تفسير سورة النازعات -5- تتمة السورة
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1438هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46))
الحمد لله مُكرمنا بخطابه وتعليمه، وصلّى الله وسلّم وبارك وكرّم على حبيبه، وصفوته مِن خلقه القائم بِتَبيين خطاب الله وتفهيمه، الذي جمع الله فيه أسرار أصفيائه مِن خليله وكليمه، ومَن قبلهم، ومَن بعدهم بتخصيص الله سبحانه وتعالى وتعيينه وتقسيمه، بل جعل رُوحه المحمديّة وحقيقته الأحمديّة، أصل الإفضال والجود -على جميعهم- مِن فضله
اللّهمّ أدم صلواتك على النّبيّ الذي بلّغَنا عنك فأحسن البلاغ، وعلى آله وأصحابه ومَن سار في دربه فاسْتَسَاغ تَدبُّرَ ما أوحيت إليه أحسن المساغ، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين المُفْرغ على قلوبهم مِن نورك المخصوص الذي ميّزتهم به عن سائر الخلق أحسن الإفراغ، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك، يا أرحم الراحمين.
و بعد،،،
فإنّنا في نعمة الحقّ علينا بتأمّلنا كلام إلهنا سبحانه وتوفيقه لذلك وإِمداده بتيسِير ذلك، تأمّلنا معاني مِن عامّة آيات سورة النّازعات حتى انتهينا إلى خواتمها، وقد أقسم الحق تبارك وتعالى بمظاهر كونه وخلقه، وبيّن الأحوال والأهوال وشأن القيامة والمآل، وما كان مِن خبر موسى وفرعون في شؤون الإنباء والإرسال والعواقب الحتميّة لجميع أهل الضّلال، وأكّد انقسام الناس -هؤلاء المكلّفين- في موقف القيامة، إلى شقيّ وسعيد، وبيّن أنَّ العنوان للشّقاء والسّعادة مسار النّاس ووِجهاتهم في هذه الحياة الدّنيا في عالم الشهادة.
فقال: (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41))، ولن تجد مِن الساعين على ظهر هذه الأرض بمختلف أصنافهم وفئاتهم وتوجّهاتهم إلاَّ ما بين مَن طغى وآثر الحياة الدّنيا ، وما بين مَن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، وانتهت المسألة،
كل واحد منهم في أي اتّجاه كان بأيّ فكر، بأيّ مسلك:
- إمّا مِمَن خاف مقام ربه ونهى النّفس عن الهوى،
- وإمّا مِمَن طغى وءاثر الحياة الدّنيا؛
فهم فريقان لا ثالث لهما وإن تعدّدت أسماء الفرق، وأسماء الاتّجاهات؛ فالمرجع
- إمّا أن يكونوا مِمَن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى،
- وإمّا أن يكونوا مِمَن طغى وءاثر الحياة الدنيا،
واختر لنفسك أيّ الفريقين تكون فيهم؛ فإنّ لهم في وِجهات قلوبهم في اللّيالي والأيّام؛ في الليلة التي مضت، وفي صباح هذا اليوم، شؤون وأحوال:
- الذين خافوا مقام ربهم، لهم في لياليهم وصباحهم شؤون وأحوال في الإقبال، والوِجهة، والتّفقّد للخِلَال، والخضوع لذي الجلال، وإصلاح الأعمال، وصفاء البال، وما إلى ذلك، على ذلك باتوا، وعلى ذلك أصبحوا.
- و الذين طغوا وآثروا الحياة الدنيا، لهم في لياليهم أنواع مِن الخَبَال، والضّلال، وعدم المبالاة، والتّطاول على ما ليس لهم، وإشباع رغبات النّفوس، وأصبحوا على مثل ذلك؛
فلكلٍّ علامات، ولكلٍّ أحوال، ولكلّ عناوين، وإنِّ الله خلق الجنّة، وخلق لها أهلًا؛ فهم بِعمل أهل الجنّة يعملون، وخلق النار وخلق لها أهلًا؛ فهم بعمل أهل النار يعملون
اللهم اجعلنا مِن أهل جنّتك، ونسألك بفضلك ومِنّتك أن تجعلنا والحاضرين معنا ومَن يسمعنا مِن (مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40))، اللّهمّ وأهلينا كلّهم، اللّهمّ وأولادنا كلّهم، وأصحابنا، وطلّابنا، وجيراننا، وذوي الحقوق علينا، ياالله! نعوذ بِوَجْهَكَ أن تجعل واحدًا منّا، أو منهم مِن (مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38))، فمآلُهُم صعب، ونِهايتُهم عُسر، وشدائدهم لا تُطاق، اللّهمّ اجعلنا مِن (مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40)).
بعد ذِكره لكلّ هذا، أخبر سبحانه وتعالى عن تساؤلات النّاس عن وقت السّاعة، وتعيين وقت السّاعة، وتحديد وقت قيام السّاعة؛ يقول الله: ما هذا الشّغل! إن كنتم ءامنتم، وصدّقتم بها، فاعملوا لها، وإن كنتم مُكذِّبين بها، فما تَسَاؤلكم هذا"؛ ولكن عادة النّاس هكذا، يشغلون أعمارهم الغالية الثّمينة بما لا يُفيد، وبما ليسوا جادّين، ولا صادقين فيه
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ)، يعني عن تحديد وتعيين وقت قيامتها، وقت ظهورها، (أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42))، أَيَّانَ مُرْسَاهَا: كما تنتهي السّفينة إلى أن تَرسَى، وتَنتهي حركتها،
- متى يكون قِيامها وظُهورها؟ في أيّ وقت؟ في أيّ زمن؟، يقول الله: (فِيمَ)،
- وقيل إنَّ (فِيمَ) إنكارٌ لهذا السؤال،
ثم ابتداء خطاب، بقوله: (أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43))، بُرُوزك ووُجودك، وبِعثتُك علامة مِن علامات قُربها تكفيهم، لِمَ هذا التعنّت في السؤال؟
(فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43))، فيم يسألون؟ ما يُشغلهم، ما يُشغل بالهم في هذا السؤال؟ أنت واحد مِن علامات قُرب الساعة؛ حتى قال ﷺ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْن"، يعني الذي قد مضى مِن عُمر الدّنيا مِن أيّام خلق آدم، الأكثر الأكثر مِن أيّامه ﷺ، ومئات السّنين التي تبقى بعده، يسير، كم نسبة ما بين الإصبع في غالب تكوين الله للأصابع؟ بين السّبابة والوسطى، كم المسافة؟ وكم الذي يقطعه السّبابة مِن مسافة الى الوسطى؟ وكم يبقى؟ فكم المِقدار هذا؟! ثُمُن أم عُشر! كم؟
العمر قد مضى، أكثر عُمر الدّنيا انتهى قبل بِعثة نبيّنا محمد، والفترة ما بين بِعثته إلى أن تقوم السّاعة كهذه النّسبة اليسيرة، فقد جئنا في أيّام عجزها، وشيخوختها، ونهايتها -الدّنيا- ومع ذلك سببنا لأنفسنا مشاكل كبيرة عليها، وهي عجوز في آخر عمرها تكاد أن تنتهي،
- (ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ) [القمر:1]،
- يقول لهم في الآية الأخرى: (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل:1]، كل آتٍ فهو قريب، لماذا بالسؤال عن تحديد اليوم؟ ومتى يكون هذا؟ وهكذا كان الأمم يقولون لأنبيائهم: متى؟، فمتى يكون؟
- وبعد ذلك يستعجلون الأمر فيقولون له (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) [هود:32]،
- قال الله تعالى: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا) [الشورى:18]، هذا حالهم في الدّنيا بمجرّد ما ينتقلون إلى البرزخ، يَفرح الذين آمنوا بقرب السّاعة، ويَقلق الكفّار والذين لا يُؤمنون بها.
لذا كان في ألفاظ نبينا ﷺ إذا زار المقابر، أو علّم أحدهم يقول: "أَبْشِرُوا فَإِنَّ السَّاعَةَ قَرِيبَة"؛ لأنّ المؤمنين في القبور يستبشرون بقرب الساعة؛ لأنهم يُشاهدون النّعيم كلّ يوم الذي سيؤولون إليه، ويشاهدون الجنّة في كل يوم؛ فيريدون سرعة قيام السّاعة، مِن أجل أن يدخلوا الجنة
والآخرون يشاهدون النّار كل يوم ويرون العذاب الذي سينتقلون إليه؛ فما يحبّون أن تقوم، سيوَدُّون أن لا تقوم الساعة حتى إذا بعثوا، (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) [يس:52]، وبعد ذلك إذا عُرضوا للعذاب قالوا: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) [الحاقة:27]، الموتة الأولى هي موتتنا، ما عاد قمنا، هي النفخة الأولى ولا عاد قمنا بعدها، (يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَ)، ولكن لا بدّ مِن العودة، ولا بدّ مِن الرّجعة (كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ ) [الأنبياء:104].
يقول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ (42)) يقول؛ أن هناك أنواع مِن الأسئلة التي لا يترتَّب عليها جِدّ في فعل أمر أو ترك نهي مهمّ نافع، لماذا هذا التساؤل؟
- (فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43))، إمّا بمعناه، أنكم لا تستفيدون مِن ذكرها،
- أو(فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا)، أنت لا تَذكر، ولا نُعلِّمك تحديد وتعيين وقتها، هذا اسْتَأْثَرنا به، (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل:65]، و(عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان:34].
فالسّاعة، ومايحتاجه النّاس مِن علم أخبارها وأحوالها وما يجري فيها، وما يكون الحكم، علَّمه الله للعباد على أيدي الأنبياء، لكن التعنّت؛ متى؟ ماذا يهمّك منها هذا؟ متى، متى ما كانت.
لكن أنت بنفسك لن تجلس إلى أن تقوم الساعة، أنت ساعتك قريبة جدًا، السّاعة كلّها قريب؛ لكن ساعتك أقرب وأقرب، عندما تصل الروح إلى حلقومك، قامت قيامتك، ساعتك وصلت، وخرجتَ مِن هذا العالم؛ إنّما ذاك وقت مُحدّد لخروج البقيّة، النهاية التي ما عاد يبقى فيها إلا آخر النّاس وهم شرار الخلق؛ حتّى قال ﷺ: "إِنَّمَا تَقُومُ لِغَضَبِ رَبِّك" يغضب غضبة تقوم بها الساعة.
ما قيام السّاعة بأمر هيّن؛ ولكن شِرار الخلق عليهم تقوم السّاعة، يكونوا كلّهم شباب، يموت كبارهم، ولا تحمل الأرحام شيء، لا تحمل الأمّهات مِن الأزواج أبدًا، فتبقى الأرض ملآنة شباب كفّار، أبناء كفّار، إلى حد في الكفر ليس فيهم مَن يقول الله، هنا يجيء الغضب، كيف تتشقق السّماوات؟!، كيف تتناثر الكواكب؟!، لولا غضب الله جلَّ جلاله؛ هذا يُعبِّر عنه الأنبياء: "إنَّ رَبِّي غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْله، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْله"، فهكذا بغضبة الله على أولئك الفجرة الكفرة يتخرَّب هذا العالم، وينتقل النّاس إلى عالم آخر وتقوم السّاعة.
(فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44))، أي مُنتهى علمها بالتّحديد والتّوقيت؛ فقد أعطيناكم ما تحتاجون مِن علمها؛ كيف تكون؟ وماذا يكون فيها؟ وما الذي يجري؟ وكيف أحوال الناس؟ حدّثناكم، يكفيكم هذا، أمّا التّحديد للوقت، فهذا الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وقال: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان:34]، فكان هذا التّحديد لِوقت القيامة، ممّا استأثر الله بعلمه، لم يخبر عنه جبريل، ولا ميكائيل، ولا إسرافيل، ولا حملة العرش، ولا الأنبياء، ولا الأولياء، ولا أحد.
هنا كان الشافعي في تأمل الآية يقول: هذا تأديب الحقّ لِخَلقه، يُوقفهم عند جهلهم أمام أشياء لا يَعلمونها، حتّى يأتي كبارهم مِن الأنبياء والمرسلين، يقول: (فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44))، حتى يتأدّب الخلق مع ما لا يعلمون، فلا يدَّعون علوم الغيوب كلّها، ولا يتطاولون على ما لا عِلم لهم به، حتّى قُضاة الشّرع، والحُكَّام يحكمون بما يَظهر لهم، ويحملون النّاس على ما يَظهر منهم على أحسن المحامل، ولا يتجاوزون هذا الأمر، أخذوا مِن تأديب الحقّ في هذه الآيات، وهو خِطابه
قال: لأنَّ كل مَن اتصل بالأنبياء وبالملائكة يكون علمه دون عِلمهم، وهم هؤلاء الأعلم فوقفوا عند هذه الحدود، فالذين بعدهم يجب أن يقفوا عند حدودهم، ولا يدَّعون الإحاطة بعلوم الأشياء، وقد قال الملائكة لمَّا سألهم الحقّ عن (أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة:31-32]، ملائكة، أنبياء، وإنس، جنّ، صغار، كبار (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255].
أمّا الإحاطة بعلم الغيوب كلّها، وعلوم جميع الأشياء مِن كلّ جانب فلله وحده؛ ولكنّ الغيوب العظمى، ربَّ العالمين سبحانه وتعالى هو الذي يطّلع مِن أسرارها ومعانيها عليها قبل كلّ أحد؛ الأنبياء والمرسلون قبل بقية الإنس والجن قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ) [الجن:26-27]، فهم أعظم النّاس اطلاعًا على أنواع مِن الغيوب، لا الإحاطة بالغيب، الإحاطة بالغيوب لا لهم ولا للملائكة، لواحد اسمه الله فقط، فقط، فقط، هو (الذي يحيط بكلّ شيء علمًا)؛
أمّا غيره، عندهم كثير مِن الغيوب كبيرة يُطْلعهم عليها؛ لكن بلا إحاطة، لا يحيط بعلم الغيب إلاَّ هو وحده؛ فالأنبياء مِن أعظم النّاس، بل في الغيب الأعلى، يطَّلعون على ما لا يطَّلع عليه الملائكة مِن أسرار صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه، الله أكبر! ولكن مع ذلك كلّه ليس فيهم مُحيط بإسم واحد مِن أسماء الله، ولا بصفة واحدة مِن صفات الله، لا ملائكة، ولا أنبياء، فكيف مَن دونهم؛ فَصَحَّ نداء الصدِّيق وهو يقول: "لَا يَعْرِفُ الله إِلاَّ الله، لَا يَعْرِفُ الله إلاَّ الله".
وهكذا يجب أن يكون الإله، أمّا شيء يمكن الإحاطة به، كيف يكون إله! هذا مستولى عليه بالإحاطة، والحقّ جلَّ أن يستوليَ عليه شيء وهو المستولي على كل شيء، (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255]، ومع ذلك علوم كثيرة، الآن مبهورة عقول كثير مِن الناس بمعلومات تتعلّق ببعض الأجهزة والتّركيبات الماديّة والمغناطسيّة والكهربائيّة والحديديّة وأسرار بعض التّربة والبحار؛ وهذه كلّها يسيرة بالنّسبة لعلوم الرّوح، بل إذا أُضيفت لها حقيرة، تُعدُّ حقيرة وقليلة جدًا.
فتح الله على الأنبياء والملائكة مِن علوم الرّوح، وعلوم عالم الغيب، وشؤون لا تُساوي هذا الشيء كلها فيه، ومع ذلك هؤلاء، وهؤلاء لا يُحيطون بشيء مِن العلم إلاَّ بما شاء (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85]، لذا يقول شاعرهم:
العِلْمُ لِلرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ *** وَالعَبْدُ فِي جَهَلَاتِهِ يَتَغَمْغَمُ
مَا لِلتُّرَابِ وَلِلعُلُومِ وَإِنَّمَا *** نَسْعَى لِنَعْلَمَ أَنَّنَا لَا نَعْلَمُ
كلّ ما ازداد عِلمك، تزداد معرفة بِجهلك، الله أكبر! سبحان العليم! (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]،
فلمّا تتوكّل عليه هذا، ماذا يفوتك؟ تنصِّب لك وكيل ثاني غيره؟! إن علِم شيء غاب عنه شيء، وإن قدر على شيء عجز عن شيء،
لكن لمَّا تتوكّل على الحي القيوم الذي لا يموت، هذا المحيط عِلْمه بكلّ شيء، تَسعد، تَربح، تفوز، الله أكبر!
يقول الحقّ سبحانه وتعالى لنبيّه صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله بعد ما أمره بقيام الليل، (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) يقول له؛ وذِكر محمّد لربه يختلف عن ذِكر غيره، كلٌ يُذكر على قدر ما يَعرف، وهذا أعرف، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)، انقطع إليه انقطاعًا، (رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [المزمل:2-9]، قال: اجعله هو وكيلك، هذا المحيط علمه بكل شيء، القادر، اجعله هو وكيلك، (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) إذا تلَا هذه الآية أصحابه والتاّبعين يقولون: "اتَّخَذْنَا الله وَكِيلًا وَحَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيل، اتَّخَذْنَا الله وَكِيلًا وَحَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيل"،
ونسأل ربّنا؛ أنّ ما في قلوبنا مِن اعتماد على غيره، واستناد إلى سِواه، وتوكُّل على مَن عداه، أن ينزعه عنَّا، وأن يُخرجه منَّا، ويملأ قلوبنا بالاعتماد عليه، والاستناد إليه، ويَرزُقنا صدق التّوكل عليه، (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]،
ياربّ اجعل لنا مِن جوائز رمضان، ونفحات رمضان أن يسكن في قلوبنا صِدق التّوكل عليك، ونورانيّة الاعتماد عليك، والاستناد إليك، اللهم اقذف في قلوبنا رجاءك واقطع رجاءنا عمَّن سواك حتّى لا نرجوَ أحدًا غيرك، ولا نخاف أحدًا غيرك، يا الله!.
يقول تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42))، وهكذا جاء السّائل يَسأله وهو على مِنبره الشريف: رسول الله! متى السّاعة؟ والصّحابة أيضًا سمعوا هذا السؤال، السؤال في نفسه غير مُناسب، والوقت ليس مناسبا، نبيّ يخطب وأنت تسأل؟! اسمع الخطبة بعد ذلك اسأْل!! ففي البداية تشوَّشوا منه؛ لكن لمّا جاء الجواب بعد ذلك فرحوا مِن هذا السّائل؛
أعرابي بدوي دخل إلى المسجد، والنبي يخطب قال: يارسول الله! متى الساعة؟ سَمِعه النبي وأكمل خطبته، بعد ذلك، أين السائل عن السّاعة؟ قال: أنا يا رسول الله، قال له رسول الله: ما أَعْدَدْتَ لها؟ تسأل عن السّاعة مِن أجل ماذا؟ هل هي ستذهب، ستفِرّ، لماذا تسأل عن السّاعة؟ ما المقصود مِن السؤال؟ اسأل عن شيء ينفعك، فما أعددت لها؟ قال: والله ما أعددت لها كثير صلاة، ولا كثير صيام، أي ما أنا مِن نوع المُكثرين، المُستغرقين في الطّاعات إلاَّ أنّي أحبّ الله ورسوله، قال: في قلبي محبّة للرَّبّ ولك أنت، لمَّا قال كذا، أعلنها ﷺ: كُنْتَ مع مَن أحْبَبْت "المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبّ".
ولما جاء بجواب نافع ومُفيد يتعلّق بشؤون القيامة، الرّوابط في القيامة لا ينفع فيها إلاَّ محبّة القلوب، وأين أحبّ قلبك؛ إن أحببت فِرعون، أو هامان، أو قارون، أو جنّيّ، أو خبيث، أو شيطان، أو مريد، أو غافل عن الله تعالى، أو كافر، أو ملحد؛ أنت معه، الرّابط بالمحبّة.
فلما قال هذا الكلام، قال له النبي: "أنت مَعَ مَنْ أحْبَبْت"، فَرِحَ الصّحابة، في البداية قالوا: تّشوّشنا منه أوّل؛ لكن ما فَرِحْنا بعد الإسلام بحديث كَفَرَحِنَا بهذا الحديث.
وكان إذا ذَكر الحديث سيدنا أنس يقول: "وأنا أُحبّ رسول الله، وأبا بكر، وعمر وأرجو بحبّي إيّاهم أن يحشرني الله معهم"،
الله يُرزقنا حقيقة محبّتهم، الله أكبرّ! حتّى قال العارفون:
مَحبّتهم ديني وفَرضي وسُنّتي *** وعُروَتي الوُثقى وأفضل ما عندي
لو عَبَدَ الله عابد بين الرّكن والمقام عند الكعبة سبعين سنة ثمّ مات، لم يُحشر إلاَّ مع مَن يُحب؛ الذين يحبهم يذهب وراءهم؛ أخيار أو أشرار
المحشر؛ الرّوابط فيها كلّها محبّة القلوب، فهنيئا لمن امتلأت قلوبهم بمحبّة الأنبياء والأصفياء والمقرّبين، والصّالحين، اللّهمّ ارزقنا حقيقة محبّتهم.
كان سيّدنا الشافعي يقول:
أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ *** لَعَلِّي أَنْ أَنَالَ بِهِمْ شَفَاعَة
وَأَكْرَهُ مَنْ بِضَاعَتُهُ المَعَاصِي *** وَلَوْ كُنَّا سَوَاءً فِي البِضَاعَة
لكن لا أحبّ المَعصية، ولا أحبّ أهلها الله أكبر! وأجابهُ المُجيب يقول له:
تُحُبّ الصَّالِحِينَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ *** مُحُبُّ القَوْمِ يَلْحَقُ بِالجَمَاعَة
وَتَكْرَهُ مَنْ بِضَاعَتُهُ المَعَاصِي *** حَمَاكَ اللهُ مِنْ تِلْكَ البِضَاعَة
ما أَنت مِن أهلها، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وهكذا شأن المحبّة.
لمّا كان وَالَى الله بمحبّة أوليائه وأصفيائه، يذكر في أبياته كلام عجيب، يقول:
- إنّه إذا ذكرنا يوما فضائل أبي بكر، جاء أُنَاس يقولون لنا: "أنت نَاصِبِي"؛ك
- وإذا ذكرنا فضائل سيّدنا علي جاء أُنَاس يقولون لنا: "أنت رَافِضِي"
قال: عجيب! إنْ كان النّصب محبّة أبوبكر وعمر؛ فأنا نَاصِبِي، تمام، ممتاز، أُحِبّ، إن كان الرّفض محبة علي بن أبي طالب، أنا أكبر رافضي.
فَمَا زِلْتُ ذَا رَفْضٍ وَنَصْبٍ كِلَيْهِمَا *** بِحُبَّيْهِمَا حَتَّى أُوَسَّدَ فِي الرَّمْلِ
وحتّى أموت وأُقبر، أنا أحبّ أبوبكر، وأحبّ عليّ، والذي يُسمّي ناصبي يُسمّي، والذي يُسمّي رافضي، أهم شيء أنّ بيني وبين الله حبل صحيح وطريق واضح، لا أَبغض أحبابه، لا هذا ولا هذا، وأَضرب هذا بذا، الله تَعَبّدني بِمحبّتهم ووَلَائِهِم، هؤلاء شَرَفهم مِن محمّد، هذا تَشرّف بصحبته، وهذا تشرّف بصحبته وقرابته، تريدنا أضرب مَن بمن! الشّرف واحد، والمعدن واحد، والمَرجع واحد، الله يُرزقنا حقيقة مَحبّتهم و يَحشرنا يوم القيامة في زُمرتهم.
(فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44))، مُنتهى العِلم بتحديد وقتها، وتعيينه عند الله، عندنا العلامات فقط، علامات كثيرة، فالعلامات الصّغرى عامّتها ظهرت، وماذا ينتظر النّاس في العالم إلاَّ أن تبدو العلامات الكبرى.
والعلامات الكبرى تتابع كمثل العِقد إذا قُطِعَ خيطه، تخرج حبّاته واحدة بعد الثانية، هذا بالنّسبة للمِيزان عند الله، الأمر قليل جدًا ويَسير، وإن كان سنوات بعد سنوات تمرّ على النّاس
- مِن أوّل ما يبدو مِن علامات السّاعة الكبرى بعد أن تمتلئ الأرض جَوْرًا وظُلْمًا، يبعث الله الإمام محمد بن عبد الله المهديّ فيملأ الأرض قِسطًا وعدلًا،
ثمّ هذا إنسان لا هو مُدَّعي، ولا هو مُتطلّع للإمارة ولا طالب لها، إنسان تقيّ، مؤمن مِن آل بيت النبيّ، خاضع، زاهد، مُنيب، واسع العلم بالكتاب والسُنّة، صاحب سند، ومعرفة، يُهيّؤه الله تعالى ويُصلِحه في ليلة، يُعرف بالعلامات، فيُدعى لأنْ يتولّى الأمر لإنقاذ الأمّة؛ فيهاب الأمر ويخاف ويهرُب
حتّى ذكر لنا النّبيّ ﷺ أنه يهرب مِن مكّة إلى المدينة، ثمّ يعود ويتعجّبون في الحديث، أنّه ذَكِر في نفس اليوم، يذهب مِن المدينة إلى مكّة، مع أنّه في تلك الأيّام لاتوجد وسائل نقل، إذا أراد أحدهم أن يسافر، يستغرق ثمانية أيّام ويرجع ثمانية أيّام ثانية، وهذا في نفس اليوم يذهب ويعود قال له، ثمّ عندما يلوذ بقيّة أخيار الأمّة بكبار أهل النّور الذين فيهم السّرّ، يَستيْقِنُون صفاته ويقولون: هذا هو صاحبكم؛ فيأتون إليه، يقولون: إلى متى تترك الأمّة في هذا الحال، تُبايِع أو نخرج لك السّيوف؟! فيبسط يده ما بين الرّكن والمقام عند الكعبة.
كَأّنِّي بِهِ بَيْنَ المَقَامِ وَرُكْنِهَا *** يُبَايِعُهُ مِنْ كُلِّ صَفٍّ مُبَارِكُهُ
بِهِ يُنْعِشُ الرَّحْمَنُ مِلَّةَ جَدِّهِ *** وَتَحْيَا مَعَالِمُ دِينِهِ وَمَنَاسِكُهُ
لا مدّعي، ولا متكبّر، ولا راغب في دنيا، ولا يقول للنّاس بايعوني، ولا تعالوا عندي، ولا هو حقّ سياسة، ولا حقّ خساسة، ولا حقّ شي مِن هذه الأشياء، تقيّ، نقيّ، عابد، زاهد، متّقي، يهيّؤه الله للأمانة فيحملها، ويقوم بها على وجهها
حتّى مع اضطراب أحوال النّاس يتوجّه إليه جيش يريدون مُقاتلته، حتّى إذا كانوا بين المدينة ومكّة في الصحراء، خُسِف بهم؛ فيُخسف بأوّلهم وآخرهم، ويَسأل بعض الصّحابة يقول للنّبيّ: فِيهِمْ أَهْل سُوقِهِم ومَن ليس مِنهم، كيف يُخسف؟ قال: يُخْسف بأوّلهم وآخرهم ويُبعثون على نِيَّاتهم؛ قال الذي جاء للقتال، والذي ما كان مِنهم، وأقَارِبهم، والذي علِم بنيّاتهم؛ الخسف يَشملهم كلّهم، هذه علامة كبرى، ويملأ الأرض قِسطًا وعدلًا؛
- فما تمرّ بعد ذلك أيّام إلاَّ وَفِتنَة الدّجّال تظهر وهي علامة ثانية،
لأنّ الدّنيا مجبولة على تغيّر الأحداث، لا يوجد استقرار فيها، سبحانه! محلّ الابتلاء والاختبار، تريد استقرار؟ في الجنّة هناك الإستقرار الدائم، ما دُمت في الدّنيا فلا بدّ مِن هذه الأحوال والظّروف، وهي فِتنة كبيرة ويكفر كثير مِن النّاس، والعياذ بالله تعالى، بعد ما رأوا الآيات، وبعد ما حلّت عليهم خيرات، ويكفر الكثير ويتْبعونه، والعياذ بالله تبارك وتعالى؛
- ثمّ ينزل سيدنا عيسى بن مريم، علامة كبرى ويَقتل الدجال، وتنتهي فِتنته.
- وبعد مدة يسيرة يموت المهدي، فيبقى سيّدنا عيسى يحكم الأرض، ويَكسر الصّليب، ويَقتل الخنزير، ويَرُدّ على أهل التّثليث، ولا يقبل إلاَّ الإسلام؛ ويحكم بشريعة نبيّنا محمّد
- ثم ظهور يأجوج ومأجوج، إنا لله وإنا إليه راجعون، فتنة كبيرة جدا، اطْلَعْ يَا عِيسَى ومَن معك إلى الجبال ثم يهلكهم الله، سنوات في الأرض ما بين خمسة وعشرين؛ أقل أو أكثر، يظهر يأجوج ومأجوج، هكذا شأن الدنيا.
- وينزل سيدنا عيسى مرة ثانية إلى الأرض ويدفن في المدينة المنورة.
- لايبقى إلاَّ ظهور الدابة مِن جبل الصّفا تخرج، وتفضح الناس تقول: هذا مؤمن، هذا منافق، هذا كذّاب، هذا البارحة عمل كذا، هذا يعمل كذا، هذا يقول لا أحد يقدر يهرب منها، إن هَرَبت تُمْسِكُك، وإذا مَشَت ما أحد يقدر يُدركها، (۞وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُون) [النمل:82]، لا إله إلاَّ الله.
- وبينما النّاس كذلك إذا بالشّمس تطلع مِن مغربها، تنقلب دورة الكرة الأرضية، يقلبها الله، جلَّ الله.
- وبعد ذلك، القرآن يرتفع من الصدور ومن السطور، ذهبت النعمة العظيمة هذه، يصبحون والأوراق بيضاء والسّطور لا يوجد فيها!! ماذا تحفظ فيه؟ يقولوا سور فيها، قال: ما يدري ماذا كان يقول!! ما أدري كنت أقول، كنت أقرأ، يا الله! يغار الله على كتابه يرفعه!
- ثم ريح باردة تهبّ، فكلّ مَن في قلبه مِثقال ذرّة مِن إيمان تخطفه، لا يبقى إلاَّ الكفار، تمرّ بهم السّنوات كافر بن كافر، ويموت الكبار، ويبقى الشّباب في الأرض؛ فعليهم تقوم السّاعة، وينتهي شأن هذه الحياة على ظهر الأرض؛
لكن الذين قد ماتوا كلّهم من قبل، شؤون الأرض وما فيها بالنّسبة لهم قد صار متلاشي، وقد برزت لهم الحقيقة، ولهذا كان بعض الوَافِدون الذين يَفِدُون عند النّبيّ ﷺ، يقولون: متى السّاعة يا رسول الله؟ مُتأثّرين بِأقاويل النّاس وكلامهم عن السّاعة، يقول لهم: أين أصغر واحد فيهم، يقول: انظر! إذا بلغ -هذا كَبرَ- لا يصل إلى السّبعين أو إلى المئة إلاَّ وقد قامت قِيامتكم أنتم كلّكم، ما عاد بقي أحد منكم، قال: فانظروا الى الصّغير هذا فيكم، لن يصل إلى مئة سنة إلاَّ وأنتم جميعًا قد مُتّم، أي لا تسألون عن موعد القِيامة، اسألوا عن موعدكم أنتم الذي تصلون فيه إلى الرَّبّ جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَىٰ رَبِّكَ)، يعني:
- لا تعلم أنت تَحديد وقتها، (فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا)، من ذِكْرِهَا.
- والقول الثاني (فِيمَ)، يسألون، (أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا)، بِعْثَتُكَ علامة مِن علامة قُربها.
(إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44)) -تحديد وقتها- (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45)) فما يتعلق شيء برسالتك تحديد يوم القيامة، ما له علاقة بمهمّتك، أنت مهمّتك تُنذر، وهو للعالمين نذيرا: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]؛ لكن ليس العالمين كلّهم ينتفعون بإنذار نبيّنا وإلاَّ لَنَجَوا مِن النّار، ينتفع بإنذاره مَن آمن بالقيامة (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن) لذي يخافها ويؤمن بها ويفزع منها؛ نَذَارَتُك تَنْفَعه، وهكذا نَذَارَتُه عامّة لجميع المكلّفين؛ ولكن المُنتفع بها (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ) [يس:11].
(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45))، ومَن هؤلاء؟ هم أحياء القلوب، (لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) [يس:70]، ليسوا أحياء من هم قلوبهم ميتة، (لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)، وهكذا! فينتفع بإنذار النّبيّ مَن آمن بالله واليوم الآخر وخاف المآل، هذا يَنتفع؛ فتحِقّ له البِشارة، (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ)، هذا يستحقّ البِشارة، (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس:11]، آمنّا بالله، وبالسّاعة وقيامها، وما حدَّث الحقّ ورسوله فيها أنّه حقّ وكائن لا محالة، فاجْعلنا ممّن يَخشاها؛ فينتفع بإنذار نبيّك محمّد.
(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45))، مَن يخاف الساّعة، يخاف المرجع، قريب بعض أهل العلم توفّي في الأردن، قال لي إبنه؛ رأيته- ذكر له ما أنعم الله به عليه في الدّار الآخرة، قال له: قل يا أبي! بماذا حصّلت هذا؟ ما أكثر ما نفعك؟، قال: خَشْيَة اليوم هذا، خَشْيَة المآل إلى الله هو الذي نفعنا، وقلت له: وقيامك في اللّيل؟! قال:، وثمّ القيام في اللّيل؛ لكن الذي نفعنا أوّلا، خوفي مِن المرجع هذا، وقد كان كذلك ظاهر عليه آثار الخوف في أموره، تقلّد عدد مِن الوظائف والأماكن، كان ما يسمح لأولاده أن يأخذ ورقة مِن أوراق المكتب الذي يشتغل فيه، يقول: "هذا جاءوا به بميزانيّتهم مِن أجل المكتب، خذ مِن أوراقي، مِن دفتري، لا تكتب في هذه الورقة"، وهكذا كانت له مواقف، وما يخشى في الله لومة لائم، عليه الرّضوان ورَحمه الله تعالى، وارْحم موتانا وأحيانا برحمته الواسعة.
(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45))، يقول الله: اسمع ياحبيبنا؛ لمَّا يجيء هذا الوعد الموعود، فإن كلّ من في الحياة هذه الذين عاندوا فيها، وعَتَوْا فيها، وطَغَوْا فيها، تَصِير في نَظَرِهِم صَغِيرة جدًا جدًا، حتَى ما عاد يَتَصَوَّرُون أنّهم جلسوا في الدّنيا إلا لحظة، آخر النّهار، أو لحظة أوّل النّهار،
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا)، مِن هولها، وشدائد ما يُعايِنون ويُشاهدون، (لَمْ يَلْبَثُوا)، أيّام الدّنيا كلّها:
- (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46))، عَشِيَّةً، آخر النّهار، أو أوّل النّهار.
- (عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)، العشية ليس لها ضحى.
لكن هكذا عادة العرب، يقول آتيك في العشية أو غداتها؛ الغداة التي كانت قبل العشيّة، التي في أوّل النهار، ويقول لك: آتيك غُدوةً أو عشيّتها، آتيك ضحوةً أو عشِيّتها، كيف ضحوة أو عشيتها؟ هل يوجد عشية في الضحى؟! لا يوجد عشيّة في الضحى، ولكن تعني العشيّة التي تلي هذا الضّحى، الذي تجيء بعد هذا الضحى، (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)، ساعة آخر النّهار، أو ساعة في أوّل النّهار أو وسط النّهار فقط…
- ويقول بعضهم: إنّهم كانوا يعدَُون ساعات راحاتهم وانْبساطهم في الدّنيا مثل الضّحْوَة، وساعات همومهم وكدرهم مثل العشيّة، فتحوّلت الدّنيا عندهم إلى ساعتين؛ ضحْوَة وعشية، (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46))، فما عاد بقي اعتبار لكمِّ العمر.
- بل جاء عند بعض المفسّرين أنّهُ مِن شدّة أهوال يوم القيامة، ليس وقت أيّام الدنيا فقط تصير كعشيةٍ أو ضحاها، يقول: حتى الوقت الطويل الذي قضّوه في البرزخ في تلك السّاعة، لا يكون في شعورهم إلاَّ كأنّهُ وقت قصير.
ولهذا يخاطب الله أهل النار: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ)، فيقول مَن عمره سبعين، أو ثمانين، أو مئة، أو عمره مِن السّابقين؛ ستمائة، سبعمائة، أربعمائة سنة، خمسمائة، تسعمائة سنة، (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، يتحوّل في نظرهم هذا الوقت كلّه قصير جدًا لِما يُعانون مِن الأهوال، (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ)، قال الله مهما لَبِثْتُم، (قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) [المؤمنون:112-114]، مُقابل الآن ما تَمكثون فيه مِن العيش، فَذاك قليل جدًا، وهو عيش الأبد المُقبل علينا، جعل الله مآلنا إلى الجنّة، يا أرحم الراحمين، اجْعل مأوانا جنّتك، واجْمعنا في مستقرّ رحمتك، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا الله!.
وقد أكرمنا الله بهذا التّأمّل في خطابه، له الحمد وله المِنّة، نفعنا الله بذلك في الدّنيا والآخرة.
تستقبِلنا اللّيلة ليلة أهل بدر وليلة الفرقان، مثل الأيّام هذه في السّنة الثاّنية مِن الهجرة، وهي وقت شِدّة حرّ، كان نبيّكم في مثل هذا اليوم لم يكُن في المدينة، خرج مِن المدينة، ليس بين أهله، ولا في بيوته، خرج، وخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر مِن الصّحابة، وكانوا يظنّون أن يلاقوا عِيرًا؛ فلاقوا جيشًا جَحْفلًا أضعافهم في العدد، ضعفهم ثلاث مرات، ومعهم السّيوف الكثيرة، وهو وأصحابه عندهم ثمانية سيوف، السّيوف كلّها التي مع الجيش ثمانية، وواحد منها انكسر، لسيّدنا عكّاشة بن محصن عليه رحمة الله، و قد كانت ثمانية، واحد في أثناء القتال انكسر.
جاؤوا إلى عند النّبيّ وقال: إنّه ليس مستعدا به، ما معه رمح، ولا معه سهم، ولا معه شيء، معه هذا السيف وانكسر عليه، جاء إلى عند النّبيّ، ما المشكلة التي عنده؟ لمَّا جاء يُخبر النّبيّ، رأى النّبيّ بجانبه عود حطب، أمسكه ﷺ قال له: خُذْ هذا فقاتل به، قال: فَأَمْسَكْتُه مِن يده؛ فتحوّل سيفا طويلًا حديدًا أبيض حادّ، ذهب يُقاتل به، بقِي السّيف معه طول حياته وتوارَثوه مِن بعده، مِن واحد بعد الثاني عليه الرّضوان، وهو لمَّا ناوله النّبيّ عود حطب ما تردّد، ولا قال: يا رسول الله تعطينا حطب الحين، ماذا أفعل فيه مع القوم هؤلاء"، أبدًا، قال: مرحبًا!، حمله، لمَّا حمله إذا به سيف، رضي الله عن هؤلاء الصّحب الأكرمين، ليلتهم هذه اللّيلة.
ما تعلمون كيف باتوا مثل اللّيلة المقبلة هذه، الله! مرّت عليهم أياّم وليالي، وقد جمعهم ﷺ يقول: "أَشِيرُوا عَلَيّ، أَشِيرُوا عَلَيّ أَيُّهَا النَّاس"، وقد قالوا: نحن أمْرُنا تَبَعٌ لأمْرِك، امْضِ لِما أمَرَك الله، ما يتخلَّف مِنّا رجل واحد، وتخلّف عنك أقوام، ما نحن بأشدِّ محبّةً لك مِنهم وَلَوْ علموا أنّك تلقى حربًا ما تَخَلّفوا عنك؛ فَامْضِ لِمَا أَمَرَكَ الله، نَحْنُ حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْت، سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتَ" سُرَّ وجهه، فكأنّه قِطعة قمر قال لهم: "سِيرُوا، وأَبْشِرُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَإِنَّ الله وَعَدَنِي إِحْدَى الطّائِفَتَيْن إمَّا العِير، وإمَّا النّفِير"، ثم قال: والله لكأنّي أنظر إلى مَصَارِع القوم"؛ تُوجّه مثل الليلة هذه المقبلة علينا، ما غمضت عينه وبات داعيًا مُلِحًّا، تنحدر مِن عينيه الدّموع، وَصَلُوا في وقت متأخِّر مِن اللّيل الى المكان، منهم من أخذه التَّعَبْ نَام إلاَّ رسول الله قائم عند الشّجرة يُصلّي ويدعو ويبكي، وينادي الحقّ: "يَا حَيُّ يَا قَيُّوم، يَا حَيُّ يَا قَيُّوم" إلى أن طلع الفجر؛ فأصبحوا في يوم السّابع عشر، سمّاه الله في القرآن (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) [الأنفال:41]، وكان بداية النّصر.
ولنا أمل أنَّ الله يجعل في ليلتنا هذه نظرة لهذه الأمّة والشّدائد التي حلّت بها، والآفات التي دَاخلتها، يا كاشف الغمّة، يا حيّ يا قيّوم بهذا النّبيّ وصحابته الكرام، وأهل بيته والصّالحين، انْظُر إلى الأمّة، يا ربّ نظرة تكشف بها هذه الغُمَمْ، تدفع بها عنّا النِّقم، وتُعَامِلُنا بِمَحْضِ الجود والكرم، فَنَسْتَعِدُّ لِلَيْلَتِنَا إن شاء الله، اجْعَلْهَا زَاهِيَة مُنَوّرَة، تَأْتِينَا نَظْرَة مِن نَظَرَاتِهِ لِأَهل بدر، واطّلاعته التي اطّلع بها على أهل بدر، ويأذَنَ بِحَشْرِنَا مع أهل بدر، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
بارك لنا يا ربّ في ليلتنا هذه، بارك لنا في هذه الذّكرى، وعلى أصح الأقوال أيضًا أنَّ بداية نزول القرآن كان في مثلها ليلة السّابع عشر مِن رمضان، يقال فيه: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]، كان ليلة السابع عشر نزل الوحي عليه صلى الله عليه وصحبه وسلّم في غار حراء، ومرّت السّنوات فكان ليلة السّابع عشر وهو على بدر وصبيحة السّابع عشر كان يوما أعزّ الله دينه ونبيّه، وأذلّ المشركين، والكافرين.
الله نسأله أن يجعلها ليلة عِزّة لأهل الحقّ والهدى والنّور والتّقوى والخير مِن أمّة هذا الحبيب ﷺ، ويوم ذلّة لأهل الكفر والزّيغ والضّلال والسّوء، اللّهمّ أكرِمنا بنصيب مِن سرّ النّظر يا حيّ يا قيّوم، فَلْتَسْري إلى عُيوننا سِراية مِن سِراية تلك العيون، التي بكت مِن خَشيتك ولِتَسْري إلى ألسننا سِراية مِن سرّ تلك الألسن التي نادتك وخاطبتك ودعتك، يا حيّ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) [الأنفال:9]، يا نعم المجيب استجبت لهم في ذاك العام، ونحن في هذا العام ندعوك، يا ذا الجلال والإكرام! استجب لنا دعاءَنا وحقّق رجاءَنا.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
مِن عجيب كرم الله لهذه الأمّة أن أهل بدر، ثلاثمائة وثلاثة عشر مِن الإنس هؤلاء الذين حضروا مع النّبيّ غير الملائكة والجنّ؛ لكن في كلّ سنّة، يُلحِق الله في الدّواوين أسماء يُكتب بِحشرهم معهم و في كل سنة يزيدون، تجيء مثل هذه الذّكرى ويطلع يُأذّن الحقّ لأسماء، ينظر في صحف الملائكة يقول: فلان، فلان، فلان، مِمَن يُحشرون مع أهل بدر، مكتوب؛ حَشرتهم، الحمد لله على ذي المنّة، الله يكرمنا وإيّاكم وأدخلنا في تلك الدّوائر، إنّه أرحم الراحمين.
17 رَمضان 1438