تفسير سورة الفتح، من قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ..}، الآية: 27

درس الفجر الرمضاني 1444هـ.jpeg
للاستماع إلى الدرس

الدرس الثالث والعشرين من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الفتح، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:

{لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله على نِعمة خطاب الرحمن الخلّاق لنا، وأن حَمَلَ ذلك بِواسطةِ الأمين جبريل إلى حبيبهِ المصطفى محمد ذي القدر الجليل وبلّغنا إيّاه، اللهمّ اجعلنا من أسعد خلقك بِوَحيك وتنزيلك، فهمًا ومعرفةً وتدبُّرًا وتأمُّلا وعملًا وتطبيقًا وتذوّقًا وتحقُّقًا، وامزُج القرآن بلحومنا ودماءنا وأجزائنا وكُليّاتنا.

وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على من به فتح لنا أبواب الخيرات، فتشرَّف به ما تشرّف من الأوقات، وكان لنا فيه من النفحات ومُضاعفة الأجور والمثوبات، ودفع الآفات وارتقاء المقامات ما رتّبهُ خالق الأرض والسماوات بالتفضُّلِ من حضرتهِ العلية، والمنّ منه -جلّ جلاله-، والإتحافات والإنعامات والإكرامات، صلّ اللهمّ على هذا المصطفى وآله وصحبه القادات، ومن والاهم بإحسانٍ إلى يوم الميقات، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين رفيعي القدرِ والدرجات، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتكَ المُقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعدُ: فإننا في نِعمة تأمُّلنا لكلام ربنا جلّ جلاله وصلنا إلى أواخر سورة الفتح في قوله سبحانه وتعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}، ولقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- أنه يدخل وأصحابه إلى البيت العتيق ويطوفون به ويُحلِّق من يُحلّق منهم -أي: يحلق رأسه بعد انتهاء العمرة- ويُقصِّر من يُقصّر -أي: يقصّ منه بعضه-، وهل هذه الرؤيا كانت سبقت ذهابهم إلى الحديبية؟ أو كان هناك مُجرّد التحديث بأنه سيأتيهم وقتٌ يدخلون فيه مكة آمنين مُحلّقين رؤوسهم ومُقصّرين، ولم تأتِ الرؤيا إلا بعد صلح الحديبية، وبعد تهيُّؤ الأمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فيه نظرٌ لأهل العلم، والأكثر مضوا على أنه كانت الرؤيا مِن قبل، ولا شكّ أنّ رؤيا الأنبياء وحي، ومع ذلك فالرؤيا قد تحملُ إيذانًا بِوقوع شيء غير مُحدّدٍ بوقت -غير مؤقت بوقت-، فلابُد من وقوع ذلك الشيء، وتحديد الوقت إذا رجع إلى الاجتهاد أو إلى النظر في القرائن قد يتقدّم ويتأخر، إلا إذا جاء نصٌ من الله أو من رسوله في تحديد وقت فيكون في الوقت المحدد، فإذا لم يأتِ نصٌّ من الله ورسوله فتحديد الوقت هذا بل قد يكون حتى من الملائكة بحسب ما عندهم من الصحف في ألواح المَحو والإثبات، فيُمحى منها شيءٌ كان مكتوبًا فيها ويُبدَّل بغيره؛ فقد يتَقَدَّم ويتَأَخَّر هذا الوقت.

وفي ذلك أيضًا من الحِكمة أن يبقى المؤمن مُعلّق القلب بالله -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-، ولا يُرتِّب أمره كله على وعدٍ مُعين ولا وعيدٍ مُعين، قد يُنذر بحصول شيء، وقد يُبشِّر بحصول شيء؛ فينبغي أن لا يربط شأنه بهذه البشارة، ولا بهذه النذارة، ولكن يربِط أموره في أحواله وشؤونه بالرحمن -جلّ جلاله- وما يريده له، وهو عبدهُ المُنقاد الخاضع لجلال الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

وقالوا لمّا تأخر دخولهم إلى مكة، وكان الكثير منهم يقطعون أنهم سيدخلون مكة، وحصل الصُّلح ورجعوا، وتكلم بعض المنافقين، ومنهُ ما رُويَ عن عبد الله بن أُبيّ أنه قال: لا دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا ولا قصّرنا؟ فكيف هذا التحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الرؤيا -إن كانت تقدّمت الرؤيا-؟ وفيه أنهُ يُرجع العلم إلى الحق -سبحانه وتعالى-؛ فإذا لم يُذكر التحديد وقت وزمان معين فيكون في الوقت الذي علمه هو ورتبه هو، لا في الوقت الذي يتوقعه الناس ولا في الوقت الذي يظنّه الناس، فتعلّق من تعلّق بهذا التحديث عن المجيء للبيت أو بالرؤيا، وحصل التأخُّر ليعلموا أن الله رتّب أمرًا غير ذلك ورتّب وقتًا غير هذا الوقت، ورتب العام السابع من الهجرة لا العام السادس، وحصل الإنجازُ من الله وتصديق الرؤيا بِمجيئه صلى الله عليه وسلم مع عددٍ من أصحابه وتَطوافهم بالبيت، وحلّقوا وقصّروا آمنين مُطمئنين ورجعوا، فقال الحق {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ..} الرؤيا التي أراهُ إياها أصدقه.

وقد قرأنا في سورة يوسف أنهُ في أوّلِ أمره رأى أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رآهُم له يسجدون، كم مرّت على الرُّؤيا هذه؟ وبدأ يكبر وأدخلوه إخوانه إلى وسط غيابت الجُب، وراح إلى مصر وهناك بلغ أشدّه في مصر، وراودته امرأة العزيز، وأدخلوه وسط السجن، وجلس مُدة وسط السجن، ثم خرج بعد سنين من السجن، وتولّى على خزائن الأرض، وجلس فيها سبع سنين وهو يخزِن، ثم بدأت السنوات الأخرى وهو يوزّع، وجاءوا؛ وعدت عدة سنوات حتى جاء أبوه وأمه، وجاء إخوته وخرّوا له سجّدا {..وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ..} [يوسف:100] انظر قبل كم سنة؟ {..هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي..} [يوسف:100]، ليس من بعد ما آذوني إخواني، ومن بعد ما استعملوا معي العنف والشدة وقِلة المحبة والحسد {..مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي..} لُطفهُ في التعبير!

وهذه الرؤيا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحقّقت في العام السابع؛ بعدما اتّفق مع قريش أن يرجع في العام المقبل ورجع في العام المُقبل، وذكّرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بِنعمة الله عليهم أنكم كنتم تتمنّون تدخلون مكة، الآن هم يقولون تأتون في العام القابل، الذين منعوكم هم يقولون تأتون في العام المُقبل، وجاءوا واعتمروا مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وكانوا وضعوا في عهدهم وفي صلحهم أنه لا يزيد على ثلاثة أيام في مكة، وانتهت الثلاثة الأيام فأرسلوا إليه بعض أصحابه وقالوا له انتهى الوقت؛ اخرُج، فأرسل إليهم: أريد أن أجعل طعام لأهل مكة وعندي زواج -كان بسيدتنا ميمونة قالوا: لا حاجة لنا في طعامك ولا في وليمتك.. اُخرج! قال: مرحبا! خرج، وأمر كل أصحابه الذين جاؤوا معه، قال: اخرجوا من حدود الحرم خلاص، وجعل الوليمة وزواجه بسيدتنا ميمونة خارج حدود الحرم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، سيّد أهل الوفاء، وسيّد أهل الصبر، وسيد أهل الحِلم، وهذا تفكير القوانين حق الإقامة ومُدتها كذا، هذا الذي جاء من عندهم.

يقول: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ..} أي: والله لتدخلنّ {..الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ..} ودخلتم، {..إِن شَاءَ اللَّهُ ..} والتعليق بالمشيئة أدب مع الحق تبارك وتعالى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ..} [الكهف:23-24]، وفيها بركة، وينجز بها في الغالب ما استثنيَت به {..إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ..} فيكم من يحلق وفيكم من يقصّ، والحلق للرجال أفضل، والقصّ للمرأة أفضل، وبالنسبة للرجال جاء فيهم الحديث لمّا منهم من حلق ومنهم من قصر، قال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قال: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قال بعد الثالثة أو الرابعة: وَالْمُقَصِّرِين"، فدعا لهؤلاء ثلاث وهؤلاء مرّة؛ فكان ذلك أفضل. وكان إذا اعتمر أو حجّ حلق رأسه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

{..مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا..} في تأخيركم في السنة الماضية ورجوعكم عن مكة، وما جعل في ذلك من الحكم والفوائد وما رتب لكم من خير، ومن ذلك: {..فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا..} خيبر، وعلمنا أن خيبر كانت لأهل الحُديبية، وهم الذين حضروا في خيبر، وما قَسَم صلى الله عليه وسلم من غنائم خيبر لِغيرهم إلا لسيدنا جعفر ومن معه مِن الذين وصلوا من الحبشة، أصحاب السفينة وحدهم ولم يقسِم لأحدٍ غيرهم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.

يقول:{..فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا..} إذًا فالعلم الإحاطي بالأشياء واحد هو الله، {..وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فمهما أوتينا نحن والأنبياء والملائكة من علوم فعلومنا حادثة ومحصورة ولا تحيطُ بالأشياء؛ لكن صاحب العلم الأزلي الدائم الذي يُحيط عِلمهُ بكل شيء هو الله، {...وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وفي ذلك يقول الشاعر:

 العلم للرحمن جل جلاله ** والعبد في جهلاته يتغمغمُ 

مهما علم شيء يجهل، وما جهلهُ أكثر، ما للتراب وللعلوم، قال أنت حفنة من تراب، بنو آدم هؤلاء كلهم حفنة من تراب، ومنه خلق الله ابن آدم وكوّنهم 

ما للتراب وللعلوم وإنما ** نسعى لنعلم أننا لا نعلم

نتعلم، نتعلم لنوقن أننا لا نعلم، وعلومنا مهما كانت تكون قاصرة وناقصة وحادثة، وعُرضة للزوال والنسيان، لكن علم الرب بِكل شيء، ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لا يكون، ولو كان كيف يكون، هذا له وحده جلَّ جلاله! {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ..} [النمل:65].

يقول: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}؛ الصلح، ثم خيبر، ثم إسلام الكثير من الناس، كله ترتّب على رجوعكم من تحت مكة، فهيأ الله بسبب ذلك وجود هذا الأمان عشر سنوات وضع الحرب. توجّه صلى الله عليه وسلم وكان من احتياطهِ أن ساق بعض السلاح مع جماعة، واستعدَّ بأن يكون قريبًا منهم ولا يدخلوا بهِ إلى مكة، كما هو العهد بينه وبينهم، ولمّا دنا من مكة أمرهم أن يجعلوه في يأجج -الوادي خارجها-؛ حتى إن حصل من المشركين نقض للعهد ومخالفة وإرادة للقتل استدعاهم، فكان من أدبه وعبوديته واحتياطه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. فلمّا قاربوا مكة رأى المشركون من النواحي سلاح، وأرعبوا وذهبوا إلى قريش وقالوا لهم: جاءكم محمد.. وهم ما هم مستعدين للحرب أيضًا، فأرسلوا مكرز بن حفص وجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن قُريشًا أرسلوني إليك يقولون ما عُهِدَ منك نقض العهد! قال: ما ذاك؟ قالوا: جئت بالسلاح، قال: أبدًا؛ لا أدخُل به مكة، وقد أمرنا بوضعه في يأجج ولا ندخل به مكة، قالوا: من أوفى منك! وأنت الوفي، و أنت كذا وأنت وأنت…

رجع إلى قريش يقول لهم جاء محمد على عهده، ولا قصده يقاتل أحد، لا في أول مرة ولا في ثاني مرة، إلا إن تعرّضتم له! قالوا: لا تمام دعوه يدخل، قل له فقط ثلاثة أيام. كثير من كبارهم وأشرافهم قالوا: اخرجوا من مكة دعوها لهم! وخرجوا من غيظ قلوبهم ما يرون النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يطوفون آمنين مُطمئنين؛ النفوس هذه البشرية لها غرائب، تخرُج عن اعتدالها، وتخرُج عن فطرتها، وتخرج بِدواعي الهوى. وجماعة منهم كما تقدّم معنا جلسوا ينظرون سيدنا بلال أذّن، وهذا فيما بعد في عام الفتح، وكان منهم ما كان من الكلام.

طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت وصلّى، البيت مركّزين فيه ثلاثمائة وستين صنم، ما التفت إلى شيء منهم، طاف بالبيت وصلّى لربه وجلس قليل ورجع. عام الفتح بعدها بسنة جاء دخل وكسرها كلها، وكانت مُثبّتة بالحديد والرصاص ولكن كانت معجزة له، كلما أومئ إلى واحد منها سقط، حتى دار عليها كُلها، ثم إنه بقي واحد مُعلّق فوق ما انتبه منه وقت ما كسّر الأصنام، لمّا جاء رآه أراد أن ينزعهُ، جلس سيدنا علي قال: اطلع على كتفي يا رسول الله، استوى صلّى الله عليه وسلم بِرجليه على كتفي سيدنا علي وما قدر يتحرك، يريد أن يقوم به لكي يصل به إليه..، قال: ما لك؟! إنك لا تحمل النبوة! ما تقدر على حمل النبوة، نزل، قال: اطلع على كتفيّ، فطلع على كتفيه، وقام صلى الله عليه وسلم، ووصل سيدنا علي إلى الصنم  وخرّجه، وقام يحكي قصته لما قام به صلى الله عليه وسلم ورجله على كتفيه الشريفتين، قال: أرى أني في تلك الساعة لو أردت أن أتناول القمر بيدي لتناولته! خرّج الصنم كما أمره -صلى الله عليه وسلم-، صلوات ربي وسلامه عليه.

وعاد إلى المدينة المنورة -صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله-، ثُمّ في رمضان المُقبل من العام الثامن من الهِجرة حصل منهم الخِيانة ونقض العهد، فتوجّهَ في رمضان من المدينة المنورة ودخل مكة في العشر الأواخر -يعني مثل هذه الايام- دخل الى مكة المكرمة صلى الله عليه وسلم فاتحًا لها، بعدما اعتمر في العام الماضي، قال {..فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}. يقول الله: اثبتوا على قدم الصدق معي والتصديق برسولي فإنه من عندي أُرسل بالهدى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ..}، ما مصدره فكر بشري ولا تجارب ولا اجتماع جماعة ولا حزب ولا هيئة ولا دولة، رب السماوات والأرض المكوّن {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ..}، هو الذي أرسل رسوله إليكم هاديًا بشيرًا ونذيرًا ومعلّمًا ومزكيًا، مأمونًا على أداء أمر الله، يدلّكم على ما يُسعدكم دنيا وآخرة، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ..} من الإيمان والتوحيد، {وَدِينِ الْحَقِّ..} من الإسلام والإيمان والإحسان؛

  •  {..لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..} فيرجع الضمير في: يُظهره إما على دين الحق، وإما على رسوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ..} ليظهر رسوله أي: يجعل حجّته دامغة عالية على كل الأديان. 
  • {..لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..} من الشرك واليهودية والنصرانية والمجوسية وكل الأديان والإلحاد الموجود على وجه الأرض.

{..لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..} فكان مجالي ظهوره آية من آيات الله ومعجزة لسيّدنا رسول الله إلى يومنا هذا. مجال ظهوره ما يخمد نوره ولا ينقطع، وكم محاولات وأذايا وتسلّط على المسلمين من هنا ومن هناك بالوسائل المختلفة والدين قائم وينتشر! وكل ما عملوا حركة من أجل أن يُشوِّشوا ويشوّهوا صورة الدين في مكان؛ أنتجت هذه الحركة معرفة كثير بالإسلام من أماكنهم، ودخلوا في الدين من عندهم، إلى أيامنا هذه -سبحان الله- مجالي ظهوره على الدين كله. مِن أقوى الأديان التي تنتشر في العالم دين النبي محمد، دين الإسلام، عجيب! ومع أن الوسائل للصدّ عنه ولتشويهه كثيرة، ومع ذلك فاسم ربّه واسمه يُذكر في مختلف دول العالم، ويُؤذَّن إما بالصوت العادي أو بالميكروفون الداخلي أو بالميكروفونات الخارجية في كثير من دول الكفر في العالم، ويقال: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ اللَّهُ.

{..لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..}، ولا يزال أمره كذلك إلى أن يُمهِّد الله -تبارك وتعالى- ويبعث المهدي المُنتظر، ثم لا يزال الأمر كذلك في أنواع من الظهور إلى أن يتم ظهوره على الدين كله، بعد نزول سيدنا عيسى بن مريم، نزول سيدنا عيسى بن مريم -عليه السلام- إلى الأرض ولا عاد يبقى دين حاكِم في الأرض إلا دين محمد -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به عن الله في أيام سيدنا عيسى -عليه السلام-. وهكذا إلى أن يأتي وقت ظهوره الأكبر في يوم المحشر {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ..} [النساء:42]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} على صدق محمد وبعثته.

{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ..} قال: اشهدوا في عبدي ونبيي محمد خصوصيته الكبيرة، رسالة تعم الخلائق ختمت بها رسالة المرسلين {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ..}، ولا تظنّوا أنه له فضل يقف عند عقلٍ ولا تجربةٍ ولا ذكاءٍ ولا عبقرية، هو: رَّسُولُ اللَّهِ هذه ميزته، هذه خصوصيته، هذا شرفه، هذا مكانته وفضله، أنه: رَّسُولُ اللَّهِ، {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ..} صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

{..وَالَّذِينَ مَعَهُ..} اللهم اجعلنا معه، فأوائلنا المهاجرون والأنصار هذا وصفهم: {..أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..} مجال الشدّة المشروعة على الكفار: رفض كل ما طرحوه وكل ما وضعوه مخالفًا لأمر الله ورسوله. إقرارهم على أي عملٍ يعملونه أو قرارٍ يقرّرونه فيه الظلم والإجحاف والخروج من المنهج لا يكون من المسلمين ولا من المؤمنين ولا من أتباع محمّد أبدًا؛ هذه شدتهم. شدّتهم على الكفار: لا يقبلون ظلمهم ولا إفكهم، ولا يقبلون منهم أن يتدخلوا في دينهم، ولا في شريعة ربهم -جلّ جلاله-، ولا يخنعون لهم لا بتهديد ولا بإغراء، فالمؤمنون الصادقون الذين مع محمّد هذا وصفهم في كل زمان، لا يحرِفهم عن منهج التبعيّة لله ورسوله والقيام بأمر الله تهديدات ولا تخويفات ولا حبس ولا قتل ولا أسلحة دمار شامل، ولا شيء من هذا الكلام، ولا إغراء ومناصب ورتب ودولارات وجنيهات ودراهم ودنانير ومناصب ووظائف ووزارات، ما يغيّرهم شيء من هذا ولا يخرج قدمهم عن التبعيّة المطلقة لله ورسوله، فهذه شدّتهم.

{..أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ..}، فإذا سالَمَ الكفّار فهم المسالمون بهذه الأسس والضوابط: {..فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء:90] لا تؤذوا أحد، بل ادعوهم إلى الله ورسوله، حتى المحاربين احرصوا على دعوتهم إلى الله، من أشداء المحاربين اليهود اللي كانوا في خيبر، خيانة بعد خيانة بعد خيانة وتأليب على النبي وجمع، وآخر شيء النبي بعث سيدنا علي بن أبي طالب أنه كان قد أرسل سيدنا أبو بكر الصديق وعاد ولم يُفتح الحصن هذا الأخير، وأرسل سيدنا عمر ولم يُفتح الحصن الأخير، وأرسل بعض الصحابة قابل مرحب -هذا أشجع اليهود- واختلف بينه وبينه بضربة وتلقى ضربة مرحب بالترس ونزل، فعادَ سيفه عليه فقتله، حتى تكلم بعض الناس وقالوا: هذا كان يَرتَجِزُ ببعض أبيات وهو في الطريق، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا؟ قالوا: فلان يا رسول الله، قال: يغفر الله له، سيدنا عمر على ناقته قال: لولا أمتعتنا به يا رسول الله! لإنه ما يوجّه استغفار مخصوص لفردٍ مخصوص في وقت حرب؛ إلا هو بيُقتل في هذه الحرب، قال لو متّعتنا به يا رسول الله!، فعادَ سيفه عليه فقتله، فتكلم بعض الناس قالوا: أنه حَبِطَ عمله لأنه قتل نفسه؛ وهو ما تعمد قتل نفسه إلا عندما هرب من سيف اليهودي وتلقّى ضربته بالترس، انحنى فوقع سيفه عليه، ارتد سيفه عليه فقُتل، فبلغ الخبر لولده والناس، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله! يقولون حبط عمل فلان؟ قال: من قال؟ قال: بعض أصحابك، قال: كذب من قال! إنه شهيدٌ في سبيل الله ما حبط عمله، فرح ابنه وعرف!

ثم قال: أني سأعطي الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، يفتح الله على يديه! فبات الصحابة يدوكون ليلتهم، من هذا المشهود له بهذه الشهادة؟ يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ويفتح الله على يديه! وقد كانوا ثلاثة أيام يسرحون إلى الحصن ويرجعون، وكان في تلك الليلة وصل سيدنا علي بن أبي طالب؛ لأنه تأخر بسبب مرض ورَمَد في عينيه، ثم ما طاق التخلّف فجاء بالرمد، وبات في مكان قريب من خيمته -صلى الله عليه وسلم- وما علم به أكثر الصحابة والمعسكر ما يعلمون أن سيدنا علي جاء، فلمّا سلم من صلاة الصبح تعرّض له الصحابة كل يودّ أن يكون صاحب هذه الشهادة، فقال: أين علي؟ قالوا: يا رسول الله علي ما جاء، قال: إلا البارحة وصل! قال له صحابي: يا رسول الله رَمِد، هو في مكان قريب منك، فيه رَمَد، قال: ادعُه! فذهبت إليه أقوده بيده؛ ما يقدر يفتح عينيه من شدة الرمد، ما يقدر يفتح عينيه، امسكه بيده، أقوده حتى جئت به بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فقرأ على عينيه وبصق في أطراف يديه ومرّ بها على عينيّ سيدنا علي ففتح عينيه، وكأن لم يكن به شيء، فما رمدت عيناه حتى مات، بعد ذاك اليوم ما عاد أصابه وجع عين ولا رمد إلى أن توفي؛ طبيب كبير صلى الله عليه وسلم! فقام، قال له: ادعهم "فواللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النعم"، وجاء إلى الحصن وتلقّاه هذا مرحب خرج له ويترنّم بأبيات:

قد علِمَتْ خَيبرُ أنِّي مَرْحَبُ ** شاكي السِّلاحِ بطَلٌ مُجرَّبُ ** إذا الحروبُ أقبَلَتْ تَلَهَّبُ

قال سيدنا علي:

أنا الَّذي سمَّتْني أمِّي حَيْدَرَهْ ** كلَيْثِ غاباتٍ كريهِ المنظَرَهْ ** أكيلهم بالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ

كان عليه مِغفر، وواضع فوقه حامله فوق رأسه حديد وتحته المِغفر، وجاء يقابل سيدنا علي، ضربة واحدة ضربه قدّ بها الحديد والمغفر والرأس حتى وصل إلى أسنانه السيف، ووقع، فزع أهل القصر كلهم -الحصن هذا الأخير- أشجع واحد فيهم هذا في ضربة واحدة روّح، وصار كل من تعرض له ضربه، الحصن مُقفل، جاء إلى عند باب الحصن فهزّه فاهتزّ له، فحمله بيد واحدة، فجعله الترس حقه ويضرب باليد حامل الباب -السدّة حق الباب حق الحصن حقهم-، حامله بيد ويضرب باليد الثانية، فلا ترى إلا رؤوسًا تتطاير، فقالوا: استسلموا قالوا بس وقفوا، وعندهم قوت سنة وسط الحصن وعندهم آبار فيها ماء، ما نفعهم شيء! فقالوا: بس بس خلاص! وقفنا واستسلمنا؛ وقف عن قتالهم، فرمى بباب هذا الحصن من وراء الجيش وتركه. يقول الرواة: جئنا بعد المعركة منّا تسعة ما قدرنا نحرك الباب! ما نحمله.. نحركه، ما قدرنا نحركه! باب ثقيل أكبر حصن مع اليهود، مننا تسعة نفر أردنا نحركه لكن ما تحرك لنا، وهذا حمله بيد واحدة؛ من قوة الله تبارك وتعالى، قوة أمدّهُ الله تعالى بها في تلك الساعة.

وجاء بعد ذلك عمرة القضاء، وجاء أيضًا فتح مكة فيما بعد ذلك {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ..} أمّا في دعوتهم فهم يدعونهم، وهذه الغِلظة المشروعة والشِّدّة المشروعة، تتعيّن وتتكوّن وتتبيّن في الثبات على الدين وعدم الرضوخ لإغراء ولا لتهديد، وأن لا يُقبَل الظلم والإجحاف قطعًا؛ فهذه شدّتهم. أمّا جِوارهم خير جوار، وأما إحسان القول ولِينه، وأمّا برّهم وقسطهم فكما قال لهم ربهم: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ..} [الممتحنة: 8]، وليس معنى الغِلظة ولا الشدّة هذه {..أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ..} أنهم يسبّون ولا يلعنون ولا يقطّبون وجوههم عندهم ولا يتركون دعوتهم، ما حصل هذا من الصحابة ولا من النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، ولكن حصل أنهم ما يقبلون ظُلم ولا إجحاف، وحصل أنهم ما يرجعون عن دينهم بإغراء ولا بتهديد؛ هذا هو الشِّدة والغلظة المطلوبة.

{..أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..} يودُّّ بعضهم بعضًا، ويخدم بعضهم بعضًا، ويُقدّم بعضهم مصالح الآخر على مصالحه، ويقضي حاجة بعضهم البعض، ويقضون حاجات بعضهم البعض {..رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..} فيجب أن يكون مجتمع الإيمان هكذا. ثم من الغرابة تجد بعض مجتمعات المسلمين إذا جاء المسلم: الغلظة قدّامه، والفظاظة قدّامه، والإتعاب قدّامه! وإذا جاء الكافر: البشاشة قدّامه، والاحترام قدّامه، والتكريم قدّامه!! {..أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..} عكسوها -أعوذ بالله من غضب الله-؛ ما هكذا يكون من كان مع مُحمد أبدًا في أي وقت، أنت مع محمد هذا وصفك: {..أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..} عرفنا معنى الشدّة والغلظة المطلوبة. {..رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..} ما تؤذي اخوانك المسلمين ولا تحتقرهم ولا تنهرهم ولا تُقصِّر في حقوقهم {..رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..}، "مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتَرَاحُمِهِم وتعاطُفِهِمْ مثلُ الجسَدِ -الواحد- إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى".

أمّا تريد أوصافهم؟ {..تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا..} يغلب عليهم الركوع والسجود، ولا يفوتك أن تراهم في أثناء ساعات الليل والنهار راكعين وساجدين، يعني: مُولّعين بعبادة الرب {..تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا..} الله أكبر! حتى بدأ أثر الركوع والسجود عليهم، فمهما رأيتهم رأيت نور الركوع والسجود في وجوههم وعلى أجسادهم، كما أشار إلى السيماء، ولكن انصرافهم هذا وانطلاقهم بهذه الأعمال ورغبتهم في العبادة وقيامهم بهذه المهمات لأجل ماذا؟ قال: أخلصوا القصد لي وحدي وما أرادوا غيري {..يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا..} الفضل من قربه ومن معرفته ومن محبته ومن دخول الجنة والنجاة من النار وفوق هذا كله رضوان {..وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ..} [التوبة:72] قال هؤلاء قصدهم، ما بغوا وزارات، ما بغوا دوائر، ما بغوا مُرتبات، ما بغوا رِئاسة {..يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا..} حتى الأثر ظهر عليهم {..سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم..} لما تقع عينك على وجه واحد منهم تشعر أنه صاحب نور وحق، {..سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ..}؛ لما تحقّقوا بحقائق السجود استنارت وجوههم بنور السجود للواحد المعبود فترى أثر السجود على جباههم وأثر السجود على وجوههم.

{..سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ..} ضرب الله لهم الأمثال في الكتب السابقة اعتناءً بمن يكونوا مع محمد في آخر الزمان، وأثنى عليهم في كتبه المنزلة من السماء على الأنبياء السابقين، وصفهم كذا كذا.. ومثلهم كذا كذا.. وصفهم بهذا الوصف: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}، وفيها: أن أهل التوراة لهم التفاتات على عمومهم إلى الدنيا وما فيها؛ فجاب لهم هذه الأوصاف، أصحاب الإنجيل غلب عليهم التقشُّف والرهبانية؛ فجاب لهم مثل زرع، قال: {..وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ..} أفراخه وسنابله وعروقه، {..أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ..} استقام تمام {..فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ..} ساق الشجرة، تخرج فرعها شطئها وترتفع، تقوّى ساقها، تستغلظ وتستقوى ويقوى ساقها، إذا رآها الزارع يفرح، يرى قوة في طلوع الشجرة {..فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ..} هذا مثلهم.

قال: {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} من الكفار؟ مِن الكفار الذين يكرهون الحق ويحبّون نشر الضلال والباطل يغتاظون مِن هؤلاء ومن عبادتهم ومن طاعتهم ومن تقواهم يغتاظون منهم، {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} ومن هنا أشار الإمام مالك أيضًا إلى معنى يقول: أرى الذي يغتاظ قلبه من الصحابة -وهم أوائل أهل هذا الوصف- هذا مشهود عليه أنه ما هو مسلم! هؤلاء يغيظون الكفار، الله يغيظ بهم الكفار، أنت اغتظت منهم! أنت من أين أنت؟! هل أنت من الكفار؟ {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} ما يغتاظ المؤمنين من هؤلاء، هؤلاء المؤمنين يحبونهم ويفرحون بهم، لكن {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..}؛ لهذا استأنس الإمام مالك: قال إذا رأيت من يغتاظ على الصحابة فاعلم أنه على خطر الكفر -والعياذ بالله تعالى-، قال الله: {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} وكيف هذا يغتاظ منهم هل هو من الكفار؟ {..لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّه..} {..وَعَدَ اللَّهُ..} ونِعمَ الوعد وعده وهو لا يخلف الميعاد {..وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} وهنيئاً لهم بالمغفرة والأجر العظيم.

يا فتّاح افتح علينا وانظر إلينا واغفر لنا وهب لنا الأجر العظيم، سيّدنا ومولانا بارك لنا في خواتيم شهرنا، وما بقيَ من أيامه وساعاته ولحظاته بركاتٍ تامّاتٍ كاملات، وهَب لنا فتحًا مبيناً، وهب لنا فتحًا كبيرا، وهب لنا فتحًا عظيما، وهب لنا فتحًا مطلقا، وهب لنا فتحًا يتزايد أبدا، واجعلنا يا مولانا ممّن تفتح عليهم وتنظر إليهم، وتفتح على أيديهم أعينًا عُميًا وآذانًا صُمًا وقلوبًا غلفا، وتنشر لهم وبهم الخير في مشارق الأرض ومغاربها يا رب، انظر إلى الحاضرين والسامعين، وهَبهُم من هذه المواهب الكبيرة يا أكرم الأكرمين، وانظِمنا في سلك حبيبك الأمين محمد صلى الله عليه على آله وصحبه وسلم، وكن لنا بما أنت أهله حيثما كنّا وأينما كنّا.

ومن سورة الفتح إلى سورة محمد، الذي فُتِح من أجله وفتح عليه -صلى الله عليه وسلم-، نختم بها بقية أيامنا إن شاء الله في الشهرِ الكريم، ويا ليته لا يرحل.. ولكن هكذا حُكم الله في الأزمنة تنقضي، وما أعمارنا إلا ساعات معدودة من حين خروج أحدنا من بطن أمّه إلى أن يلفظ نفسه الأخير ويخرج روحه منه، فيُبارك الله في أعمارنا، ويبارك الله في أيامنا وليالينا، يبارك الله لنا في إدراكنا خاتمة رمضان ويُتمّه لنا ونخرج منه بالنور واليقين والتقوى والبر والإحسان والمغفرة والرِّضوان والأجر العظيم، والثبات على الصراط المستقيم، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا.

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم.

تاريخ النشر الهجري

25 رَمضان 1444

تاريخ النشر الميلادي

15 أبريل 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام