تفسير سورة الإسراء، من قوله تعالى: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ .. ) الآية 84 إلى 96

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء: 

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)

مساء الإثنين 26 جمادى الثانية 1445هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مُكرِمنا بالوحي والتنزيل، وبيانه على لسان خير هادٍ ومُعلمٍ ودليل الهادي الى سواء السبيل، عبد الله ورسوله سيدنا محمد المَخصوص منه بأعلى الإكرام والتبجيل والتفضيل، اللهم أدم صلواتِك على من أنزلتَ عليه القرآن سيد الأكوان عبدك المصطفى محمد وعلى آله وأهل بيته المطهرين عن الأدران، وأصحابه الغُر الأعيان وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، صفوة الرحمن من بريِّاته في السرِّ والإعلان، وعلى آله وصحبه وتابعيهم وعلى ملائكتك المقربين وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرحمين.

أما بعد،،

فإنَّنا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا وخطابه -جلَّ جلاله- وتعليمه، كُنّا مَررْنا على قوله -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا (84)).

(كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ..(84)) قل لهم يامحمد -بعد البيان والتبيان وإقامة الحُجة والبرهان- (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ..(84)) ينطلق في هذه الحياة ويمضي فيها على طريقته -شاكلته- على طريقته المُتناسبة، مع طبيعته ومع نيته ووجهته.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ..(84)) أي طريقته المُشاكِلة لنيتهِ ومبدئهِ وقصدهِ وطبيعته.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا (84)) فربُّكم الذي خلقنا وخلقكم، أعلم بمن هو أهدى سبيلًا من أهل هذه الطرق، من أهل هذه المسارات في الحياة، فإن كلًا يعمل على شاكلته وطريقته، ولكن الأمر أكبر من أن يقول؛ هذا أنا على هدى وصحة، أو يقول له آخر مثله من الناس. وإنَّما الشأن أن يكون ما هو فيه من الهدى؛ هدىً من الله، حقّ عند الله، صحيح عند الله، وإلا فأصحاب الأفكار المختلفة في الأرض والاتجاهات المختلفة كلٌ يَدّعي أنَّه صاحب الحق وصاحب الصواب وصاحب المعرفة، حتى فيمن يَدّعُون العلم بمصطلحهم الحديث، هؤلاء يَدّعُون العلم، وهؤلاء يَدّعُون ليه، ونظام هؤلاء يختلف عن نظام هؤلاء، وهؤلاء يقولون نظامنا أصح، وهؤلاء يقولون نظامنا أصح، وأغراضهم كذلك، مع أن العلم إذا كان حقيقةً عِلم، لا يُمكن أن يتناقض ولا يُمكن أن يتخالف؛ لأنَّ العلم: إدراك الشيء على ما هو عليه

 وبذلك نرى أنَّ دعوة الأنبياء من آدم إلى سيد المرسلين وجميع أتباعه من المؤمنين لم تختلف قط في أصولها وثوابتها وأُسُسها، لم تختلف في ثوابتها وأسسها وأصولها من توحيد الله تبارك وتعالى والإيمان باليوم الآخر، ومن مُحرَّمات حَرَّمتها جميع تلك الشرائع، ومن واجبات أوجبتها جميع تلك الشرائع، فهم على أساسٍ لا يمكن أن يختلف، وليس بينهم أدنى تناقضٍ ولا تَخالفٍ في الأُسُس والمبادئ، وإنَّما الاختلاف في وجه الأعمال التي تَخدم المقاصد التي اتحدوا عليها، فَيشرِّع الله لأهل كل زمان ولكل قوم -بُعث إليهم نبي- ما هو أنسب لهم، ثم اختار محمدًا للعالمين وآتاهُ منهجًا هو الأصلح لمن يبقَ من العالمين إلى يوم الدين فجاء بالهُدى من الله؛ ولكن مُدَّعيي العلم ينقض بعضهم بعضًا.

وفي واقعنا البشري الأخير في القرن الماضي والذي نحن فيه -أبرز ما ظهر على السطح- معسكر شرقي ومعسكر غربي ويَدَّعُون العلم ويقولون: إنَّ عندنا الحقيقة والتَقدُّم والتطور وهذا ضد هذا وهذا ضد هذا، وهذا علم وهذا علم؛ هذا أمر مُتناقض مع العقل، لا يمكن أن يكون العلم مُتناقضا، لا بدَّ إمَّا أنَّه كله جهل أو أحده علم والآخر جهل، فمن الذي يشهد بالأحقية والعلم؟ هل ينفعك أنَّه شهد لك مجموعة من الناس الفانيين مثلك والميتين مثلك والذين لا مرجع إليهم!! إن لم يشهد الله الذي خلقك وله حكمك والحكم عليك يوم المحكمة، فما الذي يفيد؟ ومن ذا ينفعك؟ (إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ) [آل عمران:73] ومن أبى هدى الله فليعمل على شاكلته (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [فصلت:40]، قل (اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ* وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ) [هود:121-122]، مآبًا ومرجعًا وعاقبةً ومصيرًا وحُكمًا يحكم فيه رب الأولين والآخِرِين على جميع المكلفين من الأولين والآخرين (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ* فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ* فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة:49-55] 

وهؤلاء الذين ادَّعوا العلمية وادَّعوا الأحقية تناقضوا ما بين مُدة من الزمن وأخرى، يتناقضون وينقضون ما كانوا سموه علم، وما كانوا سموه تقدُّم. قالوا: اكتشفنا الآن، وفي الأول تقولون اكتشفنا والآن، وكل يوم ستكتشفون شيء!! ليس عندكم رسوخ، وليس عندكم أمر ثابت نبني عليه؟!! كل يوم ستكتشفون لنا، ونبدِّل عقولنا وديننا وراءكم!!

 وقالوا: العلم تطوَّر وتقدم، وبعد ذلك؟! نحن نريد علم ثابت، رؤية الشيء على ما هو عليه؛ هذا العلم الثابت الراسخ القوي الصحيح، رأسه: لا إله إلا الله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الله) [محمد:19] هذا العلم ما ينتقل أبدا وهَو هُوَ، راسخ وثابت في الدنيا والبرزخ والقيامة والأبد.

 جميع أهل الجنة في الجنة يعلمون أن رأس العلم لا إله إلا الله، وجميع أهل النار في النار -من أولهم إلى آخرهم أنواع الكفار والأشرار- يوقنون وهم وسط النار أنَّ رأس العلم لا إله إلا الله، هذا هو العلم؛ لا يتغير ولا يتبدل ولا يتزعزع ولا ينتقض ولا يَبطُل، جاءنا بالعلم أنبياء الله -عز وجلَّ- عن الله (لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء:166].

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ..(84)) أي: أنَّ الهدى هدى الله والأمر بيده، وأنا عبدٌ مُكلَّف أتمنى هداية الجميع، ولو أن الأمر بيدي لهديتكم، ولكن (يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) [ابراهيم:4] فما بعد هذا التكبر، وقد وضح الطريق وقام العلم وجاء البرهان وقُوبل بالعناد.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ..(84)) انظروا وسترون أمامكم وسترون الغاية وسترون النهاية، فيارب ثبتنا على الحق والهدى ويا رب اقبضنا على خير ملةِ.

(كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ..(84)) على طريقته المناسبة لطبيعته من ضلالٍ أو هدى.

ثم مررنا على ما بعده من الآيات  (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا (84)) ومن الذي يستحق الفوز؟ ومن الذي ينجو من النار؟ ومن الذي يُدرك النعيم.

(فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا (84)) ولا شك أنَّ الهداة هم من بعثهم الله بالهدى من أنبيائه ورسله، ثم من اتبعهم بإحسان.

مررنا على ما بعده من الآيات لقوله -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ..) يعني فوائد القرآن وحججه ومعارفه وعلومه في قوتها وعظمتها وصفائها كأنها مَثلٌ من الأمثال (..فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) -والعياذ بالله تبارك وتعالى- لما سبق في الحكم في الأزل أنَّ أكثر الناس مآلهم إلى النار بعد بلوغ الرسالة لهم ووضوح السبيل وإقامة الحجة والدليل (..فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا).

ومنهم هؤلاء الذين ناوأوا نبينا ﷺ في وقته وزمنه من كفار قريش (وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ (90)) -ونُقرُّ بأنك رسول الله وخاتم أنبيائه وأنَّ ما جئت به حق- (حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا (90)) تجعل ماءًا نابعًا يتفجَّر لنا في أرضنا هذه، (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ (91)) بستانٌ (مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ (91)) في واد غير ذي زرع، (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)) تجعل الأنهار تمشي بالماء ما بين تلك النخيل والعنب، (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا (92)) أي قِطعًا، (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ (92)) -أعوذ بالله من غضب الله- هذه جراءة على الله، تأتي بالرب -عز وجلَّ- (تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)) مقابلة ومعاينةً نراهم (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ۗ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) [الفرقان:21] 

قال الله سيأتي اليوم الذي أنا سأكشف لهم الحجاب فيرون الملائكة، لكن في ذاك اليوم قد فاتهم كل شيء، (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) [الفرقان:22-23].

وقد جاءنا أنَّ جماعة من كبار زعماء قريش وأعيانهم -منهم أبو جهل ومنهم أبو سفيان ومنهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومنهم عبد الله بن أمية ومنهم جماعة- اجتمعوا بعد المغرب عند الكعبة، وقالوا تعالوا نحن نُعذَر إلى محمد هذا؛ إمَّا أن يسكت أو يكف أو نتخذ معه قرار، وأرسلوا إليه إنَّ أشراف قومك يدعونك، فَرَجا ﷺ أن يكون بادت لهم بادية من الهدى وكان حريص على هدايتهم فجاء إليهم، وقالوا يا محمد إنَّك جئتنا بأمر فَرَّقت فيه بيننا، سَبَبتَ آلهتنا وشتمت عقولنا والآن إن كنت تريد مُلك ملكناك علينا وكف عن هذا الكلام وجعلناك ملكنا، ولا نقطع إلا برأيك، وإن كنت تريد مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وكُف عن هذا الكلام، وإن كان الذي يأتيك رَئِيُّك من الجن، بذلنا أموالنا نستطِب لك -نعالجك- حتى تتعافى من هذا أو نُعذر.

قال ما بي شيء مما تقولون لكن الله أرسلني إليكم، هاديًا وبشيرًا، أدعوكم إلى توحيده والإيمان به، والعمل بما أحبَ منكم وترك ما حرم عليكم استعدادًا للقائه، فإن تجيبوا فلكم العز والشرف، وإن تأبوا فهو حسبي، ولا أترك هذا الأمر حتى يحكم الله بيني وبينكم.

قالوا إن أبيْتَ هذا، فالجبال هذه عندنا، ضيَّقتْ علينا. قل لربك يُبعد الجبال هذه و يوسع لنا، قال ما أنا بسائلٍ ربي مثل ذلك، هو الذي خلق الوجود لحكمة ورتب الأمر، وما بُعِثتُ لكم بهذا، إنَّما بُعِثتُ لكم بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله، أهديكم إلى توحيده وطاعته، فإن قبلتم وإلا لن أترك ذلك حتى يحكم الله بيني وبينكم.

قالوا إن أبيْتَ فقل لربك يجعل لك ينبوع من الماء، ما ينضب ومعين ونكتفي تعب طلب الماء وما إلى ذلك، قال ما أنا بسائل من ذلك

قالوا فإن أبيْت! فلتدعُ ربك يغنيك هذا، فإننا نراك تكسب مثلنا المال وتطلب الكسب، فيغنيك عن هذا ويجعل لك بساتين تمشي معك وفيها أنهار تجري، و (يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ (93)) من ذهب -يبني لك بيت من ذهب-

 تَعَجَّب في أسئلتهم وعلى عنتْهم، وقال ما أنا بسائل مثل ذلك من ربي وأنا عبده، يُقلِّبُني كما يشاء؛ وما بهذا بُعثتُ إليكم ولكني بُعثت إليكم بشيرًا ونذيرًا، أدلكم عليه وأدعوكم إليه، وحتى تجرأوا وقالوا اصعد في السماء وأحضر لنا كتاب -يصبح عند كل واحد منا كتاب- يقرأه من عند الرب؛ أنك أنت رسول، هل حصل شيء مثل هذا؟!!

وهكذا من قامت عليه الحجة يأتي بالخيالات والطلبات التي ما لها قوام ولا لها أساس، وقال له واحد منهم؛ أحضر لنا كتاب مُوَقَّع عليه من الملائكة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل.

(وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ(93)) قال آخرون يصبح عند رأس كل واحد منا كتاب، حتى تجرأوا أكثر؟ قالوا تُحضِر ربك هذا، هذا-أستغفر الله العظيم-  والملائكة قبيلًا: أي أمامنا عيان نراهم

 وجاوزوا حدهم، فالحق أكبر من أن يُرى لأحد في الدنيا في الأرض أو في السماء، والحق أَجَل -جلَّ جلاله- وجاوزوا حدودهم في معرفتهم لقدر أنفسهم، وجاءوا بهذه الطلبات.

(وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا (92)) في قراءة كِسَفًا، مفرد أو جمع.

(أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ (93)) تصعد أمامنا نراك وترجع.

(وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ(93)) قال الله:(قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي (93)) هل تُطلب هذه الطلبات من مَخلوق مِثلُكم؟! أنا عَبده ورسوله، أيُتَجَرأُ على الحق -سبحانه وتعالى- بمثل ذلك؟!، وهو الذي جَلَّ عن أن تَراهُ العُيون أو تُحيطَ به الظنون، (لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [لأنعام:103].

(سُبْحَانَ رَبِّي.. (93)) تعالى أَجلّ وأكبر من أن يُقتَرح عليه، هاتِ لنا كذا، أفعل لنا كذا، قد بَعث كُلَ رَسول بما يَكفي دليل على صِدقه وعلى ما جاء به عن الله تعالى، وكان مُعجزةً لأُمَته، وقد جاءهم بِمعجزات كثيرة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، (سُبْحَانَ رَبِّي(93)) يُقتَرح عليه افعل كذا وتفعل كذا وافعل كذا!!.

(هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا (93)) وقد مَضى قَبلي رُسل، لا أحد منهم يُنزلُ الله عليه مثل هذا ويعمل له مثل هذا، كل الرسل من قبلي (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) [الرعد:38] وهكذا كما هو حاصل في الأمَم السابقة يقترحون على أنبيائهم أشياء هات لنا كذا وهات لنا كذا واعمل لنا كذا، وكلُ نبي قد جاءهم بمُعجِزة تَكفيهم.

(قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا (93)) أبرَزَني الله في قالب الآدمية والبشرية، مُرسلٌ من عِنده، كما أرسلَ الرُّسل من قَبلي فَخَتَمهم بي، ولم يَزل كثير من عَقليات الناس، يقولون على الأنبياء والرسل؛ هؤلاء بشر لماذا لايأتون الملائكة؟!.

يقول الله: هذه حِكمَتي، خَلقتُ مُكَلَّفين بشر على ظَهر الأرض، فأُرسلُ إليهم بشر، ولو جَعلت في الأرض مَلائِكة مُطمئنين مُستَقرين يَجلِسون فيها لكان الرسول الذي أُرسله إليهم هو مَلَك، ومن حِكمَتي ما جَعلت التفاهم بين المَلَك والبَشر إلا في مُختَصين، أَختَصُهم من بين البَشر، لهم من الصفاء والنقاء والقوة ما يتناسبون مع الملائكة، وما جَعلتُ طبيعة البشرِ بكل ما فيها مُتناسبة مع الملائكة، وليكونوا لهم قُدوة ورسلًا من عندي

 وكلُ المُرسَلين من آدم ومَن بَعدُه بَشَر، وهم ناس جاءوا إلى قومهم، ولايوجد أُمة من الأُمم جاءها رسول مَلَك، جاءهم رسول نبي مَلَك، ما أرسل الله إلا البشر إلى البشر، فيجيؤون يقولون لماذا بشر!! وينظرون إلى بَشَرِية الرُسل، ويُغمضون أعيُنهم عن خَصائِصهم ومَزاياهم وفَضائِلهم، (مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا) [الشعراء:154] (مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) [المؤمنون:24] (... أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) [المؤمنون:47].

(قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ*قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ* وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [ابراهيم:10-12] 

حتى في الأخير يذهبون يُقاتِلون أويُهَدِدّون. هذا عمل الكُفار الذين لا حُجة لهم ولا دَليل معهم ولا بُرهان ولا عِلم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [ابراهيم:13-15].

(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ.. (94)) الواضح البَيّن (إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا (94)) أنتم مثل الكفار الذين قبلكم تقولون (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا (94))، وهل من أيام آدم إلى أيام نبينا محمد، بُعِث رسول إلا بشر؟!! ما الذي تَستَغرِبون فيه؟ يقول الله: بل هذه حِكمَتي البَديعة (قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا (95))

(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا (94)) وقَوم آخرون تَفلسَفوا وقالوا لماذا؟ لم يجد إلا محمد ؟ لماذا لم يُبعث واحد من القَرْيَتَيْن؟ (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31] قال الله، عجيب! وحتى رِسالتي ونُبُوتي تحت أمركم وتتحكمون فيها على حسب أهوائكم؟! (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ) [الزخرف:32] أنا قسمتها وجعلت هذا غني وهذا فقير، وما تستطيعون أن تَرُدون قِسمَتي وفَضلي ورَحمتي ونُبُوتي، هل أجعلها تحت واحد منكم ؟!!(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ) [الحج:75].

قال: (قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ (96)) لا أَرجِع إلى ذوي أَهواء، ولا إلى أهل سُلطات، ولا إلى قَبائل وأعرافَها،والشهيد بيني وبينكم الخالقُ الذي خَلَقنا وإليه مَرجِعُنا.

(قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(96)) بِنِياتِهم ومَقاصِدهم وشُؤونهم ومبادِئهم وأحوالِهم وهِمَمِهم وأغراضِهم وما يُظهِرون وما يُبطِنون.

(بَصِيرًا (96)) بِنِياتهم وأعمالِهم وأقوالِهم.

(إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)) فَيُعامِلُهم بِفَضله وعَدله؛

  •  بفَضله لِمَن: آمن واتقى
  • وبعدله لِمَن: كَذب وكَفَر وعَصى.

يقول -جلَّ جلاله-: (قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(96) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ …(97)) اللهم اهدنا فيمن هَدَيت، يا أكرم الأكرمين وانشر الهِداية في البَرية، واجعلنا أسبابًا لنشرِ هِدايتك يامُوَفق، يا آخذ بأيدي الصالحين، يا آخذ بأيدي العارفين، ياآخذ بأيدي المُوَفَقين، خُذ بأيدينا إليك أخذَ أهل الفضل والكرم عليك، واجعلنا من خواص أهل القرآن عندك، يامجيب الدعاء يا من لا يُخيب الرجاء؛ اسلك بنا سبيل النَّجا، وتولّنا بما توليت به محبوبيك، يا من إليه اللجاء، وعاملنا بفضلك واجعل لنا من كل همٍ فَرَجًا ومن كُل ضيقٍ مَخرَجًا، واردد كيد المعاندين من الكفار والمُجرمين والمُعتدين والغاصبين والظالمين، وخَلِّص من ظُلمِهم وعدوانهم أهل غزة وأهل الضفة الغربية وأكناف بيت المقدس وبقية أقطار الإسلام والأرض.

اللهم ادفع شرهم عنا وعن أهل لا إلٰه إلا الله، وحَوّل الأحوال إلى أحسنها يا الله، وارزق اخواننا المسلمين في كلِ مكان في كل ما يَقومونَ به ويُجاهِدون ويُحاوِلون إخلاص القصدِ لوجهك، حتى لا يكون لهم غَرض إلا أن تكون كلمتك هي العُليا، اللهم مَكِنهم في هذا القَصد وإخلاصِه لوجهك، واجعلنا ممن ترتضيهم للوفاء بعهدك الذي عاهدتنا عليه، وثبتنا على الحق في ما نقول وما نفعل وما نعتقد، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد ﷺ 

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

29 جمادى الآخر 1445

تاريخ النشر الميلادي

10 يناير 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام