تفسير سورة إبراهيم، من قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..}، الآية: 23

تفسير سورة إبراهيم، من قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..}، الآية: 23
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة إبراهيم، من قوله تعالى:

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ (24) تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ (26) يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ (27))

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدلله مكرمنا بالوحي والتنزيل والتبيين، على لسان الهادي الرسول الدليل، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سار في سبيله خير سبيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم والتشريف والتبجيل، وعلى آله وأصحابهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين. 

أما بعد،، 

فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا وتدبرنا وتفهمنا لمعانيه وتلقينا لتعاليمه وتوجهاته -جلَّ جلاله- وصلنا في سورة سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى قوله -جلَّ جلاله-: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23))؛ فيا فوزهم وسعادتهم، هذه نهاياتهم وغاياتهم، نتيجة الإيمان الذي هو خروج من كل الوهم، ومن كل الخيال، ومن كل الإضاعة للحقيقة إلى الحق والحقيقة، المؤمن هو الخارج من أسْر الوهم والخيال الفاسد، غير المؤمن مأسورٌ لوهْم وظن باطل وخيال فاسد، كائنًا من كان. غير المؤمنين بالله ينطوون في اعتقاداتهم على وهمٍ وضلال، على خيال باطل، على تصور فاسد، لكن المؤمن وحده هو المتحرر من هذا الوهم والخيال إلى ساطع نور الحق والحقيقة، بإيمانه برب الخليقة جلَّ جلاله. 

 فالحمدلله على نعمة الإسلام والإيمان وكفى بها من نعمة، يقول: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..(23))، وَالْعَمَلُ الصَّالِحَ هو انتصار الإنسان على نفسه، وتحرره من أن يؤْسرَ في العمل لشهوة النفس والهواء، ولإملاءات أحد من الخلق، من المفسدين، والضَّالِّين، والمجرمين، ومن كل من كفر وفسق؛

  •  فالإيمان؛ تحرر في الاعتقاد والتصور والنظر والعلم
  • والعمل الصالح؛ تحرر في التبعية من الانقياد لمساوٍ أو ساقطٍ هابط أو لكل مقطوع عن إدراك الحقيقة.

فبالإيمان والعمل الصالح تثبت الخصوصيات لأرباب الحق والهدى فيحوزون نتائج ذلك في الدنيا ثم في البرزخ ثم في القيامة ثم في الجنة. 

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا..(23)) هذا الخلود في الحياة الطيبة، وفي العيش الرغيد، وفي الهناء، وفي النعيم، وفي السرور، وفي الأنس، والحبور؛ غاية ما يمكن أن يتمناه الإنسان بعقله، ولكن لا يمكن أن يحصّله أحد غير المؤمن كائن من كان، ولو ملك الأرض من أقصاها إلى أقصاها، ولو ملك من الأجهزة ما ملك، ولو ملك من الدور والقصور ما ملك، فلا يمكن أن يتحصل على هناءٍ مستمر، وسرور دائم، ونعيم غير منقطع، وشرف وكرامة أبدية قط .. قط، ما يتحصل عليها إلا المؤمن العامل الصالح.

 (خَالِدِينَ فِيهَا..(23)) لا انقطاع، بل كما أنه لا موت فلا مرض أيضًا -الله أكبر- بل كما أنه لا موت ولا مرض، لا وسخ أيضًا، عجيب. وكما أنه لا موت ولا مرض ولا وسخ، فلا هم ولا غم ولا تشويش ولا صخب ولا لغو ولا تأثيم، الله، مع هذا كله فلا بؤس قط، "أن تنعموا فلا تبأسوا" لا يحصّل هذا غير المؤمنين، لا يحصِّلوه؛ لا ملوك ولا الرؤساء ولا وزراء غير مؤمنين قط قط قط، ولا أغنياء ولا تجار غير مؤمنين ما يحصلون هذا، ولا يستطيعون تحصيل هذا بل والعياذ بالله، إذا ماتوا على كفرهم وعصيانهم فأمامهم الهم الدائم، الألم الدائم، الوجع الدائم، العذاب المهين الدائم، فأعقل وأيقن واصدق فهذه نهايات المؤمنين.

 

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ (23))، يقول الله؛ الرعاية لهذه الحياة ومن فيها صادرة من قِبل القوي القادر المتين، الإله الحق بإذن ربهم -الله أكبر- الذي حكم لهم بهذا والذي أدخلهم إلى هذا والذي قضى لهم بهذا النعيم، والذي نفى عنهم الهم والغم والأوساخ والحزن والبؤس والمرض والموت؛ هو الله (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ..(23)) -الله أكبر- إذاً قادر مقتدر قوي. (قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:73].  (خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ..(23)) فهذا مصيرهم، ربي ثبتّنا على الإيمان ووفقنا للعمل الصالح، يا ربي ثبتّنا على الإيمان وزدنا منه ووفقنا للعمل الصالح، آمين. 

 قال تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ..(23))، يعطينا وصفًا لحال هذه الحياة والنعيم، قال: التحية بين القوم إذا لقي بعضهم بعضا: (سَلَامٌ)؛ 

  • ولذا كانت التحية بين المؤمنين في الدنيا السلام: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ"؛ إذا لقيت المؤمن، لتحوز المصير إلى ذاك النعيم، وتحيتهم سلام، (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا..(23)) -في تلك الجنة- (سَلَامٌ ..(23)) بينهم البين، (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 23-24]، الله أكبر. 
  •  أنت في الجنة يأتيك السلام من إخوانك المؤمنين، ومن قراباتك، ومن الصديقين، ومن الأنبياء، ومن الملائكة، يأتيك السلام، سلام، سلام (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ..(23))، وفوق ذلك كله يأتيك السلام من الإله السلام، (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس:58] جلَّ جلاله، (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ۚ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا) [الأحزاب:44].

 نِعم الإله (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ..(23))، ولما ذكر الله حقائق السعادة وحقائق الشقاوة والغايات فيها؛ 

  • ضرب المثل للسعداء وللأشقياء، ولكلام السعداء الذي رأسه: لا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰه، هذا رأس كلام السعداء من أهل الأرض والسماء، لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰه
  • وذكر مصير الأشقياء، ونهايتهم في الشقاوة وكلامهم الخبيث، وأخبثه الشرك بالله، أخبثه نسبة الولد إلى الله، نسبة الشريك إلى الله، هذا أخبث ما يصدر من كلمات الأشقياء، وإنكار الإله الحق جلَّ جلاله، هذا أخبث كلامه. 

كما أن الكلام الطيب للسعداء رأسه: لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ ٱللَّٰه، فلا أطيب من هذا الكلام ولا أشرف.

 يقول: (أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ (24) تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ ..(25))، ألم تنظر يا محمد وتدرك، وأنت خير من أدرك عن الإله الحق، ضرْب المثل، وقد ضرب الله المثل للكلمة الطيبة الذي يحمله السعداء، وأسعد السعداء الأنبياء، وأسعد الأنبياء أولي العزم، وأسعد أولي العزم محمد، اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

 هؤلاء يحملون الكلام الطيب، والكلم الطيب الذي يحملونه الذي أعلاه: لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰهُ؛ له مَثَل، وما ذاك المثل؟ ما مثَلهم في كلمتهم الطيبة؟ وما أنتجت لهم من معرفة الله تبارك وتعالى؟ شجرة المعرفة بالله (كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ ..(24))، شجرة طيبة، طيبة في شكلها وصورتها وهيئتها؟ أو في رائحتها؟ أو في ثمرتها؟ طيبة فيه كُلَّه، طيبة كشجرة طيبة. قال؛ تخيل هؤلاء في معرفتهم بي، ونطقهم بلا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، هم في ما يحصلون من شجرة المعرفة بالله أضرب لكم بها مثل.

تخيلوا شجرة طيبة، طيبة في هيئتها، وشكلها، وصورتها، طيبة في رائحتها، طيبة في لذاذة ثمرتها؛ ثمرها طيب، حسن المنظر، حسن الذوق، لذيذ، ينفع، يؤثر في الصحة، يؤثر في تقويم البدن، طيبة (كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ ..(24))، وهذه الشجرة الطيبة (أَصۡلُهَا ثَابِتٞ..(24))، لها أصل ثابت لا تقلعه الرياح، ولا تخرجه آلات، ولا شيء من الأجهزة، ثابت (وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ..(24))، غصونها مرتفعة إلى العلو، بعيدة عن قاذورات الأرض؛ فهي أطيب (وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ..(24))، وهذه الشجرة (تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ ..(25)) فوائدها مستمرة، وثمرها ليس له موسم ينقطع ويجيء، مستمرة -الله أكبر- كما قال: (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) [الرعد:35]، في شجر الجنة.

حتى قال ابن عباس: أنها (كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ ..(24)) قال: هي في الجنة. وبعضم تنزَّل إلى شجرة النخلة وهي شجرة طيبة، ولكن ماهي بالأوصاف هذه التي ذكرت كاملة، وهي من أطيب الشجر وتشبه المؤمن؛ كما جاءنا في الحديث الصحيح، ولكن الحق يشير إلى شجرة المعرفة به، ويضرب بها المثل بوجود شجرة هذه وصفها، وهذه الأوصاف لا تتحقق في عالم الحس إلا في أشجار الجنة؛ (لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة:33]، فتصوَّرها، وخذ إذا تقدر أن تجد هذه الشجرة، شجرة المعرفة بإلهك؛ فهي أعلى ما كسبْتَ في الحياة. (كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ..(24))، قوي راسخ. كذلك رسوخ الإيمان في قلب المؤمن وتعمقه فيه، حتى قالوا عن وصف الرعيل الأول من أهل البيت والصحابة: كان الإيمان في قلوبهم أعمق من الجبال الرواسي -عليهم رضوان الله-.

 

(أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ..(24))، مرتفع معتلي، تثمر عجائب، معارف ولطائف الأسماء والصفات والذات العلية -الله أكبر-. (تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ..(25))، إمدادات وعطايا وهبات دائمة، متنوعة. 

إن العطاء إمــــــداده متنوع *** يا حسن هذاك العطاء المتنوع 

يفيض من آثاره على الصادقين المخلصين وهم في الدنيا، ما أشار إليه العارف بقوله: 

لساني بحمد الله قد أعلنت شكرًا *** على نعمٍ لا أستطيع لهـــــا حصرًا 

فما ساعة مرت علي ولحظــــة *** من الوقت إلا جدّدتْ عندي البشرا

وهكذا قالوا كل يوم لا نعصي الله فيه فهو عيد، المحبون لله كل يوم لهم عيد. 

(تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَا..(25))، وإن كان لذاذة ثمر الأشجار هذه حتى التي في الجنة تصل إلى المماسة عندما يذوقها الذائق، وأما في الدنيا فهي الخصلة الأولى، ما يمكن أن تمتزج بأصل الجسد، وإنما عند المماسة يتذوق حلاوتها، لكن المعارف بالله تعالى تتعمق في روح الإنسان وقلبه فتمتزج به؛ حتى يصير شيئا غير ما كان، فما لذة مثل اللذة، هذه أعظم ثم إن اللذة بالنسبة للثمرات التي في الدنيا؛ ما دامت في اللسان، بعد فترة تذهب، لكن لذائذ المعرفة مستمرة ودائمة، من بعض الوجوه أشبهتْها ثمار الجنة؛ يبقى ذوق الطعم لثمرة تأكلها إلى سبعين سنة إلى ألف سنة، ولكنه منقطع لكن أذواق ثمرات المعرفة بالله تدوم أبدًا سرمدًا، لا ألف سنة ولا ألفين ولا ثلاثة ألف، تستمر.

ثم إن أشجار الدنيا ما أقرب نهايتها، وأشجار الجنة مع دوامها فإن طعومها المتقلبة أيضا تفنى على مدى ـ من جهة الطعم ـ وإن بقيت الثمرات، لكن شجرة المعرفة بالله تبارك وتعالى لا نهاية لأذواقها ولا لطعومها ولا للذائذها أصلًا ولا حصر لها، -الله أكبر-.

فإن الذي تعرَّف إليهم لا يحصى عليه ثناء وهو كما أثنى على نفسه، إذاً هذه حقائق الشجرة الطيبة، ولا شك أنه تختلف الشجرات في الحس، بين الطيبة والخبيثة، اختلافات كثيرة، ومن خير الأشجار ما أشير إليه من شجرة النخلة، وشبهها بالمؤمن من حيث نفعها وقوة نفعها، وعدد من الفوائد التي فيها، يقول: (وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ ..(25))، يضرب لهم الأمثال ليهتدوا إلى المعارف، ولطائف العوارف، ودقائق المعاني (لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ ..(25))، ما سُقوا في يوم (أَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف:172]، ويتذكرون ما طوى فيهم من تجليه عليهم ونظره إليهم (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي)[الحجر:29] لعلهم يتذكرون وينكشف الغطاء عنهم ويتذكرون حقائق ومعارف بها ينعمون في الدنيا قبل الآخرة. 

 

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ..(26))، الشعارات التي يحملها أهل الكفر وأهل الفسوق على الأرض، كلها كلمات خبيثة، كل ما خالف الإيمان وخالف الشرع المصون؛ فهو خبيث، والكلمات الخبيثة التي أكثرها ما حملَ الكفر الصريح، من مثل إنكار وجود الله تبارك وتعالى، ومثل ادعاء الشريك له سبحانه وتعالى، أو نسبة الولد له -جلَّ جلاله- أو مما تعلق بسبِّ أنبيائه أو ملائكته، ثم أنواع الخبث والتفحش، الذي ينطق به الكفار والفجار ويجعلونه شعارات لكثير من اتجاهاتهم وأحزابهم، كلمات خبيثة ولكن كل هذه الكلمات الخبيثة ليس لها بقاء ولا صولة ولا سلطة ولا نتائج حسنة ولا ثمار صالحة ولا مستقبل طيب زاهر أبدًا. بل (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ ..(26))، فما لها ممْسك، كذلك شؤون الإلحاد والشرك ما له دليل، ما له برهان، ما له حجة، ما له أساس يقوم عليه قط، غير الدعاوي.

 (ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ ..(26))، ثم نجد أن هذه الكلمات الخبيثة أيضا مع خبثها - سبحان الله- يظهر اجتثاثها والناس على ظهر الأرض، فيأتون بكلمة خبيثة أخرى، ويظهر اجتثاثها، فيأتون بكلمة خبيثة أخرى، وتُجْتثُّ كلمات بعد كلمات ونحن على ظهر الأرض، أما في الآخرة ما مقدار الكلمات هذه التي يتكلمون بها؟ ما هو موضعها؟ ما هو موقعها؟ ما هو موقع أصحابها؟ كيف وجوههم؟ (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:60]، الله الله الله الله .

لكن عُلِّمنا القول الطيب، قال الله في أصحابه: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) [الحج:24]. ولذا قالوا عن خيار الأمة وخيار الأمم السابقين من أتباع الأنبياء:

لا ينطقون على العمياء إن نطقوا *** ولا يمارون إن ماروا بإكثار

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري

 وأطيبهم وأحسنهم قولًا، نبي الله وعبده محمد ﷺ، أشار إلى لسانه وقال: "والذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق" وقال الله عن ذاك اللسان (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ *إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4].

 

أطيب كلمة لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰهُ، وأطيب من نطق بها محمد بن عبد الله، وعند نُطقهِ بها لها حلاوة تُفيض على قلب صاحبها ارتقاء درجة في معانيها وارتفاعًا في مراقيها؛ فهنيئا للصحابة الذين سمعوها من فمه، ودخلت آذانهم وقلوبهم من لسانه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وهو الذي سمعها من الحق -جلَّ جلاله- وقال الله في كتابه: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19]؛ لينالوا نصيبهم من سرِّ هذه الكلمة، فلا أجلّ منها، ولا أجمل ولا أثبت ولا أقوى ولا أدوم، كتبت على قوائم العرش، من حين خلق الله العرش، ومن قبل خلق آدم، ومن قبل خلق الجن، ومن قبل وجودهم، على ظهر هذه الأرض، - لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰهُ مرفوعة ويضجُّ بها أهل السماء وهي دائمة من أيام خلقة آدم عليه السلام ونزوله إلى الأرض، إلى أيامنا هذه قائمة وتستمر إلى آخر الزمان، ثم في القيامة الصولة صولتها، والدول دولتها، والهيبة هيبتها. 

 لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰهُ، فما من كلمة اكبر منها، لا أحد يضحك عليك، هذه خير الكلمات "أفضَلُ ما قلتُ أنا والنبيُّونَ من قبلي لا إلهَ إلا اللهُ". فهي الجامعة لمعاني الذكر وهي المصفية المنقية و بها يبتدئ أهل البداية في السير إلى الله، وإليها ينتهي أهل النهاية من الواصلين إلى الله، "لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰهُ؛ من كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة" مع السابقين.

  اللهم اجعلها آخر كلام كل واحد منا من هذه الدنيا، يا الله، جميع الحاضرين وجميع السامعين، اختم عمر كل واحد منهم بقول لا إله إلا الله؛ متحققًا بحقيقتها، يا الله يا الله، وفيها قال: (يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ..(27))، ليس أثبت من هذه الكلمة أصلًا، (بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ ۖ..(27))، وعلى طول الأبد والمدى، يتنعم أهل الجنة بمعانيها ومذاقه فيها، ويتحسر أهل النار على حرمانهم منها إلى الأبد، لا شي أثبت من هذه الكلمة ولا أرفع ولا أجمع ولا أشرف فقل للَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰهُ بكثرة، أكثر منها؛ عسى يتوفاك عليها، عسى أنه يحققك؛ بحقائقها، لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّٰهُ، (يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ ..(27)). 

وسيأتي معنا الكلام عن الثبات في الحياة الدنيا والثبات في الآخرة يا مثبت المثبَّتين ثبتنا،

فياربَّ ثبتنا على الحقِ والهُدى *** وياربَّ اقبضنا على خيرِ مِلَةِ 

ثبتنا على الحق فيما نقول، وثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وأهلينا وأولادنا وذوينا وطلابنا و أحبابنا وأصحابنا ومن وَالىَ فيك، يا سامع دعاء الداعين، و ملبي نداء المنادين، ياحي ياقيوم يارحمن ياكريم، يارحيم يا قوي يا متين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.  

بسر الفاتحة 

الى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

15 رَجب 1443

تاريخ النشر الميلادي

16 فبراير 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام