(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء:
{وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}
الإثنين: 15 ذوالحجة 1444هـ
الحمد لله مُكرمُنا بالوحي والتنزيل، والهداية إلى سواء السبيل؛ على يد عبده الهادي والدليل، سيدنا محمد من ختم به النبوة والإرسال صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، وعلى من والاهم واتّبعهم بإحسان إلى يوم المآل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفعهم الله تبارك وتعالى في المراتب العوال، وعلى آلهم وصحبهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد،،
فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام إلهنا وخالقنا وربنا جلّ جلاله وتعليماته وإرشاداته وما أوحى إلى خير بريَّاته ﷺ، ابتدأنا نتذكر بعض معاني سورة الإسراء في أوَّلها ومررنا على تأمُّل بعض معاني الآية الأولى؛ وهذه الآية الثانية يقول فيها جلّ جلاله: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا يَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا) في قراءة أبي عَمرو وفي قراءة غيره من القرّاء: (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَبۡدٗا شَكُورٗا). يقول تبارك وتعالى: إنه بالفضل والإحسان منه على هذا النوع من الخلق وهم: الإنس والجن على ظهر هذه الأرض الذين خلقهم؛ ليقضوا عليها أوقاتًا معينةً محددةً ثم يكونون في بطن الأرض ويموت الكل منهم ثم يُخرَجون، من دخل بطنها منها مرةً أخرى، (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) [طه:55].
أنعم الله على هؤلاء الذين يعيشون على ظهر الأرض بالهداية بواسطة: الإنباء والإرسال وإنزال الكتب منه -جلَّ جلاله- إلى هذه البرية؛ لأنه لا يمكن أن يستقلَّ بهدايتهم إلى الصواب والهدى، وما يجب عليهم من الإيمان، وما يُحدِد لهم العمل الصالح، وما هو العمل الصالح؟ والمنهج الذي يمشون عليه؟ لا يمكن أن يستقلَّ بذلك أبصارهم ولا أسماعهم ولاعقولهم ولا أفكارهم. وما شأن هذه العقول إلا كشأن الأبصار فهي للمعاني والأمور المعنوية كالبصر للأمور الحسية؛ وما تُفيد إلا بنور تتنور به؛ فينتفع الإنسان ببصره الذي آتاه الله إياه إذا وجد النور الذي يبصر به الأشياء؛ ويفرق به بين الأشياء وألوانها وأشكالها؛ ويقرأ به الكتابة وما إلى ذلك. و من دون النور لا يمكن أن ينتفع بالبصر، كذلك العقول لا يمكن أن تهدي الناس إلى حقائق معاني خلْقهم وإيجادهم ومهمتهم التي خُلقوا من أجلها؛ لا يمكن أن تهديها إليهم عقولهم المجردة؛ وإن جربوا وإن استعملوا العقول، أي استعمال! إلا بنور من الله تبارك وتعالى، كما أن لهذا البصر نور من الشمس والسُّرج وهذه الشموع والأنواع المُضيئة؛ فكذلك ليس للعقول من هادٍ يهديها إلا نور الوحي الذي يوحِيه الله إلى الأنبياء والمرسلين.
وبذلك يوقَن يقينًا جازمًا أن كل من خالف الأنبياء والمرسلين في فكر أو عمل، فهو؛ ضال وهو جاهل وهو منحرف وهو في غي وهو في ضلال. صدق المرسلون صلوات الله وسلام عليهم؛ إئتمنهم الله على هذا النور وإظهار الحقيقة، فآتاهم الكتب وأنزل إليهم الوحي وهدى على أيديهم من شاء من عباده -اللهم اهدنا فيمن هديت-.
ذكر لنا عبده المصطفى محمدًا وإسراءه به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، في ضمن ما جعل له أيام رسالته من معجزاتٍ ومن كراماتٍ ومن تفضُّلاتٍ إلهية. وذكر لنا ما آتى موسى؛ وموسى له ليلة الإسراء والمعراج إتصال وله بركةٌ على أمة النبي محمد وسبَبِيِّةٌ في نفعهم الكبير؛ بما سأل من نبينا محمد أن يسأل الله أن يخفف الفريضة من خمسين فريضة، وخُفِّفت وطلب منه المرة الثانية أن يسأل الله والثالثة، حتى رجعت الخمسين إلى خمس في العدد ولم ينقص الأجر -جل جلاله-؛ هن خمس ولهن أجر الخمسين، فناسب أن يذكر موسى عليه السلام.
مع عجائب أيضًا في الفوارق في هؤلاء المُكْرمين على الله وهم الأنبياء، ومع كرامتهم على الله فـ (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ…) [البقرة:253]. فهذا زين الوجود عليه الصلاة والسلام يُسرى به في لمحاتٍ من الليل ولحظات من الليل، ويأتي بيت المقدس ويصعد، وسيدنا موسى عليه السلام بمن معه من أولئك الذين تقاعسوا عن القيام بالأمر، جلسوا أربعين سنة يتيهون في الأرض، ولا وصلوا إلى بيت المقدس، ثم يقول الحق تعالى: (وَءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ .. (2))، أي: بالفضل والإحسان أعطينا موسى الكتاب وهو: التوراه التي أوحاه الله إليه آتينا بعظمتنا وجلالنا؛ أعطينا موسى الكتاب (وَجَعَلۡنَٰهُ) هذا الكتاب: التوراه (هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ) أي: هاديًا لهم يدلهم على طريق الحق والهدى (وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ) فموسى هدىً؛ والكتاب الذي نزل عليه من الله هدىً؛ وهي التوراة التي أوحاها إليه سبحانه وتعالى (وَءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ .. (2)).
وهكذا كانت الدلالة أول ما أنزل الله أبانا آدم إلى الأرض أوحى إليه بإفعل ولا تفعل، وأعطاه المنهج مع ما علَّمه من الإيمان فقال سبحانه وتعالى (قالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) [طه:123]. فلا يمكن للبشرية أن تهتدي بتجاربها ولا أن تهتدي بمجرد أنظارها وأفكارها وعقولها، وهي أمام الأعين تتقلب وتختلف وتتخالف من وقت إلى آخر، فلا يمكن أن يهتدوا إلى الحقيقة بمجرد عقلياتهم ولا أجهزتهم ولا تطوراتهم المادية، ولن يهتدوا إلى الحقيقة إلا بنور رب الخليقة.
وقد أكرم الله العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب فالحمد للرحمن (وآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ أي أولاد وذرية سيدنا يعقوب عليه السلام فهو المُسمى بإسرائيل أي عبَد الله وكان عابداً لله كريماً ابن كريم ابن كريم وأبي الكريم سيدنا يوسف عليه السلام ، فيعقوب هو المسمى بإسرائيل (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ) [ال عمران:93]. يقول: (هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ أي ذرية سيدنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. (هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلا)؛ لأن أصل الهداية وإدراك الحقيقة ألا يُتخذ مع الله شريك ولا إله آخر، -لا إله إلا هو-؛ (أَلَّا يَتَّخِذُوا) يعني لئلا يَتَّخِذُوا من دوني وكيلا، رباً يفوضون الأمر إليه ويتوكلون عليه ويستندون إليه (أَلَّا يَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلً).
وقال: (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا يَتَّخِذُوا) وفي قراءات الآخرين (ألا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا) لا تجعلوا مع الله إلها آخر، ولا تجعلوا اعتمادكم إلا عليه، ولا استنادكم إلا إليه سبحانه وتعالى. (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا) من غيري؛ فإنه سبحانه وتعالى الإله الحق الواحد وما سواه مألوهٌ ومخلوقٌ، كلُّ ما سواه كائناً ما كان، بما فيه بما يُغالط فيه الناس أو يُخدعون أو يُلبَّس عليهم بما يسمى العلم بالوجه الذي يريده هؤلاء، العلم في حقيقته، والعلم في إدراك الأمر على هو عليه في الواقع؛ هذا أمر يتشرف به كل من عُلِّم من الملائكة ومن دونهم وهم في دائرة (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32].
لكن هم يسمون العلم ما انتهوا إليه بأفكارهم بأي شيء من الأشياء، ومن هنا جاءوا بما يسمى في قرننا الأخير هذا وقروننا الأخيرة بالنظرية العلمية، والنظرية العلمية أنظار يفكر في هذا وذاك. وعامة تلك النظريات ينسفها واقع الإدراك للحقيقة ولا يكون منها شيء. ثم بعد ذلك يتحدثون عن الحقيقة العلمية، ولن يجدوا حقيقة علمية إلا حسب ما أوحى الله إلى أنبيائه وأرسل رسله، فما خالف ذلك لا يمكن أن يكون حقيقة علمية بمعناها الصحيح وهو إدراك الأمر على ما هو عليه في الواقع، فإن مكون الأكوان وخالق ذرات الكون هو الذي أنزل الوحي على الأنبياء واختارهم؛ لهداية العباد، فلا يمكن أن يكون في حقيقة الكون شيء مخالف لما أخبر ولا لما أمر ولا لما نهى سبحانه وتعالى، ولذلك فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله وليس لأحد في قديم ولا أخير أن يأتي ويقول: هذا حلال وهذا حرام ليفتري على الله الكذب، ليس لهم حق في ذلك فليسوا بآلهة؛ إنما الإله الله الذي خلقه وله الأمر في أن يحرم وأن يحلل جل جلاله -وتعالى في علاه-.
وهكذا لم يزال على مختلف القرون يتجرأ هؤلاء المخلوقون على إلههم الخالق جل جلاله، ويحلون ما حرم ويحرمون ما أحل؛ فيضلون ويُضلون ولا يجنون من ثمرة في الدنيا قبل الآخرة إلا ذلة وهون وبلاء وأمراض و فِتن ومصائب. ثم بعد ذلك كل من وصله دعوة الله عليه أي نبي من الأنبياء أو أتباع الأنبياء فلم يؤمن؛ فلهم عذاب الهون الشديد ولهم العذاب الغليظ ولهم العذاب المهين ولهم العذاب الأليم الدائم في الآخرة والعياذ بالله تبارك وتعالى؛ فهذه حقيقة من الحقائق العلمية، من الحقائق الواقعية، من الحقائق المصيرية، حدثنا عنها الخالق جل جلاله -وتعالى في علاه-.
ولم يزالوا مع ذلك يتجرأون ويحلون ما حرم ويحرمون ما أحل، حتى نفاجأ في مثل هذه الأوقات بجري شديد من وراء جند إبليس وراء إبليس ليستحلِّوا ما حَّرم الله، كم لعبوا فيما مضى من سنين على الربا ونشره وسط بلاد المسلمين، وكم من عقليات من المسلمين راحوا وراءهم ولا بالوا بأمر آذن بحرب أصحابه؟ قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة :278-279]. وَنَشْروا الْرِبَا بأَمْرٍ غَرِيبٍ وَصَحَّ مَا قَالَ حَبِيبُ اللَّهِ نِعْمَ الْحَبِيبِ ﷺ: "يأتي على النّاسِ زَمَانٌ لا يَبْقَى فيه أحَدٌ من الناس إلاّ أكَلَ الرّبَا، فمن لم يأكله؛ أصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ" صدقت يا رسول الله وشاهدنا هذا بأعيننا بعد ألف وأربعمائة عام مما قلت وزيادة، فأنت الذي لا ينطق عن الهوى عليك صلى الله وسلم، وشاهدنا ذلك و تجرأوا على ذلك.
ومع ذلك فهي تجربة فاشلة في الاقتصاد وتجربة فاشلة في الإدارة المالية والترتيب المالي نشر الربا وما ازدادوا إلا بلاء وما ازدادوا إلا تعبا وإلا فقرا وإلا ديونا والدول الكبرى التي يسمونها كبرى -وهي في عقيدتنا صغرى- هذه الدول الكبرى لا تزال غارقة في كثير من العجز ومن الديون التي عليها ولا يزال الله تبارك وتعالى يحكم الخلق (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة:276] جل جلاله وتعالى في علاه. ولا حَلَّ إلّا منهجُ الإله الذي خَلَق سبحانه وتعالى.
ونشروا بعد ذلك النظر إلى الصورِ المحرمة وأشاعوه في كل مكان، ودَعَوا إلى التبرج ودَعَوا إلى الفساد، ومن وقت إلى آخر جاءوا في البلدة الفلانية ثم البلدة الفلانية ثم البلدة الفلانية من الذين أثَّر فيهم وحيُ الله تعالى، والتزموا نصيبًا من ابتعاد الإختلاط بين الرجال والنساء، ومن التزام النساء بالستر وبالحشمة، إلى أنواعٍ ودرجاتٍ فيما يكون من ذلك الستر، وداهموهم بالاستهزاء بالحجاب والاستهزاء بما شَرَعَ الله، ونشروا بينهم أنواع الفساد هنا وهناك، وخَفَّ هنا ورجعَ هنا، وخَفَّ هنا ورجعَ هنا، وخَفَّ هنا ورجعَ هنا، وقاموا إلى غير ذلك مما يفعلون، ثم دَعَوا إلى إباحة الخمور وإلى إباحة المسكرات، وعَمِلوا ما عَمِلوا ونشروها وسط فنادق المسلمين، وسط ديار المسلمين والعياذ بالله، وتَبِعَهُم من تَبِعَهُم من أولئك، وكانَ ما كانَ مِمَّا أَخبَرَ به إذًا سيِّدُ الأكوان، ومن قومٍ يُسمُّونَها بغير اسمها ويشربونها جهارًا، وكل ذلك حصل وكله تصديقٌ لما قال النبي الأكمل ﷺ آياتٌ وبرهان على صدقه في رسالته وما جاء به عن الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وهكذا لم يزلِ الأمرُ كذلك وصاروا الآن يدعون إلى الزنا، ويدعون إلى اللواط، ويعملون ما يعملون جراءةً على الله، وليس لشعبٍ منهم ولا لدولة حَقُّ أن يُحَرِّمَ أو يُحَلِّل؛ خَالِقَُنا هو الذي يُحَرِّم و يُحَلِّل، وحَسبُهُم وفي كفرهم أن يَأخذوا إذا أنصفوا بالأسباب الحسيِّة ما يَضُرُ صحةَ الناس، وفطرة الناس، ومجتمع الناس، وما يهدم فِطرَتَهُم في الأُسرَة، فِطرَتَهُم في الأبوة، فِطرَتَهُم في الأمومة، ويَضُرُّهم صحيًا أن يتخذوا ذلك حرامًا وهو ما حرَّمه الله -جلَّ جلاله-، أما أن يريدوا تحليله تحت أيِّ حُجَّة فما هم إلا مفسدون في الأرض عاملون فيها بما يهدم الدين والدنيا، وبما يهدم الدنيا والآخرة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. ولم يزل المفسدون على ظهر الأرض يفعلون مثل ذلك، ويحملون من الأفكار ما يخالف الإيمان، ويحملون من المناهج ما يخالف الشريعة، وما تكون نتائجُ ذلك إلا شرًا وفسادًا وضُرًا على عباد الله جلَّ جلاله.
(وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا)، فما لهم خالقٌ غيري، ولا مُكوِّنٌ سواي، وأنا الذي كوَّنتُهم، وجعلت لهم السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، ومَهَّدتُ لَهُم الأرضَ، وأنزلتُ لهم الرزقَ، فما بالهم بعد ذلك ينسون أوامري وينصبون شهواتهم وأهواءهم ليتخذوها آلهة من دوني؟!!. ثم بعد ذلك نجد هؤلاء وهؤلاء جميعًا يُقْسَم لهم ما يسمونه نظامٌ أوقانون لابُدَّ أنْ يُحتَرَم! فما الذي فيه الحرية المطلقة؟! أديان الله وشرائع الله والعقل والفطرة السليمة، هذا أمامكم حرية مطلقة، اِلْعَبُوا به، أمَّا شيء فيه مصالحنا الظاهرة أنَّنَا نُريد أنْ نُحَقِقَّه وانتهى فكرنا إلى أنَّها ضرورية لنا؛ فعندنا نظام وقانون يجبُ أن تخضعوا له وأن تحترموه! يعني بدل: لا إله إلا الله، لا إله إلا القوانين -قوانينهم وأنظمتهم- أعوذ بالله من غضب الله؛ لا والله، الله هو الإله، ليست أنظمتكم ولا قوانينكم ولا أفكاركم الله هو الإله الذي خلق، ولا إله إلا الله، إن كان هناك نظام يحق أن يخضع له أي مخلوق؛ فهو نظام الخالق الذي خَلَق هذا المخلوق وأنشَأه، أمَّا أن تُلزِمُني بأن أخضع لنظامك الذي اخترعته بعقلك، فكَّرْتَ به ليلة وأنت سكران وأنت غير سكران، لا أدري من أين جئت به، واستحدثت النظام وتريدني أخضع له؟، وتجيء إلى نظام ربي الذي خلقني وتقول لي اتركه والعب به، أيُّ منطق هذا؟ أيُّ عقل هذا؟ أيُّ إنسانية هذه؟ أيُّ فطرة هذه؟ هذا هو جراءة الإنسان -والعياذ بالله تعالى-.
قال تعالى: ( ..أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ .. (3))، يا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) من الذي أنجاكم من الغرق؟، عمَّ الغرق من في الأرض وسَلِمَ نوحٌ ومن معه في السفينة، (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا.. ). يا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ .. (3))، لا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا، أنا الذي أنجيتكم من الغرق وأُبْقِيكُم على ظهر الأرض مُددًا قد قدَّرتُها، ثم أَرِثُ الأرضَ ومن عليها وإلينا ترجعون، (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:40]، يقول الله سبحانه وتعالى، فدَعُوا هذا الاغترار، قد أهلكنا قبلكم طوائف كذَّبوا بالرسل، ومنهم الذين كذَّبوا بسيدنا نوح عليه السلام، فلم يبقَ على ظهر الأرض إلا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ .. (3)).
يا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ .. (3))،؛ قيل أنَّ بعض الذين معه في السفينة كانوا نحو الثمانين فقط، وقيل: أنَّ الذرية انحصرت في أولاده الذين كانوا مؤمنين ورَكِبوا معه، فصار النَّاس كلهم يرجعون إلى نوح فلهذا سميِّ بالأب الثاني للبشر -على نبينا وعليه وعلى النبي آدم أفضل الصلاة والسلام-. (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)، يقول الله: أنعمنا عليكم وأنجيناكم من الهلاك وأركبنا آباءكم وسط السفينة؛ لينجوا من الانقطاع للنسل والذرية، قال تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة:11-12]، قيل حَمَلْنَاكُمْ في السفينة مع نوح، تجون بعد ذلك تُكَذِبُون وتجحدون وتخالفون وتحلون ما حرمنا وتحرمون ما أحللنا، والعياذ بالله تعالى.
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)) فاشكروني كما شكر نوح، وكان سيدنا نوح كثير الحمد والشكر لله تعالى، وكان متبوأ ذُرىَ الشكر عليه صلوات الله وتسليماته. وكان يكرّ الحمد على كل أكلة يأكلها، وكل شربة يشربها، وكل لباس يلبسه، وعلى الأحوال المختلفة، واجتهد وجاهد، واجتهد وصابر، وكابد تسعمائة وخمسين سنة، يضربونه يسبونه يشتمونه يستغشون ثيابهم، يَجْعَلُونَ (أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) [نوح:7]، يصرون يستكبرون استكبارا؛ وهو صابر لله تعالى و(كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)) صلوات الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)).
قال تعالى: (وَقَضَيْنَا)؛ حكمنا وأخبرنا، قضينا عندنا في أم الكتاب بما سبق من علمنا، وأخبرنا بني إسرائيل بذلك في التوراة التي أنزلناها إلى موسى (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ) -من ذرية سيدنا يعقوب عليه السلام- (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)، ذكرها الله وقد حصلت، (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4))، أي تطلبون العلو بالباطل، وتطلبون مظهر العلو الذي يغر أكثر الناس على ظهر الأرض وما تحته شيء؛ سلطة وشهوات وذهب وفضة وانتزاع حقوق الغير؛ (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4))، وبذلك قال الله تعالى: أن الرابحين الربح الأكبر والفائزين الفوز المؤبد؛ هم الذين يتنزهون عن أن يلتفتوا إلى هذا العلو المزعوم المكذوب المنتهي الفاني (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
وقال عن من طلب هذا العلو، وكيف كان نهايتهم؟ (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) [القصص:4]، وجعل أهل الشيعة يستضعفوا بعضهم بعضهم. وقال سبحانه وتعالى في ذكر عُلُوِهم أنهم استكبروا لما جاءهم سيدنا موسى عليه السلام وكانوا من العالين المستعلين المتكبرين، فأصحاب هذا العُلُو المزعوم المكذوب الذي خُدِع بأول من خُدِع من ولد آدم إلى المخدوعين اليوم في زماننا، السعي وراءه؛ عين الهوان وعين الذل والخسران قال: (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا) -أي وعد الانتقام منكم، من الإفساد الأول، إفساد المرة الأولى- (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا) -خَلْقًا مِّنْ خَلْقِنَا- (أُولِي بَأْسٍ) -قُوَّةٍ- ، (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ)، تخلَّلوا دياركم بالبحث والتنقيب، وصاروا بين دياركم يبحثون عن من لم يقتلوه ليقتلوه. (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5))، لابد أن يكون (وَكَانَ).
يقول: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ..(6))، بقدرتنا نعز من نشاء، ونذل من نشاء، وأنه يكون في خلقنا من أعززناه في الظاهر بكثير من الأمور فيفسد في الأرض ويخالف منهجنا؛ فنذله بعد العز. وكم من ذليل مستضعف ننظر إليه؛ فينيب إلينا ويتوب فنرفعه ونعلي قدرة؛ فلا يصعب علينا إذلال العزيز ولا إعزاز الذليل، والأمر بيدنا؛ (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]. يَقُولُ اللَّهُ: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ..(6))، كما قال أيضاً عن أصحاب سيدنا موسى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى..) [القصص:5]، بعد أن قال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) [القصص:4-6]، (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ..(6))، (أموال) كثيرة تستعينون بها على الجهاد وعلى الطاعات، (وَبَنِينَ) كثير من أولادكم، لكم بهم قوة يتجندون معكم في الخير. (وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)).
يقول سبحانه وتعالى: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا .. (7))؛ لأن هذا هو ميزان الله القائم، ثم ذكرجل جلاله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ)؛ أي وعد انتقامنا منكم بعد فسادكم مرة أخرى (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ)؛ يعني بعثنا عليكم عباد لنا. (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ .. (7)) يظهر السوء على وجوهكم من الحزن الذي يدخل عليكم؛ وهذه سنة الله في الوجود كما يأتي معنا الحديث عنها إن شاء الله في مجلسنا الآتي عن هذه الآيات العظيمات وسنة الله في هذا العالم (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب:62].
ثبِتنا الله على الإيمان والتقوى، وتوَّلنا في السرِّ والنجوى، وأعذنا من كل زيغٍ وبلوى، وأعذنا من مُجيبات الندامة والخزي والحسرة في الدنيا ويوم القيامة، وأعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، وارزقنا حُسن إتباع خاتم رسلك وآخر أنبيائك عبدك المصطفى محمد أصفى أصفيائك وأحب أحبائك، صلِّ عليه وعلى آله وصحبه وعلى الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه وتابعيهم، وثبتنا على ما تحب، واجعلنا في من تحب برحمتك.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابة
الفاتحة
15 ذو الحِجّة 1444