرَ بِضَمير الغَيّبَة وذَكر بِضَمير الحاضر المُخاطَب، وأبلغ -سُبحانه وتعالى- وبالغ في التَبيين والإرشاد والتَّنزُل للعباد وإقامة الحُجج والبراهين. 

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ) يعني: من كل شيءٍ ذا جسمٍ وجرمٍ على ظَهر الأرض، (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ)، (تَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ) بمعنى: يَرجِع ويَتمايل، الفيء: الرُجوع، يعني: له ظِلال، مَن الذي جعل لهذة الأجرام ظِلًّا؟ (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) [الفرقان:45] -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-. 

آياتٌ من آياتهِ العظيمة وقدرته الفخيمة في هذا الوجود وخَلْقِ هذه الأجرام، وخَلْقِ هذه السماوات والأَرَضيّن. يقول:-جَل جَلاله وتعالى في علاه- (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) [الفرقان:45-46]، شُؤون وَجدناها أمامنا.. كَيف جاءت؟ ما معنى أن لا نَتفَكَّر؟ أن لا نُحسِن التَبَصر؟ أن لا نُحسن النَظر؟ يقول: (تَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ (48)) يمتد الظل حينما تشرق الشمس لكل هذه الأجسام على ظَهر الأرض، مُمتدًا إلى جِهَة المَغرب مُستقيمًا، ثُمَّ يَبدأ يَتَمايل، ثُمَّ تَصِلُ الشَمسُ فَوقه، فَيِضمَحِلُ ثُمَّ يَرجِع إلى جِهَة المَشرِق، وإن كان في بدايته مائلا إلى اليمين صار بعد الزوال مائلا إلى اليسار، وإن كان عند البداية مائلا إلى اليَسار كان بَعد الزَوال مائلا إلى اليَمين. 

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ تَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ (48)) يَقول الله تَعالى: هذا أمام أعيُنِكُم بِتَرتيب مَن؟ بِتَقديرِ مَن؟ بِتَكوينِ مَن؟ بِضَبطِ مَن؟ بأمرِ مَن؟ وهَل يُمكن أن تَكون هكذا بهذا النِظام وبهذا التَرتيب من دون مُرَتِب من دون مُنظِّم؟ كيف يُعقَل؟! فأين الألباب؟ وأين العُقول إذا ما أدرَكوا هذا؟ وبَعد ذلك يجيء يفتخر يقول: أنا وصلت إلى طبقة كذا في الفضاء وأنت أصلا فاضي، إن طلعت الفضاء وإن جلست محلَّك في الأرض.. لاتدري مَن خَلَقك، ولا من خَلَق الفضاء، ولا لماذا خُلق؟ مشكلة أنت فاضي أنت نفسك، ما عندك عَقل تستعمله! شغَّلْ عقلك مِن فَضلك، شَغِّل عَقلك بالطَريقة الصَحيحة.. وقل كَيف قام هذا؟ ولِم؟ (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [ال عمران:191]،الله أكبر.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ تَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ..)؛ قال: (..سُجَّدًا لِّلَّهِ (48)) الأجرام هذه وظِلالُها ساجدةً لِخالقها، بمعنى: منقادةً خاضعةً مُطيعة، فمن الذي يأمُر الشَمسَ بالطُلوع؟ ومن الذي يُقيم لهذه الأجرام الظِل؟ ولماذا ما تتحكمون فيها، وفيه ظل وفي جهته وفي شكله وفي كبره وصغره.. من الذي رتَّب ذلك؟ ولماذا لا تستطيعون أن تعدموا الظل؟ وإذا عُدِمَ لا تستطيعون أنْ تُقيموهُ إلاَّ بسببٍ رتّبهُ هو؛ مِن إيجاد ضوءٍ يتوجهُ إلى جهةِ الجرمِ؛ فيظهرُ لذلك الجِرمِ ظِلٌّ؛ إن جاء الضوءُ مِن هذه الجهة بدى الظلُ مِن الجهةِ الأُخرى، فلماذا لا تتطورون وتتقدمون وتقولوا في دعواكم التطور: لا نريد ظل أصلاً؟ أو نريد ظل مِن نفس الجهة التي يأتي منها الضوء؟  لا تقدرون عليه، إذًا ما دمتم لا تقدرون.. فمن الذي قَدَر؟ ومَن الذي رتَّبَ هذا؟ وتَمشون هكذا مع تَرتيباته وتَقديراته وتَجحَدونه وتُنكِرونَه؟! ثم تتبعون شَهواتكم وأهواءكُم وتُخالِفونه؟! وهذا الأمر ثابت وقائم عليكم على رغمِ أنوفِكُم، فأنتم إذن سُجَّد؛ ولكن كُرهًا؛ ولا ينفع المكلف السُّجود كُرهاً، هو ساجد؛ لكن كرهًا ما ينفعه. وكل ما في السماوات والأرض ساجد لله -تبارك وتعالى- وخاضع وطائع، إلا قلب الجاحد والعاصي من الإنس والجن فقط هو الذي ينحرف عن الطاعة بماذا؟ بإظهار العِناد والمُكابرة فقط.

يقول: (سُجَّدًا لِّلَّهِ) الأجرام والأشكال والظلال كلهم سُجَّد، (وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)) مُستصغِرون، لا يخرجون عن الأمر والترتيب القهري الرباني الإلٰهي سبحانه عز وجل. (وَهُمْ دَاخِرُونَ) أفترون من حولكم الكائنات خضعت لله، ويبقى فقط وجه قَلبِكُم المُعاند الجاحد لا يَخضع! وأنتم في حد ذاتكم وخَلقِكم خاضِعون! لا نعلم أحدًا منكم اختار تَكوينه، ولا اختار نُطفته، ولا اختار رَحم أمه.. أبدًا، ما نَعلم أحد مِنكم.. أنتم خاضعون أصلًا! ومع ذلك مُكابرون ومُعاندون!! .. بَقي القَلب فقط هذا الذي مُنحرف هو الذي ما يَسجد والباقي أنت ساجد أصلًا، رأسك مكوّن تحت أمر قهر فهو مُكَوَّن، إنْ أراد له عدد الشَّعَر يَكون، كما إن أراد أَصلع أَصلع، وإن أراد كما أراد، وكما قدَّر بعدد الشَّعَر يَطلع عليه، ولا اخترت البلد، ولا اخترت الزمن، البلد الذي ولدتَ فيها ولا الزمن، أنت خاضع أصلًا.. أنت تحت قهر؛ ولكنك متكبر؛ مُصيبة الإنس والجِن هذا الكِبر الذي يُبعدهم عن إدراك الحَقيقة (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف:146]، فَهُم مَصروفون عن الآيات (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105]. 

يقول:(وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)) صاغرون (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (49)) يَقول كُل الأشياء -وذَكر هذه الجَمادات منها والأجسام- بقي الدَواب؛ فدخل فيما نَرى ظِلالُه أمامنا ساجدًا النّبات والجَمادات بِأصنافها، وبَقي هذه الدواب من الحَيوانات قال لك: وأيضاً والحيواناتُ ساجدة 

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ) أي مِنْ كل ما يدُبُّ ويَمشي ويَتحرك (وَالْمَلَائِكَةُ (49)) والملائكة؛ إمَّا لكونهم ليسوا كالدواب بِحيث هُم يَمشون على الأجنحة يَطيرون، وإمَّا ذِكرٌ خاص بَعد عام تشريفاً وتكريماً لهم. (وَالْمَلَائِكَةُ) فالكلُ ساجدٌ لله -تبارك وتعالى- (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)) المَلائكة؛ لأن الكِبرَ شأن الجاهل وهم علَّمهم الله -تبارك وتعالى- هم مُنزهون عن هذا الكِبر؛ الكِبر شأن المُغالط المُخادع لِنَفسهُ الجاهل بالحَقيقة، وأمَّا مَن أدرك الحقيقة ما يمكن أن يتكبر. كَيف يَتَكبر مَن يوقن أنَّ الأمرَ ليس له، ولا يدري ماذا يَستَقبله؟ كَيف يَتَكبر مَن عَرف عظمةَ المُكَون الذي لا يُعجزه شيء؟ (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49))، وهكذا عَلِمنا أيضاً بذلك أنَّ إبليس المُستَكبر لَيس مِن المَلائكة في شيء وهو كذلك، وهذا شأن المَلائكة ووصفُهم، بهذا نَعلم أيضاً أنَّ ما يذكرُ عن بعض الإسرائيليات والمرويات الباطلة في قِصَة هاروتَ وماروت أنَّ المَلائكة افتَخروا، كلام لا أصل لهُ ولا حَقيقة، المَلائكة كما وَصَفَهم الله -جل جلاله- مَعصومون لا يَستَكبِرون. 

(يَخَافُونَ رَبَّهُم (50)) وإذا كانوا مَعصومين فَلِماذا يَخافونه؟! كيف لا يَخافون وهُم أعرف بالله مِنكَ يا من أنت غير مَعصوم؟! كَيف لا يَخافون وهُم أعرف به مِنك إنَّ خَشيتهُ مِن مَعرفته كما أنَّ مَحبتهُ مِن مَعرِفَته، فَهم أخشى مِنك وهم أحب لله مِنك؛ لأنهم أعرف بالله مِنك، والحق -تعالى- كُل مَن عَرفهُ خَشِيه، مِن الأنبياء والمُرسلين ومِن المَلائِكَة المُقَربين. ويقول: أنكم في عالم الخلق قد تذهب الهيبة مِن المقرب منكم عند مَن يُقَرِّبه، وقال لهم: أمَّا شأن الاُلوهية والربوبية فغير ذلك، هؤلاء المقربين ملائكتي ما يستكبرون ويخافون 

(يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ (50))، وقال عنهم في الآية الأخرى: (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:28]؛ لِما يَعلَمونَ أنَّهُ الفَعالُ لما يريد، وأنَّهُ -سبحانه وتعالى- الذي يجب أنْ يُجَلّ وأن يُعَظَّم وأن يُخافَ، فهُم أهلُ إجلالٍ وهيبةٍ وخوفٍ منه على قدرِ معرفتهم به، وإن كان لا يحيطُ بمعرفتهِ إلاَّ هو؛ ولكنها مراتب كبيرة من المعرفه به، يهبُها -المعرفة الخاصة- للملائكة والأنبياء ثم لمن اختار من اتباع الأنبياء من الأنس والجن، ويعطيهم من المعرفة الخاصة ما يتميزون به عن بقية الكائنات من الحيوانات مِن النَباتات، والجَمادات، ومع ذلك كله فالجميع لا يُحيطون به عِلما، ولا يَعرفهُ على الإحاطة إلاَّ هو -جل جلاله وتعالى في علاه-. وأعظَمُهم مَعرفة؛ مَن يَكون أيقن بعجزهِ عن الإحاطة بالمَعرِفة، فَكُلهم على قَدر مَعرفتهم يوقنون بِعَجزهم عَن الإحاطة به -جل جلاله- وبذلك قالوا: "لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك" وقال الصِّديقون: لا يعرف الله إلاَّ الله فاتَّئدوا ، والدينُ دينان: إيمانٌ، وإشراك.

يقولُ: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ (50)): 

  • (مِّن فَوْقِهِمْ) من فَوقهم عَلامات الجَلالِ والعَظمةِ والكبرياء، واحد. (مِّن فَوْقِهِمْ): غَلب الخَوف عليهم فَصارَ فَوقهم، أي: غامراً لهم، 

  • إثنين ، (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ ) أي مع عُلوهِ وسُموهِ في الجلالةِ والعَظمةِ والكِبرياءِ ورِفعَتهِ المُطلقة جلَّ جلاله.

  (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ (50))، فهذه آيات السَجدةِ في سورةِ النَحل (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ تَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۩ (50))، (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ..) سَيدنا ومَولانا حَقِّقنا بِحقائق السُجودِ لك طَوعاً، بِجَميع ذرَّات أجزائنا وكُلياتنا، وأجسامنا وقُلوبِنا وأرواحنا وعُقولنا وأسرارنا يا أرحم الراحمين، وأَدِم لنا سُجودَ القَلب الذي لا يَرفع عَنهُ أبداً.

(وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) وهذا يُفيد العِصمة؛ لذا قال: (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) ، لكن ما قال يَترُكون ما نُهوا عنه؛ مانُهوا عَنه فقد أُمِروا بِتَركِهِ فإن فَعلوه فقد خالفوا الأمر؛ بل (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50))  ما نُهيتَ عنه فقد أُمِرتَ بتركه فإن لم تتركه فخالفت الأمر. (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۩ (50)) وبعد هذه الدَلائل كُلها والعالم كُله خاضع لهذا الإلٰه ويَبقى فقط وِجْهَة قَلب الكافر والعاصي من الإنس والجِن.

يقول الله -تبارك وتعالى- ارجعوا إلى حُسن النَظر في الأمور ولا تتخذوا مع الله إلها آخر (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ (51)) لِمَ؟ لأن الإثنينية مضادة للألوهية، مضادة للإلهية، الإلهية.. ما يمكن تكون معاً أبداً.. كيف؟ لو وُجد إثنان -لو فرض وهذا أمر مستحيل- لو فُرِضَا أن وجد إثنان ووجودهم ذاتي؛ فَهما واجبا الوُجود، وإذا كان هذا واجبُ الوجود؛ وهذا واجبُ الوجود؛ صار مع وجوب الوجود لهذا ولهذا اشتركا واتفقا وتوحَّدا في وجوب الوجود، لكن المَحل إختلف؛ فالتَّعَيُّن إختلف هنا وهنا، فصار الواحد منهم مُرَكَّب، والمُرَكَّب لا يصلح أن يَكون إله؛ إثنينية التضاد الإلهية.  ثُم هَل يَستطيع أحدٌ مِنهُما أن يُخفي مُلكه عن الآخر؟ فإن كان لا يستطيع؛ فهو عاجز ما يَصلح يَكون إلٰه، وإن كان يَستطيع والآخر الذي يخفي عَنه المُلك؛ عاجز ليس بإلٰه، -الله- وإذا أراد هذا تَسكين شَيء، وأراد الآخر تَحريكه، فَليَسكُن ويَتَحَرك؛ إن عَجز هذا وهذا فكلاهما ليس بإلٰه، وإن كان واحد نَفَّذَّه على الثاني فهذا الإلٰه،  وذاك ضَعيف عاجز ما يُساوي شَيء، الإثنينية مع الإلٰهية ما تتفق أصلاً.. مُتضادة، ( إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ ) [النساء:171]. 

(وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ (51)) الواجب الوجود المُوجِد لكل ما سواه (إِلَٰهٌ وَاحِدٌ (51))؛ فيتبين ذلك.. إنتقال مباشرة إلى الكلام من الغائب إلى الحاضر؛ لأنه هو المتكلم (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)) ها أنا ذا ربكم الذي خلقتكم وما معي خالق آخر خلق شيء فيكم (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فإن كان عندكم هَيبة وخَوف من شَيء فأنا ربكم (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). 

(وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (52)) خَلقاً وإيجاداً وعبيداً ومُلْكاً، فهو مُلكه، جميع ما في السماواتِ وما في الأرض، فمن يُدّعى له ذلك؟ من يُدّعى له ذلك! جاء هؤلاء أهل العُقول الضّاله المُنحرفة؛ قالوا نُصَّدق بالعلم، يُريدون بالعلم اكتِشافات حُثالة من الناس..طيب! هذا العِلم كيف كَوّنكم!؟ وهل كوَّن هذا العِلم السَماوات والأرض، أو هو أوجدها؟ وهو حادث كل يوم ويتطور أمامكم..أمام عيونكم ،  أين كان هذا الذي يجدد منه؟! وأي شيء خلق هذا العلم؟! عقل غير موجود! كلام ما يقوم قط على أساس صحيح من العقل! سبحان الله كيف ضَيعوا عُقولهم؟! و صار الناس كما قال ربهم:  ولكن اكثر الناس لايعقلون يعني ما يُحسنون إستخدام العقل، أعطاهم العقول لكن أضلَّها الله. قال سيدنا عمر: كيف أيام الجاهلية تُكَوِّنون بنفسكم أنتم صَنم من تمر ولا من حلوى وبعدين تعبدونه؟! وإذا ما تجوعون تأكلونه! كيف هذا؟! ما كانت لكم عقول؟! من جهة الموهبة أعطانا الله العقول لكن أضلَّها بارئها  عقل إذا ما حَسُن إستخدامه ولا فقده.. ما ينفع صاحبه! يقول أضلَّها باريها -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

(إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ) الخضوع والطاعة والانقياد (وَاصِبًاۚ) مستمرا، ما في السماوات وما في الأرض خاضع لجلاله ولعظمته، والذين ظهروا على ظهر الأرض من الإنسِ والجنِ جاحِدين ومُتَكَبرين؛ نازَلَهُم هَلاك ونازلهم آفاتٌ ونازلهم مالا يريدون، ورأسهم إبليس الذي مُتِّع بأمر الله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم -إلى وقت النفخ في الصور- يجري على ظهر الأرض مالا يُريد، كل الإسلام ما يريده، كل الطاعة ما يريدها.. في طاعة في الأرض أو لا توجد  طاعة؟ هل هذا إلٰه؟! لا هو إلٰه ولا معه آلهة من أتباعه، كلهم ما تجري الأشياء، كُل مَلِكٍ من مُلوكِهم ما يَسلَم يوم واحد أن تَجري الأمور في مملكته وحدها دون غيرها على ما يريد! في يوم الواحد يحصُل في مملكته مئات وألوف أشياء ما يريدها! هذا واقعهم .. أو لهم واقع ثاني؟! يا جماعه الآن تريدون تعبدون من؟! تريدون تعظمون من؟! تريدون تتبعون مَن إذا نسيتم إلٰهكم؟! إذا أعرضتم عن خالقكم! 

(إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ۚ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)) مستمرًا دائمًا باقيا، هذه السماوات وهذه الأرض ما فيها تحت حُكمه وقَهره، وهذه الأشياء التي يُجريها ما يَملك أحد؛ أن يُقَدم فيها ولا أن يُؤَخر "لا مانعَ لما أعطيتَ ولا مُعطي لما مَنعت، ولا رادّ لما قَضيت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجَد" صاحبُ الحظّ و الغنى ما ينفعه حظه ولا غِناؤه من دونك -جلّ جلاله- يُقدّم ويُؤخّر، ولا مؤخّر لما قدّم ولا مقدّم لما أخرّ، يرفع ويخفض، ولا رافع لما خفض ولا خافض لما رفع. (وَلَهُ ٱلدِّینُ وَاصِبًا) مستمراً ثابتا دائما، الله أكبر! لهم عذابٌ واصب مستمر دائم، (وَلَهُ ٱلدِّینُ وَاصِبًا)فهذا الوصف مع من غيره؟! ولا أحد! لا إلٰه إلا هو،  (وَلَهُ ٱلدِّینُ) أيضاً الجزاء؛ يُجازي بعد ذلك، يجازي جزاءً دائماً، يجازي على الإيمان جزاءً مُخَلَّداً؛ ويَدومُ بذلك جَزاءُ الحَسنات التي عَمِلها المُؤمِن، يُجازي على الكُفر جَزاءً مُخلداً ويَدومُ مَعَهُ عذابُ السيئات التي ارتكبها ذلك الكافر -والعياذ بالله- قالوا (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ *فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:42-48].

(وَلَهُ ٱلدِّینُ وَاصِبًاۚ) أي: له  الجزاء الدائم. وهل يَقدِر أحد يُجازي أي واحد غَيّرُه أحب أن يُكافئ أحد يُحسِن إليه هل يمكن أن يكون ذلك دائم؟ لا هو يدوم ولا الذي أعطى يدوم، وبعد ذلك  تختلف الحوارات.. يقول لهم هذا كرّموه دائماً حتى إذا متُّ ؛ هذه وصية لكم، ثم هو يموت.. وقد ينفذوه وقد ما ينفذونه، وإذا نفذوه وهو يموت. كيف يكرمونه إذا مات؟ ما يقدرون يصلحون(يفعلون) جزاء دائم! والثاني يكرهها، يقول هذا للأبد عاقبوه للأبد، وليه يعاقبوه للأبد؟ أقتله.. وبعد ما تقتله كيف تعاقبوه؟ ولاعاد يقدروا يعاقبوه بشيء؛ جزاء منقطع! لكن الرَّب نعيم مؤبّد وعذاب مؤبّد (وَلَهُ ٱلدِّینُ وَاصِبًا) مستمراً دائما -الله الله الله الله-. 

صفات ما هي إلا له وحده؛ فلا إله معه، ولا إله إلاّ هو -جلّ جلاله- فلِمَ لا نخضع؟! ولِمَ نُتعِب أنفسنا في هذه الحَياة بِفلسَفة هؤلاء وسَفسَطَتِهم وتَجَرؤهم على خالقهم؟! وادعائهم (أَنَا رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ) [النازعات:24] و (إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤۚ) [القصص:78]. وبعدين خَبَطُوا لنا الدنيا خَبْط، واختبط معهم من والاهم ومن اتبَعهم! ويا فوزَ الصادقين مع الإلٰه الواحد؛ المُخلصين لِوجهه يَستَقيمون في الحياة على ما أحبَّ منهم، وهيأ لهم وراءها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطر على قلب بشر. اللهم اجعلنا من أهل عبادتك، أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

(وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ۚ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)) تَحذرون وتَخافون من غيره! والأمر أمره! وغَيره الذي تَخافونه تَحت قَهره -جل جلاله وتعالى في علاه-! وأين الذين عاشوا على ظَهر الأرض على ظلمٍ أو تعذيبٍ أو إيذاءٍ للمؤمنين ولغيرهم من بَعضِهمُ البَعض؟ وعلى مدى القُرون، وما مَصير المَوجودين مَعنا على ظَهرِ الأرض ممن يَظلم وممن يَفسق وممن يَهتِك الحُرمات والأعراض؟  وممن يأخذ حقَ الغير؟ ماذا يكون مآلهم وما نهاياتهم؟  شَغّل عقلك أحسِن استخدام العقل، يَتعَرضون لِماذا!؟ وكم أمثله قبل عذاب الآخرة عندك في الدنيا، الذي كان يَبطش ويَظلم صار يَتقلب على سرير يصيح طول الليل، وآخِر ظلم وبطش وآذى وثم قدموه للمحكمة وأخذوه يشنقونه! هم قدامك أمامك يا عاقل! يا واعي! يا آدمي! يا إنسان! يا فاهم! أما تراه أمامك؟! لا إله إلا الله ! آمن به واصدق معه واستعد للقائه! أترك هذه المخادعات الباطلة 

(أَفَغَیۡرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ)، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَة فَمِنَ ٱللَّهِ) جسداً وروحاً، وسمعاً وبصراً، وهواءً تستنشقونه، وأجهزةً فيكم مُكوّنة، وحُسن خَلق وتَكوين، وأرضاً مُمَهدّة، مِن أين هذا كله! عسى ماهو  الحِزب حقك؟ وإلّا العِلم ذا حقك ؟ خَلقه لك يا..! يا مُتناقض مع عَقله! يا مُتناقض مع إنسانيته! هو العِلم خَلق لك الهواء هذا؟ الذي تَستَنشِقه وتقوم به! هو العِلم خَلق لك هذه النباتات؟ هو العِلم كَوّن لك هذا الفم؟! مُنذ أن كُنت وسط بَطن أمك وتَكَوّن الفَم لك؛ من أَجل ما أنت مُحتاج إليه في هذه الحياة الدُنيا، مَع إنك في بَطن أمك تتغذى مِن السُّرة، وبعدين ليش هذا الفم؟ ووسطه لسان خلقَ لك فيه مُقَطِّعات ومُكَسِّرات ومَطاحِن؛ لأنك محتاج إليها! وبعدين رتبها لك ترتيب بديع، وجعل لك، لأجل إصاغة ما تأكله؛ عين تَنّبَع وسط فمك من الذي نَبّعها؟ عسى ماهو العلم حقك هذا ؟! وإلا الحزب وإلا الحكومة حقك !؟ تُنّبِع لك هذا الريق! وجعله طَيّب.. وكيف لو غيّر لك طَعمه أوغيّر لك ريحه!.. ماذا سَتعمل!؟ وبعد ذلك يسيغ لك الِلقم وبعدين تدفعها إلى الأمام وتجعل لها مسقط ومَخرَج مُعَين وطريق تصل له إلى المحل من المعدة! ترتيب وتكوين و نِعَم لا تُعد (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا (18)).

يقول: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَة فَمِنَ ٱللَّهِ) اللهم ما أمسى بنا من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر على ذلك. حتى ظواهر النعم التي يُنعِم بها على الموجودين معنا على ظهر الأرض من الكفار والمشركين والملحدين والمعاندين والمضادين كلهم من أين جاءوا بالنعم هذه؟! لا إله إلا الله (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء:20]. 

ولكن فَرق بَين الشَّكور والجاحد، فَرق بَين المُؤمن والكافر، فَرق بين الطائع والعاصي، قال: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)) تُصيحون وتضجّون.  حتى الكفار والمشركين وقت الشدّة: "يا الله" ما يعرف إلاّ هي ويلجأ إلى ربّه -جلّ جلاله- ( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ (54)) رَفعه بَعد ما أَقام هذه البَيّنات والحُجَج كُلها وأصابكم الضُرّ ورَجعتم إليه والآن لمَّا يَرفع الضُر عَنكم مَرة أخرى تَتَنَكرون! (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) [الأعراف:135].  (فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ یَدۡعُنَاۤ إِلَىٰ ضُرࣲّ مَّسَّهُ) [ يونس:12]. (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ (55)) مِن نعمةٍ ومِن منةٍ. يقول الله بعد بلاغي وإرسالي الرسل وبياني هذا البيان يا من أبيتم وأصررتم إلاّ الكُفر والمخالفة: (فَتَمَتَّعُوا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)) امضوا في حياتكم هذة فستنظرون ما الذي سيحصل في الحياة وبعدها؛ وغاية التهديد من ربّ السماوات والأرض- جل ّجلاله- لمن كفر؛ وهذا إنذاره - سبحانه وتعالى- على لسان رسوله محمد ﷺ.

فالله يجعل قلوبنا مُدَّكِرَه، ويجعلها مُطَهَّرَة، ويجعلها مُنَوَّرة، يزداد نُورها في كل نَفس وحين، نلقى الله له ذاكرين شاكرين، محبّين مُخلصين موحدّين موقنين، صادقين موفين بالعهود، نحب لقاءه ويحب لقاءنا، ويجعل مآلنا نعيماً مخلّد، وفضلاً مؤبّد، وجوداً لا ينفد. اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان، وفقّنا لما تحب، واجعلنا فيمن تحب، برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين. 

تاريخ النشر الهجري

27 جمادى الأول 1444

تاريخ النشر الميلادي

19 ديسمبر 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام