(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحِجْر من قوله تعالى:
(لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ (88) وَقُلۡ إِنِّيٓ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلۡمُبِينُ (89) كَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَى ٱلۡمُقۡتَسِمِينَ (90) ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلۡقُرۡءَانَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (93) فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ (95) ٱلَّذِينَ يَجۡعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ (96) وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدۡرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ (98) وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ (99))
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية
الحمدلله مُكرمنا بواضح البيان، وشريف التِّبيان، على لسان مَنْ أنزل عليه القرآن، سيِّد الأكوان، حبيبه المُجتبى المُصطفى مِنْ عدنان. اللهمَّ أدِم منك الصَّلوات عنَّا في كل وقتٍ وآن، على عبدك المُصطفى سيِّد أهل العرفان، وعلى آله وأهل بيته المُطهَّرين عَنِ الأدران، وعلى أصحابه الغُرِّ الأعيان، وعلى آبائه وإخوانه مِنْ الأنبياء والمُرسلين، مواطِن واسع الجود والإحسان، ومعادن الفضل والعُرفِ والعِرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المُقرَّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد،،
فإننا في نعمةِ تأمُّلنا لكلام ربِّنا -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- انتهينا إلى أواخر سورة الحِجر. وقد قال سبحانه وتعالى لعبده المصطفى مُحمَّد ﷺ؛ معلِّمًا لنا فيما يوجِّهُ إلى نبيِّنا: (لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ (88))، والحقُّ يرسم لنا في هذه الآيات الكريمة منهجًا نتعامل به مع ما حوالينا في هذه الحياة؛ فلا يجوز للمؤمن أنْ يكون مُستغفَلًا، وأنْ يكون واقعًا في شبكاتِ تزويرِ المُزوِّرين وغُرورِ المُغترِّين مِنْ الكاذبين والمُصوِّرين للأشياء على غير حقيقتها مِنْ الذين لا يعلمون.
(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7]، مِنْ الذين حَرُمَتْ علينا طاعتهم في كُلِّ ما خالفوا به المنهج القويم والصِّراط المُستقيم بما أوحى الله، وسُنَّة نبيِّه ومُصطفاه محمد ﷺ، (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا..) [الكهف:28]، (فَلَا تُطِعِ ٱلۡمُكَذِّبِینَ * وَدُّوا۟ لَوۡ تُدۡهِنُ فَیُدۡهِنُونَ) [القلم:8-9]، (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) [الإنسان:24]. فهُمُ الذين يوحون أنَّ خير الحياة في شيء مِنْ مظاهر زُخرُفِهَا وغُرورها، وكأنَّها غايةُ الغايات. وقَدْ كَذَبوا، ومع كذبهم فهُم يُعانون هذا الكذب في نفس حياتهم الدُّنيا، ولم يتوفَّر لهم مِنْ كُلِّ ما أطلقوه لأنفسهم، وأطلقوا أنفسهم فيه مِنْ مُتَع الحياة بلا قِيَم ولا فضائل ولا حقيقة إنسانية ولا دين ومنهج ربَّاني، بل انحطاط شديد، هُم في كلِّ ذلك يُعانون معاناة قاسية، وهُم في كلِّ ذلك يُنازلهم مِنْ الكرب والضِّيق والهم والحزن ما الله به أعلم. ثُمَّ ينطلقون في الازدياد في الإثم؛ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النحل:25]، فما هُم إلَّا في خُسران، وتعجيلِ شقاءٍ في الدُّنيا قبل البرزخ وقبل القيامة وقبل دخول النَّار، أجارنا الله منها وأعاذنا.
يقول: (لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ ..(88))، أصنافًا منهم؛ مِنْ هذه المُتَع التي ليست علامة على شرف ولا كرامة ولا سعادة؛
فليست بمقياس وليست بميزان وليست بعلامة؛ إنَّها تكون للأبرار والأخيار والأنبياء والأولياء، وتكون للأشرار والكُفَّار والفُجَّار والأشقياء. فليس فيها علامة سعادة ولا علامة رِفعة ولا شرف ولا سمو.
إذًا، فلا ينبغي أنْ يُخدَع ذو عقلٍ بهذه المظاهر فيُحوِّلها غاية له، أو يستدلُّ بوجود صُوَرِ مِنها عند أحد أنَّهُ صاحب سعادة أو صاحب مصداقية أو صاحب استقامة في منهجه، أو صاحب صحَّة في فكره أو في مساره، ليس الأمر كذلك. وقد جعل الله كثيرا مِنْ مظاهرها في هذا العالم مع أمثال النَّمرود، ومع أمثال الذين كذَّبوا بالنَّبي هود، ومع أمثال الذين استهزأوا بالنَّبي نوح، ومع أمثال فِرعون، ومع قارون، ومع هامان، فهل كانت علامة سعادة؟ هل كانت علامة رِفعة؟ هل كانت علامة خير لهم؟
يقول -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- في بيانِ هذه الحقيقة الواضحة: (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا) -وفي قراءة سَقْفا- (مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف:33-35]، اللهمَّ اجعلنا مِنَ المُتَّقين والحِقنا بهم.
فمِن منهجنا أنْ لا نغترَّ بهذا الزُخرف وهذا القول، ونعلم أنَّه كمثل المُلك الحسِّي على ظهرِ الدُّنيا والسُّلطة، يُؤتاها البَرُّ والفاجر؛
فليست بمزيَّة ولا خصوصيَّة. إذًا، فيجب أنْ نكونَ محرَّرين في نظرتنا وأحاسيسنا ومشاعرنا عَنْ أنْ تسترقَّنا هذه الزَّخارف والأغيار والمظاهر الجوفاء، ولنطلب حقائق الشرف والعزَّة مِنْ معرفة الإله وتقواه وطاعته، والعمل بنُورانية وحْيه، وبلاغ رسوله ونبيه ﷺ. نكون على ذلكم، وهوعلامة السَّعادة، وهوعلامة الكرامة والرِّفعة والشَّرف؛ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ..) [المنافقون:8].
بهذه الحقيقة وعلى هذه الحقيقة نقوِّم نظراتنا وسَيْرنا في الطَّريقة، ويمضي منهجنا في هذه الحياة.
(لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ ..(88))، ثم إنَّ الحق -جلَّ جلاله- جاعلًا الدُّنيا بقصَرِها وصغرها وحقارتها، ثمَّ الآخرة بدوامها وبقائها؛ محلَّ إكرام وفضل على المؤمنين وتسخيرٍ لهم؛ يسخِّر لهم الدُّنيا ويسخِّر لهم الآخرة. وإنَّهم كما قال ﷺ في كنوز كِسرى وقيْصر: "لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُما في سَبيلِ اللَّهِ". فكان الأمر كذلك وعادت إلى المؤمنين، وجيء بسواري كسرى وقيصر إلى المدينة المنوَّرة أيَّام خلافة سيِّدنا عمر-رضي الله عنه- وألبسهما سُراقة ابن مالك تصديقًا لكلام المصطفىﷺ : "كيف بك يا سراقة وأنت تلبس سِوار كِسرى وقيصر". ونظير ذلك كان في الأمم السابقة وفيما بعد نبينا ﷺ في هذه الأمم. فلنكن على بال، ولنُدرك حقائق في هذا المجال؛ فلا ينبغي الالتفات إلى هذه الدُّنيا وزهرتها.
إنَّ الذين كانوا يدخلون على كِسرى -وهو مِنْ أكبر ملوك الأرض في وقته- لمَّا أُرسلوا إلى المدينة المنوَّرة وجاءوا إلى عند نبيّ الله، الذي ربما بات طاويًا، والذي ربما أرسل إلى أبياته التِّسع فلم يجد فيها مِنْ الطَّعام شيء إلا الماء، فامتلأوا مِنْ الهيْبة والإجلال ما لم يدخل قلوبهم قبل ذلك، ولا عِنْدَ دخولهم على ملِكَهم كِسرى، ولا مقابلة الجيوش التي قابلوها، ولكن امتلأت صدورهم بالهيبة لما قابلوه ﷺ. ولمّا وصفوا هذا الذي في داخلهم لبعض الذين تكلَّموا معهم حينما رجعوا إلى صنعاء، قالوا: هل كان معه جيش واحد؟ قال له: لا، وحده وحده، كان يمشي وحده، امتلأنا لَّما قابلناه وكلَّمناه، امتلأنا من الهيبة ما شعرُنا بذلك من قبل ولا نازل قلوبنا مثل ذلك.
ثُمَّ جاءت كنوز كِسرى وقيصر، وأخبرهم ﷺ في اليوم الثاني مِنْ لقائهم: "إنَّ ربِّي -البارحة- قَتَلَ ربَّكم" -هذا الذي تُدينون له دون الله تبارك وتعالى بالتَّبعية والولاء، سلَّط عليه ابنه فقتله، "فارجعوا مِنْ حيث جئتم". وما ملكوا إلَّا أنْ يرجعوا، جنود الدولة الكبيرة، وما قدروا أن يمسُّوا واحدًا مِنْ أصحابه، ولا أنْ يعملوا شيئا في المدينة، ورجعوا. فلمَّا رجعوا وأخبروا عامِل كِسرى في صنعاء، قال: هذا أمر كبير، إنْ كان صدق. متى قال لكم؟ قالوا في اليوم الفلاني، قال إنْ جاء الخبر كما قال فهذا نبيُّ صادق، فيجب الكل يتَّبعه، وإنْ كان ما صدق فلنا مع كلام. وإذا بالأخبار تأتي مِنْ فارِس، أنَّه قُتِل في نفس الليلة، وقتله ابنه كما أخبر صاحبه، ورسالة مِنْ ولده الذي تولَّى المُلك يقول: لا تؤذوا هذا الرجل الذي بُعِث قِبَلِكُم، ولا تُرسلوا إليه أحد. وأيقَنوا أنَّه رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؛ وجاءت كنوز كِسرى وقيْصر، وتكرَّر مثل هذا.
إلَّا أنَّه على قدر وجود الأصفياء الأتقياء كانْ لهم مِنْ مظاهر التَّسخيرهذا ما كان فيه جوانب وشؤون كثيرة في الحياة، وعلى قدر ضعف الإيمان، وضعف الصِّدق مع الرَّحمن، وضعف الاستقامة على حُسن الاعتدال في الميزان، على قدر هذا الضعف يُسلَّط بعض الكفَّار والفجَّارعلى كثير مِنْ المؤمنين، أو ينقُص على كثير مِنْ المؤمنين، حصول كثير مِنْ مظاهر النُّصرة والتأييد، وتأتي في بعض الشؤون والأحوال، وإلا فالأصل والأساس الذي لا يتغيَّر، ما حَكَمَ به القدير القويّ المتين: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ..) [الأعراف:96].
فلا يضحك عليكم أحد، إذا قمتم بتقوى الله وقوة الإيمان، فمُسخَّر لكم الاقتصاد، ومُسخَّر لكم الاجتماع، ومُسخَّرة لكم السِّياسة، ومُسخَّرة لكم الزِّراعة، ومُسخَّرة لكم الصِّناعة، ومُسخَّر لكم البر والبحر وطبقات الجو وكل شيء. وتُفتح بركات مِنْ السَّماء والأرض، ولا تستطيع دولة مِنْ الدُوَل أنْ تمنع رزق الله عنكم إذا رزقكم؛ (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2] جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
فهكذا يجب أنْ نُدرِك مِنْ هذه الحقائق ما نستقيم به على المنهاج المطروح لنا، والمأمورين باتِّباعه في إيماننا به -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-؛ فنرحمهم ونحرص على هدايتهم عبادةً لله، وما نُريد أنْ تذهب الأنْفس عليهم حسرات. (.. وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ ..(88))، ما نود أنَّ أحدًا يدخل النَّار، ولا أنَّ أحدًا يضلُّ عنْ منهج إلههُ الجبار، ولا أنْ يتعرَّض لغضب القهَّار، ولكن كُلَّنا عبيده، نعبده بتمنِّي الخير لعباد الله والهداية والقيام بأسبابها بما استطعنا، وبما شرع لنا وأقدرنا عليه -جلَّ جلاله- ثُمَّ نُسلِّم الأمر له.
(.. وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ ..(88)). ثُمَّ لا نُعظِّم قوَّاتهم ولا خدائعهم ولا كيْدهم إنْ كُنَّا صادقين مع الجبَّار الأعلى مَنْ بيده ملكوت كل شيء، (..وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل:127]، كما يأتي لنا في الآيات: (وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:10]، (إِنَّهُمۡ یَكِیدُونَ كَیۡدࣰا * وَأَكِیدُ كَیۡدࣰا) [الطارق:15-16]، (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة:15]، (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة:15] وفي هذا المسلك: ( وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ (88)). دعونا نتراحم، دعونا نتحابب، دعونا نتكاتَف، دعونا نتآلف، دعونا نتكامل فيما بيننا البيْن، دعونا يقوم بعضنا برحمة بعض والإحسان إلى بعض، فهذا هو المنهاج.
(لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ)، قال له في الآيات الأخرى: (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل:127-128]. (وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ)، اخفض جانبك؛ أي كُنْ على ذلَّة مع المؤمنين، على إحسان اليهم، على خُلُق كريم معهم، يقول: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ..) [المائدة:54].
(وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ)، وأعلِن ما أرسلناك به (وَقُلۡ إِنِّيٓ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلۡمُبِينُ)، بَيِّن النَّذارة؛ بيَّنْتُ لكم عَنْ أخبار المستقبل الأكبر الأخطر الوارِد عليكم بإخبار مَنْ خَلَقَكُم، وأحدكم مُوقن أنَّه لم يخلُق نفسه، ولم يكُن أمر خَلْقِه راجع إلى أبويه ولا إلى من سواهم، وهُم مخلوقون مِنْ قبْلهِ بأمر الله، وأنَّ أحدا مِنْهم لم يُستأذن في أنْ يُخلَق، ولا في أنْ يُكّوَّنْ، ولا في أنْ يولد في المكان الفلاني ولا الوقت الفلاني، ولن يُستأذن أحدا مِنْهم في أن يحيا حياة البرزخ، ولا أنْ يُنشَر يوم القيامة ويُحشر. ما أحد منهم يُستأذن لهذا. وكما جاء وجودهم إلى الأرض رغمًا عليهم، فكذلك سيُحشرون ولا يغادر مِنْهم أحد. وماذا سيكون في الحشر؟ بيّنَ رسول الله ﷺ وهو النَّذير المُبين (وَقُلۡ إِنِّيٓ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلۡمُبِينُ (89)).
قوله تعالى: (كَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَى ٱلۡمُقۡتَسِمِينَ (90)) يعني أنزلنا عليك هذا القرآن كما أنزلنا على المُقتسمين:
كذلك المُقتسمون الذين تقاسموا ليُبيِّتُنَّ النَّبي صالح؛ فأهلكهم الله في تلك الليلة، ولم يمسُّوا النَّبي صالح بسوء عليه الصلوات والتسليمات مع نبيِّنا وجميع الأنبياء والمرسلين. وكما تقدَّم معنا في الجلسة الماضية: (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [النمل:49]، فما كان عاقبة مكرهم؟ وكيف انتهى الأمر لهم وبهم؟ يقول سبحانه وتعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا)؛ دبَّروا وخطَّطوا وقالوا الليلة نتعشَّى بصالح النَّبي، خلاص، الليلة نُنهيه مِنْ الحياة. قرَّروا ورتَّبوا وخطَّطوا، نقول كذا ونعمل كذا (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:50]، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [النمل:51-52] -اللهمَّ علِّمنا وارزُقنا حقيقة العلم- (وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [النمل:53]. وبقي النَّبي صالح بعدهم، هَلَكَ هؤلاء الذين تقاسموا، وثُمَّ هَلَكَ قومهم مِنْ بعدهم بالصَّيحة، ثُمَّ خَرَجَ النَّبي صالح مِنْ الحِجْرِ وذهب إلى الشَّام وخَرَجَ إلى اليمن، حتى يُقال أنَّه توفي هنا أو هناك. على كل الأحوال، أيَّده الله تعالى، والمُقتسمون راح مكرهم، بل هلكوا هلاك الأبد، ولم يزالوا في عذاب مِنْ ليلة أهلَكَهُم الله تلك الليلة التي تقاسموا فيها إلى ليلتنا هذه وما بعدها، وفي الآخرة مُنتظرون دخول النَّار -والعياذ بالله-. اللهمَّ أجِرنا مِنْ النَّار.
(كَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَى ٱلۡمُقۡتَسِمِينَ (90))؛ فقريشًا أيضا اقتسموا أنواع مِنْ الاقتسامات؛ اقتسموا الطُّرق -المداخل إلى مكَّة المكرَّمة- ليُحذِّروا النَّاس مِنْ اتِّباع النَّبي مُحمَّد ﷺ -وهذا هنا وهذا هناك- جماعة منهم وهُلكوا. ومِنْهم الذين اقتسموا القرآن؛ واحد يقول ساحر، واحد يقول مجنون، واحد يقول شعر، واحد يقول كهانة، وواحد يقول كذا، فاقتسموا القرآن، (ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلۡقُرۡءَانَ عِضِينَ (91)) مُفرَّقًا؛ إمَّا يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض -كبعض أهل الكتاب-، وإمَّا يقولوا عنه كذا ويقولوا عنه كذا، فتفرَّقوا في ذلك و (جَعَلُواْ ٱلۡقُرۡءَانَ عِضِينَ (91)).
(فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (93))، قال الله أنا الذي خلقتهم وأتيتهم مِنْ الأسماع والأبصار والعقول ما يَعوُن به الخطاب وخاطبتهم، وأرسلتُ إليهم الرسول، وأنزلتُ عليهم الكتاب، ثُمَّ يظنُّون أنَّهم يمضون في حالهم هذا مِنْ دون رجوع إلينا؟! (فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ..(92))، سؤال توبيخ وعِتاب وإيقاع عذاب (..لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (93))، قالوا وأمَّا قوْله تبارك وتعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ) [الرحمن:39]؛ معناه سؤال استفهام ما يحتاج إليه (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) [الرحمن:41]، فالرَّب أعلم بهم، ولا يَسأل هل عملتم او علمتم، ولكن يسأل الكل سؤال التَّوبيخ، سؤال العِتاب؛ لمَ فعلت كذا؟ ولماذا قُلتَ كذا؟ وهكذا؛
ومع ذلك فعموم السؤال حاصل للجميع، وهؤلاء الذين لا يتعرضون أيضا للحساب؛ فعموم السؤال لهم في مسألة القبور والبرزخ، وفي عموم المواقف في القيامة. ولكن ذلك السُّؤال الذي يترتَّب عليه الحساب والذي قد يُناقش فيه صاحبه مرفوع عَنْ قوم يدخلون الجنَّة بغير حساب،اللهُمَّ ألحِقنا بهم. وقال عَنْ طائفة مِنْ الكفَّار: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف:105]، (فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ (92))، (وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصافات:24].
(فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (93))، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [سبأ:3]؛ لتحصل النتيجة الحقيقية في المستقبل الأكبر: (لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ) [سبأ:4-5]، أمرٌ حتمي لا بَدَّ مِنْه. هذا مآل الكل، ومستقبل الكل مَنْ آمَنْ ومَنْ كفر، ومَنْ صَدَق ومَنْ كَذَب، المرجع إلى هذا، والمصير إلى هذا كما قال خالقنا جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
يقول: (فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (93))، قال نبينا ﷺ: "لا تزولُ قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ على الصراط -يعني ما تتحرك مِنْ مكانها إمَّا بالمرورعلى الصراط إلى الجنَّة، أو بالسُّقوط في النَّار والعياذ بالله- حتى يُسأل عن أربع: عن عُمره فيما أفناه، وعنْ شبابه فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ". فأعِد للسؤال جواب.
قال لنبيه ﷺ: (فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ ..(94)) وكان ابتدأ الدعوة ثلاث سنوات سِرًّا؛ رفقًا بالعباد، وترَّقُبًا لسَوْقهم إلى الخيرشيئا فشيئا حتى أَذِنَ الله له أنْ يَجْهَر ويفصِل بالصَّدع -والصَّدع هُوَ الشقُّ والفصل- يفصل بيْن الحقِّ والباطل بإعلان الحقِّ وإظهاره. (فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ ..(94)) بعد ثلاث سنوات صَدَعَ ﷺ ونادى على جبل الصَّفا، وبلَّغ القوم . (فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (94))، لا تُبالي بما يقولون ولا بما يُخطِّطون ولا لما يُدبِّرون (وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (94)).
(إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ (95))، حمْل الصَّدع بالحقِّ والقيام به شاق وصعب في وسط هذه البشريَّة، وغلبة الأهواء عليها وإذلال الشَّياطين. يقول:
(إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ)، الذين يستهزئون كفيناك إيَّاهم، فثِق بنصر الله إياك، واصبر على ما كلَّفك، وقُم بحقِّ ذلك.
(إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ) وكانوا جماعة هم الأساس، ولكن كبارهم هؤلاء ومِنهم خمسة؛ كان في كفايتهم عبرة للمُعتبرين.
(إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ) وكان مِنْ جُملتهم، أكابرهم الذين بالغوا في الاستهزاء برسول الله ﷺ، لمنْع لهم أو قوة أو مكانة عندهم، قابلوا بها هذا المجتبى المختارﷺ في مكانته بالاستهزاء الصريح أمامهُ مثل:
(إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ) وأمثال هذا كثير في واقع البشر، والمُعتبرون قليل. والذين تعرَّضوا للأولياء، والذين تعرَّضوا للصَّالحين على ممِّر القرون، أصابتهم مصائب ونزلتهم دواهي وآفات، والمُعتبرون قليل.
(إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ (95) ٱلَّذِينَ يَجۡعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ ..(96)) يستهزئون بك، ويتكلَّمون عَنْ إلهك، وينسبُون لَهُ الشَّريك، وينسبُون لَهُ الولد، وينسبُون لهُ الزَّوجة، وإلى غير ذلك مما يشقُّ عليك. (ٱلَّذِينَ يَجۡعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ (96)) ستظهر الحقيقة للكل؛ لكل مُعانِد ولكل مُتخاذِل ولكل مُتغافِل ولكل مُتجاهِل، ستظهر الحقيقة ويعلم كل واحد الحقيقة كما هي وما يكون مصيره (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثم كلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النَّبأ:4-5]. وقال في الآية الأخرى في سورة التكاثر: (كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ* كَلَّا لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡيَقِينِ) [التكاثر:3-5] ثُمَّ يتحوَّل إلى عَيْن ليقين؛ (لَتَرَوُنَّ ٱلۡجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيۡنَ ٱلۡيَقِينِ) [التكاثر:6-7].
(..فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ (96))؛ نتائج استهزائهم، نتائج عنادهم، ويعلمون أنًّهُ الحق، وأنَّ مُحمَّدًا ﷺ صادِق، وأنَّه خيْرالخلائق. (..فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ (96) وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدۡرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)) يسبُّون ربَّك وإلهك وأنت تتأثَّر مِنْ ذلك، وتراهم يُلقون أنفُسَهُم في النَّار بهذا الإصرار، وأنت بما آتيناك مِنْ رحمة تتأثر بذلك.
(وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدۡرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ ..(98))، نزِّه إلَهك المُقدَّس، الذي في كل شيء مِنْ أعماله حِكَم وأسرار. سبِّح بحَمدِ ربِّك وكُن حامِدًا لَهُ (..وَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ (98))، فإنَّه بالتَّوَلُّع والتَّسبيح والحمد والسُّجود للرَّبَّ -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-؛ تَخِفُّ وطأة كُل ما يُنازلك، وتصغر الدُّنيا وأذاها في نظرك فلا تتأثر بشيء.
(فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ (98))، وكان ﷺ يقول: "ما أُوحِيَ إلَيَّ أنْ أجْمَعَ المالَ وأكُونَ مِنَ التّاجِرِينَ ولَكِنْ أُوحِيَ إلَيَّ أنْ (سَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ (98) وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ (99))". (فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ)، وهو سيِّد السَّاجدين ﷺ وإمام السَّاجدين (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: 218-219].
(فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ (98) وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ ..(99)) -وهو سيِّد العابدين ﷺ- (وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ (99)) يعني إلى أنْ تموت وتخرُج مِنْ هذا العُمر، عمرك كلُّه بالعبادة لهذا الإله -جلّ جلاله - شُكرًا لَهُ واغتنامًا للتزوُّد للقائه، وقِيَامًا بحقِّ العبودية له.
(وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ (99))، فما أعظم أنْ يُوفقك الله لعبادتك، وأنْ يسير بك في عبادته، وهُوَ أعظمُ الرِّبح الذي تُحصِّله مِنْ هذه الحياة. اللهمَّ أعِنَّا على ذِكركَ وشُكرِكَ وحُسنِ عبادتك، يا خير معبُود يا أكرم مقصُود يابرُّ يا ودود يا أرحم الراحمين.
(فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ (98) وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ (99)) ولقد بلَّغ الرِّسالة، وأدَّى الأمانة، وجاهَدَ في الله حقًّ جِهاده، وعَبَدَ الله حتى أتاهُ اليقين، فجزاهُ الله عنَّا خيرالجزاء وأفضل الجزاء، وجَمَعَنَا به في الدُّنيا والبرزخ ويوم الِّلقاء، وجعلنا في زُمرته في البرزخ والقيامة ودار الكرامة.
اللهمَّ لا فرَّقت بيننا وبين مَنْ أنزلتَ عليه الآيات، ورزقتنا مُتابعته في جميع الأحوال والحالات، اللهمَّ ثبِّتنا على منهاجه خَيْرَ الثَّبات، ومُنَّ علينا بخيْرِ الحياة وخير الوفاة وخير ما بينهما، واعذِنا مِنْ شرِّ الحياة وشرِّ الوفاة وشرِّ ما بينهما، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، واقبلنا على ما فينا، واقبِل بوجهك الكريم علينا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله
الفاتحة
19 صفَر 1444