تفسير سورة الإسراء، من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ..} الآية: 58 - 60

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء: 

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)}

مساء الإثنين: 8 ربيع الآخر 1445هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمدُ لله مُكرمنا بالوحي والتّنْزيل، وبيانِه على لِسان عَبده المُصطفى الهَادئ الدليل، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصَحبه ومَن وآله واتّبَعه في سَواءِ السَّبيل، وعلى آبائه وإخْوانه من الأنبياء والمُرسَلين أهل التّكريمِ والتَّفضِيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابِعيهم والملائكة المُقرَّبين، وجميع عباد الله الصّالحين، وعلينا مَعهم وفيهم إنّه وأكرم الأكرَمين وأرحم الرّاحمين.

وبعدُ،،

فإنَّنا في نِعمَة تأمُّلنا لكلامِ خَالقِنا الذي إليه مَآلنَا ومَرجِعُنا ومَصيرُنا، العليمُ بكلِّ شيءٍ القادرُ على كلّ شيءٍ -جلّ جلاله- وصَلنا في سُورة الإسْراء إلى قوله -جلَّ جَلاله-: (وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ۚ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ۚ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)).

يَذكُرُ الحقُّ -جلّ جَلاله- شُؤونَ القُرى والبُلدانِ والمُدنِ والأماكنِ، وأنّ هذا الخَالق العَظيم -جل جلاله- قدْ حكمَ بأنَّ ما يَحدُث ويقوُم على وجه الأرضِ مِن قُرى ومُدن؛ فإنّ أهلَها يتعرَّضون إلى النّهاية والزوال، بما كتبَ عليهم من الوفاه، وبما يخالف به أهل القُرى مناهج الله، ويكذِّبون رسله ويصدون عن سبيله، فيحصل لهم بذلك أنواع من الهلاك والدّمار الذي ينزل بهم، وأكبرُ ما يؤثِّر في خرابِ المُدن والقرى؛ الزّنا والرّبا، وهي التي يهتمّ بنشرها جُندُ إبليسَ، ولهم في زماننا سعيٌ حثيث، وراء نشرَ هذه المفاسِد.

وقد رأينا بأعيننا الوقت الذي كانَ تَحدّث عنْه نبيُّنا قبلَ ألف واربعمائة عام أنّه: "لَيأتِينَّ على الناسِ زمانٌ لا يبقَى أحدٌ إلا أكل الرِّبا فإن لم يأكلْ أصابَه من غُبارِه"، صَدقَ الذي لا يَنطِقُ عَن الهَوى عبدُ الله سَيّدنا مُحمد.

وحدَّثنا عمّا يُرتَّب مِن نشْرِ المَفاسد والتَّبرُّجِ، واخْتلاطِ الرِّجال بالنِّساءِ، وأنْواعِ الفَواحِش والمُنكرَات، وما انْتشرَت ببلدٍ وظهَرتْ إلا واعْقَبها تَنكُّبٌ لأحْوالهم، وتَغيّرٌ لشؤونِهم وأحْوالهم، ونوعٌ مِن أنْواع الهَلاك والعَذاب ينْزِل عَليهم.

قال -جلَّ جلال- في سُنّةٍ مِن سُنَنِه، يَذكُرها لنا في كِتابِه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96]، ويترتَّبُ هذا الهَلاكُ على أنواعِ المَعاصِي والذُّنُوب ومُخالفة الرَّبُّ -جلّ جَلاله وتَعالى فِي عُلاه-، ومعَ ذلكَ كُلّه فإن العَاقِبة أنْ تَنتَهي قُرى العَالَم، ومُدُن العَالَم، إلا أنّ بعضَها تُخرَّب ثم لا تُعمَر، وبَعضُها يَسكُنُها مِن بَعد ما خُرِّبَت وبعدَ ما أُهلِكَ أهلُها، قومٌ مِن ورائهم أو مِن بَعدِهم.

كمَا بيَّن لنا القُرآن بعضَ القُرى والتِي حلَّ عليها الهَلاكُ مِن مُكذّبي الأنبياءِ والمُعادِينَ لشَريعَةِ الرَّب الخَالق -جلَّ جلاله-، (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 58]، وبيَّن أنّ أقواماً سكنوا فِي مَساكِن قومٍ ظلموا أنفسَهم مِن قبْلِهم وهلَكوا ويقولُ لهم في القيامة: (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) [إبراهيم: 45]، 

ومعَ ذلكَ كُلّه فيَعمُّ هذا الحُكم، القُرى والمُدن إلى أن يأتيَ وقتُ نهايَة هذا العالم بالنفخة الأولى في الصُّور، فيكونُ عامَّة ما قد سُكنَ مِن قبلُ، وما قَد بُني من مُدنٍ وقُرى تُخرَّب، وتبقى مَساكنُ الذين تقومُ عليهمُ السّاعَة؛ شِرارُ الخَلق، إما في مواطن قد خُرِّبت وهُلِكت من قبل ثم جدَّدوا فيها البناء، أوفي أماكن لم تُسكن من قبلهم وينتهي الأمر. ولكنْ آخرُ مُدنِ أرضِ الإسْلام خراباً المدينة المُنوَّرة، ومع ذلك فإنّه يأتِي عليها زمانٌ ما يبقى فيها إلا الوُحُوش والحَيوانات، وتخرَبُ قبلها أيضًا مَكة المُكرَّمة، وتُكسَّر الكَعبة الشّريفة حجرًا حجرًا وتُلقى في البَحر، ولا تُعمَرُ بعد ذلك.. وهذا في آخر الزمان بعد شؤونٍ كبيرة وكثيرة تحدُثُ قبل ذلك، مِن أعْظَمِها: 

  • بيعة الإمام المهدي عند الكعبة المُشرَّفة
  • ونُزولُ عيسى بن مريم في الشام
  • وقتلهُ الدجال بباب لدٍّ 
  • وظهور يأجوج ومأجوج وهلاكهم
  • ورجوع سيدنا عيسى ومَن معه مِن المؤمنين مِن الجبالِ إلى الأرض بعدهم، مُدةً 
  • وخروج الدابة 

الى غير ذلك من الآيات.. ثم يأتي خرابُ البُلدانِ والأمَاكِن، ثمَّ بعدَ ذلك من آثارِ هذه السُّنة الإلهية، أنّ الأفراد أيضًا والجماعات يُنازِلُهم بقدْرِ مُخالفَتِهم لأمرِ الله وإعْراضِهم عَن الله، أنواع مِنَ الهلاكِ وأنْواع منَ الشَّتات، وأنواع من الدّمار، وأنواع من الخَراب، (وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ..(58))، مُنزِلونَ على أهْلها عذابًا، وصَفهُ بالشّديد -جلّ جلاله-، كما قال في الأمَم التي مَضت مِن قبْلنا وكذَّبُوا أنْبياءَهُم السَّابقين صَلواتُ الله وسلامه عليهم، يقول -جلّ جلاله-: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:44]، تكرَّم عَليهِم بالخَلقِ والإيجادِ والأسْماعِ والأبْصار وأعْطاهُم الفِطرَة و أعْطَاهم العَقل، ومع ذلك أرْسلَ إليهمُ الأنبياءَ والرُّسُل؛ فكذَّبوا وتَولَّوا واتَّبعُوا شَهَواتِهم وأهواءهم، -والعياذ بالله جل جلاله-. 

وكانَ كُفَّارُ قُريش يُكثرُون الاقتِراحَ على النّبيّ أنْ يُحدثَ لهم آية كذا، وآية كذا، معَ أنَّ الله قدْ أنزلَ لهم القُرآن آية عَظِيمَة، وجعلَ لهُم الإسراء بالنّبي محمد ﷺ آية عَظيمَة، وشقَّ لهُم القَمر آية عَظِيمَة، ولكن مَع ذلك يقولون؛ اجَعَل لنا جَبَل الصفا ذهبا! فَهل يُريدونَ دَليل وآية على صِدق هَذا النّبي وإلَّا يَتَشَهّون ويَلعبون؟ آيات أمامَهُم، وهو بِنَفسِه آية أمامهم؛ وِلادَته ونَشأته وتَربيته وبَهاءه وبَهجَتَه وصَدقَه وأمَانته أمامهم، آية كبيرة. من نَظَر في وَجهِه عَلِم بأنه  ليسَ بِوجْه كَذّاب، صَلوات رَبي وَسلامُهُ عَليه. ومَعَ ذَلِك يَقترحون الآيات. 

وهكذا تَفعل النُّفوس الخَبيثَة بأصْحابها؛ تَصدَّهم عن الحقِّ وتُمنِّيهم؛ لو كان يَعملون لنا كذا.. لو كان يأتون لنا بكذا.. لو كان يُطلِّعون  لنا كذا.. ومهما أعطوهم وجَابوا لهم؛ ما يَنقادون ولا يخضَعون. 

وهَكَذَا كَانت مَضتْ الأُمم، يَقتَرحُون على أنبيائهم آيات؛ اجعل لنا كذا.. اعمل لنا كذا.. وتَأتي الآية التي يَقتَرِحُونَها؛ ثم لا يُؤمنون، فيُعجَّل عليهم العذاب. واقتَرحَت قريش على النبي ، و من جُملة اقتِراحَاتهم قالوا: تُريدنا نُؤمن بِك ونتبعك ونتحول إلى دينك ونَقُوم معك؟ كان حَريص عليهم ، قاَلوا: حَوّل لنا جَبل الصَفا ذَهب!! أرادوا ذهب!! فتوجَّس  إذا بجبريل يأتي يقول: يقول لك الله: "إن شئت حوّلتُ لهم جبل الصفا ذهبا، فإن آمنوا وإلّا عجَّلتُ عليهم العذاب، وإن شِئتَ فَتح لَهم بَاب التَوبة ولم يُظهِر لهم"، قال له: "افتح باب التوبة ولا تعجِّل لهم بالعذاب"، لأن من سُنة الله -إذا ظهرت الآية بطلبهم ثم لم يُؤمنوا- أن يعجِّل لهم العذاب. 

وهكذا اقترحُوا عليه بعضَ اقتراحَاتِهم، قال: "إن شِئتُم جَعلها الله كذلك، ثمّ إنْ لم تؤمنوا أهَلكتكم"، قالوا: لا لا  لا نُريدها، فما عندهم صدق في إرادة الآية. وقالوا: أزِلْ الجِبال هذه من أمامنا المُحتوِشة بمكة لنزرع في الأرض، ونُبعد الجبال، فاقترحُوا عَدداً مِن الاقتراحَات، وهوﷺ كان حَريص على أن يُؤمنوا وأن يُسلموا. 

وخَاطبه الحقُّ بحِكمَته في إظْهارِ الآيات وقال: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ ..(59))، في كلّ ما يقترِحُون عليك (إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)، أُمَم سَابقة قدْ جاءوا من قبلِهم وكذّبوا بالآيات التي طَلبُوها على أيدي أنبيائِهم وأظْهرْنَاها لهم فكذّبوا بها، (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ..(59))، ونَعْلم أنَّ قومَك لا يُؤمِنون ولو جَاءتْهم كُل آية (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا..) [الأنعام:111]، لا اله الا الله، (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) [الحجر14-15]، وما دام الأمرُ كذلك.. فإن شئتَ أظهَرْنا لهم الآيات ثمّ عَاقبْناهم وأعمَمْناهُم بعذابٍ مِن عنْدنا، قال رسول الله :" لا بل أستأنِيَ بِهم .. أستأني بهم .. وأتأنَّى، عسى أن يَهْديَ الله مَن يشاءُ منْهم ولا يتعَجّل العذابَ عليْهم". 

(وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ..(59))، قَالوا: كان هناك، قالوا: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [الاسراء:55]، هنا قالوا: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)، وقد كان يقول لهم فيما قالوا: من يُعيدنا؟ (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) [الإسراء:50-51]، سيدنا داود ألَانَ الله له الحديد، وسيدنا صالح -ثمود- الناقة خَرجَت له مِن حَجَرة. (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) [الإسراء:50-51]. ثمّ ضَربَ المثَل بداوود، وضَربَ لهم المثل بثَمُود والنَّاقةَ التي خَرجَت مِن الحجر -فسبحان الله-، قالوا: النّاقة تميّزتْ عن نُوقهم، ولها لبن كثير يسْقِيهم كلّهم! مِن حَجَرةٍ خَرجَت هذه الناقة. لا إله إلا الله! واخْرجَها الحقّ سُبحانه وتعالى لهم آية مُبصِرة واضِحة بيّنة. 

(وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ..(59))؛ كَذّبوا  ولا آمنوا بسيدنا صالح -عليه السلام-، ورجعوا عقروها، وكان لها شرب يوم؛ تشرب الماء كُلّه، ويوم لهم، ولأنعامهم وما عندهم، ولكن يشربون منها لبن يكفي القبيلة كلها من كَثْرة ما يَخرج منها من اللّبن، ومع ذلك اعْتَدَوا عليها وعَقرُوها، (إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا) [الشمس:12]، وحَذّرهم النبي صالح فما استجابوا، (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا) -وانتهَوا كلّهم-  (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) [الشمس:12-15]، وبقي النبي صالح ومَن آمن معه، فيُقال: انتقلوا من ذلك المَكان الحِجْر الذي كانوا فيه، وهلَك قومه، وانتقلَ سيدنا صالح والمؤمنون معه. 

يقول: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ ..(59))، التي ارسلناها لأمتك والأمم من قبل (إلا تخويفا) ليُنْذَر الناس ولْيَرجِع، ويَخاف من سبقت له السعادة فيؤمن ويصدّق وينجو، أو يُعاند ويُكذِّب فيُحِلّ عليه الشقاوة والهَلاك -والعياذ بالله تعالى- (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)، وهكذا كانت آياتُ الأنبياء والمرسلين كما يريدُ الله تعالى إبْرَازَها وإِحْدَاثها، وآياته -سبحانه وتعالى- مبثوثة في كلّ شيء ولكن للعُقلاء والمستبصرين، ثم آيات مُعْتادة للنّاس كطُلوعِ الشمس والقمر، وكخُسوف الشمس وخُسوف القمر وما إلى ذلك مما يحصُل، ومنه خارق للعادة وغير مُعتاد، وكلُ هذه الآيات واقِعة في الناس وتنْتابُهم من وقت إلى آخر، (ولكن وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:36]، (ويَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35].  اللهم اهدنا فيمن هديت.

قال: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ..(60))،  بيّنّا لك يا صَفوتَنا ومأمُوننا على بَلاغ عِبادنا خاتماً للنبيين أخبرناك عن حقيقة: 

  • (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) علمًا وقدرةً وإرادةً، فما هم إلّا في قبضتِه من أوّلهم إلى آخرهم، (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:56] -جل جلاله-. 
  • (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)؛ فعلِمَ خَلْقهم وإيجَادهم وخَواطِرَهم ونيّاتَهم وخِططَهم وأعمَالهم وكُلها تحت قَهره وسُلطانه ومشيئته -جل جلاله وتعالى في علاه-.
  • قول: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)؛ فَهو العَليمُ بِهم، إذًا لا تخف من أحد منهم، وبلّغْ رسالةَ ربّك الذي أرسلك لهؤلاء الناس كافة، وبيّنْ لهم منهج إلهك، وعلّمْهم شريعته التي شرعها لهم -جلّ جلاله-، وهم في قبضته، كما قال له في الآية الأخرى: (فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [يس:76].
  • (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)؛ فمن الشرف الذي حُزْناه والكرامة التي نِلْناها والمِنّة التي وصلتْ إلينا؛ أننا معاشر المؤمنين بهذا الإله، ننطلق في هذه الحياة بأمرِ الله، وعنايةِ الله، ورعاية الله، وهو قد أحاط بكل شيء، وأحاط بالناس جميعاً، فنحن على قوة ومرجعية وعلى مستند قوي متين ليس فوقه مستند ولا شيء أعظم منه، فالحمد لله على نعمة الإسلام. -اللهم اجعل هوانا تبعًا لما جاء به خير الأنام- .

(وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ۚ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ..(60))، ما جعلنا الرؤيا التي أريناك في ليلة الإسراء والمعراج؛ (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى) [طه:23]، (لنريه من آياتنا إنه السميع البصير) [الإسراء:1]، (لَقَدْ رأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ) [النجم:18]، (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰعِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰعِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰإِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰمَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ) [النجم:12-17] ﷺ. وقال الله: جعلناها فتنة للناس؛ فارتدّ من ارتدّ. وقالوا كيف تُخبرُنا أنك تذهب في ليلةٍ واحدةٍ مسيرة شهر، ومرجِع شهر وذهاب شهر ثم تُصبِح بيننا؟ وكذلك ضحِك الكفارُ وكانت اختبار وابتلاء. 

(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ..(60))، وفي هذه الآية إذًا دليل على أن: حادثة الإسراء والمعراج كانت يقظة وبالرّوح والجسد، وإلا كيف تكون (فِتْنَةً لِّلنَّاسِ)؟! كيف تكون (فِتْنَةً لِّلنَّاسِ)؟! أي واحد يقول رأى، وأي واحد  يُصدِّق  ما رأى في النوم. ولكن ما كانت فتنة إلا أنه شاهدها بعين البصر في يقظته وبجسده الشريف ﷺ؛ فكان ذلك فتنة للناس وفاز الصّديق. يقول: صدقْتَ يارسول الله.

(وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ۚ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ..(60))، فثبَتَ من ثبتْ، وصدقَ من صدَقْ؛ كسيّدنا أبي بكر وسيدنا عمر وسيدنا علي وسيدنا عثمان وكبار الصحابة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، وارتد البعض القليل، واستهزأَ أبو جهلٍ ومن معه، ولمّا قامت الحُجّة عليهم بالخبر عن عِيرِهم ووصْفه لبيتِ المَقْدس أيضا أصرّوا على التكذيب والعِناد وقالوا ساحر، قال: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) اختبارًا وامتحاناً، ثبت فيه من ثبت وضلّ من ضلّ وهكذا..

يقول تعالى: (والشجرة الملعونة في القرآن ..(60))، أي جعلنا الشجرة الملعونة، فتنةً أيضا للناس واختبارًا فحدَّثتَهُم، (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *  ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ *  ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات:64-68]. شجرة الزقوم: إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم فكانت فتنة واختبار. وذهب أبو جهل يقول له: النار تحرق الشجر! كيف تقول شجرة في النار؟! وهذا الذي يريد أن يَقيسَ قدرةَ الله على مألُوفه من أشجارهِ في عالم الدنيا وما إلى ذلك، وما علم أنّ الخالق كما أنه يخلق شجرة من عود، يقدِر أن يخلق شجرة من نار، يَقدِر أن يخلق شجرة من حديد، يقدر أن يخلق شجرة مما يشاء- جلّ جلاله وتعالى في علاه- فكانت فتنةً أيضاً للناس؛ ليُعلَم صاحبُ الإيمان والصِّدق في الحجج التي بُعِث بها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم والبراهين، ومن كان تغلبه نفسه وهواه ويتشكّك ويتردّد.

قال: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ..(60))، أي فتنةً للناس كذلك؛ (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60))، خوَّفهم بشجرة الزقوم. فقام أبو جهل يقول: الزّقوم عجوة المدينة بالزُّبْد، وأحضر تمر وزبد وقال: تزَقّموا تزَقّموا تزَقّمُوا، دعونا نتَزَقّم وأخذ يأكل.

قال: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60))، تقوم الحُجج أمامهم والآيات ويُنذَرُون بالمستقبل الكبير ويَستهزِئون ويَكذِبون، وهذا شأن من لم يُرِدْ الله أن يَهدِيَه وقال عنهم: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة:41]، (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام:125]. 

فالحمد لله على نعمة الإسلام وعلى نعمة الإيمان وزادَنا الله إيماناً، وزادَنا الله إسلاماً، وزادنا الله إحساناً، ورزقنا المعرِفة الخاصّة والمحبّة الخالصة، وألْحَقَنا برَكْبِ حبيبه المُصطفى محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، ولقد صبر عليهم كثيراً ﷺ وتأنَّى بهم كثيراً ودَعا الله لهم كثيراً، وقال بعد رمْيِهم لهُ وشقِّهم لِشَفَتِه وجَرْحِهم لوجْنَتيْه وشجِّهم لجَبينه وكَسْرِهم لرباعيّتِه وقَتْلِهم لأصحابه والتمثيلِ بهم قال: "اللهم اهد قومي فإنَّهم لا يعلمونَ" صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وصَدَقَ الذي سمّاهُ الرؤوف الرحيم.

وبعد ذلك، كلّ غرور مَن كان حوَاليه من هؤلاء الكفار والمُسْتهزئين انتهى، وبَطَلَ كيدُهم، وأيده الله -سبحانه وتعالى- وفتح عليه مكّة، ودخلَ الناسُ في دين الله أفواجًا، ولم يزال الناس قرناً بعد قرنٍ، وصِدْق محمد يبرزُ في الوجود وجميع ما حدَّثَ به يحتاجه أهل الوجود، وكلُّ ما أخبرَ به من الوقائع المُستقبلَة يقعُ زمنًا بعد زمن ووقتًا بعد وقت، فما من زمن إلّا وفيه شواهد صِدْقُ صاحبِ المقامِ المَحمود ﷺ وصدق زين الوجود نبيّنا محمد -عليه الصلاة والسلام- ومنهُ هذه الأحداث التي تجْرِي في الوُجود وفي العالم اليوم.

وإذا تأمَّلْنا بلاغَهْ وكلامه وجدناهُ يصِفُها -عليه الصلاة والسلام- الوصف الدقيق ويُبيّن واجبات الأمة، رَزَقنا الله اتٍباعه والقِيامِ بالأمر كما شرَعَهُ لنا ودَعانا إليه، وكما يُحبّه مِنّا وكما يُحِب إلهُهُ الذي بعثَه إلينا بالرحمة إنّه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين، ولابُدّ أنْ ينتهي إلى بقيّة ما أخبر صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم ، وحتى لا يَبقى بيت على ظهرِ الأرض إِلّا دَخلَه دين هذا المصطفى -صلواتُ ربي وسلامُه عليه- لكن بِذُلِّ ذَليل وبعِزّ عَزيز.

فالله يُعزّنا وإيّاكم بنُصرة هذا الدين وظُهورِه في الأرض، وأن نكون من أنصارِه والقائمين معهُ ببذل الأرواح والأنفسِ والأموال -إنه أكرم الأكرمين-. ويُذِلُّ -سبحانه وتعالى- كثيرًا من أرباب هذه المظاهِر، وهذه الحضارات الزّائفة، وهذه الدّعاياتِ الكاذبة على ظهر الأرض يُذِلُّهم -جلَّ جلاله- وعليهم الخزي في الدنيا وفي الآخرة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

أعِزّنا اللهم بطاعتِك وبدينِك وبالصّدق معك والوفاءِ بعهدك واحشرنا في زُمرة رسولك وأنت راضٍ عنا آمين.

بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمّد

الفاتحة

 اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه   

تاريخ النشر الهجري

09 ربيع الثاني 1445

تاريخ النشر الميلادي

23 أكتوبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام