(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}
مساء الإثنين: 6 جمادى الأولى 1445هـ
الحمدلله مُكرمنا بالوحي والتنزيل على لسان خير هادٍ ومعلم ودليل سيدنا محمد معدن التكريم والتبجيل والتفضيل صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه خير جِيل، وعلى من اتبعهم بإحسان في النيّة والقصد والفِعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مَن خُصِّصوا بالتأييد والنصر والإكرام والتفضيل وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد..
فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام إلهنا وتدبُّرنا لكتاب خالقنا جل جلاله وإنعامه علينا بالتوجيه والتعليم والإرشاد مررنا على قوله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء :
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)) يذكّرنا الله بإنعامِه الواسع علينا وما خصّص به بني آدم من أنواع التكريم (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) فخلقنا في أحسن تقويم وجعل فينا الأنبياء والمرسلين وأنزل إلينا الكتب من عنده، ورزقنا من الطيبات وحملنا في البر والبحر على أنواع المراكب من دوابٍّ ومن دراجات ومن سيارات وغير ذلك ومن سُفنٍ تجري في البحر (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) أنواع الرزق الحسن الطيب (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)) فتميّزوا عن بقية الحيوانات وعن النباتات والجمادات، وتميزوا عن الجان، ثم كان الكثير منهم أفضل من الملائكة كالأنبياء، وكما أشرنا فيما مضى أنّ خَواصّ الملائكة أفضل من خواص البشر بعد النبيين، وأن عوام الملائكة أفضل من عوام البشر غير أن خواص البشر من بعد النبيّين أفضل وأكرم من عوام الملائكة ومن عامة الملائكة غير الخواص منهم -عليهم السلام-.
فاقتضى إرادة الخالق لهذا الإنسان بأنواع من التكريم والتبجيل والتفضيل فوجَب أن يستغرق عمره القصير على ظهر الأرض بشُكر هذا الإله وبحمده، والعمل بمقتضى ما أوحاه وما وجّهه إليه، كان هذا هو الواجب الأول على كل آدمي كما خاطب الله أبانا آدم عندما أمره أن يهبط إلى الأرض (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) [طه:123] من قَبِل هذا الإكرام من الحق -تبارك وتعالى- وعرف قدْر المُنعم وعظَمة نعمته -جل جلاله- عمِل على الشُكر في الحياة القصيرة ليَسعد سعادة الأبد.
في اليوم الذي أُمرنا بذِكره، (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ) اي كل جماعة من الناس (بِإِمَامِهِمْ) وأئمتهم أنبياؤهم ورسلُهم ومتبوعوهم سواء من أئمة الهدى أوأئمة الضلال، من أئمة الحق أو أئمة الباطل قال تعالى في أئمة الهدى والحق: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24] وقال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) [الأنبياء:73]
وقال عن أئمة الباطل وأئمّة الضّلال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص:41]، كذلك الكتب التي تُسجَّل فيها أعمال بني آدم هي إمامُهم فيُدعى الناس بأنبيائهم وبمن اتبعوه من بعد الأنبياء إن كان صاحب حقٍ أو صاحب باطل، إن كان صاحب هدى أو صاحب ضلال يُدعون به ويكون حاضراً معهم وبينهم.
(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) ويُعطَون كتبهم (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) [الإسراء:13] كما مر معنا في أول السورة (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الاسراء:14]، (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) وقد كان يقول سيدنا علي : "إمام كل زمان يُدعى به من اتّبعه" ومن اتّبع أئمة الضلال دُعُوا بهم ويُدعى: يا أمة آدم، يا أمة إدريس، يا أمة إبراهيم، يا أمة هودٍ، يا أمة صالح، ويُدعى كذلك بالأئمة من بعدهم من أتباع: يا أتباع فلان يا أصحاب فلان
وهكذا قال سبحانه وتعالى في أتباع فرعون: (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ * ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ۖ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۖ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:97-105] اللهم اجعلنا من السعداء.
(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) وبذا كان يقول بعض أهل العلم : كفى أهلُ الحديث شرفا هذه الآية فإن إمامهم زين الوجود ﷺ، وهكذا كل من صدق في اتباعه (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ):
(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ) أُعطي (كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) بيده اليمنى (فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ) قراءة فرح وسرور واستبشار يُردّدون النظر إليه (فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)،(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ) [الحاقة:19-24]
يقول: (فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)) ولا يفوتُهم من أعمالهم الصالحة ووُجهاتهم الصادقة ونياتهم الخالصة ولو مِقدار فتيل، وإذا جئنا بنواة التمر، فإن في هذا النواة نقير وقِطمير وفتيل، فالفتيل خيط رقيق يأتي في وسط النواة في خطها الذي في الوسط هذا فتيل (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)، والنقير خلف النواة دائرة صغيرة منقورة في النواة هذا النقير، والقِطمير غشاوة خفيفة على هذه النواة تنقش بنقش خفيف، ولا يظلم أحد نقير ولا قطمير ولا فتيل يوم أن كل صغير وكبير من الأعمال مَحصي وهو أمامك (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:6-7] وقال -سبحانه وتعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]
وهكذا يقول -جل جلاله وتعالى في علاه-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30]، (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) كل شيء بحسابه وكل عملٍ صالح أخلصت فيه لوجه ربك ولو مقدار هذا الفتيل والذرة ومثقال حبة من خردل تُجاز عليه، وقد يضاعف لك مضاعفات عظيمة، (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).
(وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ) أي: فيؤتى كتابه بشِماله، فإنما يؤتى كتابه بشِماله (من كان في هذه):أي في هذه الدنيا في هذه الحياة القصيرة
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) من عَمِي عن هذا كله ولم يعرف خالقه ولا المُنعم عليه في هذه الدنيا التي يُقبَل فيها التوبة ويمكنه الرجوع (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ) لا يعرف طريق النجاة ولا الخلاص ولا يستطيع ذلك وهو في حيرة فوق حيرته -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(مَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ) عن الاعتبار (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ) عن الاختيار، وهو في الآخرة أعمى عن أن تكون له حُجّة أو أن يكون له دليل؛ لا يستطيع أن يقيم شيئا من الدّليل ولا الحجة.
(مَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ) والمُراد بالعمى ليس عمى البصر لا في الدنيا ولا في الآخرة، فكما قال تعالى في خطر العمى أنه ليس عمى الأبصار، فهذا من جملة الاختبارات التي يختبر الله بها الناس في الدنيا العمى والصمم ليست المراد بها وليست هي الخطيرة وليست الكبيرة، فكم من أعمى مفتوح البَصيرة صافي السريرة له مراتب لدى الله كبيرة، وقال تعالى عن ذلك: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46]
(وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ ) هم كل من رفض الإيمان بخالقه، وكل من وصلته الدعوة إلى إلهه من إلهه فأبى واستكبر واتبع الأهواء والشهوات هم العُميان على ظهر الأرض، كل من لم يعلم الحق فيما أنزل الله إلى النبييّن الذين خُتموا بالنبي محمد كما قال في الآية: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ) [الرعد:19] الذي ما يعلم أن هذا هو الحق فهو أعمى، إذًا فأكثر الناس على الأرض عُميان، نعم بصائرهم عمياء عن إدراك الحق ولو أبصروا لآمنوا ولو أبصروا لرضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ولكن تعمى القلوب التي؛
(وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)) فليس لهم من سبيل إلا النار وليس لهم من سبيل إلا العذاب -والعياذ بالله تبارك وتعالى- يرجعون إليها ويعذبون فيها فهم (أَضَلُّ سَبِيلًا) كما رضوا في الحياة الدنيا أن يكونوا في المُسكرات والمُخدرات وفي اللواط وفي الزنا وفي السرقات وفي الكذب وفي الغش وفي الخداع وما إلى ذلك.. فيكونون كذلك في الدار الآخرة والعياذ بالله تبارك وتعالى في الظلمات وفي العذاب وفي مقامع من حديد وفي أكل الزقوم وشُرب الحميم وما إلى ذلك.. كما قال -جل جلاله وتعالى في علاه-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) [النساء:137] فما لهم سبيل ولا طريق إلا النار فعم أضلُّ سبيلا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-،
كما يقول -جل جلاله- في الآية الأخرى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [النساء:168-169] لأنهم في الدنيا سلكوا طريق جهنم، سلكوا الغش، سلكوا الكذب، سلكوا إيثار الفانيات، سلكوا تكذيب الرُّسل، سلكوا ما ترونه مما ارتضى لأنفسهم هؤلاء المُبعدون وهؤلاء الغافلون وهؤلاء المُغترون، مغترون بمظاهر، مغترون بكراسي، مغترون بحكم، مغترون بسلطة، مغترون بأموال، مغترون بشيء مما يعدّونه قوة (وأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) -جل جلاله وتعالى في علاه- فما هم إلا في غرور وزور ينتهي بهم إلى شدائد وأهوال المَصير، وشدائد الحسرات وشدائد الحسرات وشدائد الندامات التي لا آخر لها -والعياذ بالله تعالى-
فالحمد لله على نعمة الإسلام اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه برحمتك يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين.
وفي هذا لمّا كان أحد المشركين في العمى قبل أن يُسلم وكان سيدنا عبد الله بن حرام من الذين أبصروا، فبينما هم يدعوهم إلى الله تعالى أوعزوا إلى ذاك الرجل المُشرك جاء من خلفه فطعنه بالرمح من خلفه حتى خرج من بين ثدييه فاستلم الدم بيديه وامتلأت يداه بدمه، فقال به هكذا -يمين شمال- قال: فزت ورب الكعبة فزت ورب الكعبة تعجّب المشرك يقول: كيف يقول فزت وأنا قتلته! ولما كتب الله هدايته واهتدى للإسلام رجع قال: والله كان هو الفائز ذاك اليوم وأنا الخسران ولو كنت مُت على ذلك الحال لكنت مخلد في النار فهو الذي فائز، فزت ورب الكعبة فزت ورب الكعبة.
هكذا ولمّا كانت في وقائع كثيرة أفادوا من يجيئ يُريد أنْ يُعزّي في مَن قُتل شَهيدا مِن ابن لبعضِ النّاس -أب أو أم- فيُفاجِئونَهم، يقول: إنْ جئْتُم مُهنّئين فأهلا ومرحَبا بكُم، وإنْ جِئتُم مُعزِّين فمَا أنا بالذي يَحزَن على ولدٍ قُتِل في سبيلِ الله -جل جلاله-
وهكذا قال الإمام عبد الله بن عُمر بن يحيى -عليه رحمة الله- لوالدته: إن رُسلاً مِن السُّلطان وصَلوا يُريدُون أنْ أفْتِيَ لهم في مسألة على خِلافِ المُقرَّر وإلّا يُهَدِّدُونَني بالقتل.. قالت: هلْ تسْتشِيرُني في مثلِ هذا يا ولدِي؟ هلْ يُستَشارُ أحد في مثلِ هذا؟ شَرع الله فوْقَ السَّلاطين وفوقَ كلّ أحد، دَعْهم يقتُلونَك، أموتُ مُطمَئنّة أنَّ ولدِي قُتل في سبيل الله أمَامِي، وعَاد إليهم يَقول: لا سبيلَ إلا تقرير ما أطبقَ عليه عامَّة عُلماء الشَّرع، ولا سبيلَ لتتبُّع الرُّخص مِن أجلِ هوى سُلطان ولا غَيره، ارجِعوا.. وحَمَلُوه فلمَّا دخلَ على السُّلطانِ ألقى الله في قلبِ السُّلطانِ الرُّعب والهَيبة مِنه، وقال: ما تُريد؟ خلاص رجِّعوه، ورَجعَ سالمًا ولمْ يكنْ يُصبْه أذى في الدٌّنيا وقدْ بذَلَ رُوحَه في سبيل الله -جل جلاله وتعالى في علاه-
وهكذا مَن يفْهَم الحقائق، وما هؤلاء الذين يقُومون لنا صَنم الشَّهوات ما عِندَهُم إلا أنهم يغرّون النَّاس بالأموالِ والتّوافه، أو بسُلُطاتٍ أو بشيء من المَلاذِّ الحَقيرة المُنتَهية الضَّارّة في الأجْسَامِ والقُلوبِ والعُقُول والأرْواحِ والدُّنيا والآخرة، ما عِندَهم غير ذلك.. وما عِندهم شي.. وجَعلوهُ كلّ شيء..! ما أتفَهَهُم وأتفَه عُقولَهم، ولكنْ إنَّ الله يَهدي مَن يشَاء ويُضلُّ منْ يشَاء، (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة:41,42]، ولن تَخلُ الأرض مِنَ القُلوب والأرواح والآذان المُستَمِعة لنداءِ الرَّحمن -جل جلاله- ما دامَ القُرآن بيننا مَوجُود، والمُستَجيبَ لنداءِ محمد سَيِّد الأكوان، القائل: (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) [ال عمران:193]، هم أهلُ الشَّرف والكَرامَة والعزَّة والرِّفعَة -عليهم رِضوانُ الله تبارك وتعالى، جَعلنا الله إيّاكم منْهُم وألحَقنا بهم-
فلا تخْلُ الأرضُ عَن طَوائف مِن أولئك، لا يَضُرُّهم مَن نَاوأهُم ولا يَضُرُّهم مَن خَذلَهُم، حتى يأتيَ أمرُ الله وهم على ذلك، ولمْ يزَل الأمرُ كذلك في إعْزازِ الله لمنْ أحبَّ، ولمنْ شاءَ مِن عِبادِه باتِّباعِ الهُدى، وكانَ يقولُ ابن المُبارك: "ما أعزَّت العِبادُ أنفسَها بمثلِ طَاعَة الله، ولا أهَانت أنفُسَها بمثلِ مَعصِية الله".
يقول: (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ..) أي: بَذلُوا كل وُسعِهم وكل المُؤثِّرات بمُخْتلفِ الأسَاليب مِمّا يُؤثِّر على الإنسان بِما جعَلناه في سُنَّتِنا؛ استَعمَلوا كلّ ذلك..(لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ..) لِتُقرّ أمرًا ما رَضِيناه لتُخالف شَيئا أوحَيناهُ إليك، (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ..) فإنّهم اسْتعْمَلوا غاية الوُسْع، وقال: تُريدُ مالا جَمَعنا لك الأمْوال حتَّى تصِير أكثرُنا مالا، تُريدُ مُلكًا مَلَّكنَاكَ عَلينا ولا نقطَع أمرًا إلا بِك، وعَرضُوا عَليه مَا عَرضُوا، وإلى أنْ قالوا: لا تجي(تأتي) تسْتَلِم الحَجر الأسود عِند صَنَمِنا وما تسْتَلم اصْنَامَنا؟! استلم أصْنامَنا وإلا نَمنَعُك مِن أن تسْتلم هذا الحَجر..
والحَاصِل عَمِلوا ما عَمِلوا وقالوا: أقبلْ منّا بعضَ الشَّيء، نُسلِمُ مَعَك، أغروه بأنْ يُسلمُوا وأن يكونوا معه، واستَعمَلوا كلِّ الوَسَائل، وحاله كما قال ﷺ لعمه أبي طالب: "والله يا عمّ لو وضَعوا الشَّمس في يَمِيني والقمَر في يسَارِي على أنْ أتركَ هذا الأمرَ ما تَركتُه حتّى يُظهِره الله أو أهلكَ دُونَه" قال: اذهب، والله لنْ يصِلوا إليكَ حتّى يُوسَّد عمُّك في التُّرابِ دَفِينًا، حتّى تنفَرِد سَالفتي هذه وأدْفَن في الأرضِ.
هكذا فكان حَالُه كما قال ربنا: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ..) منهم جمَاعة مِن ثَقيف مِنَ الطّائف، قالوا: لابُدّ أن تجْعَل لنا شيء مَخصُوص نتَّبِعك ونتَّبِع دينَك، وقالوا: تترك العُزَّى لنا هذه سَنة، بأن نأخذ الأموال التي تُجريها من دون ما نَعْبُدها، وتعفينا من الرُّكوع والسُّجود في الصَّلاة، ولا نكسِّر أصْنامَنا بأيْدينَا، قال: أمّا الصّلاة فلا خيرَ في دينٍ لا صَلاة فيه، وأما تَكسيرُ أصنامِكم فهُو لكُم، يُكسِّرُها غَيرَكم، وأمّا أبقي لكم العُزَّى فلا، قالوا: خُصَّنا بشيء دونَ العَرب لِنتَّبِعَك وإن قال العَرب لمَ تخصُّهم؟ قلْ أمرَني ربّي بهذا.. أمَرَني ربّي.. هو ضِحكه أولعبَه والّا كُله؟!!
قال: (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)) يقول الله: أصْناف المُشركين اسْتعملوا وسَائلهم وما في وُسْعِهم ليَحْرفوكَ عمّا أوحَينا اليك، وأنتَ المَنظُورُ مِن قِبلنا والمَرعَي بِعَينِ عِنايَتِنا (واصِبِرْ لحُكُمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور:49]، أنتَ المشروحُ صَدرك (ألمْ نَشْرَح لكَ صَدرَك * وَضَعَنَا عَنْكَ وُزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَى ظَهْرَكَ * وَرَفَعَنَا لَكَ ذِكرَك) [الشرح:1-4]، فمُحَاولاتُهم تذْهَب هبَاء، كيف وأتبَاعُك الصّادقون والذين مِنهُم ثُلَّة يكونونَ في كثيرٍ مِن تاريخِ أمَّتِك أو مُضيَّ زمَانِهم حَوالَي بيت المقدِس، قائمٍينَ على الحقِّ لا يُضُرُّهُم مَن نَواهُم ولا يَضُرُّهم مَن خَذلَهُم حتَّى يأتِيَ أمرُ الله، فكيفَ بكَ أنتَ راسُهم؟ منْ يقدِر أنْ يَصُدَّك؟ منْ يقدِر أن يُضِلَّك؟ قال سبحانه وتعالى: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ) [النساء:113]،
يقول: فإنَّنا قد أيَّدناك وأعْطَيناكَ مِن عندنا الثّبات الأعْظَم، عَصمَنا المَلائكة والأنبياء وأنتَ أعظمهم، (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ..) خَصَّصناكَ بثبَاتِنا الأكبر وعِصمتِنا العُظمى (لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ..) لو عُمل هذه الأعْمال لأيّ إنسان لتأثَّر بما يُطرح عَليهم، (لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74))
وحشاكَ مِن ذلك فإنَّنا نغْضَب مِن مِثل هذا وأنتَ محَل رِضَانا ومَحبَّتِنا ومَحْبوبنا مِن البشَر، (إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ..) لأنّ مَن مَشى في مِثل هذا أو قَاربَ وكادَ، إذن لنذيقه ضعف الحياة، إمّا معنى الضِعفَ مِن أسْماءِ العَذاب؛ لأنَّه تتضَاعَف آلامه، وأسماء الألم لأنَّه يتضَاعَف ويتوالى أي: عَذابَ الحياةِ وعَذابَ المَمَاتِ والمعنى؛ (إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ..) أي: ضِعفَ عذابِ الحَياة وضِعفَ عذابِ المَمَات، (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75))؛ لأن الأمر لنا ولا يقدرُ أحدٌ أنْ يَردَّنا عنْه عَن شَيء أردْناه، والكلُّ في قبْضَتنَا وقَهْرِنا؛ ملائكة، وإنس، وجنّ، وأول وآخر وظاهر وباطن، -سبحان ملك الملوك جلَّ جلاله-.
(إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)) لكنك مَحبُوبُنا الأعظم، لا يستطيعوا أن يصلوا إليك، ومهما حاولوا أن يصدوا أو يضروا فأنت المُؤيَّدُ منّا بالعِصمَةِ والتَّأييد والتَّسدِيد، صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصَحبه، ومن سَار في دَرْبه، واجعلنا وإياكم ممَّن سَار في درْبِه صَلى الله عليه وعلى آله وصَحبه وسلم.
يقول -جل جلاله وتعالى في علاه- (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113]،
صَلى الله عليه وعلى آله وصَحبه وسلم، يقول: (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا..) أهلُ مكَّة أرَادوا يُخرِجُوكَ منْ مَكّة، ثم هاجرَ إلى المَديْنَة وأرادَ اليَهودُ أنْ يُخرجوه من المَدينَة، وجاءوا يَغرُون ويَغوُون ويقولون: الشّام أرضُ الأنبياء، وفيها كانَ إبراهيم وفلان.. وأنت إذا كنتَ نبيّ اذهب هنَاك، يريدونه أن يبعد، هذه أرضُ مُهاجره، الأرضُ التِي أعدَّها الله له وشرَّفهَا به، صَلى الله عليه وعلى صحبه وسلم، حتّى قَصَدها بِه جبريل لَيلة الإسْراء، وقال: صلِّ هنا حيثُ المهاجَر بطَيبَة صلِّيت، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
وفكَّروا كيف يقتلوه؟ كيفَ يخرجوه؟ وكذلك كان عندَ قريش، (لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) يقول الحق تبارك وتعالى: "وسُنَّتي في الأنبياء إذا اجْتَرأ أمَّة مِن الأمَمِ على نَبِيِّهم فأخْرَجُوه؛ أنْ أهْلكَهُم مِن بَعدِ ذلكَ فلا أُبقِي فيهم بقيَّة، وأنتَ لمَنزِلتِنا عنْدكَ، رَاعَينا أمَّتكَ وصَرفنا عَنهُم العَذابَ الذي يَعُمَّهم، وأوحَينا إليكَ أنْ هَاجر مِن دوْنِ أن يُخرِجُوك"، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]، وجَاءوا بشُبَّانِهم العَشرة وما قَدروا، وخَرجَ بأمرِ الله تعالى، وإلا لعَمَّهُم العَذاب، ولكنْ خَرجَ بأمْرِ الله، ثمَّ أسْلمَ من أسْلمَ منهم، وآمن مَن آمن منهم رَحمة مِن الله بالأمَّة لمَكانة نبيِّها ﷺ.
قال: (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا) إذا أخْرَجوا أنبياءَهم لا نُبقِيهم بعدَ ذلك، ولكنْ أمَّتَك لا نُسلِّط عَليهم عَذاب، ونُبقِي فِيهم أخْيار، ونُبقي فيهم مُؤمنين ويَبقُون إلى آخرِ الزَّمان؛ ولهَذا ما سَلّطْناهُم عَليكَ، يُخرجُونك مِن مكَّة؛ بلْ خَرجتَ بأمْرِنا، ثُمّ مَا أخْرجُوكَ بِقُوَّتِهم الفِعلِيَّة المُباشِرة وإنْ كانُوا بِأذاهُم وضُرَّهم اضْطَرُّوكَ لكنْ بأمْرِنا خَرجْت، ثمَّ لمْ يَسْتطِع أنْ يُلبِّس عليكَ اليَهُود فِي المَدِينة إخْراجُك منها لتَذهَب إلى الشَّام أو لغَيره، وكل ما عدا ذلك لا يصحّ في سيرته ﷺ أنه عَزم أن يَخرُج إلى الشَّام أوأنَّه تأثّر بشيء من كلام هؤلاء أو هؤلاء، فالكل مَنفي بِنفيِ الله (لولا) التي هي في لغة القرآن -حرف امتناع لوجود- لوجود تثبيتنا لك مُمتنعٌ أن تَركَن إليهم شيئا قليلاً، امتنع عن أن تركن إليهم شيء قليلاً، فما ركنتَ إليهم قليلاً ولا كثيراً من باب أولى.
وهكذا إن يَفتِنُوك عَن الذي أوحَينا إليك، لذلك يقولون: (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)) مَا يُحَوِّلْهَا غَيْرَنَا فَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ وَآذَاهُمَ وَأخَرَجَهُمْ يُنزِلْ عَلَيْهِ الْعَذَابِ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم:13-14]، وهكذا
وقال -سبحانه وتعالى- في قوم سيدنا موسى -عليه السلام- (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الاعراف:136,137].
فالله يثبِّتنا أكْملَ الثَّبات على الصِّدقِ مَعَه والإخْلاص لِوَجْهِه، والعَمَل بِطَاعَتِه، والنُّصْرَة له ولرَسُولِه، حتَّى يَنصُرنا معَ النَّبيّين والصّالحينَ في الدُّنيا ويومَ يقوُمُ الأشْهَاد، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:51,52].
ويَعصِمُنا مِن الغُرور والزُّور والإفتتانِ بشيء مما يَطرَح أعداء الله أو يخوِّفون به عباد الله، (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175].
اللهم تَدارَك الأمَّة بواسِع الرَّحمة، واكشِف الغُمَّة واجلِ الظُّلمَة، وادفعِ النِّقمَة والطُف بالمسلمين في غزَّة خاصة وعَسقَلان واكناف بيتِ المَقدس، وفي جميع أقطار الأرض طُولها وعَرضِها، ثبتهم وقوِّيهم وقوّي إيمَانهم وقوِّي يَقِينَهم وارزُقْهم الإخلاص، وانزعْ عنهم كُلَّ إرادة لغيرِك، وكلّ قصدٍ لسِواك، ومكِّن في القلوبِ إرادة وجهِك الكَريم والاستعدادِ للقَائك العَظيم، ثبّتنا على الاستقامة واتحفنا بالكرامة، وأرنا رايات حبيبك منشورة في مشارق الأرض ومغاربها، يا من أرسلته إلينا بالهدى ودين الحق لتظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اجعلنا من أنصاره واجعلنا من المستضيئين بأنواره ومن مكتفي آثاره في باطن الأمر وإجهاره، كما تحب وترضى ظاهرا وباطنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
وإلى حضرة النبي محمد
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
09 جمادى الأول 1445