تفسير سورة الحِجْر، من قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}، الآية: 51

تفسير سورة الحِجْر، من قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}، الآية: 51
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحِجْر من قوله تعالى: 

{وَنَبِّئۡهُمۡ عَن ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ (51) إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗا قَالَ إِنَّا مِنكُمۡ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لَا تَوۡجَلۡ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ (53) قَالَ أَبَشَّرۡتُمُونِي عَلَىٰٓ أَن مَّسَّنِيَ ٱلۡكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡقَٰنِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقۡنَطُ مِن رَّحۡمَةِ رَبِّهِۦٓ إِلَّا ٱلضَّآلُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)}

ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية

نص الدرس مكتوب:


 الحمد لله مكرمنا بوحْيه وتنزيله وبيانه، على لسان عبده وحبيبه ورسوله، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه، وعلى آله وأصحابه وأهل وَلائه، والمشي على سبيله، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المخصوصين من الحق تبارك وتعالى بتمجيده و تكريمه وتفضيله، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أما بعد،،

فإننا في نعمة تأملنا لخطاب ربنا وكلامه وإنبائه وأحكامه وتعليماته وإرشاداته وتوجهاته جلَّ جلاله وتعالى في علاه، وصلنا في سورة الحجرِ إلى قوله جلَّ جلاله: (وَنَبِّئۡهُمۡ عَن ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ (51))، أي أخبرهم عن الملائكة الذين أرسلناهم فمرُّوا في صورة النازلين والوافدين والأضياف على الخليل إبراهيم عليه السلام، فإنَّ في هذه الأنباء والأخبار والقَصص ما يرفع القدر لمن اعتبر بها علما وذوقا وإيمانا ومعرفة وقُربا من الرحمن. 

(وَنَبِّئۡهُمۡ عَن ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ (51))، عن الملائكة الذين وفدوا وورَدوا، فمرّوا على الخليل إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم مرَّوا عليه في صورة نازلين برحابه وواصلين إلى جنابه؛ فباشرهم بالضيافة وهو أبو الأضياف عليه الرضوان وأفضل الصلاة والتسليمات. 

(وَنَبِّئۡهُمۡ عَن ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ (51))، ولقد كان إبراهيم عليه السلام مظهرًا من مظاهر رحمة الله وجوده وإحسانه، وكان كثير الضيف، وكان لا يأكل إلا مع ضيف. وجاء الملائكة على غير الوجه الذي تأتي به ملائكة الوحي وما عرفه من بروز الملائكة له في أحواله المختلفة، فجاءوا جماعة وعلى غير الهيئة المألوفة المعروفة؛ حتى ظنهم في أول الأمر أنهم أُناس وبشر مرَّوا عليه، إذ جاءوا متصوِّرين بصورة البشر، (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ..(52))؛ وهذا يبين لنا التحية في الإسلام التي بعث بها نبينا ﷺ، وكان عليها الأنبياء، وهي تحية الملائكة، وهي تحية أهل الجنة في الجنة: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب:44]، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:23-24].

فعند لقاء المؤمن بالمؤمن وعند انصرافه عنه يشابهون شأن الملائكة وشأن الحال الذي يرتجونه؛ وهو مآلهم إلى الجنة. فإن أحوال أهل الجنة يكثر فيها السلام من الملائكة والولدان ومن بعضهم البعض، وفوق ذلك كله يبادئهم ويباشرهم ويتفضل عليهم الرحمن الرحيم (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس:58] جلَّ جلاله وتعالى في علاه. فهم في عالم الدنيا كلَّما تلاقَوا وأراد أحدهم أن ينصرف؛ اتصلوا بهذا الحال العالي وهذا الشأن الغالي وألقوا السلام على بعضهم البعض. وقد غيَّر الناس هذا اللفظ الذي اختاره الله وجعل عليه ملائكته وأنبيائه من السلام فاستبدلوها بتحيات أُخر، ولما قدم المشرك على سيدنا المصطفى وقال: أنعموا صباحا، قال ﷺ: "قد أبدلنا الله بتحية هي خير من تحيتك وهي السلام"؛ فهي تحية المؤمنين التي ينبغي أن يحرصوا عليها عند مقابلة بعضهم البعض وعند انصراف أحدهم عن إخوانه، فليست الأولى بأحق من الثانية. 

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ..(52))؛ 

  • هذا شأن الملائكة وأدبهم وعادتهم ونظامهم، إذا لقوا أنبياء الله بادؤوهم بالسلام. 
  • وكان في خلق نبينا المصطفى أنه يبدأ من لقيه بالسلام من كل صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد وأبيض وأحمر وأصفر وأسود ﷺ. 
  • وكان يبدأ من لقيه بالسلام فيسبق من يلاقونه قبل أن يُلقُوا إليه التحية، يحييهم هو عليه الصلاة والسلام من كريم خُلقه وهو المخاطب من الإله العظيم بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]. 

ودخل الملائكة (فَقَالُوا سَلَامًا ..(52))؛ فينبغي الاعتناء بهذا السلام وأن يكون عادتنا وديدننا كلما تلاقينا. وإذا دخلنا بيوتنا، فلو لم يكن فيها أحد، فينبغي السلام فإن لم تجدوا فيها أحدا: (فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) [النور:61]، وتقول: "السَّلامُ علينا وعلى عبادِ اللَّهِ الصَّالحينَ"؛ لأن الله جعل في هذا السلام معاني وشريف أذواق. وبها يُحمل من شخص إلى شخص، ويقال: فلان يُقْرِئُكِ السَّلامَ. وكان سيدنا عمر بن عبد العزيز أيام خلافته يبعث بريدا من الشام إلى المدينة ليُقرئ رسول الله السلام في روضته و حجرته الشريفة ويعود، فيبعث البريد إلى المدينة ليقرِئ رسول الله السلام عن عمر بن عبد العزيز. 

وهكذا قال الخليل إبراهيم لنبينا في ليلة الإسراء والمعراج: "أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ" فعلى نبينا وعلى سيدنا إبراهيم الخليل سلام الله ورحمته وبركاته عدد ما خلق وملء ما خلق، وعدد ما في الأرض والسماء وملء ما في الأرض والسماء، وعدد ما عصى كتابه وملء ما عصى كتابه، وعدد كل شيء وملئ كل شيء. "أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ وأخبِرْهُم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربةِ عذبةُ الماءِ، وأنَّها قيعانٌ، وأنَّ غِراسَها سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبرُ"، فعمارتنا لمزارعنا في الجنة وحدائقنا وبساتيننا أن نقول:سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبرُ. 

ولم يزل السلام بهذه المثابة وهذا الحال، حتى تكلم الفقهاء أنه: أمانة، وأنه إذا أودعك أحد منه السلام إلى أحد وجب عليك أن تبلِّغه ووجب على من بلَغه السلام أن يرد السلام على من سلم عليه، وقالوا: إن الإبتداء بالسلام سُنَّة وإن رده واجب وفرض، وأن السُنَّة هنا يفوق ثوابها وفضلها الفرض مع أن ثواب الفرض يزيد على ثواب النفل بسبعين إلا شؤون مخصوصة يكون فيها ثواب النفل أعظم من ثواب الفرض مثل: الابتداء بالسلام ورد السلام. 

فالإبتداء سنَّة ورد السلام واجب، والإبتداء أفضل من الرد وأعظم ثوابًا للذي يبدأ صاحبه بالسلام. وقال نبينا عن الذين يحصل بينهم في نفوسهم شيء فيتنازعون؛ أن "خيرهما الذي يبدأُ بالسلامِ"، يتراجعون ويكسر نفسه ويبدأ، فالبادئ بالسلام خيْرُ الإثنين "وخيرُهما الذي يبدأُ بالسلامِ"، فهكذا عظُم شأن السلام وإذا قمت بحقه، وقد جعله الله لنا فاصل الخروج من الحضرة الخاصة إلى مزاولة شؤوننا في الحياة الدنيا كلما دخلنا الحضرة الخاصة بالصلاة وأن يكون تحليلُ الصلاة، السلام، ونسلم على من على يميننا وأمامنا ومن على شمالنا وورائنا من المؤمنين من الإنس والجن والملائكة المقربين، ونقول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ والسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ. كل ذلك إعلاءً لشأن هذا السلام وتحقيقًا لمعناه الغالي الشريف الكريم العزيز الرفيع، ولنعيش بين الأمة بالسلام "أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ" يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. و"من قال: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ) كُتِبَتْ له عشرُ حسناتٍ، فإذا  قال: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ) كُتِبت له عشرون حسنةً، فإذا قال: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ) كُتِبَتْ له ثلاثونَ حسنةً"؛ فهذه تحيتنا التي يجب أن نهتم بها ونواظب عليها إن دخلنا المجامعة ولاقينا إخواننا أو اتصلنا بهم في هاتف أو راسلناهم مراسلة بأي طُرق المراسلة أن نبدأ بالسلام. 

ومن اعتنائه بالسلام ﷺ كان يبدأ بالسلام حتى في مراسلته للكفار، لا يُسلِّم عليهم ولكن يقول: "سلامٌ على من اتبع الهدى"، في عامة كتبه التي يرسلها إلى غير المسلمين، فيقول: "سلام على من اتبع الهدى"؛ أي فإن وُفقتم وكُنتم ممن كتب الله لهم إِتْباع الهدى فهذا السلام إليكم، وإن كنتم من أهل الإصرار والعناد بعد بلوغ الدعوة أن لا يُسلِّموا فلا دخل لكم في سلامنا فإنما هو لمن اتبع الهدى، "سلام على من اتبع الهدى". 

وكان إذا سَلَّمَ عليه أهل الكتاب من الكفار أجاب بقوله: "وعليكم"، ولاحظ أن بعضهم لخبث في نفسه يقول: السام عليكم، فيحوِّل السلام من السام، أي الموت، فيدعو عليه بالموت، ولاحظ ذلك منهم فما نَاكَفَ أحدا منهم ولا خاصمه: ولكن إذا قالوا كذلك قال: "وعليكم"، أي أن الموت مقدر ومكتوب علينا وعليكم معًا، وكلنا سنموت ونخرج من هذه الحياة ولكن ما بين رابح وخاسر وبين فائز وهالك. 

يقولُ: (إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗا قَالَ إِنَّا مِنكُمۡ وَجِلُونَ (52))، أي بعد أن ردَّ عليهم السلام وقدَّم إليهم الطعام (فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود:69]، كما قال في ذكر القصة في سورة الذاريات، أي سارع لإكرامهم لما رآهم على صورة البشر ولم يعلم أنهم ملائكة، علِم أنهم وفد قدموا عليه من طريق يحتاجون إلى الطعام، فبادر بإحضار العجل المشوي، ما لبث أن جاءهم (بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) [الذاريات:26-27]، وقال في الآية الأخرى فـ(جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود:69]، أي مشوي. فلما قرّبهُ إليهم لم يأكلوا منه؛ فهنا خاف، وعلى غير وصف الملائكة الذين يأتون ولا يُعرفون وأبوا أن يأكلوا طعامه، فمن هؤلاء؟! ومما بين الناس؛ أن تناول الطعام بينهم البين عهود ووثائق، يأمن بها بعضهم بعض، ومن لم يأكل طعامك ولم يرضَ بما تقدمه فيمكن أن ينوي معك أي نية، ولكن إذا أكل طعامك؛ فعارٌ عليه بعد أن يأكل طعامك أن يقصد ضرّك أو أذاك؛ وهكذا عند النفوس المحررة النقية، أما الملوثة فيأكل طعامك ويسفك دمك، والعياذ بالله تبارك وتعالى، يأكل طعامك ويسبك من ورائك، وإن لله وإن إليه راجعون؛ في فساد الطبيعة البشرية ومخالفة الفطرة السليمة. 

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ*فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [الذاريات:27-28]، ثم بدأهم بالذكر والتصريح بالوجَل الذي وقع في نفسه منهم (قَالَ إِنَّا مِنكُمۡ وَجِلُونَ (52))،  ما هذا الخبر؟  وكيف أنتم؟ ومن أنتم؟ كيف جئتم ودخلتم علينا ثم لا تأكلون طعامنا؟ وما قصدتم من المجيء؟ (قَالَ إِنَّا مِنكُمۡ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لَا تَوۡجَلۡ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ (53))، قَالُواْ: لَا تَوۡجَلۡ؛ لا خوف عليك، (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ (53))؛ جئنا لك ببشارة من الله، يمهِّدون له أنهم رسل من عند الله جاءوا. قال غلام عليم يأتيني، (قَالَ أَبَشَّرۡتُمُونِي عَلَىٰٓ أَن مَّسَّنِيَ ٱلۡكِبَرُ ..(54))، أنا الآن كبير في السن وامرأتي كبيرة، وتقولون لي سوف يأتي لك ولد! ذلك ليستوثق منهم القول ويعلم، وتحدثوا عن علم وأمر من الله، أمر تخيُّلٍ منهم وعبور خاطر عليهم (أَبَشَّرۡتُمُونِي عَلَىٰٓ أَن مَّسَّنِيَ ٱلۡكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54))، ما وجه هذه البشارة؟ ولنا سُنُون مع هذه الزوجة لم يأتِ منها ولد حتى كبرنا وشختُ و شاخت وكبرت، (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ ..(55))، بالصدق والهدى، وجئناك بأمر -بعلم- من الله تعالى، لا بخيال ولا ظن. 

(فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55))، لست حول القنوط، أنا ما سألتكم وأنا قانط، (قَالَ وَمَن يَقْنِطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ ..(56))، في قراءة: (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56))، الذين لم يعرفوا عظمة الله وعظمة ما عنده و أنه لا ينفعه طاعة طائع ولا يضره ذنب مُذنب، وأن الأمر بيده فلا يقنط من رحمة ربه إلا ضالٌ جاهلٌ بوصف الإله جلّ جلاله. فلا سبيل إلى القنوط من رحمة الله ولو لأفسد المُفسدين وأكفر الكافرين. 

ولذا يروى أن سيدنا موسى عليه السلام اتاه عدو الله إبليس وقال: يا موسى أنا أفكر الآن أن أتوب، فهل يقبل ربي توبتي إذا تبت و رجعت إليه؟ قال: أسأل لك الرب، قال: إسأله، هل يقبلني؟ فأني أتوب إليه وأرجع، يكفي ما  عملت وأبيْتُ السجود ومرّ عمري، قال فلما كلّم موسى ربه في بعض مناجاته، قال: هل أرسلك إلي؟ -نسي سيدنا موسى- قال الله: هل أرسلك إلي بعض عبادي بشيء؟ تذكر، قال رسول الله: عبدك إبليس، وسيدنا موسى فرح بتوبته إذا بيتوب من أجل يُكفى شر كبير في إغواء خلق الله تعالى. قال: هل تقبل توبته؟ قال: إنما طردته لأنه أبى أن يسجد لآدم، قُل له فليأتِ إلى قبر آدم وليسجد له وأقبلُ توبته. قال سيدنا موسى: ما أسهل هذا، أمر يسير. رجع فرحان، مرَّ على إبليس قال: كلمتَ ربك؟ قال: نعم، يقول يقبل توبتك؛ أمرك بسجود آدم فأبيت فاذهب الآن واسجد له في قبره، قال: ما سجدت له حيًا أأسجد له وهو ميت؟!. لا حول ولا قوة إلا بالله؛  شقاوة (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (35))

لكن الله فتح المجال حتى في إبليس، فكيف بغير إبليس! وكم من واحد رأيناه في سوء وشر وكفر مظلم وبعد ذلك تحوَّل وصار صالح مقرّب، لا إله إلا الله، يهدي من يشاء ويضِلُّ من يشاء، ولا يعجز الله شيء، ولا يعظم عليه شيء، وبيده ملكوت كل شيء؛ فعلى العبد أن يتأدب لهذا الرب ويسأله التوفيق لمرضاته، اللهم وفقنا لما تحب واجعلنا فيمن تحب. 

(قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56))، لما قال الذي قتل مئة نفس من بني إسرائيل: يا أيها العالِم هل يقبل الله توبتي؟  قال: من يحول بينك وبين الله؟ ربك الذي خلقك، من يقدر يفصل بينك وبينه؟! بتصدق معه؛ أقبل، عملتَ ما عملت صغير أوكبير، معك صدق معه، من يقدر يحول بينك وبينه؟! إله خلقك وبيده أمرك، من يقدر يحول بينك وبينه؟! من يقدر؟ هذا ملك الإنس والجنة، من يقدر؟ الله خلقك إلجأ إليه واصدق، قال: رجعت، قال: خلاص على ما تصْدقك أُخرج من البلد التي فيها أشرار وأغْرَوك بقتل النفوس وسيّروك في هذا المسار الساقط، إذهب إلى القرية الفلانية فيها أخيار طيبين، إذهب معهم، فكان خير نصح، وخرج وفارق القرية، وبينما هو يمشي في الطريق جاءه الموت إلى آخر ما ذكر لنا الرسول ﷺ من قصته. 

ومن يحول بينك وبينه؟ من يقدر يقطعك عن الإله؟  (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56))، الذين لم يعرفوا هذا الإله، قال سيدنا الخليل إبراهيم؛ عرف أنهم وصلوا من عند الله جاءوا، وليسوا ببشر ولهذا لم يأكلوا الطعام لأن الملائكة لا يأكلون، ولكن مجيئهم بهذه الصورة ليس بعبث ولا يأتي إلا وراءهم خبر و وراءهم نبأ -أمر- خطير كبير، (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ ..(57))، ما القصة؟  كيف جيئتم؟  لماذا؟ لماذا جيئتم؟ فقال: (فَمَا خَطْبُكُمْ)؟ يعني أمر شديد كبير جيئتم به، ليس من المعقول كذا! الرحمن يرسلكم ما الحكمة؟ (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58))

(قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58))، يريد أن يتأكد، ما الذي جاءوا به؟  وما الخبر الذي وراءهم؟  ويعرف من أين أتوا (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59))، مُجْرِمِينَ وإجرامهم ارتكز في هذه الفاحشة، هذا الشذوذ الجنسي الذي هو الجريمة التي كانوا بها القوم مجرمين وما عانى أحد من الأنبياء من قوم ما عاناه النبي لوط -على نبينا عليه الصلاة والسلام- في هذا الانحراف والشذوذ الغريب الذي يخرج عن الفطرة والإنسانية كلها، ثم انتهت ما يسمى بحضارات عصرنا إلى الرغبة في ذلك وإلى التقنين لهُ وإلى إصدار القوانين له، فغاية في السقوط، وغاية في السُفل، وغاية في الخروج عن كل شرع وعقل مرُّوا به وهم مغترون بحضارتهم ويغرون من اغتر من المؤمنين بهم على قدر ضعف إيمانهم يغترون بهم، وما وراءهم إلا السوء، وما كفاهم، نشر الفسوق .. نشر الخمور .. ونشر أنواع الدناءات والتبرج والخروج عن الطاعة والعبادة. 

رأينا صور في بعض بلدانهم لاجتماع كبار الزعماء فيهم، رأينا صور كانت قبل قريب من مئة سنة، النساء محتشمات وجالسات آخر المجلس؛ هم كفارهم. وجاءوا باستهزاء بهذا الأمر المشروع على أيدي المرسلين كلهم لخلق الله من قِبل خالقهم من الاحتجاب والحشمة والحياء والبعد عن إثارات الشهوات والسوء، و تجرأوا وتنكروا ودعوا إلى السفور والتبرج وأقاموا لذلك حفلات و سينمات وكل ما قدروا على جهاز يعبث، العبث في هذا المجال والمضمار استعملوه، وجعلوا كل الدعايات صور مغرية، وكل المنشورات صور مغرية وكلها مثيرة للشهوات، ونشروا بين الناس أنواع الفساد، وفرقوا بين الشعوب، وفرقوا بين الدول، واستخدموا هذا ضد هذا وهذا ضد هذا، وضحكوا على هذا،  وضحكوا على هذا، وأخذوا ثروة هذا،  وأخذوا ثروة هذا، ولم يزالوا كذلك وإلى أن انتهوا. والآن قالوا: الشذوذ يُقنَّن وله في قانوننا التقدمي التطوري الحضاري هكذا. فلا شك ولا ريب أنهم أشرفوا على نهاية حضارتهم وأن تسقط من قواعدها وأساسها، وأن يصبحوا عبرة للمعتبرين. 

كما انتهت حضارات من قبلهم من الذين أفسدوا، وانتهوا هم إلى فساد لم يصل إليه من قبلهم ما وصل من قبلهم إلى هذا الفساد وهذا الشذوذ أصلا. ووصلوا إليه فهم على مشارف اندكاك حضارتهم من أصلها حتى يصبحوا عبرة للمعتبرين؛ وذلك قدَر الله جلّ جلاله الذي يجريه في البرية. وللأسف لازال معشعش في عقول بعض المسلمين تمجيد للسقطة .. تمجيد للسفلة .. تمجيد لكل الفساد الذي على ظهر الأرض -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وما فيه ماجد وما فيه إلا كل سوء، لعبوا ما لعبوا، نشروا الربا بين عباد الله هنا وهناك، ولعبوا بأفكار الناس وعقليات الناس واتجاهات الناس وضربوا بعضها ببعض وانتهوا إلى هذه الوساخة وغاية الشذوذ، فإلى أين يسير هؤلاء؟ إلى الهاوية؟  نعم إلى الهاوية، وسينحطُّون في الدنيا قبل الآخرة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ وهذه نتيجة حتمية لأهل الفساد، قال الله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود:82-83]، ماهي بعيد من الظالمين أن يكون لهم هذه العاقبة وهذا المصير -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 

يقول: (إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59))، من قرابته كلهم (إِلَّا امْرَأَتَهُ)، ما الذي يحصل عليها؟ قالوا: (قَدَّرْنَا) بما علمنا الله تعالى، (إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60))، المتخلفين عن لوط ومع قومه ولا تخرج مع لوط وأهله من البلد في وقت نأمرهم بالخروج للنجاة (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60))

 ذكر الحق نبأ ضَيْفِ إِبْرَاهِيم وهذا الذي دار بين سيدنا الخليل إبراهيم عليه السلام وبين الملائكة الذين مروا عليه وسماهم الحق ضَيْفَه لمجيئهم على صورة الأضياف وصورة البشر، ودخولهم إلى بيته وفيه الإشادة بإضافة الخلق وإكرامهم وإطعام الطعام لهم. كما كان شأن الأنبياء والصالحين ويفرحون بالضيف، وإن الذي يبغض الضيف يبغضه الله. ولهذا قال: "لا تَكلَفوا للضَيفِ فتَبغضوهُ فإنَّه مَن أبغضَ الضَيفَ فقد أبغضَ اللَّهَ ومَن أبغضَ اللَّهَ أبغضهُ اللَّهُ"،  يقول: -في الأثر- "إن الضيف يأتي برزق أهل البيت الذي ينزل ضيفا عليهم ويخرج بذنوبهم"، يدخل برزقهم ويخرج بذنوبهم؛ يكفر الله ذنوبهم بإطعامه وبإكرامه إذا دخل البيت، وبرزقه يأتي، ما يأكل من بيتك إلا الذي يكون مُقدّر له قبل خلْقك وخلْق أمك وأبوك وخلق السماء والأرض؛ هذا هو حقه من عند الله، ما يأكل شيء زايد على الذي هو له أصلًا،  هو حقه أجراه الله على يدك لان هو حقه، مقدَّر له من قبل، ما يأكل شيء زايد على حقه، لا إله إلا الله. 

يقول: ذكر هذا الخبر، وهذا النبأ وذكر القصة، ثم واصل يقول للرسول؛ من أين جاءوا هؤلاء ضيف إبراهيم؟ ما هي قصتهم؟ بعدما خرجوا من عند إبراهيم وانتهت المسألة، وبشروه بالغلام، فجاء سيدنا إسحاق عليه السلام، هذا الذي بشروا به، أما البشارة الأولى السابقة كانت بإسماعيل عليه السلام، (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [الصافات:102]، ثم (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات:112]، بعد أن كبر سيدنا إبراهيم بشروه بسيدنا إسماعيل عليه السلام؛ لهذا (قَالَ أَبَشَّرۡتُمُونِي عَلَىٰٓ أَن مَّسَّنِيَ ٱلۡكِبَرُ ..(54))، لأنه وهو كبير جاء إسماعيل وعدَّتْ سنين، بعد ذلك بلغ آوان الحلم سيدنا إسماعيل (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات:102]، هكذا وهو كبير وقوَّم البيت هو وإياه، وبعد ذلك جاءت البشارة، وقد كبر فوق الكِبر سيدنا إبراهيم عليه السلام، وبذلك (قَالَ أَبَشَّرۡتُمُونِي عَلَىٰٓ أَن مَّسَّنِيَ ٱلۡكِبَرُ ..(54))، ما أصْل البشارة حقكم؟  هل لها أصل مرجعها من فوق أم خيال من عندكم؟ وهكذا شأن الأنبياء. وكلما سمعنا إعلان من مكان أو إذاعة صدَّقنا، أين مصدرهم؟!  ومن أين أصله؟! ثم بعد ذلك يخوفون خلق الله ويؤذون خلق الله وبشاراتهم كذب وبشارات قليل عندهم، الغالب ما يبشرون، يخوفون خلق الله وتخوُّفهم كذب (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ) [آل عمران:175]؛ ساعة بالفقر وساعة بالقتل وساعة بالهرب وساعة بالطقس وساعة بالماء والذي يخوفون الناس به أول ما يقع شر عليهم هم، واليوم توجد أماكن في فرنسا أزمة في الماء .. أزمة في الماء.. أزمة عندكم كيف؟ هنا وهنا في كل محل، عاد نحن ما نقدِّر نعمة الماء، وأشياء كثيرة ستحصل في الوجود، ولاشيء مثل تقوى الله، ولاشيء مثل الأدب مع الله، اترك الزيف  .. اترك الكلام الفارغ لهولاء وهؤلاء ، القول قوله .. والأمر أمره .. والملك ملكه .. والأرض أرضه .. والسماء سماء .. لا هي ملك فرعون ولا النمرود ولا قوم عاد ولا قوم من مضى من الأمم ولا من هو في عصرنا، ما هي أرضه .. أرضهُ .. أرضهُ .. والسماء سماءهُ .. والخلق خلقهُ، ولكن يختبرهم ويبتليهم؛ فيسعد من يسعد ويشقى من يشقى. اللهم اجعلنا مع السعداء. 

فسيأتي لنا الخبر الحق عن الرسل لما ذهبوا إلى عند سيدنا لوط وما الذي حصل؟ وما الذي كان؟  فصلى الله على الأنبياء وعلى الملائكة وعلى العباد الصالحين وعلينا معهم وعلى سيدهم محمد سيد الكل، يكون نبي يكون ملك .. يكون إنسي .. يكون جني؛  سيدهم محمد، مقدّم على الكل وأفضل الكل، عبد قربه ربه وأحبه وفضله على جميع من سواه، فهو الشفيع والحبيب للإله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وجعلنا واياكم ممن اهتدى بهداه، وقبل منا ووفقنا لهم من صيام في يوم عاشورة أو تلاوة للقرآن أو صلة للرحم أو صدقة أو زيارة لإخوان في الله أو لعالم أو إعادة مريض، اللهم تقبل منا ذلك وجميع ماوفقت لهم من الخير يا رب، اقبله منا بفضلك، اقبله منا بفضلك، اقبله منا بفضلك، ونزه عن شوائبنا وضاعفه لنا عندك إلى ما لا نهاية يا حي يا قيوم، وبلغنا ما نروم فوق مانروم واجعل هذا العام من أبرك الأعوام علينا وعلى أهل لا إله إلا الله أجمعين ظاهرًا وباطنًا برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين. 

بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمّد اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

23 مُحرَّم 1444

تاريخ النشر الميلادي

20 أغسطس 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام