تفسير سورة الإسراء، من قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ..)، الآية: 13

تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء: 

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}

مساء الإثنين: 6 محرم 1445هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مكرمنا بالوحي والتنزيل وبيانه على لسان أكرم معلم وخير دليل عبده ونبيه الهادي إلى أقوم سبيل صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان في النية والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتبجيل والمقام العزيز الجليل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

وبعده،، 

فإن في تأملنا لكلام ربنا وتعاليمه وتوجهاته وصلنا في سورة الإسراء إلى قوله جل جلاله وتعالى في علاه: ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)) يخبر خالق الإنسان عن أن هذا الإنسان قد طوِّقَ عنقه بطائره وياتي الطائر بمعان ترجع إلى ما يناله من خير أو شر، وما يصدر منه من صالح والسيء، حسناته وسيئاته، وما ينازله من نفع وضر وخير وشر وفساد وصلاح وهدى وضلال؛ مطوقةٌ بها الأعناق من قبل الخلاق. 

( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ .. (13))، وذلك أن العرب كانوا يتطيرون كثيراً وينظرون في شؤونهم وأحوالهم إلى الطير، هل يذهب يمنةً أو يسرةً ؟  ويظنون أن لذلك تاثير وقد كان ﷺ في منهجه الكريم يحبُّ الفألَ ويكرَهُ التشاؤم والتطير، ويقول: "وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ". ويقول الحق جل جلاله: ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ )، والعنقُ عضوٌ مخصوصٌ في ابن آدم يُوضع فيه القلادة؛ لأجل التكريم والتحسين والتزيين، ويُوضع فيه الغل؛ لأجل الإهانة والتعذيب، فكلهم متعلقٌ بهذا العنق. 

( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ .. (13))، ويُخبر الحق جل جلاله أنه بما خلقنا عليه من أسماعٍ وأبصار وآتانا من قدراتٍ وإراداتٍ يترتبُّ عليها اختيارنا لفعل الخير أو فعل الشر والقول الحسن أو القول السيِّئ، وما آتانا من تفريقٍ بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والصحيح والفاسد، والخير والشر؛ أنه بهذا قد جعل الحجة لازمةً على كلٍّ منا وأن كلٍّ منا إنما يُجاز بما عمل وطائره في عنقه لا يضره غيره ولا سواه، إنما يتركز الأمر على ما يختاره هو، وعلى ما يمضي فيه هو، كما يقول لنا في الآية بعدها: ( مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا )، فهذا الإنسان بهذا التركيب وبهذا التكوين الرباني إنما طائره في عنقه، لا يتعلق بطيور ولا بغيرها ولا بشيءٍ من هذه الكائنات والمخلوقات، ولهذا جاء في الحديث:  " رب إن الخيرَ خيرُكَ ، والطيرَ طيرُكَ "؛ يعني الأمر أمرك. كما يُطلق الطائر على العمل الذي يطير من الإنسان، وكما يُطلق على ما ياتي له من جزاء ذلك العمل فكأن عمله طائر يطير منه فيطير إليه أيضا.

بكل هذه المعاني يقول الله: ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ .. (13))، فلا مجال إلى التطير بشيء، قال بعض الكفار للمرسلين: ( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ) أي تشاءمنا بوجودكم ( للَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ) [يس:18-19]، أنتم إن قبلتم أمر الله ووحيا فزتم وسعدتم، وإن توليتم خبتم وخسرتم،( أَئِن ذُكِّرْتُم )؟ ما هذا التشاؤم؟  وما هذا التطير من تذكير بآيات الله تعالى؟ ( أأَئِن ذُكِّرْتُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ) [يس:19]، وقال تعالى في قوم فرعون، يقول جل جلاله -وتعالى في علاه-: ( فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ ) [الأعراف:131]، هو الذي يقضي ويحكم بما يشاء ورتب الخير على الحسنات، ورتب الشر على السيئات، العاقبة الطيبة على التقوى والعمل الصالح، وسوء العاقبة على الكفر والعمل الخبيث؛ هو الذي رتب ذلك جل جلاله وتعالى في علاه. 

( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ ) بعظمتنا وألوهيتنا وربوبيتنا، ( طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )، ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [المطففين:6]، ( كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13)) ممدودا وذلك أن الإنسان في عالم الدنيا من حين تكليفه إلى حين أن يموت يملي في الكتاب ما يملي، فليقلل أو ليكثر وليحسن أو يسييء، فيملي ما يملي من أعماله ونياته وأحواله وأقواله وأفعاله ونظراته، (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ) [القمر:53]، (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر:52]، فيكتب عليه وثم يطوى عند موته فتطوى صحيفته إلى أن تأتي القيامة فتنشر وترى، يرد إليه عمله؛ هذا ما عملت، هذا ما كسبت، هذا ما رضيت لنفسك، هذا ما اخترت لنفسك، هذا ما ارتضيته لك. 

يقول سبحانه وتعالى: ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ )، والحق تعالى لجميع المكلفين ينزع عنهم الجهل بالقراءة والكتابة ويركب فيهم معرفة القراءة والكتابة؛ فالكل يعرف ذلك. جعل الطريق في الدنيا إلى معرفة القراءة والكتابة: تعلم، يتعلمه الإنسان هذا من هذا وهذا من هذا، ولكنه في الآخرة يعلم الكل القراءة؛ فالكل يقرأ لا يوجد أحد فيهم أمي، فالكل يقرأ ما سطر في الصحف ولا أحد منهم -من أي لغة كان ومن أي جنس كان- يتعكى عليه حرف من الأحرف التي سطرت عليه وسجلت عليه، الكل يقرأ والكل يعرف ما في الكتاب. 

( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) )، من هذه الصحف أيضا وتوضع وتعلق بعنق الإنسان بعد أن يستلمها بيمينه إن كان من أهل السعادة والجنة أو بشماله من وراء ظهره إن كان من أهل الشقاء ومن أهل النار، وفي عجبٍ من المحاسبة الربانية للخلق المكلفين ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) [الأنبياء:47]، قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) [الكهف:49]، ما مقدار ما يُحدث الله على أيدي المخلوقين من الجن والإنس من حسابات ومحاسبات وتدقيقات وآلات تصوير -تصور بما يقال الكاميرات- إلى غير ذلك من التتبعات؟ ما مقدار هذا؟ ماذا يساوي هذا ؟ الويل لمن وضع الله عليه عدله يوم القيامة ومن نُوقش الحساب عُذب؛ الأمر أكبر (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، وهو أعلم بما تفعلون. 

ومع ذلك يقرر كل واحد بعمله ويرى عمله الذي عمله ولا يقدر أن ينكره، ومن تطاول لما بقي في طبعه الذي انحرف في الدنيا مما كان يمشي كذبات على ذا وعلى ذاك، وساعة يتحايل ويكذب على جماعة، وساعة على فرد ، وساعة على أسره ، وساعة على وزارة ، وساعة على حكومة ، وساعة على شرطة، وساعة على كذا، ويمشي بالكذب ذا وذا، يخبط ذا بذا، يظن أنه بيمشي شيء من هذا في القيامة، فإذا أنكر ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )  [يس:65]، بما كانوا يعملون حتى قال تعالى: ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ) -لماذا فضحتمونا؟- ( قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ )  [فصلت:21]، فيصير شاهد على الإنسان من نفسه والملائكة يشهدون، والحفظة والزمن الذي عمل فيه الأعمال يشهد، والبقعة التي عمل فيها الشر تشهد عليه، يومئذ تحدث الأرض هذا:  ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ) [الزلزله:1]، ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) [الزلزله:4]، تُنبئ عما كان وتُخبر عما عمل عليها من خير أو شر، ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) [الأنعام:149]،  أقام هذا الحساب كله هو الأعلم بعباده ، ولمن أراد أن يعذبه فله ذلك ولكن بحكمته ورحمته لا يعذب إلا المسئين إلا المذنبين إلا من بلغته الرسالة وخالف جل جلاله ويقيم عليهم الحجج، ويقيم عليهم البراهين والأدلة؛ وهو الغني عن كل ذلك سبحانه وتعالى وهو أعلم بهم من أنفسهم.

يقول جل جلاله:  ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) -جل جلاله- ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [المجادلة:6-7].  

يقول تعالى: ( اقْرَأْ كِتَابَكَ .. (14))، يقال له: (اقْرَأْ كِتَابَكَ)، يقال من قبل الله على لسان الملائكة (اقْرَأْ كِتَابَكَ)، يقرر على فعله واكتساب بنفسه (اقْرَأ)، ماذا صنعت؟ ماذا عملت؟ انظر تنكر شيء من هذا، ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14))، بنفسك، أنت تحكم على نفسك، ما أعظم عدل الله تبارك وتعالى! وما أعظم تنزوله لعباده إلى هذه الدرجات، ويجعل الحجج قائما ا( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)). كان يقول بعض المذكرين من العارفين اذا قال تعالى (اقْرَأْ كِتَابَكَ):

  • اقرأ الفضائح التي عملت،
  • (اقْرَأ)، اقرأ المخازي التي صنعت، 
  • (اقْرَأ)، اقرأ ما كنت تستر على أعين الناس، 
  • (اقْرَأ)، اقرأ ما كنت تَتَجِر به على رب السماوات والأرض غير مبالغ، 
  • (اقْرَأ)، شوف ماذا صنعت؟ 

(اقْرَأْ كِتَابَكَ)، ومع ذلك يصورون عن أعمالهم وما مقدار هذا التصوير في الدنيا، ويأتي على الحقيقة صورة وقت فعله المعصية وهو يفعل، وانظر من هذا؟  ماذا يعمل؟  في أي مكان؟  الله الله، يشوف بنفسه بنفسه، لا إله الا الله، ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) [الأنعام:149]، استرنا بسترك الجميل يا رب وادخلنا جنتك بغير حساب. 

( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14))، فالخلاصة يقول رب السماوات والأرض: (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ .. (15)) فالخير يعود عليه، ويفوز من كنوز رحمتي، وخزائن منتي بعظيم من النعيم المقيم، وما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا  خطر على قلبِ بشر، (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ .. (15)) موثراً للشهوات المحرمة، موثراً للفانيات، موثراً لاتباع الهوى، مقدماً له على أمر الله؛ فإنما يضل عليها، هو الذي يعرضها للخزيّ ويعرضها للندامة ويعرضها للحسرة، ويعرضها للفضيحة ويعرضها للعقاب ويعرضها للعذاب؛ بما جنى على نفسه وبما اكتسب. 

(مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا .. (15)) وخلك من الزمجرة الباطلة على ظهر الأرض، لا والله ما يصلح ويسعد ويربح إلا من اهتدى، و (إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ) [آل عمران:73]، من اهتدى بهدى ربه -جلَّ جلاله- وعرف الأوامر والنواهي، وأنَّ الحقَّ في أمره ونهيه لله قبل كل أحد، وأنَّ الرسل مبلِّغون لأوامر الله ونواهيه عن الله جل جلاله؛ فطاعتهم واجبة والاهتداء بهديهم واجب، وأنَّ في أوامر الله أن ننظر من أناب إليه ونتبع سبيله، وأن ننظر الصادقين ونكون معهم، وأن نقتدي بالأخيار أمثال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، قال ربي: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة:100]. 

(مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ .. (15))، لا برامج شرق ولا غرب تنقذ الناس من الشقاء وتكتب لهم السعادة في الدنيا فضلًا عن الآخرة، إلا منهج الله الذي خلقهم، ( ..فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) [طه:123-124]، وسط هذا المنهاج في حكمة واسعة من قِبَل الله الخلَّاق، أن نتعامل مع الأصناف ولو الذين كفروا به ولم يؤمنوا، بما لا يتخالف مع أصول دينه وشريعته في شؤون مصالح الدنيا الحقيرة المنتهية بما أباح الله تبارك وتعالى؛ فكانت السعة في الشريعة لا نظير لها ولا مثيل لها: 

  • أمَّا أرباب الإباحية وأرباب الإنحلال فهم الساقطون الهابطون، مع ذلك فهم محصورون في انحلالهم وإباحيتهم وفسقهم وسقوطهم، لو طُلِبُوا أن يرتفعوا عنه ما ارتفعوا وادعوا الحرية، 
  • أما المؤمنون الصادقون المخلصون فهم الذين بميزان الله يقبلون كل ما يتصل بمصالح العباد الظاهرة والباطنة بميزان الحق تبارك وتعالى، فلا أوسع منهم صدورًا ولا أعمق منهم فكرًا ولا أطول وأبعد منهم نظرًا؛ لأنهم اتصلوا بمنهاج العليم بكل شيء -سبحانه وتعالى-، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14] -سبحانه وتعالى-. 

فأوسع الناس صدورًا ومعرفةً في الدنيا؛ الأتقياء الذين عَقَلُوا عن الله أوامره ونواهيه وأحسنوا تنفيذها في ظهر هذه الحياة، والحقيقة التي لا مفرَّ منها (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) اللهم اهدنا بهداك، (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا .. (15)) فمن سبقت عليه سابقة الشقاء يذهب باختياراته الموهوبة له من الله، والإرادات الموهوبة له من الله، والقدرات الموهوبة له من الله، إلى كسب الذنوب والسيئات والمخالفات والخروج عن أمر الله؛ فينال بذلك عذابًا أليمًا مهينًا عظيماً شديدًا لا طاقة له به. 

( ..وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا .. ) ماذا وراء الذين يحبون المنكرات ونشرها ويحبون فعلها؟ وما عواقبهم؟ بل ما يجنون من ذلك مَُنَجَّزًا في عالم الدنيا؟ لا والله! لا نال حقيقة الراحة أهل المخدرات، ولا أهل الأغاني الماجنات، ولا أهل المصارعات، ولا أهل الرقص بالكلام الخبيث، لا أحد منهم نال في الدنيا قبل الآخرة حقيقة لذة وطمانينة، ولكن وجد حقائق من اللذة والطمانينة قلوبٌ بالله اتصلت وبشرعه عملت وبرسله آمنت وصدَّقت، (فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) [طه:123]، (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) [طه:112]، ( ..فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً.. ) [النحل:97]، صدق الخلَّاق هم الذين ينالون هذا (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]، فإن انتزع إبليس بأعوان من شياطين الإنس الذين أمامك، انتزع منك سر الصلة بالله والأدب مع الله، ثم أراد أن يجلب لك الراحة بمشروبات، أو مطعومات أو ملبوسات أو رقصات أو مسكرات أو مخدرات أو فواحش؛ فقد كذب عليك وأوقعك في السوء الذي يجلب لك الأمراض والأسقام والهموم في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة والسلام، لا شيء غير هذه الحقيقة، (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116]. 

وإذا انكشفت الستارة وما أقرب انكشافها، قل لمن في زمننا من أنواع طوائف الكفار والفساق، أصحابكم الذين ماتوا وأنتم في هذه الدنيا من أصحابكم الذين عرفتموهم، قد انكشفت عنهم الستارة وهم بعدما عانوا مثل ما عانيتم في الدنيا، قد أدركوا الحقيقة ولن ينفعهم شيء، وإذا اجتمعتم معًا (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:166-167]، ماذا عند فرق الفسق على ظهر الأرض؟، أعندهم المنهج الذي ينقذون به العالم؟، أو ينقذون به الناس؟، وأصناف الكفر الآخرين، وكم تبجحوا وكم قالوا، وإلى أين وصلوا بأنفسهم وبالناس!!، إلى أين وصلوا بأنفسهم وبالناس بكل من أطاعهم، وإن كانت هناك قلوب مطمئنة وأنفس هادئة راضية على ظهر الدنيا فهم من أتباع محمد ﷺ، لا تجد غيرهم بهذه المثابة في الطمأنينة وفي الرضا بما يُعجّل من النعيم في الدنيا قبل الآخرة؟. 

يقول جلَّ جلَّاله: (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ .. (15))، ما تحمل وازرة حمل وزر وإثم أخرى، لا يُعذَّب إنسان بعمل غيره، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة:105]، كان بعضهم يتكلم على بعض الولاة الذين كانوا يظلمون، قال له: اسمع يا أخي أصغر ذنب من ذنوبك أثقل عليك في القيامة من أكبر ذنب للحجاج، أكبر ذنب للحجاج لن يضرك في القيامة، المشكلة أصغر ذنب من ذنوبك أنت، هذا الذي سيتعبك فماذا عليك من الحجاج الذي يفعله، ذهب وسيحاسبه الجبار، أنت انتبه لنفسك من الذنوب؛ لأن أصغر ذنب من ذنوبك أثقل عليك يوم القيامة من أكبر ذنوب الحجاج، أكبر ذنوبه لن يضرك، أنت اذنوبك هي التي ستضرك، (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) [فصلت:46]، فَنَغْنَم أعمارنا، يريدوننا نعيش كيف؟ يريدون نعيش لهم أو للأهواء أو للشهوات! ينزعون منا سر الصلة بالخلاق القوي الدائم، العظيم الكبير القادر، الذي أنفسنا تُذَكِّرُنَا به، والهواء يُذَكِّرُنَا به، والأشجار تُذَكِّرُنَا به، والشمس  تُذَكِّرُنَا به، والقمر يُذَكِّرُنَا به، (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن:5-16]. 

نذهب إلى ناس لا خلقوا ولا كونوا ولا فطروا ولا رزقوا، ونقول: ماذا تقولون؟ ماذا تريدون؟ نحن نعمل في الدنيا كيف نفكر، خلوا الرب هذا والأنبياء والرسل! بسم الله الرحمن الرحيم!! ما هذا؟! ما هذا؟!  نتخذ إله غير الإله الذي خلق؟  نتخذ واحد تافه في فكره تافه في عقله، تافه في عقله فاشل؟! ويُقال له: هذا مفكر فيلسوف، وعنده تخطيط وخطة وفكرة، نقدم إليك مشروع؟ بسم الله الرحمن الرحيم!؟ من هو هذا؟ هو لا ينام إلا بحبة دواء، لا يأتيه  النوم، هل هذا قدوتي؟! مسكين غارق في الخمر، عنده مخدرات كيف هذا؟!  بسم الله الرحمن الرحيم!؟ ماذا تريد مني؟ أمشي إلى أين؟ إلى الهاوية؟ أهوي مع الهاوية؟ هذا عرضهم ليس لديهم غير هذا!! لكن الله أرسل لنا الرسل وأنزل الكتب، لبيك اللهم لبيك، ونعم التلبية لأمر الرب، ( ..وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)) فضلًا من الله، قال الله: من لم تبلغه دعوتي من المُكَلَّفين فأنا لا أعذبه حتى أُرسِل إليه الرسول، وبذلك صار الكلام عن أهل الفترة مِمَّن لم تَبلُغهُم رسالة الرسول وهم على درجات: 

  1. فأمَّا فريقٌ منهم أوغلوا في المحرمات وقلوبهم تدلهم على أنها سوء بآثار أديان قبلهم، 
  2. ومنهم من بالغ في عبادة غير الله أو أوصل الأصنام ودعا إلى عبادتها؛ فأمثال هؤلاء غير معذورين بفعلهم ذلك. وقَد رأى رسول الله ﷺ عَمرو بنُ لُحَي يَجُر قُصُبَهُ في النَّار وهو الذي دَعا إلى عِبادة الأصنام، 
  3. وأما من لا يُعلَمُ مِن دينٍ سابقٍ تَحريمَ ومَضى فيه ذلك في الجاهلية فالأمرُ أقرب إلى  أن لا يُعَذب على ذلك، 
  4. وأما من كانَ في أيام الجاهليةَ وهو مع ذلك مُوَحِد وهو مَع ذلك غَيرُ مُشركٍ بالله فلا شَكَ مِن قَريبٍ ولا مِن بَعيد؛ أنهم مِنَ الناجين وأن الله تعالى لا يُعَذِبهم .

يقول -جل جلاله- : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15))؛ فَيأتي بَعد ذلك: أن أطفالَ المُسلمين مع ٱبائهم في الجَّنة فَكَيف بأطفال المُشرِكين والكُفار الذين ماتوا أطفالا، كالحال كذلك في أرباب الفَترَةِ هؤلاء وفي مَن لَم يَكُن عاقلا، المواخذةُ في الآية بِوُجودِ التَكليف وإرسال الرُسُل؛ بُلوغ الدَّعوةِ لِهذا الإنسان إذا وَصَلَت إليه دَعوَةُ الله -تبارك وتعالى- وجاءَهُ أَمرُ الله ثم أعرض وتَولى وأَدبر فلا شَك هذا الذي يُعَذَب، وجاءتنا أحاديث تَدُل على أن كثيراً مِن أرباب الفَتَرات ومَن لَم تَبلُغهم الدَّعوة وإلى غَير ذلك يُختَبَرون في القِيامة، وأنَ الحَّق -تَبارك وتعالى- "إذا قالوا: يا رب ما جاءنا من رَسُول، وإلا لأٓمَنا وصَدَّقنا. يقول: تُطيعونني إذا أَمَرتُكم؟ يقولون: أي يا رب، نَعم نُطيعُك. فَتُخرَج لهم أعناق من النار، ويقال ألقوا أنفُسكُم في النَّار: 

  • فَمَن سابق و رَمى نَفسه فيها كانت له بَرداً وسَلاماً وخَيراً ونُقِلَ إلى الجَنة، 
  • ومَن أَبى  يقول الله، كَذَبتُم، إياي عصيتم ! كيف لو جاءكم رُسُلي؟! -لو أرسَلت الرُسل لَكم بالواسطة ماذا سَتَفعلون؟- فَيُدخِلهُم في النَّار.  

وجاء في بعض الروايات، أنه يَأمُرهم ثاني مرة، ويَتهيَبونها ويَرجِعون، وثالث مرة ويَتَهَيَبون، فيقول إياي عصيتم ؟! كَيف لو أرسَلت لَكُم رُسُلي؟!  فَيَأمُرها أن تَأخُذَهُم فَتَأخُذهم، وفي بَعض الأحاديث: "اللهُ أعلمُ بما كانوا عامِلينَ" -لا إله إلا الله-. فالحَمد لله على نِعمة الإسلام ونسأل الله أن يثبتنا وتوفانا مسلمين 

رَبِّ احْيِنَا شَاكِرِينْ *** وَتَوَفَّنَــــــا مُسْلِمِينْ 

نُبْعَثْ مِنَ الآمِنِينْ *** فِي زُمْرَةِ السَّابِقِينْ

( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16))، قال هذة قِصة خَراب البُلدان بَل خراب الأُمَم، يقول ﷺ: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبَغْضَاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشِّعر، ولكن تحلق الدِّين"؛ داء الأُمَم قَبلكم.

(إِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا .. (16))، 

  • (أَمَرْنَا): إما بِمَعنى؛ أمَرناهم بِإنزال الكُتُب وإرسال الرُسل إليهم أن يطيعوا وأن يَمتَثِلوا. 
  • (فَفَسَقُوا): خَرَجوا عَن أمرِنا.

  وإما (أَمَرْنَا) بمعنى :كَثَرنا، كَثَرنا المُترَفين، جَعلنا فيها مُترَفين كَثير، وجاء في قراءة (أمَّرْنا)؛ جَعلنا الأُمَراء أهل تَرف وتَشَبُث بالفانِيات والحَقيرات والزَهو بالنَفس وكَثرة المال.

(وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا .. (16)) إما كَثَرنا فيها المُترَفين أو أنزلنا الأمر فإذا بِهم يَفسُقون (فَفَسَقُوا فِيهَا). تَقول أَمَرتُه فعصى، يعني ما أمتثل أمري. (فَفَسَقُوا فِيهَا) نَشَروا الفُسوقَ والفُجورَ من أنواع المُنكَرات والمُحَرمات من الفَواحش ومن الكَلام الماجِن ومن المُسكرات والمُخدِرات. (فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16))، قال الله وانظروها سُنة من سُنَني كم أهلكنا من القرون من بَعد نوح انظروا ابحثوا، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17))، اللهم عاملنا بفضلك وبما أنت أهله واغفر لنا ما كان منا يا خير الغافرين (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) [النحل:61]، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) [الروم:41]، (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:21]، والله يرزقنا التذكر والإنابه إليه والخشيه منه والتوفيق لمرضاته.

(مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16))،  فالفسوق أساس تَدمير القُرى والمُدن والأمم والخُروج عن طاعة الله تبارك وتعالى والتجاهر بمعصيته، يقول سبحانه وتعالى: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]، وهكذا يذكر لنا الحق سبحانه وتعالى في أحوال العباد وما يَحصُل لهم في مُقابلة أمر الله تبارك وتعالى وكيفية القيام به أو المخالفة له -جل جلاله وتعالى في علاه-، فيقول سبحانه وتعالى: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]، فَتَدَمروا ودُمر شأنهم كما قال في قوم سيدنا هود عليه السلام، يقول: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقة:7-8]، لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي القادر القهار الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه مرجع كل شيء سبحانه وتعالى، (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:21]. 

اللهم أجرنا من عذابك، اللهم اجرنا من عذابك  بقدرتك يا أقدر القادرين وقوتك يا قوي يا متين يا من بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، لا إله إلا أنت، آمنا بك وبما جاء عنك على رسولك، فارزقنا الاستقامة وأتحفنا بأنواع الكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.

لا إله إلا أنت صَدَقت وصَدَقَ رُسلك وما جاء به عنك، فثبتنا اللهم على الاستقامة على منهاجهم، وأدخلنا في دوائرهم، واحشرنا يوم القيامة معهم إنك لا تخلف المعاد،  ثبتنا على الحق فيما نقول، ثبتنا على الحق فيما نفعل، ثبتنا على الحق فيما نعتقد، أعِذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، اجعلنا ممن ترعاهم بعين عنايتك في جميع الشؤون والأحوال، وثبتنا أكمل الثبات وقنا شر الآفات والعاهات وحوِّل أحوالنا والمسلمين إلى أحسن الأحوال والحالات، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راضٍ عنا في خيرٍ ولطفٍ وعافية برحمتك يا أرحم الراحمين.

بسر الفاتحة

إلى حضرة النبي محمد اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى  آله وأصحابه

الفاتحة 

تاريخ النشر الهجري

07 مُحرَّم 1445

تاريخ النشر الميلادي

24 يوليو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام