تفسير سورة الإسراء، من قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ..} الآية 81 إلى 83

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء: 

( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) ) 

مساء الإثنين 12 جمادى الثانية 1445هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مكرمنا بخاتم الرسالة الذي دل على الله فأحسن الدلالة، أكرمه الله تبارك وتعالى وحباه نواله ووهبه تقديمه وتفضيله ووحيه وإنزاله، فلله الحمدُ أبدًا سرمدًا، ونسأله أن يصلي ويسلمَ منه عنَّا على نبي الهدى في كل لمحة ونفس وعلى آله وأصحابه السُّعداء، ومن والاهم واتّبعهم واقتدى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، من جعلهم الرحمن -سبحانه وتعالى- أهل التقديم في كل فضل وجود وندى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أما بعد..

فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا وخطاب خالقنا، تعليمات إلهنا وتوجيهات مولانا وسيدنا -جلَّ جلَّاله- وصلنا في سورة الإسراء إلى قول الحق جلَّ وعلا: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)) قل جاء الحق؛ والله هو الحق، وكتابه الحق، ووعده الحق، والنبيون حق، ومحمد ﷺ حق، والساعة حق، وكلَّما جاء به رسول الله عن الله فهو الحق.

(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ.. (81)) قل لهم: تم إنعام الخالق على خلقه؛ ببعثتي وإرسَالي مُبينا للحقّ بأوضح المَعاني وأقوى المَباني وأتم البيان والتّوضيح والإشارة والتّلويح والتّعيين والتّصريح.

(جَاءَ الْحَقُّ (81)) وقد بعث الله أنبياءه بالحق وأنزل الكتب بالحق، وختم النبيين بسيدنا محمد ﷺ الأصدق.

(جَاءَ الْحَقُّ (81)) وهو ما جاء به عن الله من قرآن ومن سنة ومن مِلة ومن دين ومن هدى، فالحق ما بعث به الحق رسوله، الحق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فهو على الحق المبين والدال على الحق بالحق، وناصر الحق بالحق -صلوات ربي وسلامه عليه-.

(قُلْ جَاءَ الْحَقُّ (81)) فلا بدَّ أن يظهر ما جاء به، وأن يمتد نوره وخيره في البرية على مدى القرون، مع منازعة الباطل وأهل الباطل، فما يصيب جانب الباطل في الأفكار أو في الأسس والمبادئ والأنظمة التي يحدثونها في باطلهم إلا الإزهاق، تزهق الفِكر؛ فكرة بعد فكرة، تزهق النظريات نظرية بعد نظرية، تزهق القوانين، تزهق الأنظمة، تزهق المبادئ التي يقيمونها واحدًا بعد الثاني، وما كان شأن ما بُعث به رسول الله إلا أن يظهر ويبرز في الوجود، ويتصل به من أربابِ القلوب وأرباب العقول من يستنير ومن يدرك ويعي ويعقل، ويجعل الله في خواصِّ حملةِ ما بُعث به من النور والهدى قوة معنوية وتَناولًا بإسنادٍ لما بينهم، وتلقّيًا من خَلَف عن سلَف على مدى القرون.

"لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يضرُّهُمْ مَنْ خذلَهُمْ" ومن هذه الطائفة من خصص ذكرهم وأنَّهم في أكناف بيت المقدس، لا يَضُرُّهُمْ مَن ناوَأَهُمْ ولا من خذلهم، ولا يقهرهم أحد من الناس، فإنَّ القهار -جلَّ جلَّاله- يتولى أمرهم، "يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ".

"اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي" -كان يقول في دعائه- قيل ومن خلفاؤك؟ قال: "قوم يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي، يَرْوُونَ أَحَادِيثِي، وَيُعَلِّمُونَهَا عبادَ الله" فلم يزل الذي جاء به رسول الله منصورًا وظاهرًا ومؤيدًا، مع أنَّ الأسباب الظاهرية كثيرًا ما تقتضي أن يُنهى وأن يُزاح وأن يُقضى عليه ولكنَّه يتجدد، إلى حد ما تعيشونه اليوم فرقة مِمَّن كفروا بالنبي محمد ﷺ وما جاء به، أخذوا يمدون أيديهم بالسوء والعدوان والظلم على أطفال ونساء وعزّل، وعلى مساجد وعلى كنائس وعلى مستشفيات وغير ذلك؛ ليطمسوا منار هذا الدين وما جاء به الأمين، فيتسبب عملهم في بروز أثر تربيته في رجال ونساء وصغار وكبار؛ يصبرون ويتحملون ويثبتون!؛ ويُبرِز كل هذا إسلامَ أعدادٍ هي أضعاف الأعداد التي قُتِلَت ظلمًا من المسلمين، يُسلم أضعافهم في الشرق والغرب، وفي بلدان الذين يَرعَون هذا الظلم ويُسَمُّونه بالتسميات المختلفة.

(قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)) يُتَستَّر على قبائحه وعلى فضائحه وعلى حقيقته سنة، سنتين، ثلاثة، أربع، خمس، عشرين، ثلاثين، أربعين سنة ثم ينكشف (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) طبيعته ما تقبلُ الاستقرار والثبات هو في حد ذات زهوق.

(جَاءَ الْحَقُّ) وهو ما بُعِث به سيد الخلق حبيب الحق، (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) وَهُوَ كُلُّ مَا خَالَفَ مَا جَاء بِهِ وَبُعِثَ بِهِ فِكْرًا وَسُلُوكًا وَشَرْعًا وَمُعَامَلَةً، كل ما خالف ما جاء به هو الباطل للأفراد، أو كان صادرًا من هيئات أو جماعات أو حكومات وما إلى ذلك، كُل ما خالف منهج الله باطل.

فيجب على المسلمين أن يَعُوا أنَّ من غُشَّ منهم وخُدِع وصار يرى أنَّه واجب عليه أن يعيش في الدنيا على ما يُقرّر فِئاتٌ من شِرار الخلق على ظهر الأرض وينظِّمونه وكأنّه الأمر المفروض المحتوم الذي لا مَخرج عنه. يجب على هؤلاء أن يُدرِكُوا أنَّ الغش وصل بهم إلى حد بعيد يتناقَضُون به مع أصل الدين وحقيقة الدين وأصل لا إله إلا الله، كُل ما خالف منهج الله ومنهج رسوله مردودٌ باطلٌ ضلالٌ.

(زَهَقَ الْبَاطِلُ  إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) لا يجوز قبولُه ولا يجوز الرضا به؛ والحُكم ما حَكَم الله، والحقُّ ما قال الله وقال رسوله.

قال سيدنا عبد الله بن رواحة -عليه الرضوان- يصف نبينا ﷺ: 

                       أَرانا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنا *** به مُوقِناتٌ أنَّ ما قالَ واقِعُ 

(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4] ﷺ، (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) فيا مَن تناوِئون وتُعادُون من كُفّار قُريش مِمَّن في مكة، وَمَن في جزيرة العرب؛ مِن يهود من نصارى من مشركين، ومَن في بقية الأرض مِن مَجُوس، مِن مُلحِدين، مِن مختلف الذين خالفوا منهج الله؛ ما عندكم زاهق، وما جئتُ به ثابت وقوي -صدق الله وصدق رسوله-.

(جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ (81)) ويتجدّد ذكر الله وذكر رسوله في أُناسٍ كثيرين في شرق الأرض وغربِها، كلمَّا أوذي الدين وأهلُ الدين وكُذِب على الإسلام وعلى القرآن وعلى المرسل ﷺ أو على ما جاء به يزداد انتشار هذا الدين، ويزداد ظهور هذا الدين ولا السِرُّ إلا ما قال القوي المتين: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:9]، فاجعلنا اللهم مِمَّن تُعِزُّهم بهذا الدين وتُعِزُّ بهم الدين.

وقد تعدّدت الروايات في يوم رُجوعه مِن بعض الغزوات وانصرافه من المسجد إلى بيت السيدة فاطمة ومُقابلتها له وبُكائِها البُكاء الشديد، قال لها: "مَا يُبْكِيكِ  يا ابنتي"، قالت: عليك أثر التعب وعليك الغُبار ماتجد، وعليك..، قال: "إيه يا ابنتي، إنَّ اللهَ قد بَعَثَ أَبَاكِ بِأَمْرٍ عظيم، بِأَمْرٍ لا يَبْقَ فيه بَيْتِ شجرٍ، ولا حجرٍ، ولامَدَرٍ إِلَّا ودَخَلَهُ دينُ أبيكِ بِذُلِّ ذليلٍ أو عِزِّ عزيزٍ" إن الله بعث أباك بأمر عظيم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وما أعظم ما جاء به وهو الحق.

(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)) لا يقبل الثّبات ولا يقبل الدّوام ولا يقبل استمرار القوة، مهما كان فيه من عَتادٍ وعُدةٍ وسُلطةٍ ونُفوذٍ وتجمهُرٍ وتجنُّدٍ وتَعسكُر فنهايته يتلاشى ويَضمحِل.

 وفي خِلال الوقائع في العالم وبيان هذه الحقيقة تجمَّع من المُعادين المُتطاوِلين على الحق ورسولِه عشرة آلاف يقصدون المدينة المنورة، تحزّبوا لذلك وسُمّوا الأحزاب، وصار من شِعاراتنا في الدين أن نُكبِّرَ الله في أعيادِنا ونقول: "لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه، صدَقَ وعدَه، ونصَرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه"، ولم يزل الأحزاب هؤلاء الذين هُزِموا وكُل من تحزّب مِن بَعدِهم لمُعاداة الله ورسوله يُهزَمون هزيمة بعد هزيمة "وهزمَ الأحزابَ وحدَه" -جلَّ جلَّاله وتعالى في عُلاه- ورُدُّوا عن المدينة، وكان أشجَعُهم في القتال عَمْرو بن عَبْد وُد، وقال مَن يُبارِزُني منكم؟ اقتحَم الخّندق من مَضيق نحو ثلاثين ذِراع قفَز عليه بِخَيلِه ودخَل، ولمَّا تأخّرَ الصحابة أخذ يستهزئ بهم ويقول: أين الجنة التي تقولون أنَّه مَن قُتِل منكم ذهبَ إليها؟ من يُبارزني؟ قال سيدنا علي: أنا يا رسول الله، قال له: اجلسْ. قال: من يُبارزني؟ قال سيدنا علي: أنا يارسول الله، قال: اجلسْ. قال: من يبارزني؟ قال سيدنا علي: أنا يارسول الله، قال: إنَّه عمْروٌ، قال: وإن كان عمْرو فأنا عليٌ يا رسول الله، قال له: قم وعمّمه بيده، فأقبل عليه قال: من أنت؟ قال علي بن أبي طالب قال: لو جاء أحد من أعمامك أو أحد من الكبار فإنّي أُعِزُّ أباك أبا طالب ولاأحبُّ أن أقتُلك! لا أريد أن أقتلك!، قال لكنّي أنا والله حريص أن أقتلك، إيه..؟ أثارَهُ، نزل عن فَرسه نحَرَ الفرس وذبَحهُ وتقابَل مع سيدنا علي يتضاربان فسدّد الله تعالى ضربته على رأسِه حتّى شقّهُ وكبَّر وكبَّر المسلمون.

ثم جاءت ريح وجنود لا تُرى وفَرُّوا، وحمى الله رسوله بعد خِيانة من اليهود كانوا بجانبه، واتفقوا معهم يفسحون لهم المجال وينقُضون عهد النبي ﷺ ويدخلون، فما كان إلا أن ردّ الله أولئك، وكفى شر هؤلاء اليهود وأخذوا جزاءهم، وما عند الله تعالى أشدُّ -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ونصر عبده "صدَقَ الله وعدَه، ونصَرَ عبدَه، وَأعَزَّ جُنْدَهُ، وهزمَ الأحزابَ وحدَه" -جلَّ جلَّاله-.ثم كان فتح مكة وجاء نبينا.

 ومن الوقائع التي ظهرت عند الكعبة؛ مُثبِّتين ثلاثمائة وستين صنم، ومُقوّاه بالحديد والرصاص على دائرة الكعبة كُلّها، وحمَل مِحجنه الشريف ﷺ وجاء يطعَن كلَّ واحدة منها فيه ويقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) فينكَبّ الصنم على وجهه ويسقُط؛ مُثبّتة بالحديد والرصاص لكن يشير إليها فتسقُط فتتكسّر واحدة بعد الثانية حتى دار عليها كلها، وبقي صنم مرتفع فأمر بأن يصعد له بعض الصحابة وكسّروه، وأمسك بعُضادتِي الباب بعد أن صلى ﷺ وقال: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، له المُلكُ وله الحمدُ يُحيِي ويُميتُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، مَا تَظُنُّونَ يا معشر قريش أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟" 

المُناوِئون المُضادّون المُعادُون وضعوا السلا فوق ظهره، ووضعوا الشوك في طريقه، ووضعوا الأذى في قِدْرِه والمُتابعون له إلى محل مُهاجرته والشانّين الحروب عليه، "مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟"، وسكتوا وكرّرها، بعد الثالثة قالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم. أين ساحر؟ مجنون؟ كذاب؟ شاعر؟ راحت!! قال: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ"، فكأنما نُشِروا من القبور وأخذ يقول بعضهم: ماطابت بهذا إلا نفس نبي، هكذا بعد المُحاربة بيننا والأذى الشديد عليه، وإيذائنا وكلامنا عليه والآن يأتي فيقول اذهبوا فأنتم الطلقاء وهو قادر علينا وقادر أن يقتل كل واحد منّا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأقام تلك الأيام وواصل غزوة حنين والطائف وعاد إلى مكة وولّى عتّاب بن أُسيد ورجع إلى المدينة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكسر الأصنام.

(جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)) ولم يزل أعداؤه يُدحرون ويُقهرون واحدًا بعد الثاني وسقطت مملكة كسرى ومملكة الروم وقيصر، ونشر الله تعالى الإسلام ولم يزل في ازدياد إلى وقتنا هذا، ولا يزال في نصرٍ وتأييد من الحميد المجيد المُبدئ المُعيد الفعّال لما يُريد، اللهم انصر دينك ومنهج نبيك ومِلَّة رسولك واجعلنا من ناصريها لك ومن أجلك وانصرنا بها يا أكرم الأكرمين.

(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (82)) رأس الحق وعين الحق القرآن، وسبب النصرة وسبب قمع الباطل والضلال القرآن.

قال: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (82)) اللهم اجعلنا منهم، القرآن شفاء من أنواع العلل والأمراض الظاهرة والباطنة. 

(مَا هُوَ شِفَاءٌ) للعقول وللقلوب وللأرواح وللأجساد يُستعاذ به ويُستشفى به، ومن لم يستشفِ بالقرآن فلا شفاه الله (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ) باب فتح وحقائِق مَنْح وقُرب من الفتاح، وجود واسِع منه سبحانه وتعالى، وعطايا ومِنَح؛ رحمة في التقريب، في التطهير والتنقية وفي نزول الطمأنينة والسكينة (إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال:2]، (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ) [الزمر:23].

(مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (82)) فما يُنازلهم من الأمراض والعِلل الظاهرة والباطنة -في القرآن- منها شفاء؛ لكن:

  • لأهل الإيمان المُتحقّقين بالإيمان.
  • المُعظِّمين للقرآن.
  • المُقبِلين بالكلية عليه.

تنكشف لهم به الحقائق ويُدرِكون به المعارف (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة:79]، يُعطي معارفَ وعلوم وأنوار ودلالات و خيرًا واسعًا كثيرًا.

(مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)) يُكذّبون بالقرآن ويُعادون فيزدادون إثمًا إلى إثمهم بل هلاك، ليس الخسار مثل المرض فالمرض يُعالَج، فما عند الكفار والأشرار خسار أي هلاك ودمار، وما يُنازل المؤمنين مرض يُشفى بالقرآن، وأهل الظُّلم بالتكذيب بآيات الله عندهم الخَسار المُؤبد يعني الهلاك السرمدي -والعياذ بالله تعالى-، ولا يزيدهم إلا خسارًا؛ ظُلمة ًوبُعدًا عن الله يشتد بها عليهِم العذاب في الآخرة.

وإذًا ينبغي لكل عاقلٍ من هؤلاء الناس وقد جاءه من ربه موعظة وذكرى للمؤمنين ورسالة على يد خاتم النبيين؛ أن يداوي ويعالج نفسه ولا يسترسل وراء أهوائها وشهواتها، فطبيعتها (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًاوَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج:19-21].

يقول: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِۖ (83)) تباعد ومال إلى جانب الغفلة والمخالفة وكأنَّه لم يُنعَم عليه، وليس فوقه مُنعِم تَفضَّل عليه وخلقه من العدم وأسبغ عليه أنواع من النعم. 

(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِۖ (83)) وهكذا ذكر سبحانه وتعالى أصناف ما ينحرف بها الناس عند توالي الاسباب لهم، وحصول النعم عليهم، فتبدو منهم أنواع من الانحرافات والميل عن سواء السبيل.

يقول جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ) يعني الإنسان (رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي.. ) [فصلت:50] ملكي، بجهدي، من عرقي ومن ترتيبي، (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً.. ) يكذِّب بيوم القيامة والآخرة، (وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ۚ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت:50-51]، (لَّا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) [فصلت:49]، وهكذا حال هذا الإنسان في غرائب شؤونه وأحواله، مُتقلب.

يقول جلَّ جلاله وتعالى في علاه: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ۗ.. ) [هود:8] أين هذا الذي تقولون عليه؟! (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ[هود:8-11]، فهؤلاء في السراء نموذج حسن طيب، وفي الضراء نموذج حسن طيب لا جزع ولا يأس ولا قنوط ولا تجبر ولا تكبر ولا فرح ولا عنجهية، أمَّا من لم يصبر ويعمل الصالحات، من لم يتهذّب بالإيمان يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، ويقول (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ) [البقرة:258] ويقولون نحن المنتصرين، وسوف نعمل ونُحقق كذا ونعمل كذا، قد قالها أبو جهل: ما نرجع من بدر، قال: ما نرجع ونترك محمد لا بدّ حتى نجيء إلى بدر وتغني لنا المغنيات ونشرب الخمور وتسمع بنا العرب، تعلم أنَّنا قوة ما أحد يقدر علينا، لا محمد ولا غيره. جاء وقُتل ثاني يوم، وقُتل سبعون من أصحابه، وذهب كلامه هذا الفارغ، وخلفاؤه ما يقولون هكذا؟! لابد يقولون هكذا، هل هناك نتيجة غير النتيجة هذه؟! ولا نتيجة واحدة ثانية، لا يقع هذا ولا ذاك. لا إله الا الله، الله وحده القوي، الله وحده القوي -جلَّ جلاله- وهكذا يتطاولون ويستهزئون ويأتيهم ما كانوا به يستهزئون. 

قال: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83))، ما عاد يرجو الخير أبدًا، ولا عاد يقول في فائدة. أم أنت نسيت عظمة وقوة من فوقك؟!! 

تُقدم وتُؤخر ولا تُبالي، تُسعد وتُشقي ولا تبالي، ترفع وتحفض ولا تبالي، قوة القوي المتين.، لا يجوز أن تسأم وتيأس ولا يجوز تتبختر وتتكبر، انظر؛ فوقك قوي يرفع ويخفض، يقدم يؤخر، يشقي يسعد، يحيي ويميت بيده ملكوت كل شيء. فقم في حدودك -مخلوق إنسان لا تتجاوز حدك- خير لك، والذين تجاوزوا حدهم من قبلك ملايين وكلهم أصبحوا عِبرة، وإن تجاوزت حدك فأنت واحد منهم ستصبح عبرة كما كانوا عبرة من قبلك، فما يسع العاقل إلا أن يعرف عظمة المُكوِّن، عظمة المُوجِد الفاطر البارئ ويستعد للقائه؛ 

رزقنا الله كمال الإيمان، نفعنا الله بالقرآن ورفعنا بالقرآن، "إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ" ارفعنا يا رب بالقرآن، وارفع به أهلنا وأصحابنا وطلابنا وأحبابنا، ارفعنا رفعًا عظيمًا في الدنيا والآخرة، ارفعنا عن حضيض أطوارنا يا رب إلى رفيع حضرة سرك الساري في كمال اليقين والمعرفة، والقرب منك ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يا أرحم الراحمين، وانصرنا بالقرآن واحفظنا بما حفظت به القرآن وانصرنا بما نصرت به المرسلين، وثبتنا على الحق فيما نقول وفيما نفعل وفيما نعتقد، والطف بالمسلمين في غزة والطف بالمسلمين في الضفة الغربية والطف بالمسلمين في أكناف بيت المقدس والطف بالمسلمين في السودان والطف بالمسلمين في بقية بقاع الأرض طولها والعرض، انظر إلى يمننا وشامنا وشرقنا وغربنا يا رب العالمين، نظرة تزيل العناء عنَّا وتدني المنَّى مِنَّا وكلّ الهنا نُعطاه في كل وقت وحين، يا قوي يا متين أكف شر الظالمين ورد عنَّا كيد الكائدين واجعلنا في الهداة المهتدين ورَقِّنَا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين في لطف وتمكين وعافية تامة يا أكرم الأكرمين. 

بسر الفاتحة

وإلى حضرة النبي محمد 

تاريخ النشر الهجري

16 جمادى الآخر 1445

تاريخ النشر الميلادي

27 ديسمبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام