(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف:
نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)
مساء الإثنين 13 شوال 1445 هـ
الحمد لله مدبر الأمور ومقدّر الأقدار، وشارح الصدور ومُطور الأطوار، يولج النهار في الليل ويولج الليل في النهار، هو الله الواحد الأحد الملك الغفّار القهّار، أرسل إلينا حبيبه المختار نور الأنوار، سيدنا محمدًا بالهدى والبيان والنور والحق والأسرار، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المجتبى سيدنا محمد نور الأنوار وسر الأسرار وترياق الأغيار، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن والاهم فيك وعلى منهجهم سار، وعلى جميع آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإنَّنا في تأملنا لكلامِ ربنا -جلَّ جلاله- بدأنا في أوائل سورة الكهف حتى وصلنا إلى قوله -جلَّ جلاله- بعد أن أجمل الكلام عن أصحاب الكهف، فصَّل بعض التفصيل في وحْيه والتنزيل إلى قلب رسوله الجليل: (نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ ..(13)) نحن بعظمَتنا وألوهِيتنا وربوبيّتنا نقصُّ عليك يا أكرم خلقنا نبأ هؤلاء، لأن لهم مكانة لدينا ومنزلة عندنا، إنهم من خلْقنا الذين مَنَنَّا عليهم بالإيمان والصدق معنا، فارتفع قدرهم وشأنهم بما بذلوا وبما صبروا وبما ثبتوا على العهد الذي عاهدناهم عليه، مع أنَّه لا تساعدهم الظروف، ولا تساعدهم الأوضاع، ولا تساعدهم التركيبة للمجتمع والدولة التي كانوا يعيشون فيها، ولكنَّهم صدقوا وقرَّروا قرارهم، فتولّيناهم بعجائب لطفنا حتى جعلنا لهم الذكر الجميل، وأهلكنا من كان يعاديهم، وسخَّرنا قومًا مؤمنين بعد ذلك يتسابقون إلى إكرامهم واحترامهم حتى اتخذوا عليهم المسجد كما سيأتي معنا.
قال الرحمن: (نَّحۡنُ ..(13)) بعظمتنا (نَقُصُّ عَلَيۡكَ ..(13)) اعتناءً بذكر أخبار الأخيار والصالحين، ربُّ العالمين يتولى بنفسه قصة هؤلاء القوم والفتية المباركين، فكيف لا تتعشّق قلوب المؤمنين أخبار أهل الصلاح وأخبار العارفين؟!
لذا كان يقول الجنيد بن محمد في بغداد: (إنَّ حكايات الصالحين جند الله يرسلها إلى القلوب، ألا ترى أنَّه يقول لعبده المصفى: (نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ..))، أنا أتولى بعظمتي وربوبيّتي أتولّى نشر هذا الخبر عن هؤلاء القوم.
(نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم ..(13)) خبرهم وقصتهم و أحوالهم وشؤونهم، (بِٱلۡحَقِّۚ ..(13)) الصدق الواقع الذي لا ريب فيه.
(نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ..(13)) شباب في أول الأعمار، لم يُجاوزوا مرحلة الشباب من العمر فتية.
(إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ ..(13)) وهم كما يقول ابن عباس: السبعة، سبعة كما أشارت له الآيات في ما يأتي معنا.
(فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ ..(13)) فتية؛ جمع قلة، فهم أقل من العشرة.
(إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ ..(13)) هذا أول أوصافهم، زيّنتهم بالإيمان بي، شرّفتهم بالإيمان بي، أكرمتهم بالإيمان بي، فلا شيء يُكرَم به مُكَلَّف من الإنس والجن أعظم من الإيمان بالله، بل ولا يُكرم به الملائكة أعظم من الإيمان بالله، وما سلسلة المعارف الخاصّة والقرب والرّضا إلا نتائج الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وثمرات الإيمان بالله، اللهم زدنا إيمانًا وحققنا بحقائق الإيمان يا رحمن.
(إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ ..(13)) الذي كونهم وخلقهم وربَّاهم، وهو ربُّ كل شيء، ولكن هؤلاء الإنس والجن فيهم العتاة، وفيهم أهل الجراءة وأهل الجفاء يُنكرون ربوبية الذي ربَّى وخلق من العدم، وكوَّن وصوَّر وعدَّل الخلق وأوجد من غير سابقة سبب، وأوجد ورتَّب وقوّم الأسباب بعد ذلك والمسبَّبات، ورزق وهدى كل شيء لمَصالحه، فيجحَدون ويلحدون أو يكفرون أو يشركون معه غيره في الألوهية والرّبوبية والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ ..(13)) فعلموا أنَّه المنفرد بالخلق والإيجاد والإنعام والإفضال فخضعوا له وسجدوا له وتعلقوا بعبادته، وهذا أكبر وأجمل ما يوجد على ظهر هذه الأرض لهؤلاء المكلفين.
(إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ ..(13)) -جلّ جَلاله- ولما كان هذا الرب الكريم يُحسن في المُعاملة إلى عباده فلا يتقرب إليه مُتَقرِّب شبرًا إلا تَقَرَّبَ هو إليه ذراعًا، ولا تَقرَّبَ مُتَقَرِّب إليه ذراعًا إلا تَقَرَّبَ هو إليه باعًا، كذلك قال إنَّ هؤلاء لمَّا أكرمناهم بالإيمان وعرفوا قدر النّعمة وتشبّثوا، بها زدناهم من هذا العطاء الغالي الرفيع.
(إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى (13)) زادهم هدى بما عرفوا من حق الإيمان وقاموا بمقتضاه، وهكذا لا يعرف نعمة الإيمان أحد منا ويعمل على مقتضاها، إلا باشرهُ الرحمن الذي آمن به بزيادة نور في المعرفة وفي السير وفي السلوك، وفيما ينبغي له وفيما يحق له أن يختاره ويمضي عليه في أخلاقه وفي سيرته وفي أحواله كلها.
(وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى (13)) ولقد قال في الآية الأخرى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17]، وقال تعالى في المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2].
(إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى (13)) يقول الله لنا وأنتم معاشر أمة محمد إذا علمتم سنتنا في من آمن بنا من الأمم السابقة وصدق معنا ولم يبالي في الأوضاع وما يجري من السُّلطات في إيمانهم بنا، رأيتم كيف فعلنا بهم ولطفنا بهم وأيدناهم وتوليناهم وجعلنا مآلهم جنتنا وقرْبنا، أترونا نَقصُرُ عمن يأتي منكم فيؤمن بنا في تبعيّة عبدنا محمد الذي بعثناه بالرّحمة، أترونَ نقصر جُودنا وكرمنا عنكم؟ كما فعلنا ذلك بالأمم قبلكم؟!
لا تقوم منكم فتية يصدقون مع الله ويهتدون بهدي رسول الله إلا تناوَلتهم أيدي عنايتنا فأكرمْناهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم، أنفعل ذلك بالأمم السابقة ثم لا نفعل بمن فعل بمثل عملهم من أمة خير الخلق؟! لا يكون ذلك، وفي هذا حث لنا من الله أن نسلك مسالك الصدق في الإيمان به والعمل بمقتضاها.
(وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى (13) وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ ..(14)) بالعزيمة والصدق والثبات، قال صدقوا معنا فزدنَاهم ثباتًا وزدناهم عزيمة وزدناهم يقينًا.
(وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ ..(14)) أي آتيناهم في ذلك قوة وِجهة، وصدقًا في الوجهة وعزيمةً قوية عظيمة.
(وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ ..(14)) إذ قاموا بمُقتضى هذا الإيمان فردوا وجه الكفر والطغيان، وأبوا أن يستسلموا له ونجوا بأنفسهم ورضوا بأن يفارقوا أوطانهم وأن يفارقوا أهلهم وأولادهم حتى لا يُفتَنوا في دينهم، وحتى لا يتعرضوا للإنحراف في إيمانهم ويقينهم، فرضوا بالزّهادة في الدنيا وبترك حطامها من أجل الله -جلَّ جلاله-.
(وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ ..(14)) فقدروا على ذلك، واستهْونوا الحقير الفاني، وعظّموا الأمر الغالي الباقي النفيس.
قال تعالى: (وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ ..(14)) قومة الصدق (إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ..(14)) الخالق كلّ شيء المنفرد بالخلق والإيجاد، ربنا رب السماوات الذي خلق السماوات والأرض، لا يأتي إلينا إنسيّ أو جني يقول أنا ربكم، بأي معنى من المعاني كما قال ذلك فرعون وأمثاله، وقال النمرود وأمثاله، وقال كل من يدعونا إلى الكفر بربنا، أو إلى مخالفة منهج ربنا لفكرِه هو ولنِظامه هو ولوَضعه هو لأنَّه يقول اتركوا ربكم، من أين أتيت؟! أخلقتَ السماوات؟ أخلقت الأرض؟ أم خلقتنا في بطون أمهاتنا؟ من أنت؟ كيف نكفر بالذي ربّانا وخلقنا وخلق الكون من حولنا؟ لأنَّك تقول أنَّك متقدم أو متطور أو مفكر أو مخترع؟ من أنت؟! أنت واحد مثلنا خُلِقَت لك السماوات وسُخِّرت والأرض، فتأتي وتكفر بالذي خلق وتكفر بالذِي أوجد وأنشأ وهيأ لك هذه الحياة وهذا السبيل؟!
يقول -جلّ جلاله-: (فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ..(14)) وفي بعض الروايات أنَّهم قالوا ذلك أمام الطاغية دقيانوس الذي كان يدعو إلى عبادة الأصنام، (فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ..) -الله أكبر-، (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) [طه:49,50]، أنت ماذا عملت؟ كنت نطفة مثلنا وعلقة ومُضعة، وأتيت إلى الأرض، لا لك يد تقطع ولا يد تبطش ولا رجل تمشي وتقول لنا أنا ربكم؟ (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) [طه:49,50]، (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ) [طه: 52-54]، من الذي كَوَّن؟ من الذي أوجد؟ ما بالهم يدعوننا لأنْ نكفُر بالذي خلَقنا؟ ما بالهم يدعوننا لأن نخَالف منهج الذي كوّن الوجود من حوالينا؟ وهيأ الحياة لنا -جل جَلاله- ولم يشركه في ذلك أحد.
(فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ ..(14)) كيف ندعو إله سواه؟ وسواه لم يَخلُق، وسواه لم يكوّن، وسواه لم يمهّد لنا الأرض، ولم يبْنِ السماء من فوقنا، كيف نتخذه إله؟
(لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا (14) هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ..(15)) الذين ربوا بهذا الفكر الشّيطاني الملقى إليهِم و طاوعتهم أنفسهم على الكفر بالله واتخاذ آله غيره.
(هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ ..(15)) نريد أن نعرف كيف ألّهتم هذا الذي اتبعتموه أو عبدتموه من دون الله؟ أخلقكم؟ أأوجدَكم؟ أأرسل إليكم؟ ياجماعة، فبأي دليل؟ بأي حجة؟ بأي حجة نرضخ لمن قالوا إنَّنا مفكرين ومخترعين واتركوا ربكم؟ لا خلقونا ولا خلقوا آبائنا ولا خلقوا أمهاتنا ولا خلقوا الأرض لنا ولا خلقوا السماوات من فوقنا، ولا هم الذين ينبتون لنا الأشجار ولا هم الذين يَرزقوننا، فأين الدليل؟ بأي حجة نَتَّبِعَهم؟ بأي برهان؟ بأي عقلية؟ نترك منهج الذي خلق وقدَّر وكوَّن ورزق، وهذه حجج واضحة وآيات وبراهين قاطعة؟ فليأتوا بحجة؟ فليأتوا بحجة أن هناك إله غير الله؟ أو أنهم خلقوا شيء في السماوات والأرض؟ (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ) [الأحقاف: 4]، (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۖ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ) [الأحقاف: 4]. هاتوا، والله ما معهم حجة، ولا معهم دليل إلا طغيان وبطش وشهوة وغضب، والدنيا والسلطة وراحوا وراها وسكروا وراءها وما معهم أي دليل، ما معهم أي حجة، الحجة فيما بُعِث به الأنبياء، الحجة فيما يدركه كل ذي إنصاف من أرباب العقول.
الأعرابي يقول بفطرته والبراهين أمامه: "سماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فجاج، وبحارٌ ذات أمواج، أفلا تدلّ على الصانع الخبير؟ البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير" فكيف لا يدل هذا على عظمة الصّانع الخبير الخالق -جلَّ جلاله-؟
(هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ ..(15)) ما عندهم سلطان، إذًا (فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا (15)) لا حُجة ولا دليل إلا غرور و أباطيل وأضاليل وشهوات ودنيا ويريدوننا أن نكفر بالله تبارك وتعالى، (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر: 41-43]، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)).
قالوا لبعضهم البعض وقد اجتمع السبعة: (وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ ..(16)) قمتم باعتِزالهم جسمانيا بعدْتم عنهم، فاعتزلِوهم معنىً وروحًا، (فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ ..(16)) اعتزلتموهم بالإيمان، بإيمانكم، اعتزلتموهم معنويًا فاعتزلوهم أيضًا جسدانيّا وحسيّا بالذهاب عنهم، لأنَّكم بينهم لا تقدرون أن تقوموا بحق المعبود ولا بمقتضى الإيمان به، (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) [النساء:94]، إشارة إلى أنَّه ما من مسلم في أي مكان في أي زمان يُسَلّط عليه من يمنع من إقامة دينه إلا وموجود أماكن في الأرض يستطيع فيها أن يقيم أمر الله، فليذهب، فلماذا يجلس عندهم؟ (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) [النساء:94]؟!
(وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ ..(16)) في عقيدتكم وإيمانكم معنويُا (فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ ..(16)) اعتزلوهم جسمانيّا كما قال الله لسيدنا موسى لمَّا كان بين الكفار في مصر قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) [يونس: 87]، يعني اعتزلوا لا تختلطوا بالقوم، فإن الإختلاط بالفجار والكفار له ظلمات، له أكدار، له تأثير على الأفكار، له تأثير على السلوك والسير فاعتزلوهم.
قال: (وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ ..(16)) وجاء في مصحف ابن مسعود (وَمَا يَعۡبُدُونَ مِنْ دُونِ ٱللَّهَ ..) وهو تفسير لهذه الآية.
(وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ ..(16)) لأنَّ القوم يشركون بالله تعالى، فقيل أنَّهم، الله تعالى صحت عبادته ولكن شركهم أفسد عبادتهم أصلًا كما قال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) [الكافرون: 1-3].
يعني (ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ ..(16))، أي من دون الله تعالى تركتموهم كلهم وآلهتهم، كما قال سيدنا هود عليه السلام لمَّا قالوا: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ) [هود: 54,55]. ففاز هود، وأُكرِم هود، ونجا هود، ودولة الكفر المارقة دُمِّرَت في الدنيا واستمر عليها العذاب في البرزخ إلى الليلة هذه، وسيستمر إلى وقت الصّعقة، ثم يعتدّون إلى عذاب أشد يوم القيامة ثم يدخلون النار، ما نفعهم كفرهم؟ ما نفعهم قواتهم المادية وقصورهم العالية المبنيّة؟
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء:128,129]. قوة عسكرية هائلة معهم، بماذا نفعتهم؟ ماذا نفعتهم؟ ماذا استفادوا منها؟ ذهب كل شيء، وهكذا شأن من على ظهر هذه الأرض، بخبر رب السماوات والأرض.
(وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ ..(16)) اجعلوه مأوى لكم، هناك كهف خارج البلدة بعيد عن هؤلاء نعبد الله فيه آمنين مطمئنين ونعلن بيننا وبأنفسنا الإيمان به، ونقوم بالركوع والسجود وأداء الذكر وأداء الخير.
(فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ..(16)) لأنه لا يضيّع من صدق معه، ولا يضيّع من أقبل عليه.
(يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ..(16)) يعني، يبثُّ لكم ويوالي الإفضال عليكم من رحمته فيما يصلح شأنكم وتقوم به أحوالكم.
(وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا (16)) وفي قراءة (مَرْفِقًا) عند نافع وابن عامر وبقية القراء، وأكثرهم قرأوا (مِّرۡفَقٗا)؛ أي رفقًا ولينًا، فإنَّه يلطف بمن صدق معه مهما اشتدت عليه الظروف ومهما نازلته الشدائد فله لطف بالمصادقين مع الله، اللهم اجعلنا منهم.
قال: (وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا (16)) كان هذا ظنهم بربهم وقد أعطاهم الله ما رجوا وفوق ما رجوا، ورَاعاهم بعين عنايته، ومزَّق الظّالم الطاغية الذي كان يدعوهم إلى عبادة غير الله، ويقول من لم يعبد هذه الآلهة اقتله.
ويروى أنَّه لما قاموا وقالوا بين يدي هذا الملك دقيانوس: (فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا (14) هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ ..(15)) قال: أعطيكم أسبوع أوعشرة أيام وراجعوا رأيكم وإلا ترجعون إلى العبادة معنا للأصنام أو أقتلكم، فهربوا وخرجوا.
(فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا (16)) فذكر الحق أنَّهم ذهبوا إلى ذلك الكهف، فذكر كيف اعتنى بهم ولطف بهم ورَاعاهم وأنَامهم سنين قضى فيها على ذلك الملك وقومه وأبدل الأرض بمؤمنين ومسلمين، حتى ما ابتعثوا من نومتهم إلا وقد تغيرت الأحوال من حواليهم، وحتى بلغ بهم الزهد في الدنيا مبلغًا، واشتاقوا إلى لقاء الرب سبحانه وتعالى، وطلبوا النُّقلة فماتوا وقد اطمأنوا على أن القوم الذين كانوا يؤذونهم ويُعاندونهم انتهوا، وأنَّ الله بدّل الحال إلى أحسنه، وبقي هم قوم مؤمنون، وغلبوا على أمرهم كما يأتي معنا في الخبر، ويأتي منه تعالى إلينا أخبار ما فعل بهم أيّام كانوا في ذلك الكهف وما ناموا فيه تلك المدة الطويلة، وكيف كانت نهاياتهم رضي الله عنهم.
(إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى (13))، اللهم ألحقنا بالمؤمنين، واجعلنا مِن مَن يزداد إيمانًا في كل نَفَسٍ وفي كل حين.
رب احينا شاكرين وتوفّـــــــــنا مسلمــين *** نُبعث من الآمنــــين في زُمرة السابقـــــين
برحمتك يا أرحم الراحمين، ثبت قلوبنا على الحق، ثبتنا على الحق فيما نقول، ثبتنا على الحق فيما نفعل، ثبتنا على الحق فيما نعتقد، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسرِّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمدﷺ
15 شوّال 1445