تفسير سورة الملك -3- من قوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ..(5))

تفسير الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الملك، من قوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)).
نص الدرس مكتوب:
﷽
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12))
الحمدلله على نعمة تدّبر القرآن، في شهر أُنْزل فيه القرآن، وتلقّي فائضات الرحمن، في شهر الرحمّة والإحسان، ونشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له عالم السر والإعلان، كل يوم هو في شأن، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفوته مِن جميع الأكوان الراقي إلى أعلى معاني المعْرِفة والقُرب والتَّدان، اللهم أدم صلواتك على عبدك المخصوص منك بأعلى الرضوان، سيدنا محمد، وعلى آله المطهّرين عن الأدران، وأصحابه الغُرّ الأعيان، وعلى مَن تبعهم وسار في سبيلهم بإحسان، على ممر الأزمان، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين الذين عظّمت لهم القدر و المنزلة والرتبة والمكان، وعلى آلهم وصحبهم وملائكتك المقربين أهل الإنابة والخشية والإقبال الصادق في كل آن، وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،،
فإننا في تأمّل آيات ربنا -جلَّ جلاله- وصلنا في أثناء آيات سورة المُلك إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5))، وقد ذكر لنا سبحانه أنه مهما تأملنا في آيات كونِه، في السماوات خصوصًا وجميع الكائنات لن نجد فيها خللًا ولا عيبًا؛ ولا استقْرأنا مِن التأمل فيها إلاَّ صنعًا محكمًا، وخلقًا مُتقنًا، وإيجادًا عظيمًا مرتّبًا؛ فسبحان الذي أحسن كل شيء خلقه.
(فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3)) -مِن خلل، مِن عيب، مِن شُقوق- (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً)، لم يظفر بشيء مما أراد حُصولِه (وَهُوَ حَسِيرٌ (4)) كليل عيي.
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ..(5))، عندما تنظرون الى الزينة، لا تجدون العيب، ولا الخلل؛ ولكن تجدون الزينة (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا)، الدنيا القريبة، والأدنى الأقرب، ويُقابله الأبعد، فالأدنى الأقرب.
(السَّمَاء الدُّنْيَا)، أي السماء التي هي أقرب إلى الكرة الأرضية، السماء الدنيا أقرب السماوات إلى الكرة الأرضية، يقول الحق تعالى: إنها فوق العائشين على ظهر الأرض مما يلي رؤوسهم؛ لأن مسألة الفوق والتحت خُلِقت بخلق الإنسان وخلق هذه الكائنات؛ فما يلي رأسه يُقال فوق، وما يلي قدمه يُقال تحت.
فالفوق والتحت مِن جملة الأشياء المُستحدثة بحدوث هذه الهيئات، ولهذا لا يأتي مِن حيث المسافة؛ فوق ولا تحت في المعنويات؛ لكن يأتي مِن حيث القدر والعُلوّ والمكانة؛ أما الفوق والتحت بمعنى المسافات والهيئات هذه؛ فهذا مخصوص بالأجسام، وهذا الفضاء الذي مِن فوقِنا المُتّصل بأقرب السماوات إلى هذه الأرض
وكلّ ما علا يُقال له سماء، حتى في العلو المعنوي لمّا ذكر البوصيري سُمّو سيدنا رسول الله وعُلوّه على جميع الخلق:
وكيف ترْقى رُقِيّك الأنبياءُ *** يا سماءً ما طاولتها سماءُ
يعني يا مُعتلِياً رُتْبةً ما وصلها أحد مِن الخلق، يا سماء: أي يامُرتفع، فالارتفاع والعُلوّ المعنوي يُقال له: سماء.
يا سماءً ما طاولتها سماءُ
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا)، هذه السماء القريبة منكم، أو ما تقع عليه أبصاركم في هذا الفضاء تجِدونه مزيّنًا (بِمَصَابِيحَ ..(5))، نجوم وكواكِب جعلناها في هذا الفضاء، ألووف .. ملايين ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وهكذا،، ويُحدِّثونهم هؤلاء الذين يصعدون الى الفضاء، كل ساعة يقولون: اكتشفنا كذا، وحصّلنا كذا، ومائة ألف، وخمسمئة ألف نجمة، وماذا بعد؟! اعرِفوا صِغركم، وقُصركم، وجهلكم، حاجتكم إلى هذا الخالق، عظمة خالقكم، اعرِفوه!، فقط يلعبون ولا يهتدون للحقيقة -مساكين- وماذا يفيدك إذا مكثت شهرين، مكثت ثلاثة شهور في الفضاء ورجعت، ماذا حصل بعد ذلك؟! -تذهب إلى الفضاء وترجع فاضي؟!- لا إيمان ولا يقين، ولا تعرف مَن خلقك، ولا مَن كوَّن هذا الفضاء، ما هذه المصيبة التي عليك؟! ياليتك بقيت مكانك في الأرض وعرفت مَن خلق الأرض أحسن، ولا تمكث أشهر في الفضاء وترجع لنا وإنت فاضي مِن الإيمان، فاضي مِن التوحيد.
ولا يستطيع مَن عنده مُسكه، من عنده مِن فطرة وعقل؛ يقول: أن وراء هذا الكون قوّة؟!! ونحن ندعوك لتؤمن بها وتخضع لها؛ فهي خفيّة، خفيّة على إحاطتك وإحاطة أمثالك، تعرّفتْ إليك برسل وبأنبياء هذه القوّة، لماذا لا تعرفها؟ لِم لا تقبل تعرُّفها إليك؟! ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ويستخفّون بأقوال بعضهم، ويقولون: صُدفة! كيف تكون صُدفة؟! هل هذا يتأتى أن يكون صُدفة؟! لا يمكن، ليس مِن المعقول؛ هذا دِقّة وترتيب عظيم، وإتقان مُتبالِغ في الحُسن والجمال، لا يمكن أبداً، أيّ صدفة؟! لا صدفة، ولا طبيعة، ولا مُساوية، ما الذي يُحرّك؟ ما الذي يُسيّر؟ ما الذي يُرتِّب؟ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
يقول: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ..(5))، أي جعلنا منها ممّا نفصِلُ منها، أو نحدِث فيها مِن الشرر؛ رجومًا يُرجم بها الشياطين إذا دنوا لاستِراق السمع.
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)، وأقرب السماوات المعنوية إلى الناس؛ معرفتهم بالإله، عظمة الإله أقرب سماء ولا غاية لها بعد ذلك؛ ولكن أول ما يلزم مِن المعرفة بالله وأحكامها هذه سماؤنا الأولى -الدنيا-، هذه السماء الدنيا مُزينّة بمصابيح الأنبياء والمرسلين، سماء المعرفة بالله، فيها المصابيح مِن الأنبياء والمرسلين والعباد المقرّبين والصِدّيقين؛ مصابيح يهدون بأمر الله تعالى، كما جعل الله المصابيح في السماء؛ سيدنا قتادة يقول: لِلحكم ثلاث: زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وهداية للسائرين، ثلاثة. وفي هذا المعنى المعنوي يقول شاعرهم:
أَمُرْتَقِبَ النُّجُومِ مِنَ السَّمَاءِ *** نُجُومُ الْأَرْضِ أَبْهَرُ فِي الضِّيَاءِ
قال: النجوم التي في الأرض أبهر -الله- هل في نجوم في الأرض عندنا؟ عسى ما تذهب الى عند اللاعبين أو المغنيين تقول: نجوم؟! أنا أقصد لك نجم، نجم صدق ليس لعب.
أَمُرْتَقِبَ النُّجُومِ مِنَ السَّمَــاءِ *** نُجُومُ الْأَرْضِ أَبْهَرُ فِي الضِّيَاءِ
فتلك تبين وقتًا، ثم تخفى *** وهذه لا تُكدّر بالخفاء
هدايةُ تلك في ظلم الليالي -مِن بلد لبلد-.
*** هداية هذه كشفُ الغِطاءِ
رفع الحُجب عن القلب وشهود نور العلي الأعلى وعظمته.. الله، فرق بين هذا وهذا.
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ..(5))، فأدلِّة الْمُرْشِدُينَ الْدَالِّينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ مَصَابِيحُ سَمَاء الْمَعْرِفَةِ؛ أول ما ينازل الإنسان مِن المعرفة بالله، أمامه المصابيح، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. (وأوحى في كلِّ سماءٍ أَمْرَها) [فصلت:12] إلى أن تنتهي المعرفة بالله إلى السماء التي ما طاولتها سماء، وهو مَن عرج السماوات وجاوزها، وما كان للسماء السابعة أن تعرج إليه عندما جاوزها؛ لاتقدر، هو عرج إليها وجاوزها وهي لا تقدر أن تعرج إليه، حيث تجاوزها ﷺ.
يقول: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)، -سبحان الله- والمصابيح هذه شغّالة بلا كهرباء، ولا غاز، ولا شيء، طول السنين طول القرون. في بعض الدول التي عندها شيء مِن التقدُّم في سنة في وقتنا هذا، احْتفلوا على مُرور مئة سنة أن الكهرباء لم تنقطع عندهم، كم؟ خمسين سنة، النجوم لها كم ما انقطعت؟! كم؟ خمسين ألف؟! والاَّ كم؟! ألوف! بل ملايين السنين مرت عليها، ولاتزال تضيء، تضيء كل ليلة، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، (بِمَصَابِيحَ) وأين هذا مِن مصابيح الخلق؟!.
(وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا)، جعلنا منها رجومًا، ما يُرجم به الشياطين إذا دنوا لاستراق السمع، واستراق السمع للشياطين؛ كان مِن الجن مَن يخطف الخطفات ويصل إلى أصحابه مِن أهل الكهانة، ويخبره بما سمع مِن حديث الملائكة؛ وفي هذا أن أصناف مِن الملائكة وظائفهم ان يتحدّثون بالأقضية والأقدار النازِلة للأرض، عن فلان، وعن فلان، هذه مُهِمتهم، وإلاَّ كيف يستمِعون هؤلاء؟! والملائكة؛ فيهم مشغول بصلاته، وفيهم مشغول بمهمات أخرى في السماء، ولكن فيهم صنف الذين هم موكّلين بنقل الأخبار المُتعلِّقة بأقضية الله وأقداره في الأرض ولأهل الأرض يقولون: فلان، وفلان، وفلان، فهؤلاء يسمعونهم:
- لا يُلزم أن يكونوا وسط السماء وقت سماعهم،
- ولا مانع أن يكون شيء مِن الأماكن في الفضاء جعل الله تعالى صوت السماء واصل إليه،
- ولا مانع أن يكون مِن هؤلاء الملائكة مَن يتنزل بين السماء والأرض فيقرب منهم الجان فيستمعون لكلامهم وما يقولون عن هذه الأقدار النازلة للأرض.
وكانوا يستمِعون، وقد كان نادر مَن يُرجم مِنهم إلى أن جاءت ليلة الميلاد النبوي؛ فاشتدت الرجوم عليهم ليلة نُزول الوحي عليه في ليلة القدر؛ فمُنِعوا نهائيًا، ما بقي إلاَّ كل مَن دنا منها، وقالوا: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) [الجن:9]، شِهاب مِن هذه الكواكِب يخرج بنار شرار تحرقه قال تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) [الصافات:6-10]، يصيبهم
ثم لماذا ما زالوا يتعرّضون لهذا؟! يتعرّضون لهذا مثل بني آدم عندما يتعرّضون للكُفر والمعصية زمن بعد زمن ولا يتوبون، وكلهم ماتوا؛ تلك الطوائف يُدمَّرون ويصيرون عِبرة، ثم يأتي غيرهم في مكانهم، والجن فيهم خبالة كما بعض بني آدم وهكذا، ينظر أمامه ويُحرق أصحابه ويأتي ويقول: سأخطف؛ ويُحرق هو أيضًا، لا يتوبون! يقول: أنا سأخطف؛ ويُحرق، وكل ساعة واحد هو يُخطف يظن أنه لن يُحرَق، ما هذا؟
وإذا جاء القدر عَمي البصر، إذا الله أراد أن يحرِقه بشهاب يجعله يطمع ويرجو ويقول: أنا سأُخطف الخطفة وسأرجع -أذهب- تتبعه الشهب ويُحرق، ويأتي بعده ثاني وثالث ورابع وعاشر، خبالة، ولكن كما خبالة بني آدم، يكفُر واحد بعد الثاني، وواحد بعد ثاني: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة:118]، وإلاَّ كان خلق الله سيتوبون، لن يرجعوا لتكذيب الرسل والأنبياء.
هلك طوائف قبل سيدنا نوح، طوائف وأمم قبل نوح، ثم قوم نوح بالطوفان الكل، ورجعوا مرة أخرى، بني آدم يكفرون ويعبدون غير الله، وهلك قوم عاد ورجعوا ممِن بعدهم يكفرون، هلك ثمود ورجعوا ممَن بعدهم يكفرون (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا) [الفرقان:38]، مئات القرون والأمم ما بين سيدنا صالح وسيدنا إبراهيم وهلكوا، ورجعوا يكفرون؛ هؤلاء مثل الشياطين يسترِقون السمع إلى الآن، كل مرة يُرمى واحد منهم ولا يتوبون -الله يحفظ علينا العقل والدين، و يسلّمنا مِن موجِبات الندامة.
يقول: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ (5))، فتقوَّى منَعُهم في ليلة المولد النبوي، ثم كمُل وتمّ في ليلة الوحي، ليلة نزول جبريل، نزول الوحي؛ فصار كل مَن دنا لاستراق السمع يُرمى بشهاب، ولا يسْلم منهم واحد (كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ) قبل ميلادك، قبل بعثتك (كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ)؛ وفي الكلام هذا يُشار أنها أماكن مُعيَّنة يسمعون منها (مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ) بعد ولادتك، وبعد بعثتك (يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) [الجن:9] مرصود ليرصده، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
قال: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ) -الشياطين مِن الإنس والجن كلّ مَن تابعهم وسار في سبيل كُفرهم- (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5))؛
- (عَذَابَ السَّعِيرِ) العذاب للنار المُسعّرة التي يدوم تسعيرها، لا يطفئ لهيبها،
- (عَذَابَ السَّعِيرِ) أي التي تُسعّر الى الأبد، عذاب النار التي تُسعّر وُتسجّر أبدًا.
(عَذَابَ السَّعِيرِ (5)) والحُكم عام لكل مَن دُعي إلى الإيمان فأبى إلاَّ الكُفر؛ (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ)، للذين كفروا بربهم مِن الإنس والجن جميع المُكلّفين بعدما دعوا إلى الإيمان:
- (عَذَابُ جَهَنَّمَ)، المُراد بها جميع النار، لا الطبقة الأولى الأخف التي يُقال لها جهنم، المّراد بها النار كلّها،
- (عَذَابُ جَهَنَّمَ)؛ لأن الطبقة العُليا مُخصصة لعُصاة الموحِّدين، مَن مات وفي قلبه إيمان ولكنه كان عاصيًا ولم يُغفر له، ولم يشفع فيه؛ فيدُخل النار فيكونوا في هذه الطبقة، أدناهم مَنزلة، أخفّهم مَن يُنعل بِنعلين مِن نار يفور لهما دِماغه.
لو جمرة مِن جمرات الدنيا في رجلك! ستصيح منها صيحة، هذه نعلين مِن نار يغلي منها الدِماغ، -اللهم أجرنا مِن النار-. قال: يرى نفسه أشدّ أهل النار عذابا وإنّه لأدناهم، هو أقلّهم، يرى نفسه أشدّ واحد عذاب، -اللهم أجرنا مِن النار-.
يقول: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ..(6))، فكلّ الكفار الذين بلغتهم دعوة الله على أيدي رسله وأتباعهم فلم يؤمنوا وأصرّوا على الكُفر؛ فهذا مآلهم، خبر خالِقهم -جلَّ جلاله- والذي إليه مرجعهم.
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) الذي خلقهم وربّاهم، خلق أرواحهم ورباهم، وربَّى أجسادهم؛ نُطف، وعلق، ومُضغ، وعِظام، وكساها لحم، ونفخَ فيها الروح، ربّهم، يكفرون به! غذّاهم في بطون أمهاتهم، وأخرجهم مِن بطون أمهاتهم، وغذّاهم في الدنيا؛ ثم يكفرون به.
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6))، ما أبأس المآل والعاقبة التي انتهوا إليها
- المصير المآل والنهاية والعاقبة (بِئْسَ الْمَصِيرُ).
- بئس المرجع، بئس المآل، (بِئْسَ الْمَصِيرُ).
فهؤلاء الذين مأواهم (بِئْسَ الْمَصِيرُ) هم الذين يُعلِّمونا ضمان المستقبل؟! هم الذين يُعلِّمونا ضمان المستقبل؟! مستقبله هو (بِئْسَ الْمَصِيرُ)، واجبنا نحن أن نعلّمه كيف يستعد لمستقبله، فلا يأخذ علينا رجالنا ونساءنا ويقول: سيعلمهم ضمان المستقبل؛ ثم يخذلهم مِن الدين ويلعب بأفكارهم وأخلاقهم؛ هذا مستقبله.
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا) -رُموا فيها- (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا ..(7))، صوت مُنكر مثل الشهيق الذي ينهق به الحِمار؛ و(إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:19]، الشهيق، أوله نهيق الحِمار، ونهايته يقال له شهيق.
(إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا) صوت؛ تستقبلهم بأصوات مُنكرة (وَهِيَ تَفُورُ (7)) تُغْلى، يشتدّ غليانها واستُعارِها (وَهِيَ تَفُورُ)، أوقِد عليها ألف عام حتى احمرّت، وألف عام حتى ابيضّت، وألف عام حتى اسودّت، فهي سوداء مُظلِمة لا يُطفأ لهيبها، أشدّ حرارة مِن نار الدنيا بسبعين ضِعف، قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية، تكفي حرارتُها هذه، قال: "فإنها فُضلت عليها بسبعين ضعفا"، (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران:192] فأجرنا مِن النار ولا تُخزِنا يوم القيامة إنّك لا تُخلِف الميعاد.
يقول: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ..(8))، تكاد النار عند إقبال المجرمين عليها ووضعِهم فيها، (تَمَيَّزُ) يعني تتفرّق وينفصِل بعضها عن بعض مِن شدِّة الغيظ، غيظ: غضب على مَن عصوا ربّها وكفروا به؛ فهي مُستعِدّة لتحطيمهم وتعذيبهم وحرقهم مِن شدة غيظها (تَكَادُ تَمَيَّزُ) يعني: ينفصل بعضها عن بعض مِن شدة الغيظ، مثل: الإنسان إذا اشتد غيْظه وغضبه؛ جميع أوردته وشرايينه وعروقه تمتليء بالدم، ويحمِّر وجهه غيظا، سينفجر من شدة الغيض (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)، تغضب على مَن عصى ربها، وتُريد أن تُحرقِه وتُؤدِّبه.
يقول: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ ..(8))، وفيها أن دخول النار أفواج.. أفواج، أفواج لماذا؟ لأنهم في الدنيا أصلًا؛ خططهم ومخازيهم ومعائبهم تأتي أفواج، أفواج، فدخول النار مثل هذه تكون أفواج أفواج، كما قال في الآية الأخرى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا) [الزمر:71]؛ لأنّهم في الدنيا كانوا هكذا زمرا، هذا مع هذا، وهذا مع هذا، وهذا على الفكرة هذه، وهذا على الفكرة هذه فيدخلون زمر كذلك إلى النار. والمؤمنون أتباع كلّ نبي وكلّ صاحب راية مِن أولياء الأمم له أتباع زُمر .. زمر .. زمر، وكذلك يدخلون إلى الجنة زمرا: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) [الزمر:73].
يقول: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ) -جماعة مِن الناس- (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا) -مِن الموكّلين مِن الملائكة بشؤون النار والترتيب فيها- (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8))، ما أحد أنذركم هذا العذاب الشديد الذي لا يُطاق؟ (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ (9))، فباعترافهم؛ قامت الحُجّة عليهم، حتى جاء في بعض الأخبار: أنّه لا يدخل أحد النار إلاَّ وهو يعلم أن النار أولى به مِن الجنة، يعني استحقها؛ كلّهم مقِرُّون بالذنوب ِمن قبل دخول النار، ثم إذا وصلوا للنار تقول لهم: ألم يأتكم رسل منكم؟!.
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8))، يقول في الآية الأخرى: (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:71-72]؛ نهاية أهل الكِبر، ولا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال ذرة مِن كِبر. اللهم نزّه قُلوبنا عن ذرات الكِبر كُلّها، وارزقنا التواضع لعظمتك والإجلال لهيبتك، وادخلنا جنّتك.
مِن العجيب أنه جاء في بعض الأخبار أنّ ممن ينجّيهم الله مِن النار، معظم النار ممَن يكون له ذنُوب:
- ولكن كان يحمل في الدنيا خشية مِن الله وخوف مِن النار، وأمْر قلبه يخفى على الملائكة، فلمّا يُحمل -يُلقى- في النار تنزوي النار عنه وتنكمش! فيقول الله: ما لكِ؟ قالت: أنّه كان يستحيي منك، كان يخاف، أي أن هذا لمّا كان في الدنيا كان يستعيذ بك منّي ويخاف. يقول الله: أرسلوا عبدي، اتركوه -سبحانه وتعالى-. أرسلوا عبدي ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
- ومنهم مَن يكون في قلبه نور مِن رجاء، يخفى حتى على الملائكة لله تعالى، وتظهر بعض سيئاته فيُؤمر به إلى النار، فإذا دخل يقول: يا ربي ما كان ظني بك هكذا، يقول: ما تظن بي؟ يقول: كنت أظن بك لا تحرقني بالنار ولا تعذّبني بها، يقول لهم: أرسلوا عبدي، اتركوه ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
ولماذا كلّ هذا؟ ليبقى أن الأولين، والآخرين، والإنس، والجن، والملائكة؛ لا يحيطون بعلم الله، تظهر لهم أشياء، فيمسكونه ويضعونه في النار -الملائكة- ثم يقال: ردوه -من قال لكم؟ الله؛ لأنّ هناك خفايا و سرائر لكل مخْلوق بينه وبين الله؛ لا يطلِّع عليها غيره: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة:255]، فهذه الدقائق والإخلاص تخفى عن الملائكة، الدقائق والرياء تخفى عن الملائكة؛ ولكن الله يعلمها، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
(كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا ..(9))، وفيه أن الله لا يعذب إلاَّ بعد وصول المُنذرين، بعد وصول الرسل: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء:15]، أُقيمت الحُجّة عليهم -الله اكبر- (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165].
يقولُ: (وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9))، مِن كلامهم، في قول عند أهل التفسير: إن الملائكة يقولون لهم: (إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ)، في الدنيا ظللتم، يأتيكم الرسل والأنبياء وناس صالحين يخوّفونكم من هذا اليوم ولا تصدِّقونهم، وتتبعون أهواءكم وشهواتكم والكذّابين، كنتم في الدنيا في ضلال كبير، والآن في ضلال كبير، ظلمة في ظلمة في النار ما ترى إصبعك فيها، إذا رفع يده لم يكد يراها، (إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [يس:47]، في قول أن الملائكة تقول لهم هكذا.
والقول المشهور: إنه فقط كلّه كلامهم هم، يعني كُنّا نقول للرسل وللمُنذرين: (إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9))، أنتم في كلام غير معقول، أنتم تصدّقون بأشياء؛ أي كنّا نضحك عليهم. (إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ)؛ يرجعون على أنفسهم باللوم حيث لا ينفع اللوم، لو لاموا أنفسهم في الدنيا لنفعهم، لو ندموا في الدنيا لنفعهم، لكن بعد ما انتهت الفرصة الآن هم وسط الجحيم، ماذا ينفع اللوم؟ لُمْ الى أن تشبع، ستبقى مكانك، لا يُسمع لك (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء:100-101].
قال: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ)، مافيهم أسماع؟! ما كانوا يسمعون! ما كانوا يسمعون سمِاع إنصاف، سمِع هداية، سمِع تأمّل، سمِع تدبّر (أَوْ نَعْقِلُ) ما كان فيهم عقول؟! عندهم عقول فقط لترتيب مصالِح شهوات الدنيا؛ نعم، عقول لتأمّل ما يقول الرسل؟ نقول؛ لا؛ لهذا يقولون: لو كنا نسمع أو نعقل؛ أي العقل النافع الذي ننصِف به ونتأمّل الأشياء بإنصاف وأحقية وواقعية، ليس بغلبة هوى وشهوة، كأنهم يقولون؛ علينا ننكر الحق ونحق الباطل: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ (10))، وفيها أن العقل يكون بعد السمع؛ فالأصل الأول إرشاد المرسلين وهداية المهتدين، ثم تسمع كلام الرسل، تتأمل فيه بعقلك؛ تهتدي أنهم صادقين، (نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) أولًا سماع، ولهذا فإن رتبة السماع كبيرة، نعمة السمع عظيمة.
(وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10))، ما صار مآلنا هذا ومصيرنا هنا، كنا اتّبعنا الرسل وأقمنا أمر ربنا في الدنيا؛ ولن نصل للنار هذه، ولن نصل للمصائب هذه: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ)، فهل ينفع الاعتراف الآن؟ وأيام كنتم في بطرتكم وغفلتكم ما كنتم تعترفون بالذنب، تصلّحون قوانين لنشر الفواحش والذنوب -أعوذ بالله- تصلحون هكذا في الدنيا؟!
الآن: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11))، قال: ما عاد ينفع الاعتراف هنا ولا الندامة، سُحقًا: بعدًا، مكان سحيق: بعيد، سحقًا: بُعدًا لأصحاب السعير، ما ينفعهم ندمهم، ما ينفعهم بكاؤهم،
- حتى جاء في الأخبار أنهم يبكون، يبكون، ويبكون حتى تسيل دموعهم أنهارا وبِحارا في النار، لو كانت سفن لجرت فيها، ثم يبكون الدم بعدها؛ كله لا ينفع، بكْية قليلة بينه وبين الله في الحياة ستنفعه وتنجّيه مِن العذاب، "كلُّ عينٍ باكيةٌ يومَ القيامةِ؛ إلا عينٌ بكت مِن خشية الله، وعينٌ سهرتْ في سبيلِ اللهِ، وعين غضّت عن محارم الله".
- وكم مِن عبد يلقى الله وعينه قد غضّت عن محارم الله، وكم بكت مِن خشية الله، وكم سهرت في سبيل الله؛ يا خير عين، تقِرُّ تلك العين، ما عليها بكاء في الآخرة، فقد بكت في الدنيا؛ بكت مِن خشية الله ومِن محبته، ومِن معرفته، بكاء مِن الخشية، بكاء مِن المعرفة، بكاء مِن المحبة والشوق؛ درجات.
- الأكابر يبكون مِن المحبّة والشوق، قال: وبعضهم فسّر بذلك بكاءه ﷺ لمّا وصلَ بن مسعود عند قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) [النساء:41]، (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا)، دمعت عينه، بكى، بُكاء محبّة وشوق وتمييز، هذه الخصوصية التي خصّه الله بها في الشهادة في الآخرة -في القيامة- قال: فرفعتُ عيناي، فإذا عيناه تذرفان؛ إشارة إليَّ أن حسْبُك قال: "فرفعتُ طرفي، فإذا عيناه تذرفان -ﷺ-، وهكذا،، كما يبكي الإنسان مِن الفرح؛ هذا آثار المحبة.
- وهكذا،، جاء بعض الوفد إلى المدينة وكلّمهم ﷺ، ثم تلا عليهم بعض الآيات وبكى ومسح دُموعه بيده، قال واحد -مِن الوفد الذين جاؤوا-: أمِن خشية الذي أنزل عليك هذا تبكي؟ أتبكي مِن خشية الذي أنزل عليك هذا؟ قال: أجل، ومَن أخشى منه، لو أحد أعرف منه بالله لكان أخشى، ما في أحد أعرف منه؛ فهو أخشى، فهو الأخشى، وهو الأرجى، وهو الأحب، وهو الأشد حُبًّا لله ﷺ، الله يُرينا وجهه و يحشرنا في زُمرته.
قال: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11))، ماعاد ينفع الاعتراف هناك، بعدًا، (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ..(12))، حيث لا يراهم إلاَّ هو؛ (يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ) حيث لا يرجون ولا يخافون أحد سِواه مِن الناس في خلواتِهم، حيث يتمكّنون من مُقتضى شهواتِهم مِن ترك فرض، أو فعل مُحرّم، فلا يترِكون الفرض، ولا يفعلون المُحرّم؛ خوفاً منه وإجلالاً له.
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ)، قال لنا: كلما عملوا أتجاوز عنهم، بخشيتهم منّي -الله أكبر- لهم مغفرة، ليس مغفرة فقط، الذنوب أغفرها وأيضاً أعطيهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12))، كبير! هل تعرف كبير؟ الكبير يقول لك: كبير، ليس كبير على قدري وقدرك، الله يقول: إنه كبير، (أَجْرٌ كَبِيرٌ) لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه.
مبلغ كبير في مفهوم طفل ومبلغ كبير عند رجل، سواء؟! مبلغ كبير عند فقير ومبلغ كبير عند الغني سواء؟! صاحب المليارات، المبلغ الكبير عنده لا ألف ولا ألفين ولا ثلاثمئة؛ هذا كله صغير، وهذا أجر كبير عند الكبير، أجر كبير، الله.
(لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12))، ليس أنا أقول كبير؛ هو الكبير يقول: كبير -الله أكبر- انظروا كيف يُرغّب عِباده! قال: سأعطيكم أجر كبير، كبير على قدر عظمتي -الله اكبر-؛ نِعم المؤجر ونِعم الأجر، (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:136]، قال الله: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)؛ لأنه مِنك، كيف لا يكون (نِعمَ) وهو مِنك! أنت أعطيتهم هذا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، له الحمد والمِنّة، مِن فضله يُعطيهم هو الذي وفقهم للطاعة، وحببها لهم وأقدرهم عليها، ثم يؤجرهم مِن عنده؛ فضل فوق فضل؛ الحمد لله.
ويأتون بالعابِد مِن بني إسرائيل الذي عبد الله، كم؟ خمسين سنة .. أكثر، ستين سنة .. أكثر، سبعين .. أكثر، مئة سنة وهو منقطع في العبادة .. أكثر، مائتين .. أكثر، ثلاثمائة .. أكثر، خمسمائة سنة؛ مستمر العبادة جالس، جالس عند عين ماء يقتصر على ضرورة مِن الأكل وعبادة مستمرة، خمسمائة سنة ومات، يقول: إذا كان يوم القيامة،
- يقول الله: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي.
- فيقول: يا رب وعملي؟! .. يقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي.
- يقول: يا رب وعملي؟! عبادة خمسمائة سنة! .. يقول: حاسبوا عبدي على عمله.
يبدأون الحساب على نعمة البصر؛ أعطاك الله هذه النعمة مِن صغرك، في يوم كذا أضاء النور في قلبك، اشتغلتْ كذا كذا .. خلية، وكذا كذا شُعَيرة، ثم في الساعة الواحدة، في الدقيقة الواحدة كنت تنظر (بها كذا انكفَّ عنك بها كذا وكذا وكذا. هاتوا حسناته، حتى كمُلت الخمسمئة سنة ولازالت نعمة البصر لم تكتمل، في عُشر نعمة البصر، عاد باقي سمع، عاد باقي كلام، عاد باقي نطق، عاد باقي هواء؛ كلها نِعَم مِن الله.
- قالوا: يا ربِّ فنيت حسناته في عُشر نعمة البصر؛ قال: ادخلوه النار.
- قال: يا رب ادخلني الجنة برحمتك .. قال: فيقول الله: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي.
ونِعم العبد عبدي، يقوم يمدحه، هو قد طلع صفر، ولكن يمدحه -جلَّ جلاله-،ونِعم العبد عبدي، لمَّا أكرمه، وقبِله، وقبِل حسناته، وأدخله جنّته، صار نِعْم العبد، "نِعْم العبد عبدي"، الله الله الله.
أحيا الله قلوبنا، وأجارنا مِن النار، وجعلنا مِمَن يخشونه بالغيب، يا رب اجعلنا مِمَّن يخشونك بالغيب، وأعطنا المغفرة والأجر الكبير، يا كبير، أعطنا المغفرة والأجر الكبير يا كبير، أعلِ درجات عبدك، محسن بن أحمد بن علوي الكاف، وصالح بن سعيد بن عمير الربيحان واجمعنا بهما في أعلى الجنان وأنت راضٍ عنّا وأصلح شأننا بما اصلحت به شؤون الصالحين، وارحم موتانا واحيانا بالرحمة الواسعة، وارفعنا درجات دروبك الرافعة، وبارك لنا في خواتيم رمضان وأيامه الطاهِرة المُباركة النيرة النعِمة الحسنة الجميلة، بارك لنا فيها في هذه الخواتيم، ولا تحرمنا سرها ونورها وبركتها ونظرك لأهلها، في كل ليلة تنظر، في كل يوم تنظر وأنت مولى الجود والبر، فلا تحرمنا شريف نظرك وكريم نظرك للمحبوبين مِن عبادك، وزدنا منك نظرة بعد نظرة تداوينا بها وتشفينا بها و تعافينا بها و تطهرنا بها وتنورنا بها وتتعرف إلينا بها وتقربنا بها، وتتحفنا بتحفك التي تخص بها أهل السوابق الكُبرى مِن حضرات إحسانك وجودك وفضلك وامتنانك يا كريم يا قريب يامُجيب.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
26 رَمضان 1440