(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحِجْر من قوله تعالى:
(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89))
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية
الحمدُلله مُكرمنا بوحْيه وتنزيله وبيانه، على لسان عبده ورسوله، سيدنا محمد ﷺ وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل متابعته والإقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،،
فإننا في تأمُّل معاني كلام ربنا جلَّ جلاله وتعالى في علاه وبيانه وهدايته وإرشاده، انتهينا في أواخر سورة الحجر إلى قوله تبارك وتعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (77))، و ما تقدَّم مما قصَّ علينا من أخبار قوم لوط على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام، يقول جلَّ جلاله: ( وَإِن كَانَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأَيۡكَةِ لَظَٰلِمِينَ (78))، يقصُ علينا أخبار ما يمضي عليه الناس على ظهر الأرض من أحوال، فأُمَّة بعد أُمَّة، وطائفة بعد طائفة، وجماعة بعد جماعة، ولم يزل الرحمن بفضله يرسل المرسلين، وينْبئ الأنبياء لإرشاد الناس؛ ولكن يْغلب على أكثر الناس أهواؤهم وشهواتهم ويخالفون أمر الله ويُكذِّبون رسله، وتكون عواقبهم السوء والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) [الزمر:61]، وأتباع الأنبياء والمرسلين (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173]، وإننا وأهل الإيمان من هذه الأمة في شرق الأرض وغربها، مُمتَّعون بسرِّ نصر الحق تعالى لرسله و لخاتمهم وسيدهم محمد ﷺ، فأهل الصدق والإخلاص في زماننا وما مضى، والزمان الذي يأتي بعدنا إلى أن يأذن الله تبارك وتعالى بقبض أرواح المؤمنين، في كل هذا الوقت ينْعم المؤمنون -أهل الصدق والإخلاص منهم- بأسرار نصرة الله لنبيه المصطفى محمد ﷺ الذي خُوطب بقول الحق: (وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) [الفتح: 3]. ما يقوم لهم من جانب تمكينٍ لعبادة الله، أو للبلاغ عن الله، أوالاجتماع على طاعة الله، والتعاون على مرضاته سبحانه، والعمل بشريعته هنا وهناك، كله مظهر النصر من الله لعبده المصطفى محمد ﷺ.
ثم ما يجري من أحداث في العالم وكثير منها يُراد منها من قِبلِ أرباب الشر والفساد النيل من الدين والحق والإسلام وهدْي النبي المصطفى وملَّته و شريعته ودينه، ويضمحل ويتلاشى كل ما أرادوه وخططوه ودبروه لإبادة هذا الدين أو هلاكه؛ وحالهم: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) [المائدة:64]. وما يعقُب في الأوضاع المختلفة في الأماكن المختلفة من تعاقبات غريبة يتضمنه ويتخلله نصرالله لنبيه محمد ﷺ، جعلنا الله من أنصاره، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يذكر لنا أخبار الأمم وما مضى منهم وعواقبهم ولا ننتظر نحن في زماننا إلا ما مضى في الأزمان الماضية لمن قبلنا من عهد آدم ولن ينتظر من بعدنا إلا مثل ما يجري علينا وجرى على من قبلنا: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجد لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:23].
(وَإِن كَانَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأَيۡكَةِ ..(78))؛ الغيضة التي فيها شجر مُلتف، جمْعها الأيك، فالشجرة الملتفة الكبيرة على بعضها يقال لها الأيكة؛ (وَإِن كَانَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأَيۡكَةِ ..(78)) غيضة الشجر الملتفةِ (..لظَٰلِمِينَ (78))؛ بتكذيبهم نبيهم سيدنا شعيب، وبتطفيفهم الكيل والميزان. كان النبي شعيب أُرسل إلى مدين وإلى الأيكة، فأصحاب مدين أُخذوا بالصيحة، وأصحاب الأيكة نزل عليهم هذا العذاب وأُحرقوا كما يقول تعالى: (وَإِن كَانَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأَيۡكَةِ لَظَٰلِمِينَ (78) فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ ..(79))، وذلك أنهم بتكذيبهم للنبي شعيب، وإصرارهم على معصية الله جلَّ جلاله، أرسل الله عليهم الحر سبعة أيام، ثم أنزل الظُلَّة من السماء، سحابة كبيرة فجاءوا يستظلون تحتها، واجتمعوا فأمطرت عليهم ناراً فأحرقتهم، وانتهوا.
كذلك أصحاب مدْين أخذتهم الصيحة (فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ) [هود:94-95]، فهؤلاء الأُمَّتان اللتان بُعث إليهم سيدنا النبي شعيب على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، هلكت هذه، وهلكت هذه كما هلك من قبلهم من مُكذبي الرسل. أفيظن مكذبي خاتم الرسل سيدنا رسول الله محمد ﷺ أن يكون لهم في واقع الحياة سُنة غير هذه السُنة؟! ما نتائج من كذَّب الرسل وعاندهم وخالفهم؛ إلا الهلاك والدمار وأن يصبحوا عبرة لمن وراءهم، كذلك هم في كل زمان.
قال جلَّ جلاله: (فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ ..(97))، وإلى يومنا هذا يتحدث الناس عن إمطار السماء بمطر غير الماء؛
ونحن من خلال ما نرى هذا السحاب نرى الماء والمطر ينزل، ونرى البرق وهو أشبه بالنار، ونرى الصواعق وهي نار؛ كلها من مصدر واحد من محل واحد. يجي النار يجي الماء، كيف هذا؟! جلَّ الخلاق .. جلَّ القادر .. سبحانه وتعالى؛ اغتر هؤلاء بالسحاب فكان ذلك عليهم. وكذلك ما كان على قوم عاد: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا) [الأحقاف:24]، فيه مطر فتحول السحاب إلى ريح عقيد بقدرة العلي العظيم ، (بلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ * رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) [الأحقاف:25].
يقول جلّ جلاله :(وَلَقَدۡ كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (80))؛ قوم نبي الله صالح، والحِجر؛ اسم مدينة، ما بين مدينة النبي ﷺ ومدينة تبوك. هذه المنطقة يقال لها الحجر، أصحابها كانت بيوتهم أقوى البيوت، (يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ..(82)). (وَلَقَدۡ كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (80))، من هم المرسلون ؟ النبي صالح، هل واحد وإلا مجموعة؟ هل كذبوا الرسول وإلا كذبوا المرسلين ؟ الرسل وِحدةٌ لا تتجزأ؛ المُكذِّب بواحد منهم، مُكذب بالكل. (وَلَقَدۡ كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (80))، من كذَّب بصالح فقد كذب الرسل أجمعين. (وَلَقَدۡ كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (80))،
(وَلَقَدۡ كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (80) وَءَاتَيۡنَٰهُمۡ ءَايَٰتِنَا ..(81))، خرجت ناقة من صخرة -آية عظيمة-، والناقة كبيرة، لا ناقة مثلها، تدرُّ لبنًا يكفي أهل القرية كلهم يشربون من لبنها في اليوم الواحد، آيات عظيمة، نتجت في وقت واحد في اليوم الذي خرجت فيه من صغرها وأخرجت الولد وحفلت باللبن، آيات!!، قال: (وَءَاتَيۡنَٰهُمۡ ءَايَٰتِنَا فَكَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِينَ (81)) كأن لم يكن هناك شيء وهم الذين تحدوا النبي صالح !! وقالوا: آتينا بها قالوا: أخرج لنا صخرة من جبل، هل في صخرة تخرج من جبل؟! خلاف السنة، في العادة الإلهية في الوجود ومع ذلك خرجت لهم، من الصخرة! ناقة كبيرة!! ومع ذلك ما كان شيء حصل! آمِنوا! .. صدِّقوا! .. ارجِعوا! .. كما قال في من قبلهم: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72))، وهل هم وحدهم؟ ومن في زماننا من الذين يأبون التصديق بمحمد والآيات واضحة أنه الصادق (لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72))؛ آيات واضحة ودلالات بيانات.
(وَلَقَدۡ كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (80) وَءَاتَيۡنَٰهُمۡ ءَايَٰتِنَا فَكَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِينَ (81) وَكَانُواْ يَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ (82))، حتى لا يقول قائل إنه يمكن لو كان عندهم بيوت قوية؛ لن تؤثر فيهم الصيحة وسيكونوا آمنين فيها. وإننا نرى أن أصحاب الخيام يتعرضون لأي شيء يزعزعهم ويزلزلهم، وإذا كان فوق الخيام بيوت من طين فهو أحسن، وإذا كان من طوب واسمنت قوية، وإذا كان من حجار وأيضاً عليه إسمنت، فهؤلاء ينحتون من الجبال بيوتا وراحت كلها، ما تنفع أصحابها البيوت ولا غيرها إذا جاء غضب الله تبارك وتعالى: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ) [الرعد:11].
(وَكَانُواْ يَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ (82)) ما أحد منهم صلَّح بيوت مثل بيوتهم، ما أحد من قبلهم ولا من بعدهم، ينحتونها من الجبال، آمنين فيها مطمئنين بها، ولكن من خالف الله كيف يأمن؟ من عصى الله من أين له الأمن؟ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، ( ... فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْن ... ) [الأنعام:81].
يقول سبحانه: (فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّيۡحَةُ مُصۡبِحِينَ (83)) صباح اليوم الرابع لأنه قال: ( قَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) [هود:65]، واصفرَّت وجوههم في يوم الأول واحمرت في اليوم الثاني واسودَّت في اليوم الثالث أبْدانهم كلها، وفي اليوم الرابع في الصباح جاءتهم الصيحة!! فما بقي منهم صغير ولا كبير، ماتوا وانتهوا !! هم و بعدهم، يقص ﷺ علينا الخبر، كيف ما نعتبر؟ كيف ما ندَّكر؟.
يقول جلَّ جلاله: (فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّيۡحَةُ مُصۡبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84))، أما أفادهم؟ بيوت قوية من الجبال منحوتة ، ما أغنت .. ما نفعت، ولا شيء بيغني إذا جاء عذاب الله وإذا جاء أمر الله جلّ جلاله. وإلى الذين تبالغ بهم الغرور بالحضارات، إن امتد في عمرهم قليلا سيرون أنهم لا تغني حضاراتهم عنهم شيئا حينما يحل بهم أمر الله جلَّ لله وتعالى في علاه. إذا كان من أكبر أنهارهم ما يصبح لهم جفافًا، (قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ) [الملك:30]، فما تغني عنهم حضارتهم؟ أخلقوا أنهار!! هاتوا أنهار!! ردوها، وبعد السنين الطويلة تغرق في الحرب العالمية الثانية منهم سُفن ولا يُدْرى لها خبر، ويجف النهر ويرى اليوم عشرات السفن التي كانت من تلك الأيام ، انظروا … ادَّكروا … اعتبروا! (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) [يونس:101]، ( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [القمر:2-3]. فاللهم ارزقنا الاعتبار والادِّكار، وسلمنا من النار ومن موجبات الهلاك والبوار يا رب الدنيا والآخرة.
يقولُ: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّيۡحَةُ مُصۡبِحِينَ (83) فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ (84))، ما حماهم! .. ماحرسهم! .. ما حفظهم! .. ما دفع السوء عنهم! .. ما أفادهم! .. ما وقاهم!؛ (فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ (84)). فاسمع يقول لك الخلاق: (وما خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ..(85))، ارسلنا لكم رسلًا نبين لكم حكمتنا في الخلق ونعطيكم مناهج لتمشوا عليها، ونذكركم أن من أطاعنا وأقام بأمرنا على ما ينبغي؛ آتيناه خير الدنيا والآخرة وأسعدناه في الحياتين. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) [طه:124]؛ فكل من تعامى وتصامم فلا يلومنَّ إلا نفسه، (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ *مَتَاعٌ قَلِيلٌ) -قليلُ .. قليلٌ .. قليلٌ- ( ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لكن الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) -اللهم اجعلنا منه- (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ) [ال عمران:196-197].
(وما خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ..(85))، وكل ما جرى ويجري في عالم الخلق مُرتب عليه حِكم فوق عقول الخلائق. ولقد علم الحق بنا و بنياتنا بأعمالنا و بعواقبنا من قبل أن يخلقنا، فخلقنا على هذا الحال وهو الأعلم والأحكم، فليس لملكِ ولا إنسيِ ولا جنيِ يقول: لماذا؟ ولا كيف ؟ (وما خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ..(85))، للحِكم الإلهية التي لا يحيط بها الخلائق ويُظهر منها ما يظهر رحمة منه بالعباد، ولقد خلق السموات والأرض والجنة والنار؛ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم:31].
(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85))، اصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ، اعفُ وسامح بصفح جميل، لا فيه عبوس ولا مؤاخذة ولا امتنان ولا شيء. (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، فصفحه ﷺ جميل! وهجره جميل! فكيف بوصله؟! فكيف بسروره؟! جميل حتى صفحه، جميل حتى هجره! (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) [المزمل:10]، فصلى الله على الجميل جامع معاني الجمال ﷺ، ورزقنا الله مطالعة جماله الأسنى في هذه المرآة الصافية النويرة، فهو مجلى جمال رب العرش محمد بن عبد الله ﷺ:
رحمةٌ كلُّهُ وَحَزْمٌ وَعَــزْمٌ *** وَوَقَارٌ وَعِصْمَةٌ وَحَيَاءُ
مُعجزُ القَوْلِ والفِعَالِ كريمُ الـ *** خلقِ وَالخُلْقِ مُقْسِطٌ مِعْطاءُ
مَا سِوَى خُلْقِهِ النسيمُ وَلا غَيْرَ *** مُحَيَّاهُ الرَّوْضَةُ الغَـــــــنَّاءُ ﷺ
[البوصيري]
كَـمَلَتْ مَحاسنُـــهُ فلو أَهـدى السّنـــا *** لـلبَدْرِ عـند تَـمامِهِ لم يُخْسَف
وعـلى تَـفَنّنِ واصِـفيهِ بِحُسْنِهِ يَفْنى *** الزّمانُ، وفيهِ ما لم يُوصَفِ
[ابن الفارض]
قال: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، وقد علَّمناك ما لم نُعلِّم غيرك، وعرَّفناك من أسرار ربوبيتنا ما لم يشركك فيه سواك، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيم (86))، فكن على ما يليق بعبوديتك لنا، متولين لك بربوبيتنا من هذا الادب والخضوع والتسليم والرضا. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86))، الذي خلق كل شيء، العليم بحقائق الأمور، قاصيها ودانيها وظاهرها وخافيها؛ (ولايحيطونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) [البقرة:255]، (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86))، خصصناك بخصائص اشكر عليها ليتعلم أمتك من بعدك واجبهم في الحياة واستعدادهم للقائنا ولا يغتروا بشيء من الزخرف، وما يعمله الفجار والكفار.
يقول: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ..(88))، وسِر في الطريق (اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)). وأنذرهم (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89))؛ الواضح النذارة، البيِّن لكم في إنذاري وتخويفي لكم من حقائق مستقبلكم لتكونوا على حيطة وحذر ولتسْلَموا ولتظفروا بجود الله الواسع جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
نظر الله إلينا وإلى الأمة نظرة، يقينا بها الأسواء والأدواء وكل بلوى. اللهم اجعل عامنا هذا من أعوام الفضل للمؤمنين، والخير للمسلمين والهداية للعالمين، ودفع البلايا والسوء عنا وعن أهل لا إله إلا الله أجمعين، وحول أحوالنا إلى أحسنها يا قوي يا متين، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، واقبلنا على ما فينا، وثبتنا على ما تحبه منا وترضى به عنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وجودك يا أجود الأجودين. والحمدلله رب العالمين
بسر الفاتحة
حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله
الفاتحة
03 صفَر 1444