تفسير سورة (ق) ، من قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ.. }، الآية: 12

درس الفجر الرمضاني 1444هـ.jpeg
للاستماع إلى الدرس

الدرس السابع من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة (ق)، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:

 {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مكرمنا بوحيه وتنزيله، وبيانه على لسان عبده وحبيبه وصفيّْهِ ورسوله، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاهم في الله، وتابعهم في نيته وقصدِه وفعلهِ وقيلهِ، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ هداة الخلق إلى منهجِ الرحمن ورضوانه وسبيله، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

وبعد ،، فإنا في نعمة تدبرنا لكلام إلهنا وخالقنا وفاءًا بعهده، وقيامًا بواجبِ العبودية له، وعملًا وإرادة عمل بما دعانا إليه واستعدادًا للقائه، فضلًا منه ورحمة، ومنةً علينا وتوفيق أسداه إلينا. مررنا على أوائل سورة قاف، حتى انتهينا إلى قول الله جل جلاله وتعالى في علاه { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ ۚ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}.

يقول -جلّ جلاله- وقد ذكرَ الأدلة الواضحة القاطعة على إعادته الخلْق، وبعثهِ العباد، وإرجاعهم للوقوف بين يديه يوم التنادْ، وحلولهم إما في الجنة نِعْمَ المقر، وإما في النار بئسَ المهاد. قال { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّع } طوائف من الأمم الكبيرة التي مرت في القرون السابقة السالفة البعيدة، و أوّلهم في الذكرِ ها هنا قوم نوح، على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، يقول:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ…} قبل هؤلاء المكذبين بك على ظهر هذه الأرض فقد أرسلنا قبلك أنبياء ورسلًا وكذبهم قومهم، {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ}[ الأنعام : 34] .

وتقدم معنى قوله كذلك {.. مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}[ الذاريات: 52] ، بل قال -جل جلاله- {.. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ..}[ غافر: 5] ، أي: ليقتلوه، {.. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ..} ولذا تجدُ في خلفهم وورثتهم الكثرة الكاثرة ممن يهمُّ بهِم أهل أزمنتهم وأهل وقتهم أن يأخذوهم، ومنهم من يُقتَل  ومنهم من يُحبس،  ومنهم من لا يمكن أعدائه أن يفعلوا شيئا من ذلك، ولكن ما منهم من صادق ومخلص إلا وهَمَّ بعض القلوب في الطوائف من حواليه أن يقتلوه {.. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[ غافر: 5] .

{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } الذي لبثَ فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، { وَأَصْحَابُ الرَّسِّ } وهؤلاء أيضا طائفة مذكورين هنا قبل ثمود وعاد، وكثيرًا ما يذكر القرآن أسماء الرسل على غير ترتيب أوقاتهم، ووادٍ يقال له وادي الرَّس وبعث الله فيه أنبياء، ويقال أن وادي سَر هذا الذي في حضرموت مقلوب على ألسنة العوام من الرَّس، وأصله الرَّس، {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} قوم النبي صالح، وعاد قوم النبي هود، وفرعون قوم سيدنا موسى،  وإخوان لوط على نبينا وعليه أفضل السلام، ومن المعلوم ان لوط قبل سيدنا موسى عليه السلام بقرون،  { وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ } قوم سيدنا النبي شعيب، { وَقَوْمُ تُبَّعٍ } هؤلاء كلهم أمم وطوائف أرسل إليهم الانبياء والرسل فكذبوهم، مع أن الرسل نشأوا بينهم من أصدق الخلق، وعلموا أمانتهم، وعلموا شرفهم وعفتهم وورعهم، ثم جاءوا لهم بآيات بيِّنات، وجاءوا لهم بالدلائل واضحات، ولكن كذَّبوهم، سبحان الله الذي أعطى هذا الإنسان القلب والعقل والسمع والبصر ليدرك به الحقائق، ثم بذرّة من هواه هذا الإنسان وطغيانه وشهواته يتجاهل ويتعامى ويتصامى، وكأنه لايرى ولا يبصر ولا يشاهد شئ، صدق الله إذا يصف هذه الطوائف  -ومنهم كفار زامننا- {.. لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ..} [ الأعراف: 179] . فالحمد لله على نعمة الإسلام، اللهم زدنا إيمانًا، ويقينا ومعرفةً وبصيرة. 

هؤلاء كذبوا، كل واحد منهم كذب الرسل الذين جاءوا بالدلائل والبينات، وعلموا صدقهم، وأمانتهم ونزاهتهم وورعهم، كذَّب الرسل، فماذا الذي حصل؟ قال { فَحَقَّ وَعِيدِ} لزم كل واحد منهم وَعِيدِي -عذابي- الذي أنزلته بهم فأهلكتهم طائفة بعد طائفة، وأمة بعد أمة، وقوم بعد قوم، أما تنظرون هذا، في واقع حياتكم معاشر البشر ومرور القرون بكم، {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}، {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[العنكبوت:40].

{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} لزم وثبت وحصل عليهم وعيدي، عذابي أنزلت بهم فأهلكتهم، ثم نقلتهم إلى عذاب البرزخ، وهم ينتظرون الآن عذاب القيامة ودخول النار. كما قال الله في قوم فرعون وقد ذكرهم هنا يقول {.. وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا..}[ غافر: 45-46]، كل صباح ومساء في البرزخ وهم يعرضون على النار، تعرض النار عليهم ومنازلهم فيها وحياتها وعقاربها وسلاسلها وأغلالها وزقومهاّ وسياطها، كلها تعرض عليهم في كل صباح وكل مساء، من يوم غرقوا إلى اليوم.. يوم غرقوا في البحر إلى اليوم هذا في صباحنا هذا تعرض النار عليهم، وفي المساء البارح عُرِضت النار عليهم، فإيش -ماذا- حصلوا من اتباع فرعون؟! وإيش-ماذا- أدرك فرعون من همجيته وعنجهيته هذه، وادعاؤه ما ليس له? ما جنوا إلا كل خسران، ما جنوا إلا كل هوان، ووراهم {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:46]، أعوذ بالله من ذلك. وهذا مصير كل من وصلته رسالة الله على أيدي الأنبياء فأصر واستكبر وعاند وكذب، في أي زمان كان، ولا فرق بين الذين في زماننا والذين قبلهم، ولا من يأتي بعدنا، حكم خالق الأزمان ومكون الأكوان -جل جلاله- هو هو ، ولا معقب لحكمه، فنحمد الله على نعمة الإسلام والإيمان ونسأله أن ينشرها في البرية، وأن يجعلنا سببًا لنشرها وإشاعتها، إنه أكرم الأكرمين.

{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}  انظروا كيف فعلنا بهم؟ خلقناهم ثم أهلكناهم، فإيش -ما- الذي يحجبكم عن تصديق نبينا، وإيش -ما- الذي تنكرون به البعث بعد الموت ونحن ما عيينا -عجزنا- عن الخلق الأول، وخلقناكم أنتم وحدكم! وطوائف أمثالكم كثير قرن بعد قرن من عهد آدم، فخلقنا هذا كله، لماذا الشك في البعث؟ {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ } هل عجزنا عن شيء من هذا الإيجاد والإبداع والإنشاء والتكوين؟ أنتم ومن قبلكم وقرون كثيرة وطوائف وأمم كثيرة وكبيرة خلقناهم من لا شيء، وأهلكناهم، أفنعجز أن نعيدهم، {أَفَعَيِينَا} هل عجزنا - عيينا- بالخلق الأول؟ ما عندنا عيْ ولا عجز، خلقنا ما شئنا كما شئنا بالطوائف الكثيرة والأعداد الكبيرة، وأنجينا من أنجينا، وأهلكنا من أهلكنا، فإيش-ما- تشكون، وها أنا بقدرتي أمامكم، وها أنا بعظمتي أمام أعينكم وعقولكم وبصائركم. إن كانت لكم عقول،{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} حاشاه، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} شك {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ونظير هذا الخلق الذي يشكون فيه قد تمّ بأعداد كبيرة لا يقدرون أن يحصوها، فليش -لماذا- باللبس هذا في الخلق الجديد وما عيينا بالخلق الأول {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ}[الأنبياء:104]، وقال سبحانه وتعالى { ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }[الروم:27]، خلقنا {ثم يعيده وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } يعني كله هين سهل ماشي -لا شيء- صعب على الرب -جل جلاله- {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ}  هل عجزنا؟ {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} شك ووهم {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}.

يقول الحق تأملوا وأحضروا قلوبكم، وأحضروا بصائركم وأبصاركم، وانظروا {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ} كونَّاه وأنشأناه من عدم {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}[الإنسان:1]، كلنا الموجودون على ظهر الأرض قبل المئة السنة ماذا كنا؟ وقبل المائتين، وقبل الثلاثمئة، وقبل الأربعمئة، وقبل الخمسمئة ولا لنا وجود، ولا وجينا الحين-الآن- مرّت علينا أزمان لم نكن شيئا مذكورين، بل أبونا آدم نفسه، مرّت على الأرض والسماء قرون وما شي -لم يكن- ذكر لآدم، ولا أحد يعرف آدم، ولا وجود له، ولما أراد أن يظهرُه بفضلِه قال الله للملائكة أني خالق في الأرض {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] وكوَّن آدم.

فالإنسان كله من أوله إلى آخره، من أيام آدم وما عاد إلا نحن، نحن بينا وبين آدم كم قرون، ولا لنا ذكر فيها ولو كنا موجودين، متى جيت يا نصر؟ قال أمس بعد العصر، بعدين بتكابر خالق السماوات والأرض، والذي خلق الطوائف والأمم والقرون من قبلك هذا، ونصَر الرسل، وكذب معانديهم قرن بعد قرن بعد قرن بعد قرن، تعال منين-من أين- جيت -جئت- أنت؟! عقِل ،أبصر، فكر، تأمل، أحسن استعمال العقل. لعبوا بالعقل، وادعوا أنهم العقلاء، انحرفوا في كيفية استخدام العقل، ووضع الأشياء في مواضعها، وادعو العلم ، وادعوا التطور، وادعوا المعرفة، ويا ما أشد مآلهم، وكل من لم يؤمن منهم وقد وصلته الرسالة والدعوة، ويلٌ له، ثم ويلٌ له، لن تغني عنه دولة كبرى ولا صغرى، ولن  تغني عنه أسلحة، ولن تغني عنه جنود ولا عساكر، ولا يغني عنه ثروات، ولا شيء مما يفتخرون به، كل ما يفتخرون به {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا .. } {الحديد:20] حد يفتخر بالحطام! إيش-ما هو- الحطام؟ كل ما سيكون حُطام فهو حطام، إيش-ما هو- الحطام؟ حضارتهم هذه حطام، والله حطام، كفر ، زندقة، وخروج وتكذيب بالله. حُطام، ما يصير حطام فهو حطام، من الآن حطام حد يغتر بالحطام؟ حد يعظم الحطام؟ حد يؤلِّه الحطام؟ يقوله -جل جلاله- { ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } وهكذا ماضرب لنا من الأمثال.  و يقول جل جلاله {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا }[النور:39] ، إنما مثل الحياة الدنيا {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ..}[الحديد:20] ، وبعدها! بعدها الحياة الباقية الدائمة، وفي الآخرة واحد من الأمرين {..عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ..}[الحديد:20]، هذا مستقبلنا.

هذا المستقبل الخطير الكبير الدائم، هذا المستقبل، بُعِثَ الرسل من أجل إصلاح هذا المستقبل لنا، ما هو هؤلاء يصلحون  لنا ضمان مستقبل، ادرس في مدارسنا، وخذ أفكارنا، وقد ضمنت مستقبلك، مستقبل ايش؟ مستقبل الفناء، مستقبل الموت القريب، مستقبل الزوال؟! المستقبل قدامي وقدامكم يا غَفَلة، مستقبل كبير { وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ } [الحديد:20] واحدة من الاثنتين ،هذا المستقبل، هذا مستقبل كله مكلّف، مستقبل خطير كبير دائم، واحدة من الاثنتين { عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ } ، فالذي يقول لك اضمن مستقبلك من شأن تدوم في العذاب الشديد، هذا ضمان هذا؟! هذا أمان هذا؟! هل هذا خير؟! ايش هذا بتودي بي، و تهلكنا إلى العذاب الشديد، تودف بي إلى هناك، وتقول لي اضمن مستقبلك، مستقبل ايش؟ أرسل الله إلىّ الرسل من أجل أن أدخل في مغفرة من الله ورضوان. هذا هو المستقبل، أوحى الله إلى آدم من شأن هذا المستقبل، أوحى الله إلى شيث بن آدم من أجل هذا المستقبل، وأوحى الله تعالى إلى إدريس من أجل هذا المستقبل، وأوحى إلى نوح من أجل هذا المستقبل، وأوحى إلى سيدنا هود من أجل هذا المستقبل، وأوحى إلى سيدنا صالح من أجل هذا المستقبل، وأوحى إلى أنبياء كثيرين، ثم إلى النبي إبراهيم من أجل هذا المستقبل، وبعث النبي محمد من أجل هذا المستقبل، لنؤول ونؤوب ونرجع إلى مغفرة من الله ورضوان.

أما تحليلنا واعتقادنا ويقيننا فيما نعيش فيه في الحياة فما قال ربنا {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد:20] وطريقنا وفوزنا في الاستجابة لنداء ندانا به  بإلهنا {سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ }[الحديد:32]، آمنا بالله ورسله، زدنا اللهم إيمان، وثبتنا على الإيمان حتى تتوفانا،{ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:32]، والنهاية { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر:20]، اللهم اجعلنا منهم، وأسكنا فردوسها الأعلى يا ربنا يا خالقها، ويا خالق كل شيء، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب يا الله.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} ما يهجس على ضميره، وما يرد على خاطره، وما ينزل بباله، وما يفكر فيه، وما يتصوره وما يتخيله وما ينويه وما يعزم عليه، وما يميل إليه وما يحبه وما يكرهه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} استحضر هذا، إن أردت أن تنجو، إن أردت أن تفوز، إن أردت أن تقرب، { خَلَقْنَا الْإِنسَانَة وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} وزين باطنك لربك حتى لا يرى فيه إلا ما يحب و إلا ما يرضى، فيصطفيك ويجتبيك ويهبك من مواهبه فوق أمانيك، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

{ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}، الله أكبر! إيش -ما- هذا العلم المحيط بكل شيء؟ {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284] جل جلاله، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} قال الله تصوروا شؤون ألوهيتي ربوبيتي بالنسبة لكم أنا محيط، فلا شيء أقرب مني إليكم، ونحن أقرب إليه لهذا الإنسان من حبل الوريد، حبل الوريد هذا العرق الذي في العنق أو النياط الذي في القلب وما أحاط به، هذا حبل الوريد، وهذا حبل الوريد، هو وريد هنا، ووريد هنا في القلب وفي العنق، وريد، سمي حبل، هو نفسه حبل الوريد، قل لي قريب منك حبل الوريد ولا بعيد؟ هل هذا قريب أم بعيد؟ هذا في عنقك وهذا في وسطك، كل واحد منهم لو انقطع عنك، تموت،  هذا أم هذا؟ كيف هو قريب منك؟ قال اسمع، هل تتصور قرب هذا؟ قال الرحمن، أنا بجلالي وعظمتي أقرب من هذا لك.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } الله! ما هو مثل حبل الوريد؟ حاشى الله أن يماثله شيء.. بل أقرب، قرباً معنوياً لا غاية له، ولا يحيط به إلا هو. أقرب إلينا من هذا، فكيف ما يكون أقرب من يدي؟ من حبل الوريد، وكيف إلا من ميتتي، ولا اذكر شي ولا صاحبي، ولا صديقي، ولا أخوي، ولا أبوي، ولا أمي؟ أقرب إلي من حبل الوريد. أنا الذي أتباعد بغفلتي، أنا الذي أتباعد بجهالتي، أنا الذي أتباعد بنسياني، أنا الذي أتباعد باجترائي وافترائي، أما هو أقرب إليّ من كل شيء -جل جلاله وتعالى في علاه-، تقرّب إليه يكشف الحجاب عنك -جل جلاله- فإن صفة القرب هو صفة الكمال لله تعالى، والبعد لا يوصف به إلا العبد؛ ولهذا لما يذكر الإمام الحداد، شؤون القلوب التي صدقت مع الله، وأقبلت بالكلية عليه في تبعية الأنبياء حتى كشفت عنها الحجب وصارت في عين اليقين، ورأت نور الله -تبارك وتعالى- في الوجود وكل شيء يسبح بحمده، يقول: 

هــذا جــمــال الحــق قــد تــجــلى ***  ولم يــكــن مــحــجــوبـاً قـبـل كل

(المحجوب أنت ما هو هو) 

كلا لكن قــلب العــبــد قــد يجلى ***  شــاهــد وكــانــت مـنـه السـواتـر

 

السواتر والحجب من العبد، لا يصح ولا يجوز أن يكون الرب الإله محجوب، لكن العبد هو الذي يحجب -جل جلاله وتعالى في علاه-

ولم يــكــن مــحــجــوبـاً قـبـل 

كلا لكن قــلب العــبــد قــد يجلى ***  شــاهــد وكــانــت مـنـه السـواتـر

 

أي من العبد، هذه الحُجُب التي منعته، ولهذا يأتي معك في الآية أنه عندما ينكشف الحجاب بالموت، يقال لك { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ} [ق:22] ، الإطار اللي كان محيط بك من الشهوات والأهواء بعدناه الآن، خلاص خرجناك من هذا العالم، عالم الشهوات والأهواء، ما عاد شي عندك شهوة ولا هوى ذا الحين-الآن- بسم الله، هيا شوف-انظر- الحقيقة واضحة. 

يقول تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }، {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [يونس:29] ، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا}  [النساء:70] ، وكفى بالله محيط. ومع ذلك كله أقام لنا حجج من الخلق أنفسهم، جعل لنا ملائكة، وجعل لنا صحف يكتبون فيها، وجعل لنا شواهد من أنفسنا، وجعل لنا الأرض تشهد، وجعل لنا الزمان يشهد، والله الله.. وجعل لنا صور في العرش تصوِّر كل ما يجري في هذا العالم، وكل ما يكون فيه، الله الله الله، كاميرا، كاميرا هي كاميرا بدقة، حتى نيَّتَك تطلعها. هيا هات لي كاميرا تطلع النية، ايش من كاميرا تطلع النيه؟ سبحان الله التصوير.

والملائكة جنبك أيضا يعلمون كثير من نواياك، ويبطُن عنهم دقيق ما في باطنك من سريرتك يعلمها هو -جل جلاله- {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} الملكان المأموران بأمر الله تبارك وتعالى يتلقيان كل ما يصدر من هذا الإنسان من فعل وقول ونية وحركة وسكون {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} عن يمين الإنسان وعن شماله، قال{قَعِيدٌ} أي: ملازم، مصاحب، دائم، ما يغفل، ما يلتهي عنك، ما يكسل، قاعد لك بالمرصاد،{ قَعِيدٌ} رصيد. {قَعِيدٌ} يعني: متفرغ لك، ولا يمل، ولا يفتر، ولا ينام، ولا يكسل، مَلَك ماسك كتابه بأمرِ ربه، ويكتب ما تقول وما تفعل {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} وهؤلاء يخلقهم الله لكل إنسان من حين ولادته إلى حين وفاته.

كما يخلق ملائكة أيضًا ملهمين له الخير من حين ولادته إلى حين وفاته، كما جعل ملائكة يتعاقبون، {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}[الرعد:11]، ملائكة أمامه وملائكة وراءه في الليل وفي النهار، يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه}[الرعد:11] أي: بأمر الله، والحفظة يكتبون، والاثنان هؤلاء على اليمين وعن الشمال كاتب الحسنات وكاتب السيئات يكتبون، لكن الله تعالى يأمر كاتب السيئات لا يكتب شيء ما دام الإنسان في صباه، حتى يصل حد التكليف ببلوغ وعقل، فإذا بلغ وعقل يقول له اكتب، وأما صاحب الحسنات يكتب من حين ولادته من خلقته، أي شيء تعمل يكتب يكتب يكتب، رحمه من الله بعباده، فإذا جاءت لحظة البلوغ استعد ملك السيئات ينظر أي شيء تكتب، حتى إذا تكلم الإنسان بكلام فضول، وليس من الذكر، ولا من النصح للمسلمين، ولا من إدخال السر على قلب مسلم، ولا من شيء من الخير، ولا قرآن ولا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر معروف لا نهي عن منكر، ولا علم ولا فيه معصية لا غيبة ولا نميمة ولا كذب، فيقول ملك الحسنات: ليست هذه من الحسنات فاكتبها. فقال ملك السيئات: ليست هذه السيئات فاكتبها، يقال؛ كل ما تركه ملك اليمين اكتبه أنت صاحب الشمال، اكتب ينظر يحاسب عليه، إذا كتب يعرض في كل اثنين في كل خميس، ما تعلق من حيث يعلم الملائكة ومن حيث لا يعلمون بخير أو شر،  أمر الله بإثباته في الخير أو في الشر وما لا فيرمى.لا إله إلا الله. حتى يقول ابن عباس الكتاب يكتب كل شيء حتى أنين المريض، وقوله لفلان كيف حالك؟ منين-من أين- جئت؟ فين-أين- خرجت؟ أنت فين الآن؟ يُكتب، بعدين أيه قصدك فيها؟ أنت صادق ولا كذاب؟ وأظهرت غير ما تبطن وإلا متفق باطنك مع ظاهرك؟ حساب. 

{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} الملكان الموكلان بكل مكلف {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} وجعل الله الإمارة لصاحب اليمين، وبمجرد ما يعمل المؤمن حسنة يكتبها بعشر، إذا عمل السيئة يريد يكتب ملك الشمال، الأمير حقه ملك اليمين يقول له اصبر قليل ، لعله يتوب، يستغفر، يرجع، انتظر، ويمهلونه وقت، إن تاب واستغفر يقول خلاص خلها عندي في التوبة والاستغفار بكتبها له، ما صدق في توبة وأصر يقول أثبتها سيئة واحدة.

وهكذا، هؤلاء يخلقهم الله تبارك وتعالى من الملائكة الموكلين بابن آدم بهذه الصورة الكتابة عن اليمين والشمال، بخلق ابن آدم يخلقون ويبقون معه، فإذا جاء وقت الأجل، يقول عن ربي أمتَّ فلان ابن فلان ، فلان ما شي له حسنات ولا سيئات نكتبها له، نصعد إلى السماء، يقول ربي: السماء ملآنة بملائكة يسبحون بحمدك، يقولا: فنبقى في الأرض نسبح بحمدك، قال: وفي أرضي من عبادي من يسبح بحمدي، يقول: فما نعمل؟ قال كونوا على قبره، سبحاني واحمداني على قبره. وجاء في بعض الروايات أنه إذا مات على الإيمان والتسبيح والتأمين، يقول له: سبحا واحمدا واكتبا ذلك لعبدي، فوق القبر حقه.

وجاء في الروايات أنه إذا مات المؤمن الصالح يقولا عند خروج روحه الملكان: جزاك الله عنَّا من صاحب خيرًا، كم مجلس خيرنا أحضرتنا، كم كلاما طيبا أسمعتنا، كم نورًا أشهدتنا، كم صاحبتنا في الدنيا، تجيب لنا مجالس الخير، تقرأ لنا القرآن، فالملائكة فرحانين منه، نحن ذاهبان إلى قبرك في مصليان عليك إلى أن تقوم الساعة، ندعو لك هناك. وإذا مات صاحب السيئات والنفاق والكفر يقول الملكان: لا جزاك الله عنا من صاحب خير، كم مجلس سوء احضرتنا، كم كلاما خبيثا اسمعتنا، كم عصيانًا لله أشهدتنا، فلا جزاك الله عنا من صاحب خيرًا، نحن ذاهبان إلى قبرك نلعنك إلى يوم القيامة.

انظروا الفرق بين الحسنات والسيئات، وروح الأول تبشَّر، وروح هذا يتلقاها البشارة بالعذاب والعياذ بالله -تبارك وتعالى- بل من عند الاحتضار، حتى لما يقول بعض الملائكة يعني للرقيبين هؤلاء، رقيب وعتيد، عند احتضار الميت يقال اطويا  صحائفكما، فيقول الملك: لا دعني ربما قال لا إله الله اكتبها ربما، خلو يكمل أنفاسه كلها وتخرج روحه، فما يطويان الصحيفة إلا بعد خروج الروح من الجسد. لا اله الا الله. نسألك حسن الخاتمة يا الله.

  يقول: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } ، ما يخرج من كلمة، يقصد يخرج يرمي من كلمة من قول أي: قول كان، لفظ أي لفظ طلع منه بأي لغة من اللغات ما يلفظ من قول { إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، رقيب رصيد مراقب، عتيد حاضر غير غائب، وكل منهما { رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، كل من الملكين بالوصف رقيب عتيد، مراقب حاضر.

كان سيدنا عثمان بن عفان إذا أراد دخول الخلاء يفرش رداؤه، يقول ها هنا فاقعدا أكرمكم الله، فإنهم يتخليان عن الإنسان عند قضاء حاجته وإتيانه أهله يبتعدان، فإنه يحط لهم الرداء يقول: ها هنا فاقعدوا أكرمكم الله، لا اله الا الله، أحسن صحبتهم حتى صارت الملائكة وعاده -بعده- في الدنيا تستحي منه لشدة حيائه من الله، لما اشتد حياؤه من الله صار الملائكة تستحي منه. 

يقول: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ }  أيَ قول كان { إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، كل واحد منهم وصفه هذا، ويقال: أن هذا اسمه رقيب، وهذا اسمه عتيد، لكن الوصف للكل، كل منهم رقيب، مراقب، راصد، ما تقدر تغالطه، عتيد حاضر ما يغيب منهم،{ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، الله الله الله .

وهكذا غير الحفظة الذين يتعاقبون فينا، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، وهؤلاء يطلعون للسماء وذولا يرجعون ويطلعون، ويجتمعون في الصبح والعصر، فالمؤمن المواظب على صلواته في المحل يصلي فيه يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في وقت الصبح ووقت العصر، ينتظر ملائكة الليل يقولون: بنرفع صلاة الصبح معنا، اللي يقضي صلاة صبح مشان -من أجل-  يكتبونها يرفعونها معهم، وملائكة النهار ينتظرون العصر ويقولون اصبروا يقولون بنطلع الصلاة معنا، آخر صلاة في النهار صلاة العصر، فيجتمع هؤلاء وهؤلاء، فتصعد ملائكة النهار في العصر وتبقى ملائكة الليل، ثم يجتمعون عند الصبح وتصعد ملائكة الليل وتبقى ملائكة النهار، الله أكبر لا إله إلا الله.

أكثر خلق الله عدد الملائكة، أكثر من الرمل، من الحجر، من الذر، من الإنس، من الجن، الملائكة أكثر خلق الله عددا سبحانه خالقهم -جل جلاله- فهؤلاء الحفظة أيضًا يكتبون ويعرضون الأعمال على الله، ورقيب وعتيد ملازمين لهذا الإنسان إلى وقت وفاته، ثم على قبره، إما يدعون له ويصلون عليه، وإما يدعون عليه ويلعنونه، والعياذ الله -تبارك وتعالى- فأحسن صحبتهما، والأولى برعاية حق الصحبة الأول، الذي قال لك: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هذا أحق بأن تراقب صحبته، لا إله إلا هو.

فهكذا يذكرنا الرب هذه الحقائق، وعلمنا أن السورة كان يعتني بها خير الخلائق، ويكثر قراءتها وتلاوتها في خطبهِ وفي صلاة الفجر، وفي صلاتي العيد، كان يعتني بها عليه الصلاة والسلام، وفيها بيان عظيم لإحاطة الحق تعالى بالخلق ورجوع جميع الكائنات إليه لا إله إلا هو آمنا به. 

اللهم نور قلوبنا وطهرها وصفها عن الأدران، وبارك لنا في رمضان، وفي تلاوة القرآن في رمضان، وفي تدبر معاني القرآن في رمضان. واجعل لنا فهمًا واسعًا في وحيك وما أنزلت على قلب نبيك، يزداد لنا نوره أبدًا سرمدًا، كما أنت أهله بما أنت أهله يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

تاريخ النشر الهجري

08 رَمضان 1444

تاريخ النشر الميلادي

29 مارس 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام