(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس السابع والعشرين من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة محمد، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}
الحمدلله مُكرمنا بوحيهِ وتنزيله على عبده ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وعلى من والاه ومشى في منهجهِ الأقوم، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين ذَوي القدر الأفخم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكة الله المُقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ: فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا -جل جلاله وتعالى في علاه-، مررنا على آياتٍ في سورة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وتذكرنا من معاني قوله -جل جلاله وتعالى في علاه- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ما للقوم الذين يعيشون معك في زمنك؛ وقد مضت قبلهم قرونٌ كثيرة كان لنا فيها سُنّة قائمة لم تتخلََف أبدًا، من عهد آدم إلى عيسى بن مريم إلى أن بعثناك، والذين كذبوا الرسل ونازعوهم وعاندوهم أهلكناهم ودمرناهم، ورجعوا إلينا فهم موقفون في عذاب البرزخِ إلى عذاب القيامة إلى دخول النار؛ وأمام الأعين مُشاهَدَة أماكنهم التي كانوا يسكنونها وقُراهم التي كانوا يَحُلُّونها، ولم يبق لهم باقية إلا آثارهم التي تدُل، يقول -تبارك وتعالى- ما لهؤلاء المعاندين الذين يكرهون ما أنزل الله؟ فيُحبِط أعمالهم من الذين {كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ} سقوطًا وانحطاطًا وخساراً، {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} والعياذ بالله تبارك وتعالى.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كيف لا يسيرون في الأرض بعقول وأفكار؛ كما قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} يقول جل جلاله وتعالى في علاه في سورة الحج، يقول سبحانه {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا..} [الحج:46]، فليس المراد السير في الأرض مجرد المشي على الأرجل ولا على الدواب ولا على السيارات ولا على الدراجات ولا على الطائرات {.. فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ..}، الله يخاطب من يعيش على ظهر الأرض، أحد مر قبلكم أو ما أحد مر؟ كم عدد الذين مروا؟ كيف كانت عاقبة الكل؟ ما الذي أوصلنا إلى معلوماتكم مِما يتناقل بينكم البين عن أمم وطوائف وقرون مرت قبلكم كثيرة! أحضر عقلك وتأمل، ما الذي حصل؟ وهل في نتيجة أي أحدٍ مِن مَن كفر وكذَّب الأنبياء شرف أو رِفعَة أو عِزة أو كرامة أو خير؟ ما الذي حصل؟ انتهوا! {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7-8]، {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:38-39]، والذين يعيشون الآن على ظهر الأرض ما أدري عقولهم تصل إلى أين؟ ماذا يريدون مِن المآلات والنهايات التي ينتهون إليها؟ وهل سيكون على ظهر الأرض غير ما قد مضى من سنة الله من يوم خلقها إلى وقتنا هذا؟ من الذي يغير سنته؟ {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62] فهل ينتظرون إلا سنة الأولين؟ {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
هكذا يقول سبحانه وتعالى في آخر سورة فاطر، يقول -جل جلاله-: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ}. عندما قال {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ..} ماذا ينتظرون؟ ماذا يتوقعون؟ ماذا يترقبون؟ {إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} {.. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:44] خالقها، ومكوِّنها، وأي شيء بيحذفه منها! وأي شيء بينهيه منها! وأي شيء بيزيده! وأي شيء بينقصه! {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:44]، أنتم يا مُغترين بطائرة بلا طيار، ويقولون وصلنا القمر قالوا لا ما وصلوا القمر، ووصلوا المريخ قالوا ما وصلوا المريخ! ملك السماوات والأرض بيده {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:44]، إيش هذا الكلام الذي أنتم فيه؟ والحصر هذا اللي أنتم محصورون فيه! يخاطبكم ملك السماوات والأرض الذي لا يُعجزه شيء -سبحانه وتعالى- وله جنود السماوات والأرض، وإن أراد -سبحانه وتعالى- أن يُفنيها أفناها كما خلقها، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ الزمر:67]، {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9-10]، أتاكم رسول من عنده القوة العظيمة، ايش الاغترار بما عندكم هذا؟ وإيش هو ماذا يساوي؟ -لا إله إلا الله-، كل هذه القوة التي عندكم لا تمنع مغص بطن أحدكم فيشتدّ الأمر عليه، ما تقدر تذهب عنه المغص في بطنه! ولا تقدر تذهب عنه عمى عينه إذا أراد الله يعميه! ولا صمم أذنه، ولا تغيِّر واحد من أجهزته وسطه، ولا ارتفاع ما أدري إيش وانخفاض مادري إيش! في قبضه أنتم تحت قهره! ما لكم لا تعترفون؟ وما شيء إلا النار تؤدبهم -والعياذ بالله- العذاب الذي لا طاقة لهم فيه.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فليس المقصود مجرد سير في الأرض، فتحوا أبواب السياحة والتنزهات والمنتزهات! ولا حركة للعقل أصلًا، تعرف حيوانات تسرح و ترجع؟! مثلها! مَن خلقكم؟ لماذا خُلِقتم؟ وما المصير؟ بلادة، بلاهة، غباوة، هذا هو يعيشون فيها، بعدين سيقولوا {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [تبارك:10]، أنتم في غباوتكم تضحكون على العقلاء، تضحكون على الأولياء، تضحكون على الأنبياء، أنتم تستهزئون بهم! ولكن ما لكم إلا كما قال نوح لقومه: {قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:38-40]، وهم القليل الذين جاؤوا؛ لأن الذرية كلهم منهم، لا إله إلا الله، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]؛ وهلك الآخرون كلهم الذين كذبوا النبي نوح عليه السلام، ولقد صدق نبينا محمد خاتم النبيين، والويل لِمن يُكذبه، ومن يتولى عما بُعِثَ به، وهو الرحمة المهداة، والنعمة المُسداة، الحمد لله على الإيمان به، اللهم ارزقنا نصرته بِكُل ما أوتينا.
قال {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أهلك كل قُواهم، الله أكبر، بل كان من سُنته {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ}؟ [الإسراء:16-17]، وحدة، اثنتين، ثلاثة، أربعة.. في عصرنا القريب هذا، يتنازع معسكر شرق ومعسكر غرب، تطلع أو تصعد.. ويتقسمون الأراضي الباقية ويتقومون، وبعدين! هذه تسقط؛ وبعدين! واحدة دولة كانت عظمى ونزلت، وبعدين! وحدة تراجعت وطلعت كذا، وظهرت واحدة ثانية من كذا.. ما لهم استقرار! ما لهم دوام، ما لهم ثبات، مُتغيرة أحوالهم مُتقلبة، ما هو الحاصل؟ السُّنّة الماضية، عندنا العوام يقولون: ما طالت نخلة إلا انقصفت، فتروح فين النخلة، تطلع.. تطلع إلى أين؟ وتقصف، وأنتوا ذا قصف وذا قدامكم وانتم ماذا تريدون أصلًا؟ ماذا تريدون؟ غير هذه السُّنّة غير موجود؛ لأن مَلك الوجود فوق مُلكه -جل جلاله-.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْر} [آل عمران:26]، أعِزَّنا بطاعتك، أعِزَّنا بالصدق معك، أعِزَّنا بالوفاء بعهدك، أعِزَّنا بالعبودية لك يا رب، أعزَّنا بالتحرُّر أن نُستَعْبَد لشرقي أو لغربي أو صغير أو لإنسي أو لجني، أو صغير أو كبير أو قليل أو كثير، نكون عبيد محض خُلَّص لك يا رب، في ذلك العز وشرف الأفخر، {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172]، استنكف واستكبر وهو تحت قبضته من بدايته إلى نهايته؛ وبعدين رجع، وحصل نفسه كان في خيال ما له حقيقة أبدًا، يُنكر؛ يستكبر، ما يريد يُسْتَعْبَدْ لله، وَيُسْتَعْبَدْ للهوى وللنفس ولناس مثله، وبعدين ينكشف الحقيقة وأنه هو وهو وهؤلاء كلهم تحت ملك هذا والمرجع إليه، الله! وما الذي حصل؟ ولا خرج أحد منهم عن قبضته أصلًا، {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا..} [هود:56].
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} والآن اللي سِنُّه منكم حتى خمسين سنة ماذا الذي جرى على اليمن من خلال ما بدأ يُميّز إلى الآن؟ كم حكومات جاءت؟ وطريقة التفكير هي هي، تجربة بعد تجربة بعد تجربة بعد تجربة؛ ماذا الذي حصل؟ وكل من جاء يقول عندي خطة، وعندي نظام، وأنا بطلع! ويصلح خطابات ويصلِّح ترتيبات، ويسقط، ويجيء الثاني، وبعدين! حِزب واحد تقاتلوا أول مرة، وتقاتلوا ثاني مرة وتقاتلوا ثالث مرة، وفي كل مرة حكومة غير الثانية، ومخالفات في أشياء معينة، وبعدين؟ مكانكم بتجربوا! ما كفاكم تجربة؟! ورُح من اليمن إلى الشام، ومن الشام إلى مصر، ومن مصر إلى العراق، ما الحاصل في الوجود؟ وفي خلال كل ذلك كم أعداد الذين ماتوا؟ والله ما فاز منهم إلا من صدق مع الله واتّبع محمداً! فقط، تعرف معنى فقط؟ فقط! مَن خالف منهج الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أو تجرأ على الرب -سبحانه وتعالى- وقطع صِلتُه به، إن كان رئيس؛ وإن كانوا أمير، وإن كان وزير، وإن كان ثري، وإن كان تاجر، وإن كان رئيس حزب، كلهم والله خسروا خسروا وندموا في عذاب شديد! هذا الواقع، والله ما فاز إلا من له صِلة بالخلاّق ورابطة بحبيبه -صلى الله عليه وسلم- وأطاعه، بس وحدهم هؤلاء الفائزون، {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر]، اجعلنا منهم يا رب ومِن خواصِّهم في عافية، ويجي يوم الحكم الكبير {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]، فيا ربِّ يثبتنا على الحقِّ والهدى.
هذا الرحمن يُخاطبنا على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- يُبين لنا الحقائق لِنستعد للقاءه، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ماشي ثاني، هو هذا الذي مضى على من قبلهم، يأتي عليهم، {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي مثل ما عملنا بِمَن سبق، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود:109]، قال سبحانه وتعالى في هذه الآية في آخر سورة هود يقول -جل جلاله وتعالى في علاه-: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ..} [هود:109]، نفس الفكر حقِّ اللي قبلهم لآباؤهم وأمهاتهم إن كانت أصنام؛ وإن كانت غيرها؛ {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود:109]، جزاؤهم مثل الأولين بيجي كامل ولا ينقص منه شيء، {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود:109]، يقول: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43]، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، اللهم اهدنا فيمن هديت. {كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:118].
{دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}؛ حتى في القرن الحادي والعشرين؛ حادي وعشرين؛ ولا عشرين؛ ولا تاسع عشر؛ ولا قبل ميلاد سيدنا عيسى؛ وإلا بعد؛ كل العاقبة هذه؛ العاقبة واحدة لِلكل؛ يقول {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}، يذكر لنا في سورة اقْتَرَبَتِ، قوم نوح { فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [ القمر:11-15]، {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر:18-20]، وراح عاد، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ}[القمر:23]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:31]، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ}[القمر:33]، {.. فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} [القمر37-38]، {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر:41-42]، يُخاطب الله الأمة يقول: {أَكُفَّارُكُمْ} الكفار اللي في زمانكم {خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ..} أصعب علينا من أولئك وإلا أحسن من أولئك، وإلا ماذا يرجعون، {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)} [القمر]، نحن نزلنا لكم على يد أحد من أنبيائنا براءة؛ أن ما نهلككم ولا ندمرهم ولا نخذلهم؛ في شيء عندكم؟ وبعدين تعتمدون على إيش؟ {أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر:43-44]، عندنا خطط وترتيب ونظام، ونستعمل كل الوسائل! ، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ} وإيش نهاية المستقبل الكبير؟ {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:45-48]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر:54-55]، هذه النهاية! اجعل عاقبتنا جنّتك ومُرافقة حبيبك يا رحمن.
{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} الآن هذه الغايات العظيمة والعجائب فيما يحصل على ظهر الأرض، ايش حقيقة سببه؟ وكيف تتم؟ قال {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} يعني: ناصرهم ومُعزّهم، {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} ينصرهم ويعزّهم {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، يُنعّمهم ويُكرمهم؛ الله مولاهم، {وأنَّ الكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ} مَنْ هذا الذي يقدر أن يعزهم إذا أذلهم الله؟ مَنْ هذا الذي يقدر يُهنئهم إذا أنزل الله عليهم سبحانه وتعالى الحُزن والهم والغم؟ مَنْ ذا الذي يدفع عنهم عذاب الله؟ {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء:109]، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد:11] -جل جلاله وتعالى في علاه-، والخلاصة والحقيقة {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2]، {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107].
{ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ} يعني: لا ناصر ولا مُعِز لهم، أما مولاهم من حيث كونهم ملكهم وخالقهم نعم، مولى الكل {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، هناك مولاهم بمعنى مالكهم وخالقهم ومتصرف فيهم؛ نعم، أما مولى بمعنى ناصر معز ماحد لهم مولى؛ لأن الله ما أراد إعزازهم، مَن بيعزهم؟ الله ما أراد نصرهم، فمن ينصرهم؟ {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ} [آل عمران:160]، والحق سبحانه وتعالى وضح لنا أن هذه العقول ضالة تمام، لننتبه ونحمده على نعمة الإيمان.
يقول سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ} يقول من الذي بيمنعكم مني؟ {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنۡ هَٰذَا ٱلَّذِي يَرۡزُقُكُمۡ إِنۡ أَمۡسَكَ رِزۡقَهُ} لو أمسك رزقه من أين بتجيب الرزق؟ {بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوّٖ وَنُفُورٍ} [الملك:19-21]، والفرق الكبير بين الأنبياء واتباعهم؛ وبين أهل هذه الفوضى في الحياة الدنيا شي يسمونه ثقافة، وشي يسمونه تقدم، لعب وفوضى! يقول سبحانه: {أَفَمَن يَمۡشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجۡهِهِ أَهۡدَىٰٓ أَمَّن يَمۡشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ}، يقول تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ} فلذلك يُدمّر أحوالهم وشؤونهم وتنتهي أمورهم، طائفة بعد طائفة، وجماعة بعد جماعة، ودولة بعد دولة، والكل ينتهي ويندحر، ويأولون إلى الزوال ويدخلون بعد ذلك عاد على أمر أكبر؛ هذا الذي يحصل في الدنيا، الله لما يتولى أحد يسعده في الدنيا وفي الآخرة {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء: 134].
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ليش؟ لأنه مولاه، معهم مولى، يدخلهم الجنة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} في الحياة الدنيا متاع التلذُّذ بالمظاهر والحسِّيات؛ بلا بصيرة؛ بلا عقل؛ بلا إدراك للغاية، {يَتَمَتَّعُون وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} مرح يتكلفون أرادوا وسيلة أن يجدوا الطمأنينة ولم يحصلوا؛ مساكين، الألات والأغاني والرقص وكل هذا! ما وجدوا الطمأنينة.. ما حصلوها، ويخلطون أنفسهم بأنفسهم، وتمر حياتهم على هذا، لا إله إلا الله، يرجعون يلجئون إلى المُخدّرات والمُسكرات، ولا يحصلوا الطمأنينة، الطمأنينة غير موجودة! لكن {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. كما تقدم معنا في سورة الفتح، المؤمنين في سكينة والكافرين في حَمِيّة؛ حَميّة الجاهلية، في فرق بين هذا وهذا، باطن هذا وباطن هذا، هذا السكينة من الله، وذاك حَمية من الجاهلية، فرق بين هذا وهذا.
يقول: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي: ناصرهم ومُعزّهم متولي أمورهم، له الحمد، قالوا: هذه من آيات الرجاء، {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الحمد لله، وإن كانت الولاية بعد ذلك توليهم ونصرهم وإعزازهم بالدرجات، ولكن كلهم دخلوا أولاً في الجنة، وما قال لخواص المؤمنين أو لكبارهم وإلا الصالحين من المؤمنين وإلا الأتقياء والمُقربين؛ قال: {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}، وكل من مات على الإيمان نالتهُ ولاية الله -تبارك وتعالى-، فأقلها أن يخرج من النار بعد أن يعذب على قدر شيء من ذنوبه -التي لم يعفى عنه فيه- ثم يرجع إلى الجنة، لأن الله مولاه، عنده مولى يُعزّه، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ} -والعياذ بالله تعالى-، ويا ويل من مات على الكفر {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ}.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بساتين وتجري من تحتها الأنهار، كما سيذكر لنا {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى}، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ومن تحتها بساتين بأمرهم، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} في الحياة الدنيا {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} الأكل حقها من هنا وإلا من هنا ما تُبالي، القصد حصلته لهفته، لأنها فقط من شأن تتلذّذ له في طعمه ويُقوي جسدها، وهؤلاء مثل الأنعام، ولهذا ما يبالي حلال أم حرام؟ مثل البهيمة تأكل من هنا أو من هنا، لا تقول هذا حق صاحبي؛ ولا ما هو حق صاحبي، ما تعرف، وهم ما يعرفون الحلال ولا الحرام؛ كالأنعام سواء سواء، فقط من شأن شهوة الطعم يأكلون، وهؤلاء أيضاً من أجل شهوة الطعم يأكلون، لكن المؤمن يأكل باسم الله؛ ويعلم أنه رِزق الله، وأنّ مقصوده التقوّي على طاعة الله؛ وأنه يؤدي به المُهمة العظمى في الحياة؛ مهمته في الحياة مرتبطة بالمستقبل الكبير، هؤلاء ما هم أنعام ولا يشبهون الأنعام، لكن غيرهم أكلهم وشربهم ومتاعهم هؤلاء والأنعام سواء سواء، والأنعام هذه تُسبح بحمد ربها.
قال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} لا يدري بحلال حرام ما يُفرّق بين ذلك لا يبالي، ما له فيه غرض صحيح، يرجعوا يجيبون بعضهم فلسفات حقهم يقولون: انا أكل لأعيش وإلا أعيش لآكل، وبعدين؛ يعني ما له هدف في الحياة، أعيش لآكل وآكل لأعيش، وبعدين، ايش ترجع؟ ما عرف لمَ خُلِق؟ ولا مُهمة الوجود، والأنعام يأكلن ولا فكر عندهن حد بيذبحهم، ولا يسمنوهن من شأن يقع لهم ذبح ويأكلونهم بعدين، ما تفكر، وهذا ما يفكر؛ موته ونهايته ومصيره لا يفكر في شيء، واحد واحد من الأنعام، والأنعام خير منه، {أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} لماذا؟ لأنه لا مولى لهم ينقذهم من النار، ما حد له مولى ينقذهم من النار، طيب ما هم موالي بعضهم البعض، غريق وينقذ غريق! ما يمكن! هو غرقان وكيف بينقذ؟ {لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ} يعني: موالاتهم لبعضهم البعض أو توليهم لطواغيتهم، أو نصرتهم لبعضهم البعض تتلاشى لأنه كله ضعيف مع ضعيف؛ ساقط مع ساقط؛ ايش يعملون؟ ولهذا حتى يتمنون أن بينهم صداقة وحميمة بينهم وبين أحد من أهل الخير، بينهم وبين أحد المُقربين عند الله، ما يحصلونها، طيب وين الصداقة حقهم، يقولون: {فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِینَ وَلَا صَدِیقٍ حَمِیمࣲ} [الشعراء:100-101]، كيف مافي صديق؟ أنتوا عشتوا الأصدقاء، تقولون الأصدقاء؛ طول عمركم تقولون أصدقاء، كيف ماشي صديق؟ صديق واحد هو معي في النار لا يُحبه الله.. مثل ماذا مِن صديق؟! أنا بغيت صديق من اللي يُحبهم الرب، بسببه ينقذنا من هنا {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100-101] يعني: هذه الصداقة التي ما تنفع ما عاد تُعد صداقة خلاص، فبقي أن الذين صادقوا الأصفياء والأولياء يكونوا قريبين من رحمة الله يشفعهم فيه.
والنبي يذكر لنا في أولياء الأمم السابقة أن الله -تبارك وتعالى- برحمةِ وخدمة كلب رحم الفاسق وغفرله، الله يخبرنا أن عاصي من عصاة بني إسرائيل وفاسق يمر في الصحراء ويرى سواد إنسان يقرب، عرفه أنه عابد من عُباد بني إسرائيل كان رجل صالح ولي، وهو عرف أنه أغمي عليه؛ بسبب العطش، صحراء ما فيها ماء، وهو معه ماء، ولكن يحتمل أنه إذا سقاه هو يتعرض للعطش بعد ذلك ما يجد ماء، فأخذ يقول إن أسقيه وأتحمل ما يجيه وإلا أروح واتركه، فحرك الله ضميره، قال إن ذهبت وتركته كذا هذا العابد الصالح ما أظن يرحمني الله بعدها أبداً، ولا عاد بتحصل لي الرحمة.. فآثر؛ خرج قطر الماء في فمه شيء فشيء حتى أفاق رجع سقاه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: فإذا كان يوم القيامة أُمِرَ بذلك الفاسق إلى النار، تروا كيف الحق ماذا يُرتّب! قال فتمر به الملائكة فيرى الصالح الذي سقاه، يقول: يا فلان ألا تعرفني؟ إن كان لك دعوة عند الله مسموعة أو جاه عند الله تعالى اشفع فيّ، قال: من أنت؟ قال: الذي سقيتك في يوم كذا في الصحراء الفلانية، قال فيقول الصالح للملائكة: قفوا، تقف الملائكة، فيسأل الرب ويقول: يا رب هذا آثرني في ذاك اليوم بمائِهِ وقدّمني على نفسه فإن كنت تقبل مني دعاء فأسألك أن تُشفِّعني، فيأتي النداء من الحق قد شفّعناك فيه: فتتخلّى عنه الزبانية، يبعدون منه! يقول: خذ بيده فأدخله معك الجنة، لا إله إلا الله، {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100-101]، هذا سقى ذاك الإنسان الصالح في يوم فوقعت له ذُخر في القيامة، لا إله إلا الله!
يقول: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ..} قُل لهؤلاء كفار قريش الذين أتعبوك، ويضعون السلا فوق ظهرك ويضعون الشوك في طريقك، ويحفرون لك الحفر، وبعدين اجتمعوا ليقتلوك أو يخرجوك، أو يُثبتوك يعني: يحبسوك، قُل لهم: أقوى منكم وأشد منكم قد أهلكهم ربي، فلو فكّرتم لا تُعانِدوا الجبار فيمن أرسل إليكم، وأنقذوا أنفسكم.
يقول {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} المُراد أهل قرية ما هي القرية نفسها، يعني كم من أقوام أشد قوة وأمتن سِلاحًا وقُدرةً وبطشًا من جماعتك هؤلاء؛ هي أشد قوة {أَهْلَكْنَاهُمْ}، عشرات مئات أشد منهم قوة {أَهْلَكْنَاهُمْ} يعني؛ لو أردنا أن نُهلكهم أمر هيِّن علينا، ولكن أراد الله يُقيم الحكمة، ويرفع قدر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالصبر {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34]، وجعله يدخل إلى الغار، ويتحمل المشقة في الهجرة، والغزوات واحدة بعد الثانية.. حِكمة؛ وإلا لو أراد يهلكهم يهلكهم في لحظة واحدة {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ}، قل لهم {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} ما أحد قدر يمنعهم من الله! {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17] لا إله إلا هو.
{أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} يعني: أتباعك الذين آمنوا بك وصدّقوك {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} عمله السيء زُيِّن له وأحبه، يعبد صنم، يأدِ المولودة المسكينة، يُكذِّب الرسل، يأكل القوي الضعيف، {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} اتِّباع الهوى هوان، وكيف صار في بعض من يدّعي الحضارات أن تمهيد الأشياء لِتتبع هواك، هذا التقدم والتطوّر! اتباع الهوى في حد ذاته سقطة {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:37-40]، وهذا ذمّهم {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، وهذا الآن الصنم هو يقيمونه أمام شبابنا مساكين، يقولون لهم: اعبدوا الهوى، اعبدوا أهواءكم، ويفسحون لهم بعض المجالات ويتعلق باتباع الهوى التي ما تمس أغراضهم ونظامهم الذي يريدونهم، يفسحون لهم المجال، من شأن يخرجون من الدين ومن القِيم فقط؛ أما حُرية في كل شيء، لا، إذا جاء منع بِوازع دين وإيمان؛ يقولون: هذا كبت حرية وهذا تشديد، وإذا جاء منع من قانون من عندهم؛ يقولون: هذا نظام، لابُد نخضع للنظام، الله أكبر! الذي يجي من عندك أنت نظام، وترتيب ربي الذي خلقنا ويخضع له.. هذا كبت حرية هذا تشديد! ومن له الحق يُنظِّم لي أنت ولا الرب؟ ما لك هكذا تريد نفسك إله وفوق الإله عاده؟! هذا تفكيرهم؛ الله يدفع شرّهم عنا وعن جميع المسلمين.
{أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} اللهم إنا نسألك أن تجعل هوانا تبعاً لما جاء بين نبيك محمد، يا رب، يا رب، اجعل مِن قِرانا في رمضان أن لا نخرج منه إلا وأهواءنا كلها تَبَع لما جاء به حبيبك محمد، فنحيا على هذا الشأن الأرفع، نملك نفوسنا ولا تملكنا، نقهرها على الخير فنعزّها، ولا تقهرنا على المعصية فتذلنا، أعِزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به خاتم رسلك خير بريتك -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- في خير ولطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
29 رَمضان 1444