تفسير سورة الإسراء، من قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..} الآية: 53 إلى 57

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء: 

{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}

مساء الإثنين: 1 ربيع الآخر 1445هـ

ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية

نص الدرس مكتوب:

 الحمد لله مُكرمنا بالوحي والتنزيل وبيانه على لسان عبده ورسوله الهادي الدليل، صلى الله وسلم وبارك وكرِّم عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم في أقوم سبيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل القدر والمقام الجليل، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعد،،

فإننا في نعمة تَأمُلنا لكلام إلهنا وربنا وخالقنا، وتعاليمه وخطابه وبيانه، وما أنزَلَ على خير خلقه سيدنا محمد ﷺ، وصلنا إلى قوله جلَّ جلاله: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ يُبين الله لنا في هذه الآيات توجيهًا منه، يستقيم لنا به الأمر والشأن، ويتشيَّد لنا به في التقوى والصلاح وانتظام الأمر، وإقامة الشأن على ما يحبه ينتظم ويشيد البُنيان.

يقول: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..(53))، أن يَضبِطُوا أقوالهم وينتبهوا من ألسنتهم وأن يَتَخيَّروا الألفاظ الجميلة والكلمات الحسنة الطيبة، التي تُسَكِّن النفوس والتي تُهَدِّئ الرَّوع والتي تُذهِبُ الغضب والتي تُهيَِيء لقبول الحق، أن يختاروا خير الألفاظ، أن يُقيموا كلماتهم في مخاطباتهم وتحاورهم، ودعوتهم وأنواع مناجاتهم لبعضهم البعض، وما يُخاطِبُون به غيرهم أيضًا من الكفار، فإنه تَقدَّم آيات فيها بيان الحق تبارك وتعالى، شؤون الكفر والفساد والضلال وما فيه من ذلك التهكم بذلك الضلال والبُعد، وخطاب الحق لخلقه ليس كخطاب الخلق لبعضهم البعض؛ لذا لا يظن أحد ممن يقرأ هذه الآيات أنَّه ينطلق هو أيضًا في ألفاظ  تبعثُ الاستفزاز أو الاشمئزاز من الآخرين، تقول؛ لا. 

ربك أحاط بكل شيء علمًا وهو أعلم بموارد القول ومعانيه، وليس لك في مثل هذا أن تُطلق لسانك، بل أنت في خلقك وإنسانيتك يجب أن تُراعي، حتى قالﷺ: "مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيصْمُتْ"، وقال لسيدنا معاذ: "احفظ  عليكَ هذا، وأمسك بلسان نفسه" ﷺ، وقال سيدنا معاذ: "يا رسول الله وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فقالَ : ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم". 

(وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..(53))، في دعوتهم إلى الله، في دلالتهم على الله، في مخاطبتهم بينهم البين يتخيرون اللفظ الأحسن. (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ  ..(53))، في قراءات:

  • (يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)
  • (يَنزِغُ بَيْنَهُمْ)

أنْ يُحَرِّش ويتحرك بشدة في تفريقهم وتشتيتهم، وإثارة غضبهم على بعضهم البعض، وفيه أنَّ كثيرًا مِمَّا يتوصل إليه بل الأكثر مِمَّا يتوصل إليه الشيطان من التحريش بين العباد، وإلقاء البغضاء والشحناء بينهم وايصالهم إلى حد القتال: اللسان؛ يبدأ من كلام، وبِزلَّة هذا الكلام تمتلئ النفوس غيظ، ويُترجم في بُغض بعضهم لبعض، ثم النزاع بعضهم لبعض، ثم قتال بعضهم لبعض، وما إلى ذلك. 

فكم يترتب على ضبط اللسان، وأن لا يَستَعمِلَ الإنسان لسانه بما يهواه عدوه وما تهواه نفسه، بل بِمَا يوجب له الخير والفوز والسعادة، والكلمةُ يَملِكُهَا الإنسان قبل أنْ يَنطِقَ بها فإذا نَطَقَ بها مَلَكَتهُ، ولا يَملِكُها إذا خرجت منه ستصير هي مَالِكَته.

كَم في المَقابِرِ مِن قَتيلِ لِسانِهِ *** كانَت تَهابُ لِقاءَهُ الأقران

فَقُتِلَ بِزَلَّةِ لسانه؛ إذًا فالإهتمام بالقول الحسن مُهمٌ في مسلك المؤمن في الحياة، في دعوته إلى الله، للمسلمين ولغير المسلمين. 

(وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ..(53))، فيستغل انحراف الكلمة وقساوتها وغِلَظَهَا ليثير نفسيات الآخرين وغيظهم وغضبهم، فيؤدي ذلك إلى شِقاق وإلى نزاع وإلى قتال. (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ..(53))، عليهم أنْ يُدركوا أنَّهم في حياة اختُبِرُوا فيها، وجُعِلَ لهم عدوٌ بدأهم بالمُعادة من أيام أبيهم آدم عليه السلام، وأبى أن يسجد لأبينا آدم، وقال الله لسيدنا آدم عندما خَلَقَه وخَلَقَ زوجته حواء، قال له جلَّ جلاله في شأن إبليس -كما جاء معنا في سورة طه- يقول لأبينا آدم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: (إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ)، (إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ) [طه:116-117]، و تأصَّلت فيه هذه العداوة.

(إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53))، فكل مؤمن على ظهر الأرض يَعقِلُ من الحقيقة الواقعة:

  • أنَّه مُختَبَرٌ بمنهاج من الله بَعثَ به خاتم النبيين ليعمل على مقتضاه، 
  • وأنَّ له عدوّ مُتَرَبِص وهو على ظهر الأرض من أيام أبينا آدم، ومعه الأعداد الكبيرة من شياطين الإنس والجن. 

وهم يستعملون الإيحاءات إلى بعضهم البعض من زخرف القول يُضَادُون وحي الله إلى أنبيائه وكلام خلفاء الأنبياء، (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام:112]؛ فنحن في هذا العالم نعيش في هذه الحقيقة، فلا يجوز لعاقلٍ مِنَّا أنْ يفسح المجال لِعَدُوِّه ليخدعه ويضحك عليه ويُوقِعَهُ في السوء.

(إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53))، كما قال: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [يس:60]، واضح العداوة، بَيِِّن جَليّ العداوة لكم؛ (عَدُوًّا مُّبِينًا) واضح جًليّ في مُعاداته لبني آدم؛ 

  • فهو حريصٌ على أنْ يُدخِلَ كل آدمي إلى النار 
  • حريصٌ أنْ لا ينجو أي آدمي من عذاب الله 
  • حريصٌ أن يقود الناس بكل ما قدر عليه من مستويات أفكارهم وتصوراتهم ومداركهم أن يُوصِلَهم إلى جهنم بأي طريقة؛ 

فهذه مُهمته، قال تعالى: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6]؛ فهو عدوّنا الذي يجب علينا أن نتخذه عدوًا. فنُفرِّق بين لمَّة المَلك ولمَّة هذا العدو:

  • ولمَّة المَلك بقلوبنا، الملائكة يصحبها طمأنينة وتقوى بذكر الله.
  • ولكن لمَّة هذا العدوّ يصحبها قلق وغيظ، ويضعف بذكر الله؛ إذا ذكر الله ضعف فهو خنَّاسٌ يخنَس عند ذكر الرحمن جلّ جلاله.

فلا ننقاد له ولا نخضع بل نتخذه عدو؛ (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6]. (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) يدخل من خلال الكلمات فيُفسِد بين الناس ويفتِن، يَنزَغ بينهم، يُحَرِِّش بينهم، وأَخذُ الشيءِ بِشِدَّة وَقُوَّة: نزغ، فله حركة قوية من خلال الكلمات يجعل هذا ينطق بكلمة تُثَوِّر هذا وتُلهِب هذا فيحصل لذلك بلاء كبير.

(وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53))، وكذلك يَضعُفُ قَبوُل المَدعُو للدعوة سواء كان مسلمًا أو كافرًا؛ إن كنت تدعوه بِغِلَظِ القول، بالشدة والقسوة، ولذا قال الله لسيد الدعاة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [ٱل عمران:159]، ولما أَرسَل سَيِدنا موسى وهارون إلى فِرعَون قال: (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ) [طه:43]، مادام طغى، اذهبوا ودُقوا داره أو اضربوه؟!! 

قال: (و قُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) [طه:43] وهكذا. وبِذلك يَأتي الفَوارِق في المُعامَلة، فَكَم يُشَرِّف إذا وَصَلَت أَخبار مَثَلاً مِن مِثل المُعتَدى عَلَيهِم والمُغتَصَبَةَ أَرضُهم وأموالُهم من إخوانَنا في فَلَسطين مِن قِبَلِ المُتَسَلِطين على بيت المَقدِس مَسرى نَبِينا صلى الله عليه وعلى ٱله وصحبه وسلم، 

  • إذا أَقاموا مَنهَج النَبِي محمد ﷺ بإحتِرام الأَطفال والنِساء غَير المُقاتِلات، ثُمَ يُريد أَنْ يَحتَّج عَدُوهم بَأنه قَتَلتُم صِبيان وأَطفال، فَيُطلَب أَنْ يُبَينَ أَيُ دَليل فلا يجد دَليل  واحِد، هناك أطفال مُقَتَلين لكن مِن قِبَلِه هو كَثير ثُمَ لا يُؤاخَذ!، أنتُم قَتَلتُم طِفِل سنقوم عَليكم، أمَّا هو يُقَتِل حتى مِئات ما يَضُر شيء!، هذا عَدلُ التَقَدُم والحَضارَة المُتَقَدِمَة في هذا الزَمان!.
  • كَم يَحصُل مِن سُرورٍ إذا التَزَمَ هٰؤلاء بِمَنهَج نًبِيهم ﷺ، وجَعَلوا الكَذِب والخِيانة والإعتِداء على الأَبرِياء يَأتي مِن قِبَلِ أعداءِ الله وأعداء رَسولِه  ﷺ لا من قِبَلِهِم. 
  • ومَهما أساء أعداءُ الله -تبارك وتعالى- إلى أطفالٍ أو إلى نِساءٍ أو إلى كِبارِ سِن، فَجَميلٌ أن يَقومَ هؤلاء بالإحسان الذي بُعِثَ بِه مُحَمَدٌ صلى الله عليه وعلى ٱله وصحبه وسلم. 

كما يُذكَرُ أنَّ بَعضَ بُيوتِهم فَرَّ مِنها أتباعُ الغاصِبين والمُعتَدين، ومَع هذا الخَوف والهَلَع والذِلَةِ التي عَلَيهم تَركوا مَريضاً على السَرير -شائب- تَركوه وراحوا، فَلَما دَخَلَ المُجهِادون ووَجَدوا هذا حَمَلوه وذَهَبوا بِه إلى المُستَشفى؛ لأَجل العِلاج وَ وَصَلوا بِه إلى مُستَشفَياتِهم هُم، وأمثالُ ذلِك مَهمَا صَحَّ؛ فَهذه طُرُق الهُدى والنَصر، وطُرُق أَنَّنَا على ظَهرِ الأرض أَزكى وأوفى من خَبَاثَةِ النُفوس ومن سُلطة الأهواء، بل عِبادٌ لِربِّ الأرضِ والسَماء نَقومُ بالخِلافةِ عَنهُ على ظَهرِ الأرضِ، نُحِبُ بِحُبه الناس ونُعادي بِعَداوَتِه مَن خالَفُه مِن خَلقِه

ولَنا مَنهَجٌ قَويمٌ سلَكَهُ الأنبِياء وجاءَ بِه إلينا سَيِدُهُم صلى الله عليه وعلى ٱله وصحبه وسلم، فَنَحنُ نَسلُكُ في ذلك السَبيل. وما عُرِِفَ إحسانٌ وإكرامٌ لأسرى الحَربِ على مَدى تاريخ الإنسانِية كَما كانَ للأَسرى الذينَ أُسِروا في عَهدِ نَبِينا مُحَمَدٍ وإنَّما يُؤسَرُ مَن كان يُقاتِلُه مِمَّن قاتَلوه وحارَبوه فأُسِروا، فَما وَجَدوا أحسَنَ معاملةً ولا أزكى مُقابَلَةً من محمد ﷺ ومَن مَعَهُ، إلى حَدِ أَنَّ بَعضَ المُشرِكين الذي كانَ أَسيرًا وأسلَمَ بَعدَ ذلك يَتَذَكر أَيام أَسرهِ وأنَّه في أيام شِركِه استَحيا من شِدَةِ إحسانِ المُجاهِدين لَهُ، لَمَّا سَمِعَ النَبي يَقول: "أَحسِنوا إلى الأَسرى"، فَكَانوا أَفخَرَ ما يَأتيهم وأَحسَنَ ما يَأتيهم من الطَعام يُقََدِّمُونه للأَسرى ويَكتَفونَ بِما يُعتادُ مِنَ الأكل مِن التَمر، وإذا وقعتْ الكِسرَة في يَد أَحَدِهم فَيَدفَعُها إلى الأَسير، حَتى استَحى الأسرى، استَحوا مِن حُسنِ مُعامَلِة هؤلاء أصحاب محمد ﷺ، قال: فَكُنتُ أَرُدُها إليهِم فَيَرُدونَها إلي ما يَمَسُها مِنهُم أَحد، فَكان يَتَذَكَر بَعد الإسلام، ما الخُلُق الكَريم هذا الذي أَثَّرَ فيه، وعَرَف أنَّ سِره؛ من شَهادة أنَّ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمدًا رَسول الله، والإتِصال بِخاتَم النَبِيين ﷺ. (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53) ).

يَقولُ الحق: (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ..(54))، إذًا فَعَلى كُلِ مُؤمِن أَن يَطمَئِن إلى حُكمِ الله وشَريعَته ثُمَ إلى أَقضِيَتِه وأَقدارِه، وأن يَعلَمَ أَن كُلَ ما يُجريه إِنَما يُجريه عَن عِلمٍ وحِكمَة وهو أعلم بِنا من أنفُسِنا. (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ)، فَلا يُمكن أنتَ بِعَقلِك ولا عُقول بَني آدم ولا الجِن ولا المَلائِكَة مَعَك أن تَهتَدوا إلى أنَّ هذا أفضل وهذا أقل وهذا أحسن، وأحسن يكون هكذا، المُكَوِن أَدرى بِكُلِ ذلك.

(رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ..(54))؛ لأنَهُ الإلٰه الخَالق وهذا حَقُّ الأُلوهِية، وكُل من عَرَفَ أنه مَخلوق لهُ خالِق، يَجِب أن يَعرِفَ صِفَةَ الخالِق، وأنَّ لَهُ الحَقُ وهو خَلَقَهُ في أَن يُضِلَه وأن يَهديَه وأن يُسعِدَه وأن يُشقِيه وأن يُقَرِِّبُه أو يُبعِدَه، ونَسأل الله أن يَرحَمنا ويُقَرِّبنا إليه ويُسعِدنا بَأعلى السَعادَة. (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ):

  • (إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) فَيسَلَك بِكُم سَبيلَ الرَحمَة في تَثبيت الإيمان في قُلوبِكُم، وتَوفيقِكُم للإستِقامة على الصالِحات، ووَفاتِكُم على الحُسنى، على حُسن الخاتِمة.
  • (أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بِإصرارِكُم على الذُنوب والمَعاصي والكُفُر حتى تَتَوَفَون على سوء الخاتمة، والأمرُ لَهُ مِن قَبلُ ومِن بَعد. 

وهو قَبل أن يَقول لَنا: (إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ..(54))؛ (أَعْلَمُ بِكُمْ)، ومَع كَونِه أعلَمُ بِنا أيضًا فهو الأرحَم جَلَ جَلاله، الذي لا يَظلِم أحداً من عِباده ولا من خَلقِه فَهو المُحسن إلى الجَميع، ولكنهم يَظلِمونَ أنفُسَهُم بإساءتِهِم في القِيام بأمر الله تعالى ومُخالَفَتِهم لِشَريعَته سُبحانَه. (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ..(54))؛ إذًا (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) والخواتيم مَجهولَة فلا سَبيل لَكُم لأن تُغلِظوا القَول على أحد بِعَينِهِ فَإنَكُم لا تَدرونَ ما خاتِمَتُه. 

ويقولُ الله وأنت سَيِدهُم وإمامُهُم، ما أرسلناك وَكيل، حافظ على الناس، وإنما أرسلناك مُعَلِم ومُرشِد ومُنَبِئ وداعي ورَحمَة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54))، (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [الأنعام:107]، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية:21-22]. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54))؛ إذًا فعلى أتباعِك ألا يُجاوِزوا حُدودَهم، ولا يَحكُموا بالغَيب بخاتِمَة أَحَد ويَقطَعون بِكَونه في النَار ولا في الجَنة، ولكن يَهتَدون بِهَديك، يَقول: "من مات على الإيمان فَهو في الجَنة ومن مات على الكُفرِ فَهو في النار"، لكن فُلان و فُلان و فَلتان لا تَدري بِهِم ولا تَعلَم، وعلى أي شَيء يَموت هذا يَموت هذا، ومُقَلِّب القُلوب يَفعَل ما يَشاء.

(رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54))؛ ولكنك 

  • المُعَلِم الهادي المُرشِد المُيَسر السَبيل للقُربِ مِنَّا 
  • ولإنقاذ عِبادِنا مِن النارِ ومن العَذابِ ومن الغَضَبِ ومن البُعدِ 
  • ولِتَقريبِهم إلَينا وإخراجِهم من الظُلماتِ إلى النور 

فهذه مُهِمَة الأنبِياء وأتباعُهم على ظَهرِ الأرض (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا).

وأكَدَ الأمرَ -جَلَ جَلالُه- (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(55)، خَلْقُهُم وإيجادُهُم وطَبائِعهُم وأعمالُهُم ونِياتُهُم ومَقاصِدهُم، وخِطَطهُم حَركاتهم وسَكناتهُم وأفكارهُم، وبصائرهُم وأبصارهُم وأكسابُهم ونِياتهم، (أَعْلَمُ) بِكُلِ فَرد في السَماوات وفي الأرض، أعلم من كُل عالِم، وأعلَم بِكُل واحد مِن نَفس ذلك الواحِد -جَلَّ جَلاله-، ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12].

(وَرَبُّكَ) -يامُحَمد- (أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(55)، قَد وَجَه الخِطاب: (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ)، ثُمَ خاطَب عَبدُه المُصطَفى: (وَرَبُّكَ)، أَنتَ الذي اختارَك واجتَباك وقَدَّمَك على من سِواك (أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، فَلا مَجال لأحد أن يَقول: (لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31] هو رَبي أَعلَم، (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (حَيْثُ يَجْعَل رِسَالَاتِهُ) [الأنعام:124]، ويَحتاج أنتَ الذي ستقَدِم وستؤخر؟!!.

(رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(55)، إنس، جِن، مَلائِكَة، حَيوانات، كائِنات جَماد نَبات، (رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إذًا فإذا فَضَّلَ فَضَّلَ بِعِلم، أو قَدَّمَ قَدَّمَ بِعِلم، أو كَرَّمَ كَرَّمَ بِعِلم -جَلَ جَلالُه-، فَلَهُ الأَمر وهو الأعلم بالحَقائِق كُلَها، وبِالظاهر وبِالباطِن، وبِالحِس وبِالمَعنى، وبالغَيب وبالشَهادة، وبالروح وبالسِر، وبالبَصر وبالفِكر، وبِالمَقاصد بِالنِيات هو أَعلم.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ..(55)، يَقول الله نَحنُ الذين أحَطنا عِلماً بِكُلِ شَيء، فَضَلنا من نَشاء وَرَفَعنا بَعضَ المُقَرَبينَ فَوقَ بَعض، وأَفضَلُ الخَلائِق وأقرَبهم إلى الأنبِياء. وقال: 

  • (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ) وقال في الآية الأخرى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) [البقرة:253]، إذاً فَتَفضيلُهُ لِمُحَمَدٍ صلى الله عليه وعلى ٱله وصحبه وسلم وتَقديمُه إياه، قامَ على عِلمِه الذي أَحاط بِكُل شَيء فهو المُقَدَّم وهو المُعَظَّم صلى الله عليه وعلى ٱله وصحبه وسلم بِتَقديم الله  وتَعظيمه وتَفضيلِه إياه.
  • (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ..(55)، وجعل فيهم الخليل، وجعل فيهم الكليم، وجعل فيهم المسيح، وجعل فيهم -سبحانه وتعالى- نوح، وجعل فيهم آدم -عليه السلام- الذي خلقه بيده ونفخ فيه من روحه إلى غير ذلك مما خصَّ به النَّبيين، وذكر منهم النبي داود هنا (وَآتَيْنَا دَاوُدَا زَبُورًا) وآتينا داود النبي، أبو سيدنا سليمان.

(وَآتَيْنَا دَاوُدَا زَبُورًا (55)، القرآن الذي نزل عليه والكتاب الذي أنزله الله عليه يسمى الزبور، وهو كتاب كبير وكان خَفَّفَه الله لييسر عليه قراءته، حتى أنَّه ليأمر بِسَرجِ الدابة أو سُرُج دوابه فمدة أن يشد الدواب ويشد عليها الرحلَ يقرأ الزبور من أوله إلى آخره، سيدنا النبي داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كان له صوت حَسن. 

وأحسن الناس صوتاً بعد نبينا محمد، أحسن صوتاً النبي داود، حتى شَبّهَ حُسن الصوت لأي إنسان ﷺ "بمزامير داود". وقال لسيدنا أبي موسى الأشعري -عليه رحمة الله- لما سمعه يقرأ القرآن في الليل، جاء إلى المسجد الشريف وأخذ يتلو القرآن ويتدبره رافعًا صوته، النبي ﷺ سمع الصوت من حجرته قَرُبَ من المسجد، خرج من الحجرة قَرُب من المسجد سَمِعَ صوت سيدنا أبي موسى، حتى كان عند أم المؤمنين قال: تعالي اسمعي هذا الصوت هذا يقرأ القرآن، فلما لقيهُ في الصباح قال: لو رأيتني البارحة وأنا أستمع إلى قراءتك القرآن، "لقد أُوتِيتَ مِزْمارًا من مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ"،  قال: يا رسول الله، هل كنت تسمعني؟ قال: نعم، قال: " لَوْ عَلِمْتُ مكانك لَحَبَّرْتُهُ لك تَحْبيرًا"؛ أي لزدتُ إحساناً في أدائه والإتقان له من أجل أن أسرَّ قلبك وأرضيك ﷺ، قال: " لَوْ عَلِمْتُ مكانك لَحَبَّرْتُهُ لك تَحْبيرًا". وكان جماعة من الصحابة تعجبه ﷺ قراءتهم فمنهم: هذا سيدنا أبو موسى ومنهم سيدنا أبو ذر وكان يقول: "مَن أراد أن يَقرأَ القرآنَ غضًّا طريًا كما أُنْزِلَ، فليَقرأهُ علَى قراءةِ ابنِ أمِّ عبدٍ"، ومنهم سيدنا أُبَيّ وغيرهم من الصحابة.

يقول -سبحانه وتعالى-: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ ..(56))، قل يا مُبلِّغ الرسالة ومعلِّم الخلق بأمرنا. (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56))، فلا يستطيع غيره كائنًا من كان من مَلَكٍ أو نبيٍّ أو أي إنسان أو أي جانٍ أو أي مخلوقٍ أن يقدم شيء ولا يؤخر إلا بأمره، ولا ينفع ولا يضر إلا بأمره، ولا يعطي ولا يمنع إلا بأمره، -جل جلاله وتعالى في علاه-.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ ..(56))، ومن هم الذين زعمتم أنهم آلِهه؟! الذين أَلَّهُوا 

  • سيدنا عُزير 
  • وسيدنا عيسى بن مريم -عليه السلام- 
  • وسيدتنا مريم 
  • ومنهم عبدة الملائكة الذين أَلَّهُوا الملائكة.

يقول: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56))، لا إبعاده ولا تحويله إلى حالة أخرى ولا تحويله إلى غيركم. يقول: 

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56))، ومنهم أيضًا جماعة كانوا يعبدون جماعة من الجن وأخذوا يعبدونهم ويستمسكون بادِّعَاء الألوهية لهم، فجماعة من هؤلاء الجن كما جاءنا في أحاديث بروايات عديدة، أسلموا واتبعوا النبي محمد، وهؤلاء يتخذونهم آلهة.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ..(57))، كالذين اتخذوا سيدنا عيسى عليه السلام وأمه مريم أو سيدنا عزير إله من دون الله -تبارك وتعالى-، أو الذين يعبدون الملائكة أو هؤلاء الذين يعبدون الجن وقد أسلموا.

(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ..(57))، هم هؤلاء الذين تدعونهم يطلبون القرب من إلهِهِم -جل جلاله- ويجتهدون في التقرب إليه والتذلل بين يديه والخضوع له، فكان أولى بكم أن تعرفوا عظمة هذا الإله الذي خضع له هؤلاء الذين تَدّعون ألوهيتهم، (وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران:62].

(يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ (57))، يعني يطلبون القرب منه والدنو إليه، ويحمل هذا الكلام معناه أيضًا، أنَّ هؤلاء أيضًا في أدبهم مع الله تعالى يتوسلون إليه بالمقربين

(يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) فيتوسلوا ويشهدوا لذلك ما هو واضح من ما ورد عن الأنبياء وأولهم أبونا آدم عليه السلام وتوسل بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فيتوسل الأنبياء ببعضهم البعض بمن هو أقرب إلى الله، هؤلاء ما يتخذون مع الله إلهًا آخر ولكن يجعلون الأقرب وسيلة لهم إليّ؛ لأستجيب لهم بمحبتهم له من أجلي، وتعظيمهم له من أجلي ولمكانته ومحبتي له؛ فأنا بذلك أقرب، كما قال تعالى في أمر المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) [المائدة: 35].

(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ (57))، فالوسيلة سواء كان من قول أو فعل أو أي عمل صالح أو دعاء إلى الله تعالى، مُتَوسَلًا به إلى الله تعالى إمَّا: 

  • بالله وبذاته وأسمائه وصفاته أو كلماته 
  • أو توسلًا إليه بأنبيائه أو رسله 
  • أو محبوبيه من عباده -جل جلاله-. 

بكل ما يحبه -جل جلاله وتعالى في علاه-، فكل ما يحبه يصح وسيلة إليه -تبارك وتعالى-، (يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ). 

وقالوا هؤلاء أيضًا، (يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ..(57))، ومما يدل على هذا المعنى أيضًا، ما جاءنا في الصحيحين في حديث الشفاعة: أنَّ هذا الوصف ثابت عندهم وأنهم (يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)، فإذا جاءوا يتوسلون بآدم، وفي رواية في البخاري: "استغاثوا بآدم عليه السلام يقول: اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى نُوحٍ، ونوح يقول: اذهبوا إلى إبراهيم، وإبراهيم يقول: اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى"، وكلهم (يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)" -يقول اذهبوا عند ذاك، توسلوا به، اجعلوه يدعُ لكم- "وعيسى يقول لهم اذهبوا إلى محمد ﷺ، ومحمد هو صاحب الوسيلة الكبرى ﷺ، ويقول: أنا لها أنا لها" يبتغون إذًا فهذا وصفهم.

(يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ  ..(57))، -سبحانه وتعالى- إن كانوا ملائكة وإن كانوا أنبياء وإن كانوا أولياء يرجون رحمة الله -تبارك وتعالى-، وتفضُّله له عليهم وامتنانه وعفوه ومسامحته وغفرانه. (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ..(57))، قال الله عن الملائكة: (هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) [المؤمنون:57]، (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:27-28]، وضرورة المعرفة بالله أن تكون خشية من الله وأن يكون رجاء في الله وأن تكون محبة لله.

قال: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57))، إن كان شيء ينبغي أيَّ عاقل يحذر منه من جميع الناس ومن جميع الجن؛ فعذاب الرب وغضب الرب، لا شيء أشد من غضب الرب هذا الذي يجب الحذر منه لكل عاقل، فهو يهرب أتمَّ الهروب من موجبات الغضب، وكان أعظم الخلق رضاء من الله ورضاء عن الله وهو نبينا محمد، يقول في كل ليلة في مناجاته لربه بعد صلاة الوتر وغيرها يقول: "أعوذُ برضاكَ من سخطِكَ، وأعوذُ بمعافاتِكَ من عقوبتِكَ، وأعوذُ بِكَ منكَ، سبحانك لا أُحصي ثَناءً عليكَ، أنتَ كما أثنيتَ علَى نفسِكَ"  صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

فإن كان شيء يُحذَر فلا شيء أشد من غضب الله وعذابه أصلًا، كل ما سوى ذلك فهو هين ويسير، إن تحذر من شيء، (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) [الزمر:36] يخوفون الناس؛ ساعة بالفقر وساعة بالحرب وساعة بقطع المصالح وساعة بالأمراض، إن كان شيء سنحذر منه وسنخاف؛ حقيقة عذاب الرب هذا الذي لن نطيقه، غضب ربنا علينا هذا الذي لا نطيقه ما عدا ذلك الأمر هين ويسير. (وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)، هذا الأمر الذي أحقّ أن يُحذَر منه وأن يُخَاف منه أن يعذبك الله تعالى، قال ﷺ لمَّا رموه بالحجارة وآذوه يقول للرب سبحانه وتعالى: "إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي".

يا رب إن لم يكن علينا غضب منك فلا نبالي، ولكن عافيتك هي أوسع بنا فارحمنا وارْأف بنا وبالأمة في المشارق والمغارب، وادفع عنا جميع المصائب والنوائب، وحَولِ الأحوال إلى أحسنها، وارزقنا متابعة الأنبياء وموالاتهم فيك ومودتهم من أجلك، وأتْبَاع الأنبياء من المقربين الأصفياء الصادقين الأولياء، وعموم المؤمنين والمؤمنات، ارزقنا ولاءهم ومحبتهم عامة وخاصتهم خاصة فيك ولك ومن أجلك، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين آمين.

بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمّد اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

02 ربيع الثاني 1445

تاريخ النشر الميلادي

16 أكتوبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام