(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة مريم:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
مساء الإثنين 6 ربيع الأول 1446 هـ
لا إله إلا الله، صلى الله على حَبيبه ومصطفاه سيدنا محمد، الحمدُ لله الذي أكرمنا بالقُرآن والتنزيل، وبَيانه على لِسانِ خَيرِ هادٍ ودليل، عَبدِه المُصطفى الهادي إلى سواء السبيل.
اللهم أدم صَلَواتِكَ على السِّراج المُنير، البَشير النذير، سيّد المُرسَلين محمد صلى الله وسلم وبارك وكَرم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في منهجه الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى مَلائكتك المُقَرَبين وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإننا في تَأمُّلِ كلام رَبنا -جل جلاله- وتنزيله وما بعث به عبدَهُ ورسوله مُحَمدا، وتعليمات الحق لنا وتَبييناتِه وإرشاداتِه بالفَضلِ مِنهُ والتَّنَزُّل.
وصلنا في أوائل سورة مريم، وقد ذَكَر لنا سُبحانه ميلادَ يحيى، ووقفنا عند ميلادِ عيسى ابن مريم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، ولا شَكَّ أن ذِكرَ الأنبياء من ميلادِهم إلى كل ما جَرى لهم في حياتهم:
قُربةٌ إلى الله.
وسبب زيادة الإيمان واليقين والمحبة.
وبذلك ذَكَر الله لنا من أحوال الأنبياء، ومن وِلادتهم ومما كان بين ولادتهم إلى بِعثَتِهِم، وما كان بعد بعثتهم كثيرًا في كتابه العزيز، وبَيّن لنا ﷺ من ذلك كثيرًا من الأخبار والدلالات والشؤون وأحوال هؤلاء الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- بل وَغَير الأنبياء، وهذه مريم التي يَذكُرها الله في القُرآن وسَمى السورَةَ باسمها، نَجِدُ أنه قَد ذَكَرَ في سورة آل عمران قِصَّة مَولِدها من بداية حَمْلِ أُمِّها بها.
ويقول سبحانه وتعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) [آل عمران:35-36]، أي وَلَدَتها (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) [آل عمران:36]، إلى آخر القِصة، فَذَكَرَ لنا عَددًا من كَراماتِ سيدتنا مريم -عليها السلام- وما اختَصّها الله تعالى به؛ وكذلك في هذه الآيات في سورة مريم يَذكُرُ لنا إرهاصاتٍ لعيسى ابن مريم، وكراماتٍ جَرَت على يَد أُمهِ مريم ابنة عمران -عليها رضوان الله تبارك وتعالى-.
والحَقُّ -جل جلاله وتعالى في عُلاه- يُذَكِّرُنا:
بِمُهمات الأُسرِ والبيوت والمنازل والأمهات والأبناء والبنات.
وما ينبغي أن يكونوا عليه من أحوالٍ وحالاتٍ وصِفات.
وما ينبغي أن يَعمُروا به أعمارَهُم القَصيرات وأيامهم المحْدودات في هذه الحياة الدنيا.
وأن لا يُضَيِّعوا من الأعمار شيئًا فيما يَضُرُّ وفيما لا يَنفَع من تَقليدِ مَن لا خَلاق له، ومن لا قَدرَ له عند الخَلاق، ومن تَقليدهم واتّباعهم يَضُرُّ بالسِّيَر والأخلاق، ويَسلُكُ بأهله مَسالِك الشقاق والنفاق -والعياذ بالله تعالى-.
فيجبُ أن تقوم الأُسَرُ على هذا الطُّهْر والصفاء والحنان والزكاة، كما ذَكَر لنا سبحانه وتعالى: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7)) لم يُسبَق في الاسم، ولم تُرتَقَى دَرَجَتُهُ (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) وجَعَلَ الله لَهُ الآية في ولادَته ثم خاطب يحيى:
(يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ (12)) وهكذا يجب أن نَأخُذ كتاب ربنا بالقوة مَعاشر المؤمنين:
قوة الإيمان والتصديق
قوة التعظيم والإجلال
قوة الحُسن للعَمل والتطبيق لما فيه
(يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)) فَحَفِظَ التوراة وهو صَغير السن في الثلاثِ من السنين، عندها أكمل حِفظ التوراة، ولما قال له بعض الصبيان: تعال نَلعَب، قال له: ما لهذا خُلِقت، (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) من صِباهُ وصِغَرِه وعَين العِناية تَرعاه.
(وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً (13)) طُهرًا ونَقاء، (وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14)) فالشُؤمُ في التجبُّر وفي مَعصِية الخالِق الذي فَطَر، إن وَقَعَ فيه فَهوَ المَشؤوم وهو المَلوم وهو المَذموم، وهو الذي يَنالُهُ الخِزي يوم يقوم الناس للحي القيوم، أهل المَعصية وأهل التجَبُّر والتكَبُّر على ظَهر الأرض، يجب أن نُنَزِّه أنفُسنا، ونُنَزِه أُسَرنا ودِيارَنا عن سُلوكِ سَبيل التجَبُّر والعِصيان.
(وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14)) ولكن الحَنان والزكاة؛ أن نَحيا على العَطفِ والرِّفقِ والمَحبة، وتُقَوي كُلَّ أُسرَةٍ هذه المعاني فيها؛ بين الأب والأم والأبناء والبنات والقرابة، ليَسود بينهم الحنان والعطف، والحنان الذي حَظِي به يَحيى من الرَّب -جل جلاله- حنان عظيم لا يُبلَغُ مَداه، ولهذا قال: (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا (13)).
(وزَكَاةً) طُهرًا ونَقاء، فيجب أن تقوم دِيارُنا على الطُّهر، على النّقاء من الشوائب ومن الالتِفاتات إلى الدَّنايا (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)).
ثم قال ربنا -جل جلاله- لنبيه محمد (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ (16)) فَذِكرُ هؤلاء المُقَرَّبين الأَطهار:
قُربَةٌ الى الرَّب الغَفار -جلَّ جلاله-
وتَطهيرٌ للجَنانِ عن الأكدار
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ (16)) شرع لنا سُبحانه ذِكرَ أحبابه وأصفيائه، وكَرَّرَ ذلك في كِتابه وذَكَرَ رَسولُه ﷺ لنا كَثيرًا منهم، مِن الأنبياء ومن الصالحين الأصفياء يُمَجِّدهُم ويُعَظِّمهُم ويَذكرُ بعض كَراماتِهِم، فهذا مسلَكُ رُشد ومسلك هداية.
وكُنا نَعهَدُ بيوت المُسلمين في مختلف الأقطار على ذلك، تَنشأ وبذلك تُحَلّى، يُذكَرُ فيها أخبارُ الصالحين أهلُ كل بلدة يذكرون صُلَحاء بَلدتهم، ومن مَضى من صُلَحائِهم ومن عَرَفوه ومن لَقوه، ويُحَدِّثون بها أبنائهم ويُحَدِثون بها بَناتُهم، وكانت هذه برامجهم ومُسَلسَلاتُهُم، يَزدادون بها إيمانا ويقينًا لا يَقرَبهم منها تشويش ولا غِش في فِكرٍ ولا في خُلُق ولا في تَصَوّر.
وهذا الرحمن يقول: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) ابنة عمران، رَفيعة القَدر والجاه الصِدِّيقَة، كما وصفها الله في القرآن (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة:75]، التي بَلَغت مراتب الصِدّيقية وهي أعلى المراتب في الولاية بعد النبوة، فما بعد النبوة إلا الصدّيقية.
وقد قال الله في: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء:69]، فَرَتَّبَهُم على هذه الرتبة؛
أنبياء
ثم صِدّيقين
ثم شُهداء
ثم عموم الصالحين
فهكذا هكذا، من ضَم إلى الصلاح شهادة ارتفعت درجته، ومن كان مع الصلاح في صدّيقية فارتفعت درجته، ومن حازَ النبوّة فَهُم أرفعُ الناس درجات (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) [البقرة:253].
يقول تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) مريم ابنة عمران -عليها رضوان الله تبارك وتعالى- (إِذِ انتَبَذَتْ) أي انتَحَت واتّخذَت ناحيةٌ (إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)) إلى مكانٍ شرقي؛ شرقي بيت المقدس.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) فذهبت إلى المَكان الشرقي وكانت إذا جاءت حيضَتُها خَرَجَت من المسجد أيضًا ومن المحراب إلى بيت خالتها، ولما كَبُرَت كان في هذا الحال (انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا).
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا (17)):
ميلًا إلى الخَلوة والعُزلة.
وحرصا على الستر والصيانة.
وهكذا نزلت آياتُ الحِجاب في المدينة المنورة على نساء النبي والمُؤمنين، وأصبح النساءُ في المدينة كأنهن الغِربانُ السود، لمّا نَزَلَت آيةُ الحُجاب، فما حجابُ المَرأة إلا شَرع، نَزَلَ بِه الروح الأمين من رب العالمين على قَلب المُصطفى خاتم النَبيين وبَلّغَهُ إلينا، لم يَكُن عادةَ قُريشٍ ولا العَرب بل كان عادَتُهُم التبَرُّج، وقد نهى الله تعالى أُمهات الُمؤمنين، وبِنَهْيه لَهُنّ نَهى جميع نِساء الأُمة عن أن يَعودوا إلى ذلك التسَفُّل (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ) [الأحزاب:33].
فالدعواتُ إلى تَهَتُّك النساء وبُعدِهِنَ عن الحِجاب أواتّخَاذهن زينةً في الحِجاب، دعواتُ قَومٍ ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- بِغَلَبَةِ الشهواتِ وآفة المَيل إلى المُحرّماتِ، والحقُّ تعالى حَرّم على النساء الخُضوع بالقول لِئلا يطمع الذي في قلبه مرض، والمرضُ المراد به شَهوة الزنا (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب:32] أمَرَهُنّ أن لا يَفسَحنَ المَجال لمرضى القلوب أن يطمعوا فيهن ولا في القُربِ منهن فلا يخضَعنَ بِالقَول، بل أمر نِساء المُؤمنين أن لا يَضرِبنَ بأرجُلِهنّ ليظهر صوت الخُلخال، الزينة التي في الرِجل تُغَطيها الثياب، فهي مَخفية بالثياب ولكن الصوت يَظهَر منها، قال سبحانه: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) [النور:31]، وهذه أيضًا الصِدّيقَة لما ذهبت إلى مكان يَخُصها تَختلَي فيه اتخذت حِجابًا، حجابًا بينها وبين من يَمُرُّ وبين من يأتي حتى:
لا يُدخَل عليها إلا باستئذان.
وحتى تكون في سَترها وحِشمتها وحَيائها.
(فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا (17)) يقول الله؛ أرسلنا إليها عَبدنا جبريل، فهو الروح الأمين (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء:193]، (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم) [القدر:4]،
يقول: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ (17)) أي تَصَوّرَ وتَشَكّل (لَهَا بَشَرٗا) فَجاء بِصورة بَشَر(سَوِيّٗا) كاملًا تامًا، وأتى بِصورَة رَجُلٍ أمامها، فلما رأت الرجل يَدخُلُ عليها وَسَطَ حِجابها ذلك وفي خَلوتِها، انزعجت من ذلك، و(قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ (18)) أتَحَفَّظُ وأتَحَصَّنُ بِرَبِيَ الرحمن منك، أي: من شَرِّك إن كنت ذا شر، ومن سوئِك إن كان لك سوء، إن أردت سوءًا أو أردت شرًا.
(إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18)) فَتَقواك تَحمِلُك على الانصياعِ لأمرِ الله والبُعدِ عما حَرّم الله -جل جلاله وتعالى في علاه-.
(أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18)) فلما تَكَلّمت بهذا الكلام عَلِمَ سيدنا جبريل أنها خافت أن يكون هذا رجلًا يريد سُوءا وشرًا بها، فقال لها عليه السلام:
(إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)) (لِأَهَبَ) وأما قراءة أبي عمر (لِيَهَبَ) فهو من قَلبِ الألف ياءً في كثير من مواضع القرآن وليس بمعنى الياء، إنما نُطقهُ بالألف في مواطن إذا قَبلُه كسرة يَقرأهُ أبو عمر بالياء، فمنه هذا، والمَعنى: (لِأَهَبَ)؛ أي أُعطيَ لكِ بأمر ربي (غُلَامًا) ابنًا، وطفلًا تَلِدينه (زَكِيًّا) مُنَقّى عن الذنوب والعُيوب والآفات.
(إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) الله الذي خَلَق كل شيء، مُرسَل من عنده، أي فأنا مَلَكٌ، ولستُ من بني آدم ولا من البشر -أربابُ الشهوات-، بل أنا من الملأ الأعلى من الملائكة المعصومين الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا ينكحون ولا شيء من هذه العوارض البشرية عندهم.
(إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) مُرسَلٌ من ربك الذي خَلَقكِ (لِأَهَبَ لَكِ (19)) وهذا كله أيضا إنما على سبيل المَجاز، فالمُعطي هو الله وهذا مَأمور بأمر الله، ولكن هذه النسبة المَجازية ثابتةٌ في القُرآن، ولا إشكال فيها ولا قول بالشِرك ولا بالبدعة ولا بشيء مِما يدّعي بعض الأغبياء.
يقول تعالى: (لِأَهَبَ لَكِ (19)) أُعطيكِ (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)) طفلًا آدميًا مُباركًا مُزَكّى مُنَقّى من المَعايِب والشوائِب والذنوب، صالح.
(لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) واندهشت من هذا الخِطاب، تقول له غلام زكي ولد! وكيف سيأتي، والسنّةُ التي جَعَلها الله في الحِسِّ إنما تأتي إما بزواج أو بِبَغيٍ -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
قالت: (أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ (20)) كيف يكون لي غلام؟! وتَهب لي غُلام! (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ (20)) ما تَزوّجت (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)) ولست من الباغِيات الزانِيات.
(أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ) كيف؟ (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ) لا يَمَسّك بَشَر ولا تَبغين ولا تَنحَرِفين ولكن أمر ربك (قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (21)) (قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) الأمر كما قُلتِ، وأن البشر في الغالب ما يأتي -بِحُكم الطبيعة التي جعلها الله- إلا بِذَكَرٍ وأنثى ولكن من أين ابتدأوا؟ من عند آدم. ومن أبو آدم؟ ومن أمه؟ لا أب ولا أم، وحوّاء خُلِقَت من ضِلع آدم، وبعد ذلك هذا الذي يَخلُق، ما عاد يعرف يَخلُق إلا بطريقة معينة؟! يَخلُق ما شاء كما يشاء -جل جلاله- (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) (قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) (هَيِّنٌ) يَسيرٌ وسهل.
(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ (21)) يقول لها إن الله تبارك وتعالى يقول هذا الأمر عليَّ هيِّنٌ، الأمر كما قُلتِ، إنما يأتي بالمِساس ولكن هذا من غير مساسٍ يَأتي كما خُلق آدم (إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [آل عمران:59] وعيسى وآدم عَبيدُ الله، وقول من يَقُول من الذين ضَلّوا أن هذا وُلِدَ بلا أب فله إذاً بهذه الخُصوصية حَقُ الألوهية والربوبية، ونقول إن كان هذا من دون أب فآدم خُلق من دون أب ولا أم، فهو أحق أن تعبدوه يا -بُلهان- ولكن لا يَجوز أن تعبدوا آدم ولا عيسى، وآدم وعيسى عِبادُ الله، أمرُونا بعبادة الله ودَعونا إلى عبادة الله، أما خلقه من دون أَبٍ ما يُخرجه عن طور البشرية ولا يَرُدّهُ إلٰه، وقد خلق الله قبله آدم بلا أب ولا أم.
ويَخلق الملائكة من دون آباء ولا أمّهات، كم يخلق من الملائكة، وكل الملائكة بلا آباء ولا أمهات، فهل هم آلهة؟! وهل يُعبَدون؟! (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء:26-27]، إذًا فلا معنى في هذا، وسواءٌ من وُلِدَ من أب وأم، أو من وُلِدَ من أُمٍ بلا أَب أو ولد بلا أم ولا أب، سواءٌ في العبودية لله، خالقهم واحد، ومُنشِئُهم واحد، والفضائل لهم بحسب:
محبته إياهم
ورضوانه عنهم -فقط فقط-
فيكون أكرمهم أتقاهم لأنه الأحب والأرضَى، الأحب إلى الله والأرضَى من هؤلاء الخلق أتقاهم، فهو الأحب إلى الله والأرضَى عند الله -تبارك وتعالى-.
إذًا ففضُلهم بحسب رضاه عنهم ومحبته لهم، وبهذا تختلف درجاتُهم ومراتِبُهم أما دون ذلك: خُلِق بلا أب، خُلِق بلا أم.. وبعد ذلك؟ ومن حيث خُلِق كيف حالهم عند الله؟ وكيف منزلته لدى الرب -تعالى في علاه-؟
وهكذا يَخلُقُ الله الملائكة بلا آباء ولا أمهات ويستطيع، وقد خلق آدم بلا أبٍ ولا أم (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ) [السجدة:8]، هو الذي جعل ذلك، هو الذي رتّب ذلك، فالخالق هو، بأي كيفية كان، هو الخالق -جلَّ جلاله-.
قال: (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً (21)) علامة، علامة على عَظمتنا وقُدرتنا، تَقادَمَ عهد آدم ونسوا العظَمَة في الخلق والإيجاد، فظنّوا أنها إنما تكون بواسطة الأب والأم، فلنخلق لهم ابنا بلا أب تحمله الأم، قال سبحانه وتعالى: (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ).
(قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ (21)) هو -أي خَلقُه وتكوينه من دون أب- (عَلَيَّ هَيِّنٌ)، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82]، (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ) بينات تدل على عظمتنا فيزدادون لنا توحيدا، يزدادون بنا إيمانا، ويزدادون لنا خضوعًا، لا يشركون بنا (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا) له ولوالدته، ولمن آمن به وصدّق.
فالمؤمنون أولى الناس بعيسى ابن مريم، كما هم أولى الناس بموسى، كما هم أولى الناس بإبراهيم (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران:68] "نحن أحق بموسى منكم" يقول ﷺ لليهود الذين كَذّبوه بما أمرهم موسى أن يُصِّدقوا به، وبما دعاهم إليه موسى، وبما بشّر به نبينا محمد ﷺ، فكانوا أبعدَ عن موسى منا؛ لأننا اتّبعنا سبيل موسى الذي أخذَ الميثاق على قومٍ يؤمنون بمحمد فآمنا وهم كذبوا، فنحن أحق بموسى منهم وأقرب إلى موسى منهم، كذلك عيسى ابن مريم، نحن أحقُّ به ممن خالفوه وممّن كذّبوه، كذبوا ما جاء به.
قال إنِّي عبد الله -عليه السلام- (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة:72] و (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [آل عمران:51] فالذين خالفوه، المؤمنون أحق به منهم، فهكذا سيدنا عيسى -عليه السلام- كان رحمة من الله تعالى لأمّه ولعشيرته ولجماعته ولمن آمن به وصدّق.
(وَرَحۡمَةٗ مِّنَّا وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا (21)) يقول لأن هذه القضية قد كتبها الله وأرادها، ولا مردّ لها لما يريد يكون ولد، يأتي ولد وانتهت المسألة، لا أحد يقدر يرجع هذا ولا يصدّه ولا يُخلِّف شيء فيه، لأنه أمر قضاه الحي القيوم القوي القادر الذي بيده ملك كل شيء وانتهت المسألة، فهو من القضاء المُبرَم (وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا).
قال الله: (فَحَمَلَتۡهُ) وكيف وهب سيدنا جبريل -عليه السلام- الولد لسيدتنا مريم، إنما وهب الولد بما أمره الله أن ينفخ، وقد كان -وهو المسمى روح- يُحيِي الله به الأشياء.
حتى أن السامري لما رأى سيدنا جبريل عند سيدنا موسى فقبض قبضةً من أثره، -أثر رِجله أو من أثر رجل الفرَس- الذي ركب عليه جبريل، فصارت فيها نوع من الحياة، لما ذرَّها على العجل خار، صار يخور هذا العجل، لأنه روح -عليه السلام- روح يُحيي الله به الجمادات، (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) [طه:95-96] يعني جبريل (فَنَبَذْتُهَا) على العجل هذا، لما نبَذها على العجل الذي هو من ذهب أو من فضة فصار يخور ويتحرك، إذًا هو عجل جسد له خوار، إلا أنهم يرونه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا.
فسيدنا جبريل -عليه السلام- أمره الله ان ينفخ، فيتكوّن بهذه النفخة الولد، والولد -الإنسان- كوّنه من طين، كَوّنه من مَنيّ، وإن شاء كوّنه من ريح كَوّنه… يكوّنُه من أي شيء يكوّنه، فنفَخ في جَيبها -جَيب قميصِها- فطارت نفخة سيدنا جبريل حتى تكوَّن بها الولد في رحِم سيدتنا مريم.
واختلفوا في؛
هل بقي الحمل مُدة ؟! او أيام أو أشهر كاملة؟ مدة الحمل،
أو وُلد في نفس اليوم؟
فكان يميل ابن عباس إلى أنه في نفس اليوم حملت ونفس اليوم وَلَدت، فكله كرامة في كرامة وأمر خارق للعادة وارهاص في ارهاص، ومُعجِزة في مُعجِزة، وهذه كلها مُعجِزات يقصُّها الله علينا وكرامات أجراها على يد الولِيّة الصِّدّيقة مريم.
يقولُ -جل جلاله-: (فَحَمَلَتۡهُ) فلمّا أحَسّت بالحَمل (فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦمَكَانٗا قَصِيّٗا (22)) بَعُدَت من قومها ومُحيطها، حيث تعلم أنهم سيَستنكرون هذا منها.
وجاء في بعض الروايات أنّ امرأة زكرِيا -أختها- جاءت إليها، وقالت أشَعُرتِ أني حَمَلت؟ -حملت بيحيى- تقول لها وهل شعرت أني ايضا حملت ؟! قالت إني رأيتُ الذي في بطني يسجُد لِما في بَطنك، تقول امرأة زكريا وهي أختها: إني رأيت الذي في بَطني يسجُد لما في بطنك؛ أي يحيى لعيسى بن مريم -عليه السلام-.
ثم انتبذت كما قال الله، اعتزَلت وابتَعدت (مَكَانٗا قَصِيّٗا) بعيدًا إلى بيت لحم، من بيت المقدس إلى بيت لحم، نحو تسعة كيلومتر، تزيد أو تنقص، خرجت مكان قَصيّ، أي بعيد، بعدت من قومها فإنهم سيقولون: من أين الولد؟! وكيف الحمل بولد من دون زواج؟ كيف يتم ذلك؟!
(فَٱنتَبَذَتۡ بِهِ مَكَانٗا قَصِيّٗا (22)) بعيداً (فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ)، فظاهرٌ الأمر أن ما بين أن نفَخ فيها جبريل إلى أن انتَبَذت المكان القَصيّ، قطعت هذه المسافة (فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ) التعبير في الآيات "بالفاء" الذي يقتضي التعقيب، فقال إنها لم تبقَ مدة، فمشت فلما وصلت إلى بيت لحم أحسّت بالمخاض، وإذا هو وَضْع.
(فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ) يعني ألجأها إلى جذع النخل؛ يعني لمّا نازلتها أوجاعُ الولادة ولا مكان تتقوّى فيه وتستند عليه، جاءت الى جذع النخلة في بيت لحم.
(فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ): يعني جاء بها أي ألجأها أن تأتي إلى جذع النخلة، فلما رأت مَخاض ووَلد يخرُج منها (قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا) يعني أنا في موقف حَرِج، مع أن الملائكة بشّرتها وقالت: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران:43]. ثم يقول: (وإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران:45-46] ولكن الوضع والحال أنساها كل ذلك، وتَمنّت أنها ماتت قبل هذا اليوم، وأنها لم تَصِل لهذا الإحراج وهذا الإشكال.
وهذا أيضًا من العجائب، أن كثير من المواهب والعطايا لما تُساق للإنسان يصحبها من حواليه كَربٌ وشدة وتعب، ويظن أنها مشكلة وهمّ ومصيبة فتنفرج عن مَزِيّة وعن خُصُوصيّة وعن عَطَاء، حتى لما جاء رسُل من الملائكة إلى سيدنا لوط (سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود:77] هذا يوم مشكلة، هو يوم الفرج له، هم سيُهلَكون وهو سينجو ولكنه بهذه الصورة.
فسبحان الله الذي تفرّد بالعلم المُطلَق في كل شيء ولا أنبياء ولا ملائكة (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255]، قبله سيدنا إبراهيم فزِع منهم كيف لم يرضوا أن يأكلوا طعامه، وعادة الناس إذا جاءهم أحد ما يأكل طعامك يقولون ماذا معه؟! ينوي شَرّك هذا؟ (فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود:70-71] وهي أيضا تعجّبت (قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا) [هود:72] قصص في الوِلادة عجيبة، (يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا) [الشورى:49-50] -جلّ جلاله- والأمر أمره -لا إله إلا هو-.
(فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ) وفي قراءة: (مُتُّ) (قَبۡلَ هَٰذَا) الحال والوَضع والإحراج (وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا (23)) شيئًا لا أُذكر ولا يُذكر ولا يبقى له خبر.
(فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ) في قراءة: (مَن تَحۡتَهَآ) وقراءة: (مِن تَحۡتِهَآ) والمُنادي من؟
قيل جبريل
وقيل هو سيدنا عيسى من أسفل ناداها
لمّا جاء المَخاض وأخرَجته (قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا) ناداها سيدنا عيسى قال: لا تحزني، (فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ)، وفي قراءة: (مَن تَحۡتَهَآ) (أَلَّا تَحۡزَنِي) جاءت الطمأنينة عندها لتتراجع وتستقرّ أمرها وما عاد فيه (يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا).
(فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا (24)) أي أجرى لك في هذا المكان نهرًا وجدولًا يمشي، نهرًا صغيرًا -سَرِيّ-
فيُطلق السريُّ على النهر،
وقد يُقال للسريّ: الرجل الرفيع،
ويقولون سَراة يعني قومٌ رفيعي المنزلة والمَحل،
ولكن المراد هنا أنَّ الله جعل لها نهرًا وأطعمها رُطَبًا لتَشرب وتَطعَم.
قال: (قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا (24) وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ) والنخل ما أحد يقدر يهزّ جذعه لأنَّ جذع النخل قوي، لكنَّ الله تعالى أمرها تُحرِّكه لكي يُسقط عليها الرطب لأجل إقامة سبب، وإلا كان ممكن يأتيها الرُّطب من دون نخلة، ومُمكن من نخلة من دون ما تُحرّكها، ولكن الله تعالى يُحبّ ربط الأسباب بالمُسببات في أكثر الأحوال، لهذا قال يا مريم، قال لها: (وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ) ولذا يقول شاعرهم:
ألَم ترَ أن اللهَ قال لمريَم ** وهُزِّي إليكِ الجِذعَ يُساقِط الرُّطَبْ
ولو شاء أن تجينه من غيرِ هَزِّها ** جَنَتهُ، ولكنْ كلّ شيءٍ لهُ سبَبْ
يحبُّ تعالى إقامة الأسباب، ولذا لما أراد ﷺ إبرازَ بعض مُعجزاتِه في مثل إطعام الجيش ولا طعام عندهم، وفي مثل سقيهم ولا ماء عندهم، لم يبتدئ بشيء من عِنده ولكن طلب طعام، قال هاتوا ازوادكم، فبرّك عليها تضاعفت وزادت، ولكن أيضاً لم يُخرِج لهم ماءً من يدِه مُباشرة قال: هاتوا ماء، ما بقيَ إلا ماء في رَكوَة صغيرة ما تَسَع نشر أصابعه، وضع الماء فيها فتوضّأ وشَرِب واغتسل من ذلك الماء ألف وخمسمائة -لا اله الا الله-! هو كان مُحرَّك وتَسَع كم وهذا كله! لكنه ما أبقى يده هكذا من دون ماء، قال هاتوا ماء أول ثم وضع الماء فيه، لكمال أدبه وكمال عُبوديته، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وهكذا قال لمريم: (هُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ)، (تُسَاقِطْ) في قراءة (تَساقَط)، (عَلَيْكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا) طريّاً حسنًا طيبًا، (هُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا (25)) وقُرِأت تُسقِط وتَساقَط وتُساقِطْ (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا (25) فَكُلِي) لهذا قالوا: لا أحسن للنفساء من الرطب في صلاح جسدها، وقد اختاره الله لمريم عند ولادتها بعيسى، (فَكُلِي وَٱشۡرَبِي) من النهر السّريّ (وَقَرِّي عَيۡنٗا) بولدك المبارك، لا: يا ليتني متُّ ولا كنت نسيًا؛ (وَقَرِّي عَيۡنٗا) افرحي واطمئني، قَرّي عينًا "قرّة العين" كناية عن السرور والفرح الذي به تبرد العين، حتى أنّ:
البكاء من الفرح تخرج به الدمعة باردة
وإذا كان بكاء من الحزن تخرج الدمعة حارة
فقُرّة العين المراد به برودة العين، أي كوني على سرور وفرح حتى يفيض الفرح فتفيض عينك فتخرج الدمع البارد من شدة الفرح (وَقَرِّي عَيۡنٗا).
(فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا) إذا رأيت أحدًا من الناس وأنتِ مُهتّمة بشأن الناس وما يقولون واتّهامِهم لك، (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا) أي عن الكلام (فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا (26)) في يومي هذا ما أكلم أحد، أنا ساكتة، وهذا الصمتُ كان:
تعليمًا من الله لسيدتنا مريم، ليُنيب عنها ابنها في الكلام،
والدفاع عنها،
وليكون لها تبرئة لعرضها الطاهر عليها -رضوان الله تبارك وتعالى-.
يقول: (فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا) أي عن الكلام، إمساكاً عن كلام الناس (فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا (26))
أما صمتُ الإنسان عما لا يَعنيه عبادة،
والصمت نهائيا لا يصح، أو لا يُتعبّد به
ولكن "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُل خيراً أو ليصمت" الصَّمت عن الغيبة وعن النميمة وعن الكذب وعن السوء هذا من المُستحسنات ومن الواجبات، ومما يُقرِّب لله تعالى
وأما مجرّد الصمت حتى عن الخير فلا قُربة فيه.
لما دخلوا على بعض الصحابة -اثنين- واحد سلم، وقالوا للثاني ما لك؟ قالوا له أنه نذر أن يسكت اليوم يصمت ولا يتكلم إلا بالليل، قال: تكلم تكلم، إنما تلك امرأة شرّفها الله تعالى من تُهمة قومها لها، قومها يتّهمونها بسوء، قال لها اسكتي ودعي الولد يتكلم، وأنت تسكت من أجل ماذا؟ ما هذا الكلام؟ قال له سلِّم على من لَقِيت،
ولا تسكُت عن شيء شرعه الله لك،
اسكُتْ عن المحرمات
اسكُت عن ما لا يعنيك
ولا تسكت عن الخير، فكم في الصمت عن ما لا يعني من خير، ولا خير في الصمت عن ما سُنّ ولا عن ما فُرِض ولا عن ما دُعِينا إليه.
قال: (فَأَتَتۡ بِهِ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُ) بعدما جاءت لها الطُمأنينة الآن، أولًا قالت: (يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا)، أمَّا الآن راحت عنها، التي كانت خائفةً منهم ومن تُهَمِهم، تشّجعت ونزلت الطُّمأنينة على قلبها، وذهبت إلى القوم.
(فَأَتَتۡ بِهِ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُ) حمَلَت الولد فذهبت عنها الرهبة، وذهبت عنها الخشية من الناس (فَأَتَتۡ بِهِ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ) ايه! مريم بنت عمران الطّاهرة التقيّة التي كانت في المحراب، التي كَفَلها زكريا، ما الخبر؟! (يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـٔٗا فَرِيّٗا (27)) عظيمًا هائلًا شديدًا كبيرًا.
(لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـٔٗا فَرِيّٗا (27) يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ) هارون من؟ هارون أخو سيدنا موسى بينها وبينه ستمائة سنة أوأكثر! هارون من؟ كانوا يُسمّون صُلحاؤهم باسم هارون، وكان بينهم رجل من أهل الصَّلاح مشهور بالخير يُسمّى هارون، وكانوا ينسِبُونها إليه أي يُشبِّهونها به في الصّلاح والعفاف والتقوى، فسُمِيت أخت هارون، وقيل المُراد بأخت هارون يعني هي من نَسلِ هارون، فإنهم يقولون أخا هُذيل، وأخا قُرَيش، يعني منهم منسوب إليهم، وأخا القبيلة يعني أخا القبيلة الفلانية.
(يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ) ولكن المراد كما جاء في الحديث: "أنهُ لما جاء بعض الصحابة عند بعض نَصَارى نَجْران قال له: أنتم تقولون أنّ قومَ مريم قالوا لها يا أخت هارون، قال نعم. قالوا بينها وبينه ستمائة سنة كيف؟ وجاء عند النبي وأخبره، قال إن القوم كانوا يُسمّون صُلحاؤهم باسم هارون، وأن هارون كان رجلا صالحا، القوم نسبوها إليه شبهوها به في العفاف.
يا أخت هارون؛ يا مُشبّهة بهارون التقي العفيف الصالح، (مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ) يعني أنتِ من أسرة شريفة، من أسرة طاهرة مباركة، والذنب والمعصية والخطيئة لما تأتي من بيت دنيء وبيت أهل العصاة أقل وأخف مِن أن تصدُر من واحد من بيت مُشرّف، ومن بيت مَصون ومن بيت عزيز.
(يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ) ما كان أبوك صاحب شيء من الانحرافات ولا من المعاصي.
(وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا (28)) وأمُك طاهرة عفيفة، امرأة عمران (مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا (28) فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِ) لماذا أشارت إليه؟ لأنه قد كلّمها، وتعرف أن الله سيبرئها، فقالت كلِّموه، فقالوا (كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا) عاده ولد الآن صبي صغير، والعادة ما يتكلم الأطفال الصغار ولا الصبيان (كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا (29)) كما قالت: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ) [آل عمران:47]، وهم قالوا (كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا)، وخرق الله العادات هذه كلها.
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) ألقى خطبة وهو في المهد، فعلموا أنها صادقة وأنها طاهرة، وأن هذا من الله جاءها وليس بخطأ منها ولا زلل.
وهكذا تأتي لنا خطبة سيدنا عيسى المليئة بالمعاني والعبر والدلالات، ورسم المنهج لأهل الخير على ظهر الأرض، كيف يَحيَون، وكيف يسلكون، وكيف يُفكّرون، وكيف ينظرون إلى الأشياء.
ثبّتنا الله على درب أنبيائه وأوليائه وأصفيائه، وأعاذنا من موجبات الحسرة والندامة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وأصلح شؤوننا بما أصلح شؤون الصالحين.
رقّانا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وبارك لنا وللأمة في شهر ربيع الأول وأيامه ولياليه، وذكرى ميلاد حبيبه ﷺ، وجعل لنا ولهم سُقيا من مَعين الصدق ومَعين الأمانة، ومَعين الاتّصال القويّ به وبهذا الرسول ﷺ، حتى نحيا ونموت والله رسوله أحب إلينا مما سواهما، وحتى تحيا فينا قدوة النبي ﷺ، ويتولّى قيادتنا في شُؤوننا وأحوالنا وأهلينا وأولادنا، مُقتدين به مُهتدين بهديِه، مُتّبعين له، مُحَكِّمين له في كل ما جاء به، ولا نجد في أنفسنا حَرَجاً مما قضى ونُسلِّم تسليما، ويهبنا الله بذلك خيرا عظيمًا.
ويفتح أبواب الفرج لأمته، ويرفع البلاء عن أهل غزّةَ وعن أهل أكناف بيت المقدس، وأهل الضفة الغربية، وعن المسلمين في المشارق والمغارب، ويُحوّل الأحوال إلى أحسنها بوَجاهة المصطفى وأهل قُربه، ويُصلِح أحوال الأمة في جميع الأقطار، ويدفع الشُّرور والأشرار، ويختِم لنا بأكمل الحُسنى وهو راضٍ عنا.
وإلى حضرة النبي محمد ﷺ
13 ربيع الأول 1446