(536)
(228)
(574)
(311)
الدرس العشرون من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الفتح، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}
الحمد لله على توالي الإحسان، وفائض الامتنان، وإنزال القرآن، وبعث سيّد الأكوان مُبلّغًا عن الرحمن، وكنّا به خير أمّة، وجُليَت به الغمة، واندفعت به الظلمة، اللهم صلّ وسلم وبارك وكرّم على سيدنا محمدٍ إمام الأئمة، المقدّم في كل مهمة، وعلى آله وأصحابه المرتقين إلى ذرى القمة، وعلى من والاه واتّبعه بإحسانٍ في كلّ قولٍ وفعلٍ وحركةٍ وسكونٍ وكلمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين ذوي العزائم والهِمّة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ، فإنّنا في نعمة تأمّلنا لكلام ربّنا -جلّ جلاله- ونحن في أواخر الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، وصلنا في سورة الفتح إلى قول الله -عزّ وجل-: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (14)} بعد أن ذكر لنا الحقّ شأن البيعة لنبيّه المصطفى محمّد وعلوّ مكانها، وقول المخلّفين: {..شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ..(11)} وهذا الذي يتعذّر به أنواع الفئات من الكاذبين والمنافقين والعاجزين، يتركون المهمّات والواجبات التي تُلقى عليهم، وخصوصًا ما يكون فيه مشقّة على نفوسهم، وعدم هوىً، ويتعذّرون بالشغل بالأهل والأموال، وأنّهم يخافون عليها أن لو ذهبوا {..شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا..} قال تعالى: {..يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ..} ما قال: قالوا بألسنتهم، يعني هذا دأبهم، هم مستمرّين دائمًا، دائمًا يقولون كلام بالألسن وليس في القلوب هو، {..يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ..} الله أكبر!
وحذّرهم الحقّ من أن المُلك بيده، يحفظ ما يشاء من نفسٍ ومالٍ وعرضٍ ومتاعٍ إلى الوقت الذي حددّه، ويُهلك ما شاء من كل ذلك متى ما شاء، فما هذه التعذّرات؟ وما هذه التعلّلات؟! يقول: {..قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا..} ولو أراد بكم الضرّ ولو كنتم وسط أموالكم ووسط أولادكم، وتنزل على هذا أي مرضة، وعلى هذا أيّ حادثة، وتحصل لهذا أي سقطة، وينزل تحت هذا أي هدم، ولا تستطيعون تردّون شيء من ذلك! ولو أراد بكم نفعًا أن يحفظهم عليكم، لو ذهبتم وخرجتم في الجهاد مع نبيّه، يحفظهم ويحرسهم ويسلّمهم وينفعكم ولا أحد يقدر عليهم، لأن الأمر أمره -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
{..قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا..} أي ادعُهُم إلى اعتقاد الحقّ، وإلى إدراك الحقيقة، وإلى الاستمساك بالعروة الوثيقة، وأن يخرجوا عن هذه الأوهام والظنون والخيالات التي تلعب بالخلق. {..قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)} لم تتخلّفوا لأجل الخوف على الأموال ولا الأهل، ولكن لكم أسبابٌ أُخَرْ، خبيرٌ بها ربّكم الأكبر، {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا.. } وقلتم: يُقتلون ولا يرجع واحد منهم، {..وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ..} وكم يفعل هكذا الشيطان بوسوسته لكثيرٍ من الناس، ويتصوّرون أن الله يخذل أحد من الأخيار أو الصالحين في شيء من الأماكن أو شيء من المواقف، ويقولون: بيقع -سيحصل- له كذا .. الآن بينتهي خلاص!... {..وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)} فاسدين، أهل فساد وأهل كذب وأهل حيلة وأهل مكر {..وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} ما البوار؟ الهلاك والفساد {..وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا}.
قال الله: وأصلٌ أصّلته لخلقي لا يملك أحدٌ نقضه {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِه..} أي: بعد وصول الدعوة إليه، و النبأ والخبر {..فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)} والذين أُعِدّ لهم السعير في عظيم المصير؛ ما تتوقع أن يحصل لهم في الدنيا من خير أو تيسير، إن أُمِدّوا بشيءٍ فلِيَزدادوا إثمًا، ولِيَزدادوا عذابًا، فما هم حول الخير ولا الخير حولهم؛ لأنهم رفضوا الإيمان بالله ورسوله بعد أن وصلتهم الدعوة {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}.
بخلاف الذين آمنوا بالله ورسوله، فإن ربّهم يجعل جميع ما يجري عليهم عائدته خيرٌ عليهم، وقال نبيّنا: "عجبًا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صَبَر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن". وعلامة من قَويَ الإيمان في قلبه: أنّه في السرّاء لا يبطر، وفي الضرّاء لا يجزع.
وأمّا من لم يتهذّب ويرتقي مراقي الإيمان {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إلّا..} [المعارج:19-21]، هؤلاء الذين تربّوا وتهذّبوا وتطهّروا وتصفّت نفوسهم وتزكّت {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج:22-29] الذين ما يبحثون وراء الخبائث والقاذورات والمنكرات بتزيين الشيطان وشياطين الإنس والجن وأهوائهم لهم ذلك، أطهار، أهل عفاف، أهل تقوى، { فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:31-34] هؤلاء إن مسّهم الشر لا جَزَع، وإن مسّهم الخير لا هَلَع! هؤلاء أصفياء، هؤلاء أزكياء، هؤلاء مُرَبَّون، الله يلحقنا بهم، ويجعلنا منهم.
يقول تعالى مؤكدًا لهذه الحقائق {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..} ومن يملك السماوات والأرض؟ ما الذي يخفى عليه؟ وما الذي يعجزه؟ ولكن ذَكَر أهمّ ما يكون من مقتضى ملكه للسماوات والأرض، وأعظم ما يحصل من نتائج ذلك للناس وهو: إمّا المغفرة وإمّا العذاب، إما الجنّة وإما النّار، هذا هو الشيء الكبير، وإلّا فمقتضى: {..لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..} أنّ ظنونكم هذه البائدة الكاذبة حرامٌ عليكم تصدّقونها! ولن يُخيّب الله نبيّه ولن يخذله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وكيف ينصر أعداءه على رسوله؟ ولكن ماعاد - ما - ذكر شيء من هذه الأمور، ذكر الأمر الأكبر الأخطر: {..يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ..} هذا المَلِك الذي ينصر من يشاء ويخذل من يشاء، ويعزّ من يشاء ويُذلّ من يشاء، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء، الأمر الأخطر من كل ذلك: العاقبة والمصير، {..يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ..} هذا هو! هذا الأمر الكبير، وبعد ذلك أنتم باِتّباعكم الظنون، ومساعدة بعضكم البعض على مخالفة المأمون، ومشيكم وراء موجبات الهُون تُعرَّضون لهذا العذاب الذي لا يدفعه دافع، ومالك السماوات والأرض هو الذي يُعذّب {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25-26].
وإن اتّبعتم نبيّنا، وخالفتم نفوسكم، وانتظمتم بوحينا ومنهجنا، فالجنّة أمامكم؛ أنا أغفر! وفي خطاب حتى لمّا يتكلم على المُخَلّفين، ويتكلم على المنافقين، يذكر أنه غفّار، الباب مفتوح إن حد بيرجع -لمن سيرجع- –سبحانه عزّ وجل-.
وهذاك الذي وقع في مصيبة السرقة والكذب، وبات عند أخيه المسلم، وقام أغوته نفسه يسرق الدرع حق أخيه في الليل ويشلّه ويحطّه -ويأخذه ويضعه- عند واحد من اليهود على أساس أمانة عنده، ويُسأل في اليوم الثاني: فُقِد درع من البيت؟!.. قال: ما ندري -لا أدري-! من أخذه؟ قال:ها!! من سرقه؟ ولمّا راح بيفتضح - أوشك أن يُفتضح- قال: هذا اليهودي الذي سرقه، شوفوه كان الدرع في الدقيق - و وضع الدرع في الدقيق-، وخرّجه، والدقيق يمشي معه -وتتبّعوا أثر الدقيق- لمّا وصل إلى عند بيت اليهودي هذا! جاءوا قالوا له: عندك الدرع وصفه كذا؟ قال: نعم! قالوا:كيف تسرقه؟ قال: ما سرقت! كيف ما سرقت؟! قال: فلان جاء به إليّ! هذا الذي بيّت -بات- عند صاحبه ذاك. وبعدين ذهب إلى عند أصحابه يقول لهم: فلان هذا يهودي يكذب عليّ ويفضحنا وبيتكلم عليّ أمام النبيّ وبينزل له ..!! وقاموا معه جماعة بحميّة، وجاءوا إلى عند النبي محمد وقالوا: يا رسول الله! هذا صاحبنا جاء اليهودي وسرق الدرع حق فلان وقام اليهود يتهمّون صاحبنا هذا به، كيف؟! قالوا: وسط بيت اليهودي وعند اليهود، وهو اليهودي سرقه وقال: ألّا -إنما- هذا فلان جاء به، ويكذب علينا لأنهم لهم غيظ على المسلمين. تأثر النبي صلى الله عليه وسلم ونزل الوحي عليه: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105] لا تخاصم عن الخائن إذا خان {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:106-108] يقول لقومه وجماعته الذين تعصّبوا معه: {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء:109]، مع ذلك كله: فَسح المجال، رجع يقول له: إن بتتوب -تَتُب- أحسن لك! ختام الآيات يقول: { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ..} [النساء: 110-111]، ومع ذلك أغوته نفسه، وفرّ، هرب وارتد -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ووقع في المصيبة. فهذا الحقّ -حتى عند ذكر هؤلاء المخلّفين والكذّابين وأصحاب الظنون السيئة- يقول: {..يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ..} إن بتتوبون -تتوبوا- إليه هو غفّار، الله أكبر! ما أعظم لطفه بخلقه ورأفته بعباده -سبحانه وتعالى- {..وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
عاد إلى ذكر كلام المخلّفين: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ..(15)} هنا ماعاد شي -ما ذكر- من الأعراب مخلّفون بس -فقط-! ليشمل الأعراب وغيرهم، وغير الأعراب ممّن يتخلّفون من أهل المدينة. {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا..} كمثل غنائم خيبر التي أظفرناكم بها، وذلك أنه وعدهم، لم يتمكّنوا من دخول مكة، وعدهم مغانم بيعطيهم الله ويرضيهم؛ فكان غنائم خيبر، فالذين تخلّفوا -سواءً من أهل المدينة أو من الأعراب- عن الذهاب مع النبي إلى العمرة، وأول خروج معه إلى خيبر، لمّا فُتحت خيبر ورأوا الغنائم جاءوا قالوا: نحن معكم، نحن نتبعكم! ما قُبِل أحد منهم! {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ..} هذا الحين -الآن- وقت الطمع! وقد أثنى النبي على سادتنا الأنصار قال: "يرحم الله الأنصار! إنّهم يقِلُّون عند الطَّمَع، ويكْثُرون عند الفَزَع" قال وقت الطمع، تقسيم غنائم وغيرها الأنصار ما يبالون ولا يحضرون بكثرة، قليل، لكن إذا شي -حصل- جهاد وقتال حضروا كلهم، فيه خوف؛ حاضرين، هؤلاء الأنصار الصادقين -رضي الله عنهم- وشهادة رسول الله لهم كافية، وهنيئًا لهم. وأهل الصدق هكذا، ولكن قليلٌ ما هم! أمّا أكثر الناس عند الطمع يكثرون ويحضرون، ووقت الفزع ماعاد حد هو! ما تدري هو فين كذه؟ ماعاد له حس! فين هو..؟ ما يجوّب على التلفون حتى! -ووقت الفزع ما تجده! ما تدري أين مكانه؟ ولا تسمع له حس! أين هو..؟ ولا يجيب حتى على التلفون!- لا حول ولا قوة إلا بالله!
لكن أهل الصدق مع الله شأن ثاني! مرة وقع صوت مزعج حوالي المدينة، فَزَعة، فخرج كبار الصحابة وشجعانهم نحو الصوت، ايش -ما- الذي حصل هنا؟ ما الذي هناك؟ هل جيش جاء أو هدّة حصلت في الأرض؟ أو ايش -أم ماذا-..؟ فوجدوا النبي قد خرج، وقد راح ورجع، هو راح نحو الصوت بنفسه، عاد الصحابة يتشاورون ويخرجون شجعانهم وهو قد راح وقد رجع. عدّا - مرّ- في الطريق، حصّل فرس حق أبو طلحة، ركب عليه وجرى حتى رأى وتأكد رجع، لمّا كانوا متوجهين، حصلوا النبي صلى الله عليه وسلم مُقبل، قال: "لن تُراعوا!" ما هناك خوف، وحصّل أبو طلحة معهم، وفرسه هذا كان يشتكي منه أبو طلحة، ما يمشي سواء وتعبان وما يتحرك وما يسمع الكلام، قال: "ما وجدنا به بأسًا وإنْ وجَدْناهُ لَبَحْرًا" فكان لا يُسبَق بعد ذاك اليوم، ويُطيعه تمام منقاد، بس سمّاه -فسمّاه- أبو طلحة: البحر، سمّى حقه الفرس هذا "البحر" لأن النبي قال له: "وإنْ وجَدْناهُ لَبَحْرًا" من يوم ركب عليه النبي تغيّرت طبيعته، صار قوي وصار سريع. عِري يعني: ماشي فيه شد ولا فيه .. ذلّا -إنما- وجده وهو مستعجل لما سمع..، خرج وركب عليه، وراح وشاف ورجع صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. لا إله إلا الله!
يقول: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ..} ذالحين -الآن- نتبعكم!! {..يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّه..} أن أهل الحديبية هم أهل الغنائم، ولا يتبعهم غيرهم {..يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّه..} ويحاولون يخذّلون المجاهدين منشان -حتى- يبدّلوا كلام الله، وكل ما يحاولونه ما يفيد {..قُل لَّن تَتَّبِعُونَا..} ما تجون معنا، ولا تقدرون تجون، ما هذا؟ بهذه القوة؟ {..كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ..} يعني: القول قول صاحب القوة والقدرة؛ ولهذا ما قدر أحد منهم يتبعهم أبدًا، يقولون بس بنجي -سنأتي- معكم ولا واحد خرج! {..قُل لَّن تَتَّبِعُونَا..} هذا تحدّي كبير!، إلّا بتبعكم!، ماشي بتبعكم! اللي -الذي- قال لهم أنهم ما بيتبعونهم هو مسيّر القلوب محركها، ما خلّى ولا واحد يروح ولا اتّبعهم أحد! تحدّي: {..قُل لَّن تَتَّبِعُونَا..} ليش -لماذا؟ بهذا التحدي؟ {..كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ..}. ولمّا كان ما تفكيرهم إلا في المكسب الحسّي والغنائم وعقولهم هناك: كعقول أكثر الخلق على ظهر الأرض، ما يخرج عن هذا إلا أهل الإيمان وأهل الصدق وقليل ممّن تملكّتهم الفطرة الحَسَنة وعلّمتهم شيء من الزهد، وإلّا عامة الناس عقولهم كلها عند المصالح والأغراض الدنيوية.
{..فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا..} أنتم ما بغيتوا لنا شيء من هذا! بغيتوا الأموال لكم! {..فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا..} ولا حسد، ولا نحن من أهل الحسد، ولا نعرف هذا! {..بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)} ما لهم فقه في الحقائق ومعرفة معاني كلام الله تعالى، إلا قليل من الشؤون الحسّية وأمور الدنيا يفقهون فيها، أذكياء في الدنيا..
أبُنيَّ إنَّ من الرجالِ بهِيمةً *** في صورةِ الرَّجُلِ السميعِ المُبصِرِ
فَطِنٌ بِكُلِّ رَزّيَةٍ في مالِــهِ *** وَإِذا أُصيبَ بِدينِــــهُ لَم يَشعُــــــرِ
فطِنٌ بِكل مُصيبَةٍ في مالِهِ وإذا يُصابُ بدينِهِ لم يشعُرِ! هذا بهيمة في صورة الإنسان، البهيمة خير منه! {..إِلَّا قَلِيلًا} ومن فقههم القليل هذا تظاهرهم بالإسلام من أجل حفظ أموالهم ومصالحهم الدنيوية، ما شي إسلام! -لا إسلام لهم!- هذا هو اللي يفقهون بس - المصالح-. قال الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ..} [النجم:29-30] بس هنا محصورين! وقال عن هذه العلوم التي يفتخرون بها، وهي ما تدلّهم أو توصلهم إلى معرفة حقيقة من هم؟ ولماذا جاءوا؟ وإلى أين يصيرون؟ ومن ربهم؟ قال: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6-7] فلا علم عندهم نافعًا، لا علم عندهم مباركًا، لا علم عندهم منوِّرًا، لا علم عندهم يهديهم إلى سواء السبيل. علم يتكاثرون به في الأموال والأولاد بس! -فقط!- ويزيدون فيه سوء إلى سوءِهم. لا إله إلا الله!
قال: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ..} أمّا يسلمون وإمّا تقاتلون هيا، بنشوفكم إيش -نراكم ماذا- تعملون؟ إن كان صدق وقت الغنائم جئتوا قلتم سنتبعكم، بيجي -سيأتي- وقت ستدعون إلى مقابلة قوم أولي بأس شديد، قوة وقدرة على المقابلة والمطاعنة، فجاءوا دُعوا إلى هوازن وإلى بني حنيفة، ثم دُعوا إلى مقابلة فارس والروم فيما بعد، {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ..} وخلاص {كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ..} [الأحزاب:25].
{..فَإِن تُطِيعُوا..} وقت ما تُدْعَوْن إلى هؤلاء؛ يُكَفِّر عنكم الذي مضى، ويعطيكم أجر من عنده زيادة {..يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِن تَتَوَلَّوْا..} وقت الشدة بعدين {...كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ ..} كما الآن ما رضيتم أن تذهبوا مع النبي إلى الحديبية، ولا تخرجون معه إلى مواقع الجهاد {.. كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)} لا إله إلا الله، فكان القوم أولي البأس الشديد، منهم هوازن استقبلوهم بعد فتح مكة، وبالنبِل وكانوا رماة، اثني عشرة ألف من المسلمين فروا؛ بقي مئة من هذه الإثني عشرة ألف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء من الأعراب من تابوا ودخلوا مع النبي ومنهم من تولى كما تولوا من قبل والعياذ بالله تعالى، فبقيَ النبي عليه -الصلاة والسلام- وعلى بغلة حقه، ما -ليس- حتى فرس معه، إلا على البغلة، ويقدمها إلى الأمام ويرفع صوته، ويقول: "أنَا النبيُّ لا كَذِبْ، أنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ"، معه عمه العباس كان يمسكه والنبي يقدِّم البغلة إلى الأمام، ومع ذلك كله كان معه من المقاتلين أحد من المذبذبين، يتحيَّن الفرصة بيقتله، يريد يقتل النبي من وراؤه، ووقفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فلان ماذا تحدِثك نفسك؟ قال: لا شيء يا رسول الله، قال: تعال، جاء قرأ عليه -صلى الله عليه وسلم- ذهب منه الكفر والشرك؛ ودخل في الجهاد بنية صالحة، استفاد منه وقال له: هذا خير من ما كنت تنوي، يقول النبي: هذا خير لك من الذي كنت تنوي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
وأمر العباس ينادي ويذكِّر الصحابة بالبيعة هذه حق الشجرة، ويذكِّرْهم بالقرآن، قال قول لهم: يا أهل السَّمرة، شجرة السَّمُر اللي بايعتم تحتها، يا أهل السَّمرة، يا أهل بيعة العقبة، يا أهل السَّمرة، يا أهل البَقَرة، يعني: سورة البقرة في القرآن، سمعوا صوت العباس هذا رسول الله أقبلوا من كل مكان، وتحرك الأنصار فما شُبِّهوا إلا بالعِشار تحنُّ إلى أولادها -النوق تحن إلى أولادها-، وأقبلوا منه ورجعوا، اصطفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحصبة من التراب؛ ورماها في وجوه القوم فانهزموا، في يوم حنين؟ {.. قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ..} يعني: يغفر لكم اللي -الذي- مضى ويعطيكم الثواب {.. وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }. واحد جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: يا رسول الله أنا أعمى كيف..؟ هل يتخلف عنك في الجهاد؟ فأنزل {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ..} معذور عن القيام بالجهاد، لأن أكثر الجهاد يحتاج إلى البصر، هذا ما يقدر، {.. لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ..} اللي -الذي- يعرج برجله وما يقدر يمشي {.. حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ..} الذي يشق عليه، {..وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ…} اللهم اجعلنا منهم {..وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ..} وأنعِم بالعطاء، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، {...وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}.
ذكر الله هذه البيعة العجيبة، وسموها بيعة الرضوان، {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ…} هنيئًا لهم هذه البشارة بالرضا من الرحمن بوصف القرآن نتلوها من بعد هذه البيعة بألف وأربعمائة سنة وثمانية وثلاثين سنة، من يوم البيعة إلى الآن نقرأها، ألف وأربع مائة وثمانية وثلاثين سنة قد مرّت عليها، { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ..} شجرة سَمُرْ، وهذا الذي وقف من بعض الصحابة ماسك بغصنها لا يقع على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والنبي واقف تحتها يبايع، وإنما كانوا قالوا -من المقيل - في وقت الضحى وإذا بالمنادي يناديهم، قال: البيعة البيعة مع رسول الله، نزل روح القدس يأمر بالبيعة، أي جبريل يأمر أن يبايع الصحابة، عطفوا عليه الناس، وجاء الصحابة يبايعون نحو ألف وأربعمئة إلا واحد، كان الجدّ بن قيس هذا منافق، يتستَّر بالناقة حقُّه-بناقته-، حتى كملت البيعة ولا بايع..، واحد ثاني ما كان منهم مار في الطريق، حتى قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنكم تدخلون الجنة، وفي الحديث أيضًا بعد ما بايعهم بيعة العقبة قال لهم:"أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ" وقال لهم وهم يطلعون في مكان: "كل من طلع يدخل الجنة إلا صاحبَ الجملِ الأوْرَق" راحوا يطلبون من هذا الذي بيخسر؟ حصلوا -وجدوا- واحد يدور له جمل أورق، قالوا له: تعال يستغفر لك رسول الله، قال: أحصِّل جملي أحسن لي من أن يستغفر لي صاحبكم! قالوا له: تعال بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أن أحصِّل جملي وضالتي خير لي وأحب لي من أن أبايع، وشوف إيش اللي -انظر ما الذي- فاته وراء جمل مسكين؛ وهناك رضوان الحق الأعلى، والدرجات العلا في الجنة، والسعادة الكبرى فاتت على الرجل، الحين إيش -الآن ماذا- يستفيد من حقه الجمل ذا -جمله هذا-، وإيش -وماذا- انتفع به؟ وكم وإيش -وماذا- فوَّت بسببه، وهكذا إذا أضل الله العقول تؤثِر الحقير الزائل الفاني.
ومنهم من تكررت منه البيعة في نفس اليوم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، منهم سيدنا سلمة بن الأكوع، لما جاء الأمر بالبيعة قام وبايعه في أول الناس، وبقي عنده -صلى الله عليه وسلم- وكان يعلم النبي قوة إيمانه وصدقه ومواقفه الطيبة، فلما كان في وسط الناس، قال له صلى الله عليه وسلم: ألا تبايع؟ قال: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، قال: وأيضًا، بعد مرة، قام وبايع ثاني مرة، فلما كان في آخر الناس، قال: سلمة ألا تبايع؟ قلت: بايعتك أول الناس و أواسطهم، قال: وأيضًا، قال: مرحبا وقام له -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات وهو يبايعه. ولمّا كمَّلوا وما عاد بقي أحد، حط -وضع- يده على يده وقال: وهذه عن عثمان، وحتى الصحابة غبطوا عثمان، وعلموا أنه حي ما مات، "وهذه عن عثمان" حتى قالوا: خير يدٍ في يوم بَيْعَةِ الرِّضوانِ بايعت هذه اليد التي بايعت عن عثمان، لأنها يد النبي نفسه، "وهذه عن عثمان" أدخله في أهل البيعة.
وكان جماعة أبان بن سعيد بن العاص الذي تلقّاهُ وأجاره وبلّغ رسالة النبي؛ احتبسوه عندهم على وجه الإكرام، وجاءوا بإشاعة أنه قتِل، وجاءت بيعة العقبة، بعدين هم أرسلوا سيدنا عثمان رُحْ رُحْ - اذهب اذهب- بس خلاص.. والعجيب قال بعض الصحابة: إننا هاهنا محبوسون وعثمان يطوف بالبيت، قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لن يطوف عثمان بالبيت ولو مكث سنة حتى يطوف رسول الله، وهذا الواقع، قالوا له هناك قريش قالوا له تفضل أنت محرم وتطوف بالبيت، قال: لا والله؛ لا أطوف حتى يطوف رسول الله، ما رضيَ يطوف بالبيت، شوف أدب الصحابة رضي الله عنهم، الله، لا إله إلا الله.
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ..} شجرة السمُر هذه؛ ما بين أشجار هناك، في السنة الثانية جاءوا الصحابة مروا للحج، أرادوا يتعرفوا عليها ما عاد قدروا يعرفونها، ما اتفق اثنان على أنها هذه، اختلطت عليهم بين الأشجار ما عاد قدروا، حتى لما كان في زمن التابعين بعضهم يقول لسيدنا سعيد بن المسيب: أنه هنا مكان شجرة البيعة، قال: حدثني أبي وكان مِن مَن حضر البيعة، قال: إنا مررنا عليها في العام الثاني فما اهتدينا إليها، ما قدرنا عليها، وأنتم أعلم اليوم بتجون -بتأتون- عليها، ولهذا يقول بعض المحققين في الحديث الحبيب/ علي بن محمد بن يحيى -عليه رحمة الله- أن حديث أن سيدنا عمر بن الخطاب قطع شجرة الرضوان أسطورة؛ لا أصل لها، وجميع الروايات التي جاءت أن عمر قطع شجرة برواية نافع عن عمر، قال: نافع لم يُسلِم إلا بعد وفاة عمر، هو من أسرى الديلم، وقد جاء بسند متصل صحيح عن نافع نفسه عن ابن عمر أنهم بحثوا عن الشجرة فلم يجدوها، وكيف يتناقض مع نفسه؟! يقول لهم وجدوها، بعدين يقول قطعها عمر بن الخطاب! فكل الروايات أن سيدنا عمر قطع الشجرة ما تصح، منقطعة بسند نافع عن عمر، ونافع لم يسلم إلا بعد وفاة سيدنا عمر، ولكن الأحاديث التي فيها أنهم بحثوا عنها ولم يعثروا عليها هذه صحيحة، أحاديث صحيحة، فكيف يترك الصحيح؟ ويستدل بحديث منقطع!
يقول:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ..} والزكاة لهم من الله -سبحان الله- أعطاهم تزكية وشهادة، {..فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ..} من الإيمان والمحبة واليقين والصدق، {..فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ..}،ما شي -ما في- شهادة أكبر من هذه، {..فَأَنزَلَ السَّكِينَةَعَلَيْهِمْ.} الرّوْح والطمأنينة والرضا {..وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } هذا هو فتح خيبر، {..وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا..} حتى قال بعض المهاجرين: ما شبعنا مِنَ التَّمْرِ؛ إلا بعد أن فُتِحَتْ خَيْبَرُ، بعد ما فتح الله علينا خيبر صرنا نحصِّل التمر يجي لنا من هناك، وشبعنا من التمر، لا إله إلا الله.
قال: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ..} لا إله إلا هو، كيف طأطأَ لكم قريش؟ وكيف رجعتم سالمين؟ وكيف خذلتم هؤلاء؟ وكيف مع انصرافكم إلى هنا وإلى هنا حفظ الله أهلكم وأولادكم من بعدكم؟ وأنجز وعده لكم {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ..} وفوق ذلك {..وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا(20)} لا إله إلا الله.
وتابع الحق بعدُه {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا..} وأعطاكم أشياء كثير، ويعطيكم أشياء كثير، ويا هنيئًا لأتباع البشير النذير والسراج المنير، واجعلنا من أتباعه حقيقة يا عليم، يا قدير، يا سميع، يا بصير، يا لطيف، يا خبير، يا معطي الكثير، ويا واهب الكبير، ويا من جوده ليس له حد ولا حصر ولا تقدير، آمنا بك وبما جاء عنك على مرادك، وآمنا برسولك وما جاء عن رسولك على مراد رسولك، فاجعلنا من أهل اتباعه حقيقة، مستمسكين بالعروة الوثيقة، المرتقين إلى أعلى ذرى الصدق معك في كل ظاهر وباطن، يا حي يا قيوم، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم
الفاتحة
22 رَمضان 1444