تفسير سورة الإسراء، من قوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ.. )، الآية: 47

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الإسراء: 

{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}

مساء الإثنين: 17 ربيع أول 1445هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمدُ لله مكرِمُنا بالوحي والتنزيل، على قلب عبده خير معلِّم وهادٍ ودليل، سيدنا محمدٍ من ختم به النبوة والرسالة، وجعل دلالته للخلق عليه خير الدلالة، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك المجتبى المختار سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن والاه واتبع منهجه الأرشد وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، ممن لهم شرَّف الرحمن وفضَّل ومجَّد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

أما بعد،، 

فإننا بفضل الله بتأملنا لخطاب ربنا وكلامه وتوجيهه وتعليمه، انتهينا في سورة الإسراء ومررنا على هذه الآية يقول جل جلاله: (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا)، وحدَّثنا الحق تعالى في هذه الآية عن مهمة الاستماع من كل عاقل، فإن كل مُنصف وعاقل: 

  • إذا أحسن الاستماع إلى الحق الذي جاءه من إِلَهه الذي خلقه، فسيَتَبين صدق هذا الحق وأحقيته وصحته وعظمته، بل يتبين أنه لا حقَّ سواه وأن كل ما خالفه باطل. 
  • لكن مشكلة عدم الإصغاء والإنصات على الوجه اللائق، على الوجه الصحيح، الذي به يُدركُ ما يقول النصيح، وما في القول عذب الطيب المليح، لا يُدركُ ما فيه من عذوبة وملاحة وطيب إلا بُحسن الإصغاء والاستماع، ومن لم يُحسن الإصغاء والاستماع فصار يستمع، ماخوذًا في باطنه بشهواته أو آفاته أو شيء مما عوّقه عن حسن التدبر والتأمل، فإنه يقلُّ نفعه ولا يهتدي إلى الحق الذي ألقي إليه ولا يتبين له وجه الصواب فيه. 

أيها المؤمنون بالله جلّ جلاله؛ استفادتنا من كلام الله على قدر حُسن الإصغاء والاستماع، كذلك استفادتنا من كلام رسوله، ويتفرع عنه استفادتنا من كلام أهل بيته وصحابته وعلمائه وخيار أمته من أهل خلافته ما ننتفع بشيء من ذلك؛ إلا إذا حسُن منا الاستماع وصح وقام على الوجه المرضي ففي ذلك يقول الرحمن: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر:17-18]، يستمعونه بإنصاف وبتعظيم وبمحبة وبحسن تأمل، فيهتدون إلى أنه الحق فتنبعث هممهم إلى اتباعه وتطبيقه فيتبعون أحسنه، (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:18].

إذًا فما السبب في ضلال العباد و زيغهم وانحرافهم وعدم إدراكهم للحقيقة؛ إلا قلة إصغائهم. فليس السبب عدم وجود قول الحق ولا القائلين بالحق، ولكن الإنصات إلى الحق والإصغاء له كيف يكون، فعلى قدر حسن الإصغاء والاستماع. جميع العقلاء من بني آدم والجن على ظهر الأرض، لو أحسنوا استخدام العقل لما كان فيهم كافر ولا مشرك ولا ملحد ولا متكبر؛ ولكن سوء استخدامهم للعقل وضعف إنصاتهم لكلام الرب وكلام رسوله ﷺ يقوِّي فيهم غلبة الأهواء والشهوات عليهم، وغلبة الباطل عليهم، ولكن لو أقبلوا بكلية ووجهة قوية للإصغاء إلى كلام الله جلّ جلاله وكلام رسوله؛ لكفاهم ذلك وشفاهم ورقاهم وأعلاهم ووقاهم عِلَلَ نفوسهم وآفاتها وشر القواطع التي تقطعهم عن الإله الحق -جل جلاله- عن القرب منه وعن الوصول إليه. 

يقول جلّ جلاله -وتعالى في علاه-، في ما تقدم من وصف أولئك: (وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ..(46))؛ أغطية على القلوب وثِقل على الأذان حتى لا يسمعوا. (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ..(46)) من دون ذكْر آلهتهم والتي أشركوها مع الله؛ (وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46))، نافرين، لأنه تركّز في أذهانهم وعقولهم الاستسلام الكامل لإتخاذ الأصنام آلهة من دون الله، فإذا لم تُذكر الأصنام لم يستطيعوا أن يُحسنوا الاستماع ولا ترغب نفوسهم فيه، وإن كان حقا صريحا فيولون مدبرين -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. 

(وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ..(47))، يستمعون بشهوات وبآفات وبأهواء وبنظرات وتقدير مُسبق من قبل، يستمعون باستهزاء، باستخفاف، بإرادة الرد عليك والإنكار لما تقول، وتتبُّع إن كان هناك كلمة يمكن أن يستهزئوا بها أو يجعلوها مصدر استهزاء أو مصدر حق على المتكلم؛ فهم بهذه الحالة يستمعون فلا ينتفعون. إنما ينتفع من أصغى بمصداقية، من أصغى بإنصاف، من أصغى يريدُ الحق، يريدُ أن يفهم الحقيقة ومعنى الكلام فهذا الذي ينتفع بكلام الحق. وهكذا، الحق عزيز، ويُدركه من سبقت له سابقة السعادة وقام بحق الإنصات والتعظيم والمحبة وكذلك كانوا يستمعون القرآن: (إِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:83].

أيها المؤمنون بالله .. يجب أن نُحسن الإصغاء والاستماع إلى كلام الله وكلام رسوله وإلى صفات نبيه ﷺ، والتي هي في حياة الأمة تُدار كؤوسها وتُذكر تلك المعاني في أوصاف المصطفى، وفي مثل شهر ربيع الأول تكثر قراءة تلك السيرة وتأمل تلك الأخلاق؛ ينبغي أن نُحسن الإصغاء والاستماع، ولا تقول لي عبارة تذكر شيئا من أوصاف رسول الله أو أخلاقه أو نعوته أو شيئا مما بلَّغه عن الله، لا تقابلها بأنك تحفظها أو قد سمعتها مرة؛ قابِلْها بتعظيم ومحبة وكأنك لأول مرة تسمعها؛ فسينفتحُ لك من معانيها ما يُنورك وما يُطهرك وما يقوي رابطتك بالله وبرسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: 

  • فنحتاج إلى هذا النوع من الإصغاء لسيرة نبينا ﷺ ولسنتهِ ولِما جاء به عن الله جلّ جلاله وتعالى في علاه. 
  • ونحتاج أن نتقِ الله تبارك وتعالى في حسن إصغاء أهل كل بلدة ومحلة لمن فيها من أهل التقوى وأهل الصلاح وأهل الصدق بتعظيم ومحبة وتأمل، فسيقفهم ذلك على حقائق من دينهم الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى وأرسل به عبده ومصطفاه سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى أهله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه، 

نحتاج إلى أن نُقيم حياتنا على هذا النوع والكيفية من الاستماع والإنصات لكلام الله ورسوله وكلام خيار الأمة. وقد كان رعيلنا الأول يستمعون من رسول الله و"كأنَّ على رُؤُوسِهمُ الطَّيرَ"، كأن على رأس كل واحد منهم طائر مُبرِّح لا يريد أن يطير، من قوة سكونه وعدم حركته، يكون الطائر مُبرحا يظنه جمادًا فلا يحتاج إلى الانزعاج والطيران، فهكذا كانوا ينصتون إليه ﷺ ويصغون إلى ما يقول؛ وبذلك انتفعوا وارتفعوا. رزقنا الله حسن الإصغاء والاستماع. 

قال: (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ..(47))؛ أي وحالهم وهم يستمعون إليك. (وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ)؛ أي يكلم بعضهم بعض بما تكنُّ صدورهم من تحامُل عليك وتكذيب بك. (وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ)، وما في نجواهم ذلك؛ ذكرَ المثال مما يتناجون به ويتكلمون عند سماعهم لكلام النبي ﷺ. قال: (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا (47))، وهنا عندما يغيبُ درْك الحق، ويغيب الفهم والوعي للحقيقة، تنقلب الموازين فيسمى الصادق كاذب، و الأمين خائن، والتقي فاسق، وتنقلب الموازين. ويقال للطاهر الرحيم النافع ساحر كاهن مجنون إلى غير ذلك، فيكون ميزان غير صحيح مقلوب تمامًا؛ وهذا من تداعيات عدم قبول الحق، وعدم إدراك الحق. 

فإذا لم يُدركوا الحق انقلبت الموازين كما هو حال الكفار والأشرار: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) [الأنعام:112]، وما بين شياطين الإنس والجن وحي، (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف:37]، يدَّعون أنهم في ذلك مفكرون، وأنهم في ذلك عبقريون، وأنهم في ذلك مميزون، وأنهم مثقفون، وأنهم مدركون للحقائق، (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا) [الزخرف:37-38]، رجعوا إلى الله وانكشفت الستارة وأدركوا الحقيقة، يقول الواحد منهم للثاني: (قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف:38]، (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ) -من يغفل عن ذكره- (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36]، فوحي الشيطان ومن معه من شياطين الإنس والجن، يسلك في عقول وقلوب الذين غفلوا عن ذكر الله. 

(وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36]، فالذين لا يجلسون مجالس الذكر ولا يحضرونها، والذين يحضرونها صورة، وبأجساد بلا قلوب؛ تكون قلوبهم وعقولهم تماثل وتقرب من عقول وقلوب الذين لا يذكرون الله ولا يحضرون مجالس الذكر ولا يُكثرون ذكر الله في خلوات ولا جلوات؛ تكون عقولهم وقلوبهم مهيئة ومستعدة لقبول الباطل والضلال، بل مسرح لإلقاء إبليس خواطره وتصويراته ودجله وكذبه وخداعاته، ولكن هذا في عقول وقلوب الذين انقطعوا عن ذكره، (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف:36-37]، وحسابهم هذا الباطل حسابهم الغير الصحيح ما ينجيهم ولا ينقذهم ولا ينفعهم، (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ)؛ ما ينفعهم أنهم ظنوا أنهم مهتدون وقد أعرضوا عن الإصغاء للهادي، والإصغاء لقول الحق الذي يهديهم إلى الحق جل جلاله وتعالى في عُلاه.

فإذاً حصوننا من أن يمتد الفساد إلينا من إبليس وجنده بتقليب الموازين في الأذهان والعقول، حصوننا من ذلك؛ ولَعُ قلوبنا بذكر ربنا جلّ جلاله وذكر رسوله محبةً وتعظيماً وتمكُّن ذلك من صدورنا وقلوبنا، فإن إبليس وجنده يخنسون إذا ذكرنا الملك القدوس جلّ جلاله، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَٰهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) [الناس:1-4]، يخنسُ كلما ذُكر الله (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس:4-6]، إذا ذكرنا الله سبحانه وتعالى خنس، (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:36] جل جلاله.

هؤلاء الذين يستمعون للنبي بهذه الصورة، فما انتفعوا ولا أقوى حجة ولا برهان ولا أوضح بيانًا ولا أحسن عظمةً ورُقِيًا وروحانية من محمد ﷺ ومع ذلك كانوا يستمعون له بهذه الصورة فما انتفعوا، (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا (47))،  ظالمون، ظلموا أنفسهم و عكَّسوا الموازين وعرَّضوا أنفسهم للنار بدل الجنة، وللعذاب بدل النعيم، وللغضب بدل الرضا، وللإهانة بدل الرحمة؛ بهذا المسلك الذي سلكوه فهم ظالمون، (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا)؛ غُلب على عقله يأتي لكم بهذا الكلام، وهم ما يقدرون يأتون بمثله، ويعلمون أنه ملآن بالحكم والمنهج القويم؛ ولكن يُسلون أنفسهم بهذا التجري والتجني على الحق الواضح؛ لأن نفوسهم ما تريد أن تقبله وما تريد أن تستسلم له فيقولون هذا الكلام: (انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ..(48))، أنت أمام أعينهم؛ الأعقل .. الأكمل .. الأفضل .. الأوزن قولًا، والأحسن صياغة، والأجمل تعاملًا، ويقولون لك: مسحور، ما هذا؟! ما هذا؟! ظالمون يظلمون أنفسهم. 

(انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ..(48))، أين ذهبوا بعقولهم؟ أين ذهبوا بِفِطَرهم؟ أين ذهبوا بأسماعهم وأبصارهم؟ أمثال هذا الجمال الصافي الأقدس يُقال عنه هكذا؟! معاملة ما مثلها معاملة ، خُلق ما مثله خلق، أدب ما فوقه أدب، عقل ما أرجح منه، وإحسان حتى إلى المسيء، وتأتي تقول مسحور! تأتي تقول كذاب! تأتي تقول مجنون! مجنون يكون بهذه الصورة؟ كيف يكون بهذه الصورة مجنون؟ إذًا ما العقل بهذه الصورة، ما شي عقل في العالم! (انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا ..(48))، خرجوا عن سواء السبيل، هم ومن تبعهم. 

(انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48))،  سبيلًا بالمعنييْن: 

  • لَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا: بهذا الحال الذي ارتضوْه وحجبهم عن الحق، لا يهتدون سبيلًا إلى إدراك الحق أصلًا؛ لا يستطيعون سبيلًا. 
  •  ولَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا: في إبطال ما جئتَ به ولا في إنهائه من هذه البسيطة، 

بل لنُظهره عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؛ بل لننشر اسمك إلى ممر القرون قرنًا بعد قرنٍ ما دامت هذه الأرض وما دام القرآن الذي أنزلنا إليك بحفظنا؛ وما دامت إرادتنا بأن يبقَ لك في الأرض أتباع؛  (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48))، لن يُنهوا المسلمين؛ ولن يستأصلوا المسلمين؛ ولن يجتاحوا المسلمين؛ ولن يُبيدوا المسلمين؛ وسيبقى لك أتباع يترنّمون بوصفك وبمدحك وبقولك إلى آخر الزمان؛ انظر، من عهده وهم هذا الصنف موجود وإلى اليوم وذِكر مدح المصطفى يحِنُّ في الآذان؛ ويتردد في كل مكان؛ صلى الله على المنصور من قِبَلِ الرحمن. 

(انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48))، لا يقدرون على أن يهدموا الحق الذي بُعثتَ به ولا أن يهتدوا إليه هم؛ لأنهم ارتضوا لأنفسهم الغرور والزور وصدّوا أنفسهم ومن تبعهم عن الاهتداء بالأمر البيِّن الواضح القوي الطيب؛ كلام الله وكلام رسوله ﷺ. (انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ..(49))، يُحبون أن يحتجوا بأي حجة يحاولونها ولا حجة لهم على إبطال ما تقول وما تأمرهم بالإيمان به من البعث بعد الموت والرجوع إلى الحي القيوم الذي لا يموت. (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا ..(49))، رجعنا عظام، وأنتم الآن عظامًا!  قصدهم بعد أن نزع الروح رجعنا عظام في تصوراتهم وأذهانهم القاصرة أن العظام كيف ترجع تحيا ثاني مرة، إذا قد فقدت الحياة يقولوا: 

  • (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ..(49))، رُفات، تفسُّخ الجسد حتى يصير قريبًا من التراب يقرُب للتراب. هذا التراب رُفات. 
  • (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ..(49))، ويُطلق الرفات على: الغبار وعلى التراب نفسه وما قارب التراب بعد تحلله فيصير رفاتًا، أي إذا كنا عظامًا ورفاتًا بعد هذا!

(أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدً (49))، ورأوا أنَّ هذا حجة، وأنه عقْل مع أنه تمامًا مُضاد للعقل؛ العقل يقول لهم: هذا العظام وهذا الرفات كان حيًا عندكم. كيف حيِي؟ كيف حيِي أولًا؟ أنت الآن تقول كيف يعود إلى الحياة؟! كان أولى بك أن تقول كيف كان حيًا أولًا؟ لأنه هو الأصعب أن يُبتدأ الحياة! أما العود إلى الحياة كان حي! فأين الإشكال؟ عمِلَ له حجة ودليل وهو كلام معكوس تمامًا، ما في حُجة ولا في أصل يقوم عليه، كلام معكوس؛ (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدً (49))، نرجع ثاني مرة بعدما صرنا بعد الحياة عظامًا ورفاتًا؟ عجيب! والعظام هذا والرفات كان حي؟!! كيف حيِي أولا؟!! الحجة عليكم في هذا -الله الله الله- أما عودته فما هو بأقل من نشأته وبدايته. 

يقول: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدً (49))، قال: أنتم استكبرتم عوْد الحياة إلى عظام ورفات! ارجعوا إلى أي شيء هو في نظركم وتصوركم القاصر أصعب أن يعود حي، ارجعوا حجارة، ارجعوا حديد، (قُلۡ كُونُواْ حِجَارَةً أَوۡ حَدِيدًا (50))، أو شيء في أذهانكم و تصوركم أنه ما يمكن يرجع حي، (أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ..(51))، يعظُم أن يعود إلى الحياة، ارجعوا كذلك؛ أنا الذي خلقتكم أول مرة وأعيدكم كما شئت؛ إن إرجاعي لكم إلى أي نوع وتركيب وتصوير من الخلق، لا يُفقدني قدرتي على إحيائكم كما أحييتكم أول مرة. 

(قُلۡ كُونُواْ حِجَارَةً أَوۡ حَدِيدًا (50))، ما هو إلَّا عظام وإلَّا رفات! (حِجَارَةً أَوۡ حَدِيدًا (50)أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ..(51))، إذا رجعنا كذا من الذي بيردنا، (فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ ..(51))، انشأكم أول مرة، أنشأكم في  أول الخلق أو انشأكم أول مرة، (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ..(51))، يعني أنشأكم من دون أن يكون لكم شئ، ابتدأ خلْقكم أول مرة.(قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ)، إبتدأ خلقكم أول مرة، (فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، والحجة قائمة عليهم، وهم يحاولون كأن عندهم حُجج وموازين، فسيقولون من يعيدنا. إذا (كُنَّا عِظَامًا)، أنتم كنتم أحياء، وتحوُّل هذا الحي في نظركم إلى عظام ورُفات، هل ممكن أن يعود؟ لكن كيف كان حي أول؟ أول مرة هو الأصعب! وليس ثاني مرة! ليس لديهم حجة، فسيقولون: (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، هو الذي يعيدكم، (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ ..(51))، يرفعونها ويخفضونها، قامت الحجة عليهم، ولا يوجد شئ معهم، يحاولون أن يستهزئوا فقط، لا يوجد عندهم دليل، يحاولون يستهزئون ويقولون: (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ)، يرفعونها ويخفضونها، ويقولون: (وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ..(51)) يقولون مَتَىٰ،  وليست غير ممكن؛ لأن -غير ممكن- هذه ذهبت منهم، قالوا مَتَىٰ فقط، مَتَىٰ. 

(قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51))، لأنه آتٍ بيقين، كل آتٍ فهو قريب، (قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51))، وسيكون هذا العَود للعظام إلى الحياة والرفات والتراب بقدرة الله الذي خلقكم أصلًا من تراب في البداية، كوّن أجسامكم من تراب، ونفخ في الروح ثم يعيدكم مرة أخرى. قل لهم هذا يكون (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ..(52))، على لسان إسرافيل بالنفخ في الصور (فَتَسْتَجِيبُونَ)، تقوموا كما جاء (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام:94]، وما أحد قَدَر منكم أن يمتنع ويعيدكم ثاني مرة ولا أحد منكم يمتنع، (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:47]، رجعوا كما كانوا، الله أكبر.

 قال: (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بحَمْدِهِ ..(52))، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68]، ويستوي في قدرة الله حجارة .. حديد .. عظام .. رفات، أي شيء يريد أن يحيه، بل من دون شيء! يوجد الشيء، قد كانت الأشياء كلها غير موجودة، ما كان حديد، ما كان عظام، ما كان رفات؛ ما كانت موجودة أصلا؛ هو أوجدها. وأي شيء يريد أن يوجده فقدرته صالحة،  وهذه الآيات أمامكم، كل مخلوق دليل لكم على قدرة الخالق، فماذا تنكرون من قدرته؟ ماذا تنكرون من قدرته؟ وماذا تريدون أن تنزعوا من قدرته؟ ولا قدرة لكم على ذلك فهو القدير-جلّ جلاله-. 

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بحَمْدِهِ ..(52))، بحمده، يقول: احمدوا الله على أنكم سترَوْن تصديق ما قلتُ لكم وتستجيبون بحمده في يوم انكشاف الحقيقة؛ الكل يحمده، والكل يعلم أنه مستحق للحمد والتعظيم والإجلال جلّ جلاله. (تَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52))، لما صادفتم هذا المرجع الكبير، علِمْتم أن بقاءكم في الدنيا ما هو إلا قليل؛ لأنه زال وانتهى وانقضى والزائد المنحصر قليل، إنما الكثير ما يدوم؛ وهي حياة الجنة وحياة النار وما قبلها ينقضي (وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52))

فهكذا يُبيّن الله لنا كيف ننتفع ونستفيد من حسن الاستماع والإصغاء وكيف يكون لنا من الإيمان واليقين مزيد؛ بحسن استعمال هذه القوى العقلية والذهنية، وما آتانا من أسماع وأبصار، مهما أحسنا استخدامها؛ اهتدينا إلى زيادة الإيمان وزيادة اليقين وأيقنَّا أن الحق ما قاله الله وما بعث به رسوله ومصطفى ﷺ، وأن إحياءنا بعد الموت ليس أصعب ولا أبعد من إحيائنا قبل الموت، والذي خلقنا أول مرة يعيدنا كما خلقنا جلّ جلاله (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104]، (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ) [مريم:66-67]، في القراءة الأخرى (أَوَلا يَذَّكَّرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم:67]، ما كان شيئا، و خلقناه، وبعد ذلك يقول: كيف رجع؟ كيف جئت؟ قل لي كيف جئت؟ -سهل- ترجع، المشكلة أفقه وأعرف كيف جئت؟ من أين جئت؟ كيف جئت؟ فكر! من أين جئت؟ ولماذا جيء بك إلى هذا العالم؟ ما هو إلا ليختبرنا؛ (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2].

 رزقنا الله كمال الإيمان، كمال اليقين، كمال التقوى،  كمال الاستقامة. يا رب اجعل قلوبنا مصغية لوحْيك على الدوام، مُنسطة لما بلّغ خير الأنام، حتى يدوم ارتقاؤنا إلى مقام بعد مقام على مدى الليالي والأيام، وتُختم أعمارنا بأحسن ختام يا ذا الجلال والإكرام، و تهيؤنا لمرافقة خير الأنام، من جاءنا بالحق والهدى منك وخير نظام، صلِّ يا رب وسلم عليه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله ومن تبعه على الدوام، في خير برحمتك يا رحم الرحمين، وعلينا معهم وفيهم. وفرّج كروب أمته وأدفع البلايا عنهم، واختم لنا بالحسنى وأنت راضٍ. 

 

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

 

 

تاريخ النشر الهجري

18 ربيع الأول 1445

تاريخ النشر الميلادي

02 أكتوبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام