تفسير جزء عمَّ - 107 - تكملة تفسير سورة النبأ {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.

نص الدرس مكتوب:

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40))

الحمد لله حمدا تمتلئ به القلوب مِنَّا إيمانا ويقينا وتعظيما للحقِّ جَلِّ جلاله وتعالى في علاه ورسوخًا في محبّته وتمكينًا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يُحَقِّقُنا بحقائقها فَبِها من شرور الدّارين يحفظنا ويقينا. ونشهد أنَّ سيدنا ونبيَّنا وحبيبنا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمّدا عبده ورسوله، أعظم خلق الله قدرًا وأجلِّهم لدى الرّحمن فخرًا وأعظمهم تمكينًا. 

اللّهمّ صَلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُجتبى المُصطفى سيِّدنا محمّد، مَن بعثته إلى الرُّشدِ يهدينا، وثَبِّتنا على دربه وزِدنا به إيمانًا وتمكينًا، ومعرفة ويقينًا، وسِرْ بنا في سبيله واسْقِنا من سلسبيله، وصَلِّ معه على آله وصحبه وجِيلِه، وعلى أهل حسن محبّته ومُتابعته في فِعله وقِيلِهِ، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى الرّوح والملائكة المُقرَّبين، وجميع عبادك الصّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك، يا أرحم الرّاحمين!

أمَّا بعد،،،

فإنَّنا على مائدة إنعام الله علينا بتمكيننا أن نتفكَّرَ ونتأمَّلَ ونتدبَّرَ وَحْيَهُ الذي أوحاه إلى مُصطفاه؛ لِنَحْيَا بذلك ولنتطهَّر ولِنرقى ولنتنوَّر ولِنتزكَّى ولِنتذكَّر، ولِنُخَلَّصَ من الآفات والشّرور ونُحَرَّر، مَرَرْنا على معاني في آيات سورة النبأ؛ حتّى وصلنا إلى أواخرها بعد أنْ ذَكر الله تعالى مِن أحوال أهل الجنّة: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)): 

  • وذكرنا من معنى (الدِّهَاق): المملوءة، وأنَّ مع معنى كونها مملوءه، مُقَدَّرة لا تزيد ولا تنقص.
  • ويأتي في معنى (الدِّهاق): الصّافية؛ فهي كؤوس صافية لا يَقرَبُها شيء مِن الدَّرَنِ أصلا.
  • وكذلك يأتي في معنى (الدِّهَاق): المُتتَابِعَة؛ التي تُعرَضُ مرّة بعد أخرى، لا تنقطع ولا تتأخَّر عن الطّلب لحظة.

(وَكَأْسًا دِهَاقًا (34))، وإذا علمنا ما يَشربون مِن، (أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى) [محمد:15]؛ فإنَّ لهم مع ذلك أيضا لأرواحهم كؤوسًا معنوية يَشربونها من قُربِ الحقّ ورضوان الحقّ، والنّظر إلى وجه الله الكريم.

(وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا)، في عموم الجنّة، ولا عند شرب الكؤوس: 

  • (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا)، كلاما فارغا أو هَدَرًا أو مؤذيًا، 
  • (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا)، سَبَّاً ولا شتما ولا شيئا من ذلك، 
  • (وَلَا كِذَّابًا)، لا يَكذِب بعضهم بعضا. 
  • (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35))، ولا أيّ نوع من أنواع الإثم والقول غير الطيِّب. 

وذلك أنَّ النّاس في عالم الدّنيا يتناولون الكؤوس؛ التي تُغرّهم في شربها الشّياطين والنّفوس من المُسكِرَاتِ والخمور، يَلحَقُ ذلك الشراب منهم: لغوا كثير، وكلام غير مُعتدل ولا مُتّزن، ومُسَابَّة ومُشَاتَمَة؛ 

لكن كما قال الله في خمر الجنّة: (لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ) [الواقعة:19]؛ ما تُذهب عقولهم، ولا يَخلُطون الكلام ويأتون بالكلام الباطل والفارغ كما يفعل الذين يشربون الخمور في الدّنيا؛ فاسْتعجَلوا على شرابٍ لِخَمْر الدّنيا الحقير، المُذهِب للعقل، الذي يَرُدّ الإنسان العاقل الكَيِّس إلى شبه المجنون المُخَبَّل، الضّارّ بالجسد، المُنتِن القبيح؛ ثم يُحرَمُونَ: 

  • (كَأْسًا دِهَاقًا (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35))
  • (وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِين) [محمد:15]. 

فما أقَلَّ عقل الذين استبدلوا هذا بهذا. ومن شَرِبَ الخمر في الدّنيا لم يشربها في الآخرة، والعياذ بالله!

  •  فإمَّا إنْ أصرَّ على شُربها واستمر؛ فلا يموت على الإيمان أصلًا، ويُنزَع منه الإيمان، فلا يدخل الجنّة.
  •  وإمَّا أن يكون -إذا صَحَّت منه التّوبة- له أنواع الخمر في الجنّة ما إذا دخلها، وليس أنواع الأنهار وليس له من الخمر شيء، يقال له: اسْتَعْجَلْتَ عَلَى نَفْسِك، و"مَنِ اسْتَعْجَلَ عَلَى الشّيْءِ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ"، والعياذ بالله تبارك وتعالى!، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وهي (أمُّ الخبائث).

يحرص إبليس وجنده فَكبار جند إبليس سواء كانوا من الإنس أو الجن معنا على ظهر الأرض؛ يهتمّون تماما ويبذلون نَصِيبا من جُهدهم ومَقدوراتهم لِنَشْر الخمر بين المسلمين وإيصال الخمر إلى المسلمين؛ لأنّهم يوقنون أنّهم يُفسدونهم بذلك فسادا لا يُفسدون بغيره! فهو أمُّ الخبائث؛ فإذا لم يتمكَّنوا مِن خديعة المسلمين بالاسم المُباشر وللخمر، جاءوا له بالأسماء المُختلفة واستعملوه على شكل الحُبوب، التي تُذهِب الحِسَّ والإدراك والعقل! ونشروا تلك المُخدرات بين النّاس؛ ليُفسِدُوا عليهم دينهم ودنياهم وآخرتهم، والعياذ بالله تبارك وتعالى!

فعلى كُلِّ مؤمن عاقل أن يكون واعيًا حذرًا مُنتبها لنفسه وأولاده: 

  • فإنّهم يأتون في بعض بلاد المسلمين لأولاد أُسَر طيِّبة وخيِّره، عَبْر أصدقاء لهم يُغرونهم بالحبّة والحبّتين، وفي شيء من الخفاء في البداية؛ حتى يُصبحون من المُدمنين ولا يعلم الأب ولا تعلم الأمّ ولا عُذر لهم أن يصلوا إلى هذا الحدّ، لا يدروا بأولادهم، يَصِلُون إلى هذا الحدّ وهم في غفلة عنهم والعياذ بالله تبارك وتعالى! 
  • كلّ ذلك من انتشار الشّرور المُوقِعَة في المحذور، بل لا يطمعُ الذين حُشِيَت قُلوبهم بسوء البغضاء والشّحناء للمسلمين والإسلام. الصّنف هذا من الكفّار ما يطمعون في النّيل من المسلمين في بلد، سواء بالاستيلاء عليها، وعلى مُنتجاتها أو خيراتها أو ما عندها، ولا على أنواع الاستيلاء من قريب أو بعيد؛ حتّى ينشروا بينهم المُسْكِرات، وينشروا بينهم الفواحش؛ فإنّهم عند ذلك يُسَلَّطُونَ عليهم تَسلِيطَا ويُمَكَّنُونَ منهم تمكينا، والعياذ بالله تبارك وتعالى!
  • بل يضعون بعض النّاس في أداء مهامّ أو في مراكز مُعيّنة، بعد أن يضبطوا عليهم هذا الأمر، أنَّهم قد انْحدروا فيه، وحتّى لو فكَّر مُفَكِّر منهم أن يرجع، أو أن لا يُنفّذ خططهم السّاقطة، الخبيثة بالخيانة والضّرّ؛ لَقِيلَ له: هذه صُوَرك نفضحك بها أو تمشي على ما نقول لك!! 

إلى غير ذلك ممّا هو حاصل في واقع النّاس وسبب ذلك، معصية الله، أَلَا لا سبب لأيِّ شر من الشّرور يحصل بين النّاس في الدّنيا أو في الآخرة؛ إلّا بمعصية الله.. 

خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فِي تَقْوَى الله وَطَاعَتِه *** وَشَرُّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فِي مَعْصِيَةِ الله وَمُخَالَفَتِه

فالله يحفظنا من الذُّنوب والمعاصي، ويجعل لنا من سرّ رمضان وبركة رمضان، وِقايةً يَقِينَا بها من الذُّنوب ما حَيِينا؛ فنخرج من رمضان بِلِبَاسِ التّقوى إن شاء الله، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].

يقول تعالى: (وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35))، وأنواع الإزعاجات والصِّياحات والسِّبَاب والشّتائم مُنَزَّهة حياة الجنّة عنها، لا يكون فيها شيء من ذلك قطّ. 

(لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ)، ولمَّا قال: (جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ)، ربّما تخيَّل مُتخيلون أنّ هذا إلّا بِمُجرّد مُقابل وأنّهم عملوا شيء؛ فأعطاهم مقابل ذلك، قال: (عَطَاءً):

  • يعني بِتَفَضُّل منّي ومِنَّة؛ أنا الذي خلقتهم، وخلقت الحسنات، وأقدرتهم عليها، ووَفَّقْتثهثمْ لها؛ ثمّ أعطيهم بالحسنة عشرة، وبعض الحسنات سبعمائة، وبعضها أكثر. 
  • هذا عطاء فضل بمَنّ، ماهو بالمقابلة، ما أعمالهم! وما تكون! لكن تَفَضُّل الرّحمن -سبحانه وتعالى- عليهم؛ فهو يُثيب مَن يشاء بفضله، (جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً)، فضلا ومِنَّه، (عَطَاءً حِسَابًا)، إمّا كافيَاً وافِيَاً، (عَطَاءً حِسَابًا (36))، أو يقولون العرب: إنِّي أَحْسَبْتُ فُلَانًا حتّى استكفى؛ أي: قال حَسْبِي! حَسْبِي! فقط، حسبي، كفاية.

(جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)) أو أنّه يزيدهم على قدر أعمالهم التي عملوها، وهذا في العموم؛ ويزيد مَن شاء، ما شاء، تبارك وتعالى؛ 

  • أمَّا على العموم فلو كان إيمانك متساوي مع إيمان آخر، وأعمالك جميعها الصالحة متساوية معه إلّا أنه عنده زيادة تسبيحة واحدة، لكان له درجة فوقك في الجنّة، ما تصل إليها بهذه التسبيحة، أو تحميدة واحدة، أو درهم واحد تصَدَّق به زائد على أعمالك تجعلُه فوقك درجة بالعمل، بسبب هذا العمل؛ لكن كان العمل كمفتاح فقط لباب الرّحمة. 
  • وإلّا فالكلّ من الله فضلٌ، وهو وعمله وتوفيقه كلّه من الفضل؛ ثم انفتاح هذا العطاء الواسع من الفضل الرّباني، لله الحمد والمنّة، اللّهمّ أَتِمَّ علينا نعمتك.

 قال النّبيّ مرّة لبعض أصحابه: "أَتَدْرِي مَا تَمَامُ النِّعْمَة؟ قال: يَا رَسُولَ الله! مَا تَمَامُ النِّعْمَة؟ قال: دُخُولُ الجَنًّة"؛ يُسكنك في بحبوحة دار الكرامة، عطاء بلا حساب، شؤون ما لها خُطور على بال ولا تُتَخَيَّل بخيال، هذا تمام النّعمة، اللّهمّ أَتِمَّ نعمتك علينا.

(عَطَاءً حِسَابًا (36) رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وفي قراءة: (رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (37))، هذه العظمة، هذه هي الألوهية، فأين يذهب النّاس بعقولهم عندما يَنصبون لهم إلهً غير هذا؟! (رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، مُرَبِّيهَا، مُنشِئها، مُوجِدها، خالقها، فاطرها، المُتَصَرِّف فيها، المُنهِي لها إذا شاء وأراد، (رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وهل هذا وصف يصلح لأي شيء غيره؟ لأيّ أحد غيره؟! لا إنس ولا جن ولا ملائكة ولا أجْرام ولا شمس ولا قمر ولا أصنام ولا بقر ولا شيء؛ فما بال النّاس! 

اسمع! ولا حضارات ولا اكتشافات ولا اختراعات، لا يوجد منها، (رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (37))، فما بال النّاس يَنصرفون إلى هذه الأشياء! وهي عبارة عن أصنام! سواء شمس أو قمر أو هواء أو حضارة أو اختراع أو ما سُمِّي بعلم؛ أصنام! أصنام! لا تعبد شيء غير ربَّك، هذه الأشياء كلّها ليست ربّ للسّماوات ولا للأرض ولا لك ولا خَلَقَتْكَ ولا خَلَقَتْ شيئا من السّماء ولا من الأرض، لا يوجد، ما خلقت شيء! وهي في نفسها مخلوقة! ما بالك؟! أين تذهب عقول النّاس!

يقول سبحانه وتعالى: (رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (37))، ما الذي مازال باقي؟ يوجد مُلْك لغيره؟! مُغترّين النّاس بهذه الحياة؟! كيف يتخبِّطون فيها كذا قليلا ويتضاربون ويذهبون، لا يوجد لهم مُلْك أصلا! المُلْك له سبحانه وتعالى: (تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ) [طه:4-6]، باقي مُلْك لأحد في شيء؟! ما الذي مازال باقي؟ ما الذي بقي! بقي لأحد غيره مُلْك؟، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ)، هيا اخرج من هذه! أين تذهب! هذه مُلكه وأنت مُلكه والكلّ مُلكه، الله أكبر! لا إله إلا هو به آمنا، الحمد لله على نعمة الإيمان.

(رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ (37))، برحمته أوجدهم، وخلقهم، وأعطاهم أسماع وعقول، وأعطاهم أبصار، وأمدَّهم بخلق مُحكَم ومُتقَن، وسخّر لهم الأسباب؛ حتّى الكفّار منهم كلّهم أعطاهم هذا. 

  • (الرَّحْمَٰنِ)، لولا رحمته، يكفرون به وما يقطع الهواء عنهم، ما يقطع الماء عنهم، ما يُخرِّب قلوبهم، ما يخرب أمعاؤهم، يتركها كما هي، سبحانه عز وجلّ! يُعميهم، ممكن! يصمّهم، ممكن في أي لحظة! يتمادون في الكفر، (وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:183].
  • (الرَّحْمَٰنِ)، يقول الله، هذا الّرحمن برحمته العظيمة خلقكم وإيجادكم، لا تحسبوا أنّ الخلق عبث، ولا أنّ معنى رحمانِيَّتِهِ أن تستهزئوا به أو بآياته أو برسله وكتبه، ثم تظنّون أن تَفْلِتُوا أو تَنْجُوا أو أنْ لا يُصِيبَكم عذاب منه. 

فإنّ هذا الرّحمن، ستقفون موقفا، ما يملك أحد خِطابه ولا يّقدر أن يُكلِّمه، يعني رحمانِيّته ما هي لأجل أن تلعب أو لأجل أن تستهزئ بآياته؛ رحمانيّته لأجل أن ترغب وتتأدّب وتطلب الرّحمة، هذا مُقتضى رحمانيّته؛ يعني ماهي رحمانيّة لعب ولا هُزُؤ، رحمانيّة عَظَمَة، رحمانيّة ألوهيّة، رحمانيّة قادر، رحمانيّة جبّار قهّار، رحمانيّة مَن بيده ملكوت كلّ شيء.

(لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا)، ما يقدر أحد يُكلّمه وقت غضبه إلا بإذن منه، ولا يقدر أن يُكلّمه ولا يأذن إلا لأهل الصّواب والحقّ وحدهم، يقول تعالى: (لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)  يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ)، روح وملائكة لا يتكلمون، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)).

(لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)) ،لا يقدر أحد أن يتكلّم إلّا بأمره وإلّا بإذنه أيّ كلام ولو بينهم البَيْن، (قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فُصِّلَت:21]، أمَّا خطابه المخصوص المقبول المُكَرَّم لديه فما يناله إلا أنبياؤه وأصفياؤه وأولياؤه وصالحوا عباده، وكلّ مَن لم يَقل قول الصَّواب. 

وأعظم الصّواب في جميع الأقوال: "لا إله إلا الله"، "لا إله إلا الله"، لا يوجد صواب أعظم من هذا، أصوب من هذا في كلّ المقال: "لا إله إلا الله"؛ كُلُّ مَن لم يؤذن في الإيمان في الدّنيا ولم يمت على القول الصّواب وهو "لا إله إلا الله"؛ فهو في دائرة، (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران:77]،  نعوذ بالله من غضب الله! كلّ من لم يمت على "لا إله إلا الله" فهو ممّن لا يكلّمهم الله يوم القيامة، ولا يملكون منه خطابا، ولا يقدروا أن يكلّموه.

والعجيب! أنّ الذين أذن لهم بالإيمان؛ حتّى كبارهم من الصِّدِّيقين، أكبر منهم من الأنبياء والمرسلين، تأتي لحظات في القيامة، ما يقدرون على خِطابه، ويقول سيّدنا آدم: نَفْسِي، نَفْسِي، مَا أَقْدِرْ أَكَلّْمْ رَبِّي الآن، إنَّ رَبِّي غَضِبَ اليوم غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوح، وَمِنْ عِنْدِ نُوح إِلَى عِنْدِ إِبْرَاهِيم إِلَى عِنْدِ مُوسَى إِلَى عِنْدِ عِيسَى، إِلَى أَنْ يَأْتُوا إِلَى عِنْدِ صَاحِبِ الإِذْنِ الأَوّل، أَعْلَى مَنْ قَالَ الصَّوَابْ، لم يقل: "لا إله إلا الله" مِنَ الخَلْقِ مِثْلِه؛ تَحَقُّقًا بِهَا وَلَا إدراكا لمعانيها ولا ذوقا لحقائقها، ما قالها أحد مثله ﷺ؛ فهو المَأْذُون له، وهو قائل الصّواب؛ فلا يُؤذن لأحد في الكلام والخطاب قبل محمّد يوم القيامة.

(لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38))؛ فهو أصدق النّاس لهجة، وخير مَن نطق بـ "لا إله إلا الله"، وفَتَحَ له الرّحمن مِن مُخَبَّآت وحقائق وكنوز علومه، ما أشار إلينا إشارة في القرآن يخاطبه، وهو سيِّدُ الدّاعين إليها، وهداه بعد أن دعا إليها، وهدى إليها ودلّ عليها، يقول: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19]، أي فأنت رأس المؤمنين والمؤمنات، أنا أغفر لهم بواسطتك وبسبب استغفارك، قال: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ (38))، مَن الرّوح؟ 

  1. هو أصح الأقوال: أنّه جبريل، خصَّصه من بين الملائكة بذكره تكريما، وفيه جاءت الآية الأخرى: 
  • (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) [الشعراء:193-194].
  • (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا)، سيدتنا مريم، (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا) [مريم:17]، سيّدنا جبريل. 
  • كما قال عن ليلة القدر: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ) [القدر:4].
  1. والقول الثاني: (الرُّوحُ) مَلَك آخر غير جبريل عظيم كبير في خلقته يُسَامِتُ الملائكة كلّهم أعظم من السّماوات والأرض.
  2. القول الثالث: (الرُّوحُ) أنَّ الرّوح خَلْقٌ حَفَظَه على الملائكة مِن أكرم الملائكة.
  3. قول خامس أنّ (الرُّوحُ): خَلْقٌ من خلق الله، من جند الله يقابلون الملائكة، وهم يأكلون، ولكن ليسوا كالملائكة يأكلون ويشربون ويشبهون بني آدم وليسوا من بني آدم.
  4. قول سادس بعد ذلك؛ (الرُّوحُ) الأرواح.
  5. قول سابع (الرُّوحُ)، بني آدم نفسه، يقوم النّاس والملائكة، قال تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:6]. 

وهنا قال: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا)، والأصحّ أنّه جبريل، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ)، حتّى الملائكة، حتّى الرّوح، لا إله إلا الله! (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ (38))، حَصَّل الرُّخصة من الرَّبِّ؛ فإذا كان حتّى الكلام ما يقدرون إلّا بإذنه؛ فالشفاعة من باب أولى، كلّ شيء ما يكون إلّا بإذنه، (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة:255]، جَلَّ جلاله.

 قال: (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38))، قد قال قول الصّواب: "لا إله إلا الله" في الحياة الدّنيا، ويقول الآن الصّواب، ما يتكلم إلّا بالحقّ والهدى، ما عاد في الكلام لَيٌّ ولا دوران ولا لفّ ولا زيادة ولا نُقصان، ما يمشي هذا الكلام، ما يُخَاطَبُ الرّحمن إلّا بالحقّ المحض الخالص : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)).

  • (ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ..(39))، والذي يَحِقُّ فيه الحقّ ويَبطُلُ الباطل.
  • (ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ)، الكائن الواقع لا محالة.
  • (ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ)، يُثِيبُ فيه الحقّ تعالى أهل الطّاعة، ويُعاقب أهل المعصية؛ فيحقّ لهؤلاء النّعيم والثّواب، ويحقّ لهؤلاء الهلاك.
  • (ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ)، لاريب فيه، لا مرية فيه، آتٍ، آتٍ، (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا) [الحج:7]، قال سبحانه وتعالى: (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:104-105].

ولكن، تَهَيَّأ واسْتشعر ما سيؤذَن لك به من الكلام، وفي أيّ مقام تكون في الإذن بما يجري اليوم على قلبك ولسانك، ممّا يأذن لك به من خطابه ودعائه وقراءة كلامه؛ 

  • والْهَجْ لسانك بكلام رسوله وتسبيحه وتحميده، إنْ سَيَّرَكَ في ذلك؛ فأنت صاحب لِسَانٍ يوشك أن يؤذن لها في القيامة وأن تقول الصّواب. 
  • لأنّه أَذِن لك في الدّنيا أن يكون أكثر كلام لسانك، كلامه وكلام رسوله وتسبيحه وتحميده وتهليله وما يُقَرِّب إليه، افْتَحْ لِقلبك بابا تُناجيه، تُخاطبه، تَدعوه، تُناديه وأنت في الدّنيا. 

هذه علامة وعنوان أنّه إذا جاء ذاك اليوم، سيكون ممّن يأذَن لهم أن يُخاطبه ويُكلِّمهم ويُكلّمونه كلاما مَرضِيَّا عنه مقبولا لديه، ويكلّمهم بالرّحمة، يُكلمهم بالرّأفة، يُكلّمهم بالمِنَّة، يُكلّمهم بالإنعام والإحسان، يُكلّمهم بالرّضا، لأنّ هذا المخصوص بهؤلاء. 

وذلك حتّى أهل النّار، يُؤذّن لهم بكلام مِن وراء حجاب، لا كلام مقبول، ولا مرضيّ عنه، ولا يَجدون من الله جواب الرِّضا، ولا جواب فضل ولا إحسان، والعياذ بالله تعالى!

  • (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:106-108]. 
  • وكما يقول: (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30))، هذا أمر شديد.

لكن الخطاب من الله بالرّضا، بالرّحمة، باللّطف، بالحنان، بالإنعام، بالإحسان، مخصوص بهذا الصنف. 

وأنت الآن في ليالي العشر، ما مدى خطابك له؟ كيف تُخَاطِبُه؟ وحبيبه كان في هذه اللّيالي، يتهيَّأ للمُخاطبة والمناجاة، كلّ ليلة من ليالي العشر: 

  • يأمرهم يُحضرون له المجمرة، يتطيَّب ويتبَخَّر. 
  • ويغتسل في كلّ ليلة من اللّيالي العشر. 
  • ويلبس أحسن ثيابه، ويبيت يُناجي ربّه. 

هذا المأذون الأوّل، تشبَّه! تَشَبَّه! تَشَبَّه! اِقْتَدِ! في اللّيالي العشر ما لك فيها مناجاة! ما لك فيها مخاطبة! في لحظات بينك وبينه بالقلب، بالرّوح، بالسّرّ، يا ربّي! يا إلهي! يا مولاي! يا خالقي! يا من إليه مصيري! أنظر إليّ! أُعْفُ عنّي! ارْحَمْنِي، خاطبه، فإنّ أهل هذا الذي يؤذن لهم بالخطاب في الدّنيا، قريبٌ أن يؤذن لهم في القيامة، فيُخاطبونه خطابا مقبولا عنده، ويُخاطبهم خطاب رضا ورحمة وإنعام وعطف، جَلَّ جلاله.

فما أجمل نعمة الدّعاء والتّضرّع والمُناجاة لله، ولو فُتِح لك منها باب، لَمَا صبرت عنها، ولَصَارت ألذَّ شيء لك في الحياة،  ما تقدر تصبر عنها إذا فُتِح لك بابها.

وكان بعض بني إسرائيل عنده مظهر علم وهكذا، ولكن ما صَدَق ولا تَوَرَّع، وكان يَقَع في بعض السّيّئات؛ فتكلّم مع بعض أصحابه يقول: أنّه عَصَى وأنّه لم يُعاقَبْ، لم يُعاقِبه ربّه؛ فأوحى الله إلى نبيّ ذاك الزّمان، "قُلْ لِفُلَانْ إِنِّي عاَقَبْتُكَ عُقُوبَةً خَفِيَّة، قُلْ لَهُ، أَلَمْ أَحْرِمْكَ لَذِيذَ مُنَاجَاتِي؟"، قُلْ لَهُ قد عاقبته وماهو يَعْلَمْ، قل له: "أَلَمْ أَحْرِمْكَ لَذِيذَ مُنَاجَاتِي؟"؛ وهذا الذي جاء في بعض الكتب المُنزلة: "إن الله يقول: إنَّ أَدْنَى مَا أَنَا صَانِعٌ بِالعَالِم إذا آثَرَ شَهْوَته على مَحَبَّتِي أَنْ أَحْرِمَهُ لَذِيذَ مُنَاجَاتِي"، نعوذ بالله من غضب الله!

ونُصِبَتْ  لِأَهْلِ المُنَاجَاة *** في حُندَس اللِّيلْ أَعْلَامْ

وَاسْتَعْذَبُوا السُّهْد وَأَمْسُوا ***  قِيَامْ  إِذْ  نَـامْ  مَنْ  نَـامْ

وَاسْتَقْبَلَتْهُــمْ  لَطَائِــفْ *** بَهْجَاتْ فَضْلٍ وَإِِكْرَامْ

مِن لَـذَّةٍ  لا تُكَيَّــف *** ولا تُصَوَّر لِلْأَفْهَامْ

قَدْ ذَاقَهَـا مَنْ عَنَاهَـا *** وهَامَ فِيهَا الذي هَامْ

يقول: (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ۖ فَمَن شَاءَ) ،منكم بعد هذا البيان الواضح، (اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا): 

  • جعل بينه وبين الله علاقة وَصِلَة وطريق ومرجع. 
  • اتخذ (مَآبًا) إلى ربِّه، سبيلا إلى مولاه، طريقا يرضى بها عنه مولاه، مادام في الحياة هذه ومرجع يرجع فيه إلى ربّه فيرضى عنه. 

(فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا (39))، وقال في الآية الأخرى: (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا) [الإنسان:29].

(فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ (39))، تريد لك علاقة بينك وبين هذا الرّبّ؟ تفضّل، هذا كلامه، هذه آياته، هذا كتابه، هذا رسوله، هذا بلاغه، هذه سُنَّته عندك، قم تفضّل، تعال! أَقبِل، تَوَجَّه، أُصدق، قُمْ على الباب.

 (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا (39))، اترك مَعَاصِيه، اترك مخالفته، أصلح ما بينك وبينه، اجْعَلْ لك طريق لِمَلِك الملوك، ما ينساك إذا قال لأقوام كثير..كثير..كثير: 

  • (فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [الأعراف:51].
  • (الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا) [الجاثية:34].
  • (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ) [السجدة:14]، نعوذ بالله من غضب الله!

(فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا (39))، قال ربي تنَزَّلتُ لكم، وتفضَّلتُ عليكم، وهل بعد هذا البيان بيان؟ أنا أخاطبكم بهذا الكلام بواسطة رسولي يبينه، (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ)، أنا قد حذّرتكم، نبَّهتكم، علَّمتكم، كشفتُ لكم ما سيجري وما يكون قبل أن يكون، (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا..(40))، مهما تخيَّلت أنه بعيد، ليس ببعيد لأنّ المقطوع به آتي لابدّ، قريب، كُلُّ آتٍ قريب، والمُكْثُ فيه أعظم مِن المُكْثُ فيما بينك وبينه، في المدّة التي تصل بها إليه.

(إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا)، وبروز ذلك العذاب وتجلِّيه في عالم الخلق تمامًا، (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ..(40)): 

  • يَنظُرُ نَظَر إدراك، نَظَر ذوق، نظر شعور بالحقيقة إلى جمال ما صَدَرَ: من الحسنات، والطّاعات، والخيرات، والقُربات، والكلمات الطّيِّبات، والنّظرات الصّالحات، والعفّة، والأدب، والتّقوى، والصّلاة، والصّوم، والصِّلَة، والصَّدقة، وما إلى ذلك.
  • يَنظُرُ غشوم وظلمة الأخريات: الكَذْبَة، والغيبة، النّميمة، واللّعنة، والسَّبّ، والفاحشة، والسّرقة، والخِيانة، والقطيعة، وما إلى ذلك، ينظرها؛ (ينظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) قُدَّامُه.

(يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)، ما الذي تريد لك من منظر في القيامة؟ ِمن الآن صَلِّح، هذا الذي تعمله هو منظرك في القيامة، هو المنظر لك، هذا الذي تنويه بقلبك والذي يصدر على جوارحك، هو منظرك هناك، هذا المنظر لا يوجد غيره، منظرك إن كان حسن أو قبيح، منظرك إن كان جميل أو سيء، منظرك هو هذا أملك (يَنظُرُ الْمَرْءُ)؛

  • قال: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) [الزلزلة:6]. 
  • (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ *وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) [النجم:39-41].

(يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)، عند هذا المنظر، بعد ذلك أكثر النّاس يقولون هذا القول: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40))، متى؟ 

  • ذكر ﷺ: أنه لمَّا يجُمع الخلائق كلّهم، حتّى الحيوانات، "فَيَقِيدُ للشّاة الجَمَّاء مِن الشّاة القَرناء". 
  • كما كان يقول بعض الصّحابة والتّابعين يقول: "يُؤخذ الحقّ؛ فيُقَادُ لِلْمَنْقُورَة من النَّاقِرَة، ولِلْمَرْفُوسة من التي رفستها وللمنطوحة من الناطحة". 

كلّ واحد يُعطى حقّه، المَنقورة والمَنطوحة والمَرفوسة كلّ واحدة تأخذ حقها من الثّانية.. حيوانات! ويَقْتَصّ الله بينهن عدلا منه.

ثمّ يقول: "خَلَقْتُكُم لِمَتَاع بني آدم وطاعته في الدّنيا، وَقَدْ كَانَ مِنْكُمْ ؛فَكُونُوا تُرَابًا وَعُودُوا كَمَا كُنْتُمْ تُرَابًا"؛ فَتَرْجِعْ تُرَابًا، كلّ كافر يرى أنّ هذه صارت تراب وهو قدّامه النّار، فيقول: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40))، مَن هذا الكافر؟ كلّ كافر: يقع فرعون، يقع نمرود، يقع هامان، يقع قارون، يقع قوم عاد، يقع قوم نوح الذين كذّبوه، أو الذين في زماننا: يقع رئيس، يقع مرؤوس، يقع وزير، يقع مُخترع، يقع مُفكّر، يقع الذي سمِّه بأيِّ اسمٍ كان، كافر! يقول: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)، يا ليتني كنت ترابا! كنت واحد مثل الحيوانات هذه، يعني ليتني حتّى في الدّنيا ما جعلوني زعيم، ولا رئيس، ولا كبير، وكنت وحدة من الخنازير، ولا الكلاب؛ والآن أرْجع كما هذه أحسن لي، ولا هذا الذي أمامي! 

(وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40))، يتمنّى مكان خنزير، مكان بقرة، مكان جَمَل، مكان.. ما يُحَصِّل.. يتمنّى أنّه كان في الدّنيا واحد من هذه الحيوانات ولا وصل إلى هذا العذاب، (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا).

هكذا، ومن الغريب فيما جاء في التّفسير أنه يقول بعضهم: "أنّ إِبْلِيسَ المَرْجُوم لَمَّا يَرَى الحَيَوَانَات أَيْضًا صَارَتْ تُراب، وهو كان قد تكبّر على هذا، أنّه مخلوق من تراب، يقول: 

  • (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) [الإسراء:61]. 
  • (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [الأعراف:12]. 

ويقول: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) ويرى آدم والمؤمنون من ذريته ومالهم من الجنّة والنّعيم وهو وذرّيته والذين اتّبعوه في الجحيم، (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40))، لَيْتَنِي مَحَلّ هذا، لَيْتَنِي مكان هذا، ولكن هو وغيره يَتَحسَّرون، ما ينفعهم شيء، (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، ما يبقى فيها مَلِك، ولا حاكم، ولا دولة صغرى، ولا دولة كبرى، ولا حضارة، ولا شيء، ما يبقى شيء، (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:39-40].

وإذا بهؤلاء الواحد منهم يتمنّى يكون ترابا، يقول أنت في ناس ملايين صفّقوا لك؟ ما أصنع بهم وبِتَصفيقهم! ليت لا صَفَّقَ لي واحد، ولا أدخل النار! ما نَفَعَنِي تصفيقهم؟ أنت رضيت بهذا، كنت مغرور به؛ فقل له يُنقذك الآن؟ فيه شيء؟ ممكن! ممكن يُنجيك؟ الحكم لواحد نسيته أنت، وغفلت عنه، وتولّيت عن أمره؛ فهذا هو الجزاء! اللّهمّ أجرنا من النّار، الله!

وهكذا رسم لنا صورة الأمر المُقبِل سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين؛ ولذا كان الصّحابة إذا تُلِيَت عليهم وسمعوا كأنّهم يرونه رُأْيَ العين أمامهم؛ فأحسنوا العمل، وأحسنوا الإقبال عليه عزّ وجلّ، واالله يجعل لنا نصيب مِمَّا نوَّر قلوبهم وهدى بَصَائرهم وأفْئِدَتَهُم.

اللّهمّ أَرِنَا الحقَّ حقَّاً، وارْزُقْنَا اتّباعه، وأَرِنَا الباطل باطلا وارزقنا اجْتِنَابَه، ولا تَجْعَلْه مُبْهَمًا ولا مُشْتَبَهًا علينا فنتِّبع الهوى، واجْعَلْ هَوَانا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّك، اجْعَلْ هَوَانا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّك، اجْعَلْ هَوَانا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّك محمّد صلّى الله عليه وصحبه وسلَّم.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

24 رَمضان 1438

تاريخ النشر الميلادي

19 يونيو 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام