تفسير سورة إبراهيم، من قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا..}، الآية: 12

تفسير سورة إبراهيم، من قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا..}، الآية: 12
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة إبراهيم، من قوله تعالى: 

{وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَاۚ وَلَنَصۡبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيۡتُمُونَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَٱسۡتَفۡتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ (15) مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ (16) يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ (17) مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ (18)}

ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية في دار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية

نص الدرس مكتوب:

الحمدُلله، مكرمنا بآياته وتنزيله، على لسان عبده وخليله، سيدنا -محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه- وأهل ولائه ومتابعته في فعله وقيله، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

أما بعد،،

فإننا في نعمة تأمُّل كلام ربنا الخلاق وتعليمه وتبيينه وإرشاده، على لسان خير عباده، تأمَّلنا أوائل سورة إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ومررنا على قوله تعالى، حاكيًا عن المرسلين في مخاطبتهم لأممهم: 

(وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَاۚ وَلَنَصۡبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيۡتُمُونَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ (12))(وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ)! كيف لا نتوكل على هذا الإله؟  كيف لا نعتمد عليه؟  كيف لا نثق به؟ وكل من عرف الله وآمن بالله كان حتما له أن يتوكل على الله، فهو يوقن: أن ليس من شيء غير الحق تعالى إلا وهو فِعْل الله وتصويره وتقديره وتدبيره وخلقه -سبحانه وتعالى- و(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام:1]، الله خالق كل شيء جلَّ جلاله، وبيده ملكوت كل شيء. 

(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ..(12))؛ فوجب أن يصرف المؤمنون همتهم لتحقيق الاعتماد على الإله والتوكل على الله -تعالى في علاه- والاستناد إليه والتعويل عليه والثقة به جلّ جلاله -وتعالى في علاه-. قال الله عن رعيلنا الأول: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:173-175]. يجب أن نحافظ على القلوب، أن لا يحلَّ فيها فساد الوهم بخوف غير الله، والاعتماد على غير الله، ورجاء سواه -سبحانه وتعالى- من أنفسنا ومن أهلينا وأُسرنا وأولادنا و أصحابنا وأصدقائنا؛ حتى تصحَّ منَّا القلوب عن أمراض الوهم والخيال والاعتماد على غير ذي الجلال جلّ جلاله، ويصح لنا الإيمان به. 

(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ..(12))، ونحن نبذُل وُسْعَنا في الأسباب لكن بقيد الشريعة و بإعمال الرأي والعقل والهدي النبوي وهدي الصالحين، ننطلق في ذلك في طلب للعلم أو عمل به أو تعليم لهُ أو نفع للعباد والبلاد أو استرزاق أو استصلاح شأن أو حال، في النفس أو الأسرة أو الأصدقاء أو البلدة إلى غير ذلك؛ معتمدين عليه متوكلين عليه، في أن يوفقنا ويرزقنا الإخلاص لوجهه والصدق معه، وأن يقبلنا وأن يهب لنا النتائج والثمرات الطيبات. 

(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَا ..(12))، طُرقنا فيما يجب أن نحب وما يجب أن نبغض، فيما نقبل وما نرفض، فيما نأتمر به ونعمله، فيما نتركه ونجتنبه وننتهي عنه،  (وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَا ..(12))؛ وضَّح لنا طرقنا في خيرات ديننا، في خيرات دنيانا وآخرتنا بالشرع الذي شرعه لنا. (وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَا) -اللهم اهدنا فيمن هديت- (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ..(12))؛ من إنكارٍ ومن تكذيبٍ ومن تهديدٍ ومن تخويفٍ ومن مكرٍ ومن حسدٍ ومن افتراءٍ ومن اجتراءٍ إلى غير ذلك، مما يتعامل به هؤلاء من الأذى، وكانت سُنَّة الله أن أوذي الأنبياء وأوذي أتباع الأنبياء.

إذًا، فلا تقلق من وجود أذى إذا كنت متمكن في الإيمان، وثابت القدم على الاستقامة على ما يحب الرحمن؛ هذا هو المقصود أن تحققه ثم لا يقلقك شيء من الأذى ولا شيء من النوازل ولا شيء من الشدائد. لا تقلق لذلك؛ واعلم أنها السبيل الذي مضى عليه النبيون وأتباعهم من الصديقين والعلماء والعارفين.

(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ..(12))، (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:34]، إذًا فالمهم أن يقْوى بك الإيمان ويستقر في قلبك، وأن تستقيم على ما يُحب ربك، وبعد ذلك لا تبالي بشيء آخر وكن معتمدًا على الحق، وأعلم أن في هذه الأذايا أو الرزايا أو المصائب حِكم، وأعلم أنها من عنده يبتلي بها عباده؛ ليفوز من يفوز و ليخسر من يخسر و ليسعد من يسعد و يشقى من يشقى؛ (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال:37]، (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ*سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:4-6]، (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة:13]، و(لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) [الرعد:31]، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [يونس:99-100].

اللهم ثبتنا على الإيمان وزدنا إيمانًا ويقينًا وارزقنا الاستقامة على ما تحبه منا وترضى به عنا يا رب العالمين. 

يرسل الحق الابتلاءات، فإذا علم الأنبياء وهمُ الأعلم، ثم أتباعهم على حسب المراتب، أن ذلك من الحق ليعلي الدرجات لمن شاء، ويكفر السيئات عن من شاء، ويهدي من يشاء؛ اطمأنوا حتى بالشدة، اطمأنوا حتى بالتعب والبلاوى، وفي ذلك يرون أن مقابلهُ جزاء حسن، وعاقبته حسنة طيبة مباركة، ثم قد يقوى بهم اليقين ذوقًا حتى يتلذذ بكل ما يصيبهم، وفي ذلك يقول قائلهم :

       مُرُّ ما مر بي لأجلك حلوٌ *** 

و عذابي من أجل حبك عذبُ 

وهكذا يقول: إذا رأيتُ بلاء فتذكرتُ أنك أنت المبتدي والمقدّر، اطمأن قلبي وصبرتُ. وقال بعض العارفين:  برد جأشي على مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وفي هذا الذوق الرفيع قال قائلهم:

  أراني في هواكم ما أُبالي *** وما ملّيت من سهر الليالي 

عذابكم الأليم أراه عذبـــــاً *** وفيكم ذقت طعم المُرُّ حالي

       فإن ترضونني في الحب عبدا *** فإني قد رضيت بكم موالـــــي

    رضيت ما رضيتم لو قطعتم *** يد اليمنى مددت لكم شمالي 

  وهكذا تكون الأذواق وهي من غالي الأرزاق لمن أحب الخلاق -جل جلاله وتعالى في علاه-.

قال الرسلُ: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12))؛ أي إن كان هناك شيء يصح التوكل عليه ويُحمد ويستقيم فهو الله. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ..(13))؛ وهذه تهديدات أرباب الباطل والضلال والكفر في مقاومتهم للحق والهدى،  (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ)، من الأنبياء صلوات الله عليهم، (لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا)؛ فالأرض أرض الله جلّ جلاله، واغترُّوا بما مكّنهم في شيء منها، فظنوا أنها أرضهم، وهمْ والأرض والسماء ملكه وعبيده -جل جلاله وتعالى في علاه-، ونسبوا الأرض إلى أنفسهم كما ترى فيما ذكرنا من انحرافات، أفكار الذين انقطعوا عن نورالله جلّ جلاله، ويرون أن الأرض أرضهم وأن العالم عالمهم وأن لهم حق التحكم وحق التدخل في أي شيء، وحق سَنِّ الشرائع وإعداد النظام لكل الخلق على ظهر الأرض كما هي في عقليات كثير ممن زاغوا، ولم يدركوا إنسانيتهم ولا آدميتهم ولا خلقهم ولا لم خُلقوا ولم يعرفوا خالقهم -جل جلاله وتعالى في علاه-.

(وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ ..(13))، اللام لام القسم، نُقسم أننا سنخرجكم من الأرض وهل هم معكم في الأرض شركاء أو لا؟ وولدوا فيها كما ولدتم فيها! وبعتوا فيها! ما لكم تقولون أَرۡضِنَآ؟! مظاهر الغرور والزور مظاهر الغرور، مُلكنا -على أرضنا- و قال ﷺ: "يقول الإنسان ما لي ما لي وما لابن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى أو قَدّم فأبقى أو خلَّف فندم". هل في  شئ غير هذا؟! لايوجد هناك شيء، والمال مال الله،  والأرض أرض الله،  والسماء سماء الله -جلّ جلاله- و (إِنْ كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا) [مريم:90]، -جل جلاله وتعالى في علاه-. 

(لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ ..(13))، وأنواع التهديدات تصدر من الأفراد، ومن الجماعات لكثير من الأخيار ولكثير من الصالحين ولكثير من الصادقين. (أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ..(13))، يعني تصيرون إلى ملَّتنا وتخرجون عن دينكم هذا؛ فالمراد بالعودة الصيرورة، فإنهم لم يكونوا على دينهم أصلا. ولكن عبَّروا ب (أَوۡ لَتَعُودُنَّ) أي لتصيرون مثلنا قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89]، (أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ..(13))

وكذلك قد حدّثنا سبحانه عن قوم شعيب أنهم قالوا نفس المقال: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) [الأعراف:88]، انظروا، تدَّعون الحرية وتدَّعون الحقوق للناس تكرهوننا على ديانة ما نقبلها ولا تصح؟ باطلة!! ونكون (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) [الأعراف:89]، وما يكون لنا نعود فيها إلا أن يشاء ربنا، مقلِّب القلوب واحد من فوق، ونحن ثابتين إن شاء الله ونخاف أن تزيغ قلوبنا، فلو أزاغنا لزُغنا مثلكم -لا إله إلا الله- في مراقبته لله تعالى، (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ۚ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، اُحكم بيننا وبينهم وأفصل الأمر (وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [لأعراف:89].

قالوا: (لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ..(13))، كل من هؤلاء الرسل الذين تُحدوا بهذه التحديات من قِبَل القوى الكافرة على ظهر الأرض، (فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ ..(14))، قالوا: سوف يخرجوكم من الأرض، ينظرون؛ هل الأرض أرضي أم أرضهم؟! هم سأُهلكهم وأنتم ستَرِثُون الأرض، قال الله لرعيلنا الأول: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ) في سورة الأحزاب، يقول جلّ جلاله -وتعالى في علاه-: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) [الأحزاب:27]، قال سبحانه وتعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) -يعني من قوم سيدنا موسى- (مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) [الأعراف:137]، (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]. 

(فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ ..(14))، قال الله وهذا إهلاك المُعادي وإسكان الأرض التي كان يُهدِّد بالإخراج منها، ثابت لكل من خاف و(ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14))، أي واحد على ظهر الأرض يتعامل هذا التعامل، مؤمنا بي ومصدقًا بوعدي يخاف مقامي، أوْقفه بين يدي، قيامي على الأرض والسماوات وما فيهن ومن فيهن، عظمتي وجلالي، خاف مقامي وخاف وعيدي وعذابي (ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14))، كل من كان كذلك، فتحدّاه فيمن تحدّاه فإني أخذل وأهلك من تحدّى وأظهره عليه على رغم أنفه.

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14))، أي عذابي الموعود أو ما توعدتُ به من خالفني من العذاب وخاف وعيد، (ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)). وهكذا يذكر الزمخشري في تفسيره يقول: وقد رأيتُ هذا، قال: كنا نسكن في قرية وكان أخي يؤذيه ويظلمه عظيم تلك القرية، ويؤذينا به، قال مرّت الأيام وأُهلك ذلك العظيم في القرية، واشتريتُ عقارهم ورأيت أولاد أخي هذا أو أولاد أهل الذي يؤذيهم كان يدخلون في داره ويتحكمون فيها ويطلعون وينزلون،  قال وتذكرت قول الله: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)).

وهكذا يقول بن عجيبة عليه رحمة الله، وكان عندنا في تطوان في المغرب من أرباب السلطات من يؤذينا، ومن يحبسنا، ومن يقول سأُخرجكم على المراكب إلى أرض النصارى،  ثم هُلكوا وقُمنا نحن في المكان، وقُمنا في البلد. وهذا على مدى التاريخ على مدى القرون، وعندنا جاءت حكومات نفعل ونعمل ولا صوت يعلو فوق صوت الحزب، وراحوا، وبقي صوت الله والصالحين الذين حبسوهم والذين قتلوهم والذين سحلوهم والذين اختطفوهم؛ هذا صوتهم قوي ظاهر، وراحت أحزاب دول ذهبت.

(وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ (13) وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14))، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور: 55]، اجعلنا كذلك يا رب. 

يقول: (وَاسْتَفْتَحُوا ..(15)). يقول الكفار، بعض الكفار في بعض المواقف: اللهم انصر أهل الحق وأهلِك أهل الباطل، كما يقول أبو جهل لما خرج في بدر يقول: "اللَّهُم أقْطَعُنا للرَّحِمِ، وآتانَا بما لا يُعرَفُ، فأَحْنِه الغَداة" يعني أن يهلكوا.

(وَاسْتَفْتَحُوا)، والرسل استنصروا ربهم: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [سورة الأعراف: 89]، فاستفتحوا وماذا نتيجة الاستفتاح؟ هؤلاء وهؤلاء؛ (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15))، وَ (قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) [الأنفال:32]، استفتحوا و جاءهم العذاب الأليم. قال: (وَاسْتَفْتَحُوا)؛ فكانت النتيجة (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15))، هلكوا وفنوا وذهبوا وبقى الأنبياء وبقي المؤمنون معهم، (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ)، متجبر متكبر باسط يده بالإعتداء والسوء على عباد الله. (عَنِيد)، معاند للحق ولوحي الله -تبارك وتعالى- مغترٍّ بنفسه.

(مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ..(16))، عاد أمامهم جهنم، ليس هلاك في الدنيا فقط، هلاك الدنيا يسير، سواء بزلزلة، سواء بصاعقة، سواء بسيل، سواء بريح؛ كله يسير. (وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ (17))، (مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ..(16))، من ورائه يعني أمامهم، فالوراء ما توارى عنك من خلفك أو أمامك فما توارى عنك فهو الوراء. وقال: (وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) [الكهف:79]، يعني أمامهم -قدامه- توارى. (وَمِن وَرَآئِهِ)، يقول: مازال وراءنا كذا وورانا كذا، أشياء مستقبلية بيقوم بها وبيقابلها و بيواجها. 

ومعنى خلفه، ليست وراء، ولكن تطلق على ما ووري عنك من خلفك أو من أمامك (مِّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ) [الجاثية:10]، النار (الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة:6-7]، وتحرق الجلود واللحوم والعظام والأعصاب والعروق، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًاغَيْرَهَا) [النساء:56]؛ هذا جزاء كل من وصلته دعوة الله فأبى واستكبر وعاند فبئس الحال حالهم، وبئس  المآل مآلهم.

(مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ (16))، صديد: قيح مخلوط بالدم، القيح المخلوط بالدم يقال له: صديد، هل هذا ماء هذا؟ لايوجد عندهم ماء إلا هذا،  ماعندهم الماء؟ لايوجد شئ ثاني، عندهم ماء هذا هو، هذا السائل الوحيد الموجود عندهم، سَمُّوه ماء، ليس ماء، لايوجد ماء  (وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ (16))، كما قال في الآية الأخرى: (بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف:29]، وقال في الآية الثالثة: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد:15]. قال: (مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ (16))، يتجرّعه، يتأفف منه ويكرهه لكن لابد أن يشربه، إذا قُرِّب إليه شوى وجهه و سقطت فروة رأسه عَليه، وإذا هو غاصٌّ بالضريع -بالزقوم- في حَلقهِ، فًيستغيث بالماء فيجيء إليه هذا الصديد؛ 

  • يخرج من أجساد الكفار والفجار في النار، 
  • وأكثر ما يخرج الصديد في النار من فروج الزُناه والزانيات، يخرج هذا الصديد 

وهو عصارة أهل النار ومنه يشربون ويسقون. 

(مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ (16) يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ(17)). ما يقارب أن يُسِيغُه، السَوغ: مرور المشروب في الحلق بسهولة وقبول نفس؛ سُوغْ. لايوجد سُوغْ - ما يكاد أن يُسِيغُه أبدا- ولكن يتجرعه، يريد أن يتخلص؛  مما وقع في حَلْقِهِ وغُصَّ به، فيظن أن هذا سينفعه وإذا به لا يذهب الغُصَّة ولا يذهب العطش ويزيد حريق فوق الحريق، يشوي وجهه، تسقط فروة رأسه ويُسقى فيُقطع أمعاءه وتُخرج من دبره ويعود كل شيء كما كان ويسقى. يا الله.

 (مَّآءٖ صَدِيدٖ (16) يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ(17))، هذه الحالة وصفها الله المقبلة، هذا المستقبل الخطير الذي أنذر رب الخلق، وحمل ذلك الرسل وأتباعهم للعباد المكلَّفين، أن أنقذوا أنفسكم، لا تتعرضوا لهذا الأمر، فهذا أمر خطير خطير خطير خطير جدًا، أنتم جالسين علينا في الأرض تخيفون الناس، والشعوب، والدول، إما بالفقر، وإلا بالحروب، وإلا بشيء مما تُخَوِّفون به الناس لكن هذا أخوف وأشد عليكم أجمعين، فانتبهوا منه وأنقذوا أنفسكم. يقول عن هذا الحال: (وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖ (17))، كيف يأتي الموت من كل مكان؟ من كُل جانب، بكل معنى: كل عرق فيه، وكل عظم، وكل عصب، واقع به من الألم والحريق، ما لو كان يمكن أن يموت لمات لكن ما يموت، (وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ)، سبب الموت ومقتضى الموت موجود من كل مكان لكن ما يموتون؛ لأن الله لايأذن لهم أن يموتوا. 

(وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ  (17))، يأتي فوق هذا الصديد ويأتِيه بعذاب غليظ من سخط الله والخلود في نار جهنم، غليظ يقول: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:108]، (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) [ الزخرف: 77]، (وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ  (17))، إذًا فهذه الحقائق وهذا المستقبل العظيم: 

فأي الفريقين خير؟ (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر: 20].

اللهم اجعلنا من أصحاب الجنة وأهالينا، وجميع الحاضرين والسامعين، وأهاليهم ومن في ديارهم. اللهم اجعلنا من أهل جنتك. اللهم أدخلنا جنتك. اللهم لا تعرضنا للعذاب الغليظ، ولا للعذاب الشديد،  ولا للعذاب الأليم، ولا للعذاب المهين، ولا لذلك الصديد، ولا لجهنم، أَجِرنا من جهنم يا مجير، أَجِرنا من حر نار السعير، وأربطنا بالبشير النذير والسراج المنير، وأدخلنا معه الجنة فإنه أول من يدخلها، وأنزلنا معه في قصورها فإنه أول من ينزلها. 

إذا كان الأمر كذلك، إذًا فأعمالنا في الحياة أفراد وجماعات وشعوب ودُول، ما غايتها؟ ما نهايتها؟ مؤسسات وهيئات، ووزارات، وحضارات، وجيوش، إلى غير ذلك، ما نهايتها؟ ما غايتها؟ كلُ من عاند أمر الله وكفر، فكله وحضارته وجيشه وقوته وماله وما عنده وعتاده وقومه يتحول إلى خسار وإلى بوار، ولا ينتفع من عمل هذا بشيء؛ بل يعود بالعذاب عليه والندامة والخزي والصغار والذل والمهانة والعياذُ بالله.

(مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ..(18))، الذين قد ماتوا هذا الحقيقة مشاهدة لهم، والموجودين الذين لا زالوا على ظهر الأرض سيرجعون إليها و يشاهدونها، إذًا ما تساوي شيء! ما يساوي شيء، من وصل منهم إلى الغرغرة، ما قيمة أمواله؟ ما قيمة أملاكه؟ ما قيمة منصبه؟ ما قيمة شهادته التي يحملها؟ ما قيمة مركزه -مكانه الاجتماعي-؟ ما قيمة وظِيْفَتُه؟ أخبره من عند الغرغرة بس، انظر ما هي قيمتها؟ ولا شيء إلا ما وافق شرع الله وعمل به فيبقى له خَيره وما عدا ذلك يضمحل (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) [الفرقان:23].

(أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ..(18))، شديد الهبوب للرياح في يوم عاصف، ما الذي يبقى من رماد اشتدت بريح في يوم عاصف؟ بتمسك ماذا منه؟ هيا امسك حتى قبضة واحدة حتى بين اصبعين، ريح شديد في يوم عاصف، ولا عاد ذرة من الرماد. 

(كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ..(18))، ولا يفيدهم منه شيء؛ (ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ (18))، كيف؟ لأنهم كانوا يقولون نحن ونحن، ويرون أنفسهم على الإدراك وعلى العلم وعلى المعرفة وعلى الحقيقة وعلى التقدم وعلى التطور؛ مصيبة بالنهاية هذا، (ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ (18))، شديد لأن صاحبه في جهل مركب، يرى نفسه أنه المُحق وأنه المصيب وأنه المتقدم وأنه المتطور وأنه الفاهم وأنه المثقف، والنهاية (ذلك هو الضلال البعيد) والعياذُ بالله -تبارك وتعالى- لا إله إلا الله 

يقولُ سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ) [ النور:39]، إذًا فلا يبقى من جميع ما نعمل إلا ما كان موافقًا لشرع الله، وقصدنا به وجه الله، وقبله الله، فقط فقط فقط، لا شئ غير هذا، ما شئ هذا بيبقى لك، ما قصدتَ به وجه الله وجاء على مقتضى شرع الله وهدْي نبيه وقبِله الله منك هو هذا.

يرحم الله أحد العلماء المشايخ الأخيار في الشام، الشيخ عبد الوكيل الدروبي عليه رحمة الله، لقيته في مسجد في الشام و تذاكرت وإياه وطلبت منه الإجازة، و بكى الشيخ وقال: نحن وعلومنا و إجازاتنا وكل ما عندنا تذهب هباء إلا ما خلُص منها إلى الله، وبكى الشيخ، عالم معلم عامل داعي، وموقن أنه ما بينفع شيء إلا ما خلُص إلى الله، ما قَبِلَهُ الله، وما لم يَقْبَل ما ينفع، حتى ولو كان مظاهر علوم، وليس مظاهر غرور بالفانيات حتى مظاهر العلوم بالشرع المطهّر.

هكذا يقول عليه رحمة الله -تبارك وتعالى- قال: تذهب سدى إلا ما خلُص منها إلى الله، ولهذا يقول: إنما يعظم عمل العبد لا بعمله، لكن بقبول العظيم له، إذا قبله العظيم عظُم العمل، أما بدون ما يقبله، من أنتَ؟ وما عملك؟ لا تساوي شيء، لكن إذا قبلك العظيم صار عظيم، "إن الله ليربي لأحدكم صدقته كما يُرَبِّى أحدُكم فَلُوَّهُ حتى تصير التمرة كجبل أحد" تمرة يتصدّق بها لوجه الله، يقبلها الله، ينميها له، تصير مثل جبل أحد، قدْرها يوم القيامة ووزنها في الميزان. اللهم وفقنا اللهم املأنا بالإيمان واليقين اللهم ارزقنا الأعمال الصالحة الخالصة المقبولة عندك، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

تعرف قدر جلسة صالحة قَبِلها الله منك، تعرف قدرها، تعظُم بعظمة الذي قبل. كلمة طيبة قلتها لوجهه فقبلها تعظم، وكل صلاة وكل قراءة وكل نية صالحة قبلها منك، عظُمت بذلك وجزاؤها لا ينتهي ولا يبيد، (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:46]، يارب وفقنا لما تحب واجعلنا فيمن تحب برحمتك يا أرحم الراحمين.

وقد استقبلكم شهر رجب، الفرد من بين الأربعة الحرم، ثلاثة سرد ذو القعدة ذو الحجة محرم، وواحد فرد رجب مضر. رجب مضر الذي هو الشهر الأصب الذي تصب فيه الرحمة، وكان بعض كبار الصحابة يُفرِّغ نفسه للعبادة أول ليلة من رجب، وقال ابن عمر: كان ﷺ يصوم من شهر رجب ويشرفه؛ يعني أن يُعَظِمُه ويمجده قد عظمه الله من خلال كونه من الأشهر الحرم والفرد في الأشهر الحرم. فلنستعد لشهر تحقيق التوبة والإقبال الصادق وكثرة الاستغفار، فطوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا و"مَن لزِم الاستغفارَ جعَل اللهُ له من كلِّ هَمٍّ فرَجًا، ومن كلِّ ضيقٍ مَخرَجًا، ورزَقه من حيثُ لا يَحتَسِبُ".

وكان من دعاء نبينا إذا هل هلال رجب، ولعله يهل علينا في الليلة المقبلة، كان يقول "اللَّهمَّ بارِك لنا في رَجبٍ وشعبانَ وبلِّغنا رمضانَ"،الله يبارك لنا في رجب وشعبان "وبلِّغنا رمضانَ". ويجعل من البركة لنا في شهر رجب رفع البلايا عن المسلمين، والأذايا والكروب والحروب والشدائد، وتحويل الأحوال إلى أحسنها، وجًمْع قلوب المسلمين على ما يُحَبَهُ يا محول الأحوال حول حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وعافنا من أحوال أهل الضلال وفعل الجهال.                                  

بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمد

تاريخ النشر الهجري

29 جمادى الآخر 1443

تاريخ النشر الميلادي

01 فبراير 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام