تفسير سورة الفتح، من قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ..}، الآية: 18

درس الفجر الرمضاني 1444هـ.jpeg
للاستماع إلى الدرس

الدرس الثاني والعشرين من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الفتح، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:

{لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}

نص الدرس مكتوب:

الحمدُ لله مُكرِمنا بالقرآن وابتداءِ نُزوله في رَمضان على حَبيبه المصطفى سيدِ الأكوان خيرِ إنسان، سيدنا محمدٍ بن عبد الله عظيمِ القدرِ والجَاه والشأن، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه في كل حينٍ وآن، وعلى آله وأهل بيته المُطهرين من الأدران، وأصحابه الغُرّ الهُداة الأعيان، وعلى من وَالاهم في الله واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سَادات أهل الهدى والعرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكةِ المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ: فإنَّا في نعمةِ تأمُلنا لخطابِ ربنا وتعْليمه وتوجِيهه ووحْيهِ وتنزِيله، مَررنا في سورة الفتح على آياتِ ما وعدَ الله تعالى مِن مَغانم للذين صَبروا واتَّبعُوا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-،  فكانَ خروجُهم وقيامُهم وجهادهُم وكفُّهم عن العمل وإقدامُهم عليه تحت إشارة الشرع المَصُون والوحي المكرّم والنبي المعظَّم -صلى الله عليه وسلم-. خرجُوا بذلك عن شرور الأنفس والأهواء التي بها يكونُ تخبّطُ النَّاس في مسارهم في الحياة، ويكون بها انزلاقُهم وراء الأهواء ووراء هذه الشهوات إلى ما يضُرّهم دنيا وآخرة، وإلى ما يُفسدهُم، وإلى ما يُوقع السوء عليهم روحًا وجسدًا، ومن سبقت له من الله سعادة خلّصَّه من شرّ هواه ومن شرّ نفسِّه الأمَّارة، ولم يُسلِّط عليه عدوّه إبليس ولا أحدًا من جنده، ويدخلهُ في عباده الذين تشَّرفُوا بالعبودية الخالصَة للإله الحَقّ {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ..} [الحجر:42].

وهؤلاء يُقدمُون ويُحجمون ويأخُذون ويتركُون ويحِبّون ويبغَضون بميزانِ الرحمن الذيِّ أنزلَه على أنبيائه، وكان من خيرِ نماذجِهم من كَان في الرَّعيل الأول من المنْتخَبِين من أصحاب نَبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وآل بيته الذين كانوا في زَمانِه، فكانُوا نماذجَ رائعة لمعاني شريفة عالية رافعة في التَّخلُّص من الأهواء وشرور الأنْفس وغلوائها وحمِيّتها وشهواتها ومَيلها إلى الباطل، فكانوا عبيدًا خُلَّص للإله الحق -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، وحازوا بِذلكم الشرف الأفخر؛ ألحِقنا اللهم بهم واحشُرنا في زمرتهم وسِر بنا في مسارهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أولئك الصادقون الذين أُمرنا أن نكون معهُم في قول إلهنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [ التوبة:119]. فينبغي أن يَخرُج منّا الالتِفاتَ والرغبة في أنْ نكُون مع أيِّ أحد يظهرُ بلعبة أو بقَصّة أو بحركة أو بمال أو بصناعة {..وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [ التوبة:119]. ماذا تريدون بهؤلاء كلهم؟ بتروحون فين معهم؟ وإلى أين يذهبون بكم؟ ترغب تكون مع واحد صلّح له حِلاقة هكذا؟! وترغب تكون مع واحد وهو ما صلّى لله ركعة طول عمره! وترغب تكون مع واحد قالوا إنه اخترع كذا وأتى بكذا! وبعدين بيوصلك إلى أين هذا؟ {..وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [ التوبة:119]، ابحث عن الصادقين وكنْ معهم وخذْ في تبعيّتِهم؛ فذاك عنوان النَّجاح والفلاَح والفوز والسَّعادة.

خرجَ هؤلاء القوم لِوجْه الرحمن وحسْبُنا ما قال عنهم: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ..} وأشَار بألِفْ التَّعريف إلى الشَّجرة، وهي واحدة من عِدَّة شجر في ذلك المكان في الحديبية، ثم اجْتهدوا في تحْصِيلها فلم يحصِّلوها وما علموا أيُّ تلكَ الأشجار {..تحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ}

وفي قوله: {..يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ..}، وذِكرُ الشَّجرة على وجْه الخصوص التي تمّتْ فيها هذه البيعة؛ فيه إشارة إلى أنَّ الأماكن والمواطن والنباتات التي يتم عندها خير وينزل عندها رحمة تتميّز وتتخصّص؛ كما كان المحراب الذي ظهرت فيه الكرامات لسيدتنا مريم {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا..} [آل عمران:37]، وهوْ مقفل الأبواب والمفتاح معه، من أين يجيء هذا؟ {..قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]. قال ربنا: {هُنَالِكَ..} في ذاك الموطن ذاك المكان محل ظهور الكرامات {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}، {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ...} [آل عمران:37]. وقُبلت الدعوة؛ وهكذا الحق يقول: {..يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ..} المحل هذاك الجميل أنزل الله رضوان عليهم، فذكر هذه الشجرة التي ما تميّزت عن باقي الأشجار إلا بوقوفه صلى الله عليه وسلم تحتها، وأخذه البيعة لأصحابه تحت تلك الشجرة.

{..إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ..} وكفى بها شهادةً لهم من الله {..فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ..}، فأمثالُ هؤلاء من جاء يريد أن يتفلسف، يقول: كان في قلوبهم كذا أو كان قصدهم كذا،  نقول: الرحمن يقول: {..فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ..}؛ إنّ ما في قلوبهم بِعلم الله مُوجبٌ لنزول السكينة، فإن كان في قلوبهم شيء غير مُوجب لنزول السكينة فهذا علم مُغاير لعلم الله، وعلم الله هو الحق، وعلم الله هو الصدق.

يقول: {..فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} ما نازل قلوبَهم، وما جرى من حواليهم، تولّى الحق نسبته إلى نفسه، وقال: {..فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، وقريباً سيقول لنا عن الكفار: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ..} [الفتح:26] هم جعلوا قلوبهم بهذه الصورة، لكن قلوب هؤلاء: {..فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ..} هو تولّى إنزال السكينة عليهم، فكان ما في قلوبهم برعاية الله وبعنايته، وهؤلاء من الجاهلية جاءوا بالغلواء والحَمِيّة وجعلوا {..فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ..} لا إله إلا الله. وهكذا كرّرها في الآية الآتية أيضًا، ويقول تعالى: {..وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، يسَّرَ لهم ذلك وأعطاهم كما تقدّم معنا من فتح خيبر ثم فتح مكة المكرمة ثم ما توالى من الفتوح {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)} يُجري الأمور بِحكمتهِ في التقديم والتأخير، وفي النصر والهزيمة، وفي التوقيت الذي يُريده.

قال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ..} ومغانم جاء بصيغة مُنتهى الجموع، فالمغانم الكثيرة: منها في الدنيا، منها في القلوب، منها في الآخرة، منها في البرزخ؛ مغانم كثيرة لِمن اتبع رسول الله، لمن اقتدى به، لمن سار في هذا المِنهاج.. مغانم كثيرة، فالغنائم كلها هنا.. فلا تُغريك نفسك، ما يقدر يعرض علينا أهل الشرق والغرب شيء فيه مغانم كمثل هذه ولا ما يُقاربها، إنها مغانم في الحياة، ومغانم عند الوفاة، ومغانم في البرزخ، ومغانم في القيامة، ومغانم في دار الكرامة، ومغانم حِسيّة، ومغانم معنويّة، ومغانم قلبية، ومغانم روحية، ومغانم سِرّية.

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ..}، في مواقف كثيرة من بداية ما هاجر نبينا -صلى الله عليه وسلم- كُفَّت عنه الأيدي وهو في غارِ حراء، وكُفَّت عنه الأيدي مع صاحبه أبي بكر وهم في الطريق أيامًا عديدة،  ثم كم مواقف كُفّت فيها أيدي الكفار، وجاءهم جيش الأحزاب، وتجمّعوا عشرة آلاف مقاتل، ما في المدينة مقاتلين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا من لا يصلوا إلى الثلاثة آلاف، ووصلوا إلى أن يستهووا اليهود ليخونوا العهد ويدخلوا من جِهتهم، وخان اليهود العهد، فكاد الأمر تنزل المصيبة بالمؤمنين ويُقتلون ولكنْ كفَّ أيديهم، وقال عنهم في ذلك الموقف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ…} [الأحزاب:9-10]. جاءوا من هذه الجهة ومن هناك اتّفقوا مع بني قريظة، ويدخلون عليكم، {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} [الأحزاب:10-11] اختُبِروا {..وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]، وتكلم المنافقون بما تكلموا، وثبَتَ المؤمنون ووثقوا وأيقنوا وصبروا وصدقوا، فنُصِروا وكفَّ الله عنهم هذه الأيدي، بل في تلك الحادثة والغزوة قال صلى الله عليه وسلم  بعد أن فرّوا :"بعد اليوم نَغْزُوهُمْ، ولَا يَغْزُونَنَا" فما عاد تيّسر لهم غزو إلى المدينة قط، لا هُم، ولا اليهود، ولا من حواليهم، ولا بقواهم، وكان هو الذي يذهب إليهم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.

{..كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ..}  -جلّ جلاله وتعالى في علاه- {..وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ..} وكذلك ذهبتم في بعض الغزوات، وتعرَّض أولادكم وأهاليكم لِأن يغزوهم أحد من الكُفار الآخرين، ولكن عصمناهم وأرجعناهم من الطريق؛ خرجوا يريدون قتل ثم ألقي في قلوبهم الرعب ورجعوا، وحُفِظ أولاد المسلمين وأهالي المسلمين حتى رجعوا من غزوتهم.. لا إله إلا الله!؛ {..وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ..}  فتزْدادون إيمانًا، ويأتي من بعدكم ويقرأونها ويُشاهدونها ويُوقنون أنكم حزب الله أهل الحق والهدى، أتباع نبي الحق والصدق {..وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ..} أنتم تزدادون بها إيمانًأ، ومن بعدكم يتذكّرها، ومن بعدكم يذْكُرها وينظر ويتأمل فيها، فيقوى إيمانه ويزداد يقينه، {..وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (20)} يجعل لكم بصائِر، ويشرق لكم أنوار، ويُدلّكم على معارف وحقائق لا تدركونها، وتستقيمون بها وترتقون في السير إلى الله تعالى بالأجسام وبالقلوب وبالأرواح وبالأَسرار، حتى تصلون مراتب عزيزة في القُرب من الملك الخلّاق -جلّ جلاله وتعالى في علاه-  ما يصلها إلا أهل الحظّ الكبير وأهل السعادة العُظمى.

{..وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} وقد جعل الدّالَّ  لكم على الصراط المستقيم بجميع أنواعه ومراتبه أكرم خلقه عليه، وأجلّ عبيده منزلةً لديه: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا..} فكان من الصعب عليكم أن تقتحموا مكة أو تأخذونها، وقد كان قبائل العرب يتربّصون بكم فتح مكة، ويقولوا: إن نُصِرتم على مكة وقدرتم تدخلون فإن هذا نبي حق، وإلا ما سلَّطهُ الله على مكة إلا وهو نبي حق وهدى، فدخلتم مكة بأمر الله -تبارك وتعالى-، وكذلك استمرّ من بعدكم جهادٌ في سبيل الله، وقاتلتم عُتاة الروم وفارس، وما كنتم إلا كالخَوَل لهم، كالعبيد لهم، وما كانوا ينظرون إليكم إلا نظر الجهال المُتخلّفين الرجعيين الجاهلين الساقطين، ويقول بعض ملوك الروم وفارس: إنما هم عبيدنا، وقمتم وقاتلتموهم وهززتم عروشهم، وسقط ملكهُم، وقام أمر الله تبارك وتعالى، الله أكبر!

وقد كان صلى الله عليه وسلم فى الهجرة يقول لِسراقة بن مالك: "كيف بك يا سراقة وأنت تلبس سِواري كسرى وقيصر؟" العتاة الطغاة البغاة على الأرض هؤلاء، أقوى الناس مُلكًا وقوةً وعسكرًا سيخضعون وستأتي أسورتهم وأنت البدوي الأعرابي ستلبسها في يديك! وما هذه الثقة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما هذا النظر؟ وما هذا اليقين؟ وما هذا الخبر من الربِّ الأكبر -جلّ جلاله-! ولما وصلت أسوِرة كسرى وقيصر المدينة، نادى سيدنا عمر: أين سراقة؟ دَعوا سراقة؛ البسها! خذها والبسها كما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أيام كان مهاجر يخاف من تخطّف الناس، وتتابعه الدولة والقبائل حواليها يتابعونه من أجل أخذه هو وأبو بكر، ويقول لسراقة هذا الكلام -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم:3-4]  صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

يقول: {..وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)} فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، نسأله أن يُلاحِظنا بِعين عنايته وأن يعاملنا بِلطفه ورعايته وتوفيقه وتسديده ورحمته إنه أكرم الأكرمين، {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الْأَدْبَارِ..} نَكَصُوا وَرَجْعُوا عَلَى أعَقَابِهِمْ كما قال في الآية الأخرى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [آل عمران:111]، وهنا قال: {..وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب:17] وَإِنَّ الذي يُولّي الأَدبار وَيرجع؛ إِنَّما يطلُب النصرة وَيطلب محل يأمن فِيه ويطمئن، قَال وإِن وَلّوا وفرّوْا ما في ولي لهم وَلَا نَصِيرَ {يولَوْكُمْ الْأَدْبَارِ ثُمَّ لَا ينصرون..} [آل عمران:11] إنما ولَّوا الأدبار لأجل يطلبون النصرة ويطلبون الاستقرار، قال: {..لَوَلَّوْا الْأَدْبَارِ..} تُهزمون ومحلّكم وورائكم، الْهَلاكِ آتٍ عليكم، ما فررتم مِمّا قُدِّر عليكم بعنادكم وبكفركم وإبائكم الحق من الهلاك، الهلاك ورائكم حتى إِنْ فَرَرِتُمْ، {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16] {..لَوَلَّوْا الْأَدْبَارِ..} وإن ولَّوا الأدبار؛ خلاص ينجون و يستقرون؟ {..ثم لا يجدون وليًا ولا نصيرا (22)} من يواليهم؟ ومن ينصرهم؟

وكلُّ ولايةٍ ونُصرة دون ولايةِ ربُّ الأرباب ونصرته ليست بِشيء، لا تغرَّكْ! لا تغُرُّكْ تحالفات، لا تغُرُّكْ مواثيق، لا تغُرُّك اتِّفاقات، لا تغُرُّك! من يوالي بعضهم البعض وهم مقطوعين عن الله فليسوا بشيء؛ الولي والنصير الله، لهذا كان يقول لهم صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ" وأكّدَ الرحمن ذلك {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ} [محمد:11] يعني: هذا الذي بأيديهم كلّه والقوة التي يدّعونها: عنكبوت! {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ..} [العنكبوت:41] في لحظة يقتله، في لحظة يردُّه عليهم، في لحظة يُفسدُه، وانتهت المسألة، إذا ما تولّاك هو؟ وإذا ما نصرك هو؟ لا لك ولي ولا نصير {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران:192]، {..وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ..} قبل الآخرة {..فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [التوبة:74]، حتى في الأرض ما لهم ولي ولا نصير، ولو كان عندهم ولي ونصير ما بقي دين المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولكن {..اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا..} [التوبة:74]، وولي نبيّه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.

{..ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}، {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن..} فمن؟ فمن؟ فمن؟! {فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ..} [آل عمران:160] لا إله إلا هو جلّ جلاله وتعالى في علاه. هذا في غروره زعل وأخذ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قام يمزقه وبلغ الخبر للنبي قال: "مُزِّقَ مُلكُه"، وأيام معدودة مرتبة وزال ومُزِّقَ مُلكُه وهلك، ولا عاد كسرى بعده، خلاص!، "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده"، ثم قال:"لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُما في سَبيلِ اللَّه" كسرى وقيصر، "لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُما في سَبيلِ اللَّه" -جلّ جلاله-، وكان ذلك، وكانت عدّةً للمجاهدين، ولَا إِلهَ إِلَّا اللَّه القويّ المتين ربُّ السماوات والأرض. هذا هو الذي هو ملك السماء والأرض في تلك الأيام، هو المَلِك نفسه الآن، ما أحد مَلَك غيره! ولا تغيّر شيء في المُلْك، المُلْك له وحده، هو الذي في تلك الأيام مَلَك هو ملك الآن، وكما كانت نواصي أولئك بيده نواصي الموجودين الآن بيده تمامًا كما كان؛ {..وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ..} [المائدة:48]، {.. ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4-6] وهكذا {..وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ..} [الفرقان:20] وإلا القوة إنما له، والقدرة لهُ وحده -جل جلاله- رزقنا الله حقيقة التوحيد، ورفعنا مع أهل حقيقة التوحيد، إنه أكرم الأكرمين.

 كان يتذوَّق حلاوة التوحيد سيدنا بلال تحت التعذيب، وهو يُكرِّر أحدٌ أحدْ، وله صوت شجيّ، وينشد أحدٌ أحدْ، هم يُعذِّبونه وهو ينشد! حتى سُئِلْ بعدها يقولوا له: كنت تحت التعذيب تقول أحدٌ أحدْ، ما كنت تُحِسْ بِألم السياط؟ قال: مَزَجْتُ مرارةً التعذيب بحلاوةِ الإيمان فزادت حلاوة الإيمان على مرارة التعذيب -رضي الله عنه-. وأيام.. وبيده قَتل اللئيم أمية بن خلف الذي كان يعذبه، في بدر "أميّة، لا نجوتُ إن نجوَت" هذا المحارب لله ورسوله المعادي هو قتله بنفسه، وأيام وفوق الكعبة اعتلى ونادى: "الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد أن لا إله الله"، أين أمية؟ أين أبو جهل؟ أين من كانوا يعذبونه؟ أين من كانوا..؟ لا إله إلا الله! هذا في الدنيا، الله الله.. كان جماعة هناك جالسين من المشركين يشوفون بلال يُؤذِّن فوق الكعبة، واحد منهم قال: أحسن لمّا مات أبي قبل ما يشوف هذا يطلع، وقال الثاني: ما حصّل محمد إلا هذا الأسود يطلع يؤذِّن! وقال الثالث قوله، قال أبو سفيان: أنا ما بتكلم بشيء؛ إن تكلمت بيتحدّث عنّي حتى هذا الحجر، بيفضحنا محمّد، بينزل عليه كلام وحي ويفضحنا.. سأسكت! بعدين دعاهم قال هاتوا لي هؤلاء، قال أنت قلت كذا؟ وأنت قلت كذا؟ أقرّوا واعترفوا، لا إله إلا الله! سبحان الله القوي القادر.

ومرّت الأيام وسيدنا بلال بعد وفاة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في مكة ضاق صدره عن أن يُشاهد الأماكن التي كان يمشي معه فيها، ويجلس معه فيها، ويتكلم معه فيها، ويخدمه فيها، فاستأذن من سيدنا أبو بكر يرحل إلى الشام، قال: ما قدرت، ما أطقت المُقام بعده، ولم يُؤذِّن بعده. روى ابن عساكر: لمّا ذهب إلى الشام وأقام سنة، رأى الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: يا بلال ما هذه الجفوة، أما آن لك أن تزورنا؟ تهيّجت أشواقه، وشدَّ رحله في اليوم التالي ووصل إلى المدينة، فرح به كبار الصحابة؛ سيدنا أبوبكر وسيدنا عمر، قالوا له: تؤذّن؟ قال: ما أذَّنْت بعد رسول الله لأحد، منذ توفي النبي ما أذَّنْت، بينما هو جالس في المسجد أقبل الحسن والحسين نظر إليهم، تذكَّر أيام يخرجون مع جدهم، قام وضمّهم إليه وقبَّلهم، قالوا: بلال أذِّن لنا كما كنت تؤذِّن لجدّنا، وقف سيدنا بلال بعاطفتهِ الإيمانية يقول: والله لقد طلبها منّي كبار الصحابة فرددتهم، أما أنتما لو رددتكما ما أدري ما أقول لجدّكما؟ سأؤذن. لمّا جاء وقت الظهر طلع في مرتفع وناح بصوته (الله أكبر) المدينة اهتزّت، الصوت هذا يعهدونه في أيام رسول الله، ما عاد بقي أحد في البيت رجال نساء خرجوا من البيوت، يبكون ويقول القائل فيهم: أَبُعِث رسول الله؟ رجع إلينا النبي؟ عاد إلينا رسول الله؟ أَبُعِث فينا؟ إنما هو بلال، ارتجَّت المدينة بكاء، وأقبلوا نحو المسجد من كل جانب يبكون، وسيدنا بلال وصل عند: (أشهد أن محمداً رسول الله) خنقتهُ العَبرة ما عاد قدر يكمل الآذان.. خرج، فما رؤيت المدينة أكثر بكاءًا بعد يوم موته منه، ذكَّرهم الأيام والليال التي كانت والجناب الشريف بين أظهرهم، يُطالعون غُرّته في كل يوم، يسمعون صوته، ويجلسون معه، ويصلُّون خلفه، ويسمعون تعاليمه، ويسمعون لسان الوحي طري نزل من السماء، الصحابة عاشوا عيشة عجيبة! -عليهم الرضوان- ولهم في البرزخ حياة طيّبة.

وبلال لمّا رجع إلى الشام وجاءته الوفاة كانت زوجته عنده تقول: واكرباه، واكرباه! بيموت زوجها، فتح عينيه وهو في سكرات الموت، فقال: لا، بل واطرباه واطرباه! غدًا نلقَى الأحبَّةَ محمَّدًا وحِزبَه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-، ولهم في القيامة معه لقاء، ولهم في الجنة معه لقاء، ووُعِدوا في الجنة أنهم يجالسونه ويسمعونه، لأنهم قالوا: إذا كان جنة ونحن مقطوعين عن نبيّنا هذا ما تغنينا حور ولا قصور ولا أنهار ولا شيء، ماذا نعمل فيها؟! بعدما ذاقوا لذة وحلاوة المواجهة للوجه الشريف، والمقابلة للجناب العظيم، والمخاطبة بينهم وبينه، والسماع لكلامه وصوته، قالوا: ماذا نعمل في الجنة، حور، قصور، أنهار، أشجار؟ حبيبنا وين هو؟ إذا ما نشوفه هكذا، ما نكلمه هكذا، نريد بها ماذا؟، وما نعمل بها؟ ما تغنينا! فنزلت الآية: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] وُعِدوا سيتكلمون معه، ستصافحونه، تسمعون صوته، تجالسونه، تنظرون وجهه، ما أجرينا لكم من حلاوة ذاقتها أرواحكم في الحياة فسنجعلها لكم أيضًا في الجنة، وقرَّت أعينهم بهذا عليهم رضوان الله -تبارك وتعالى.

يقول تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (23)} أي: لا ترجع الأمور إلى مُجرّد الإعدادات منكم ولا من قِبَلِ عدوكم، تعبَّدناكم بالإعداد {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ..} [الأنفال:60]، وقد يُخَطِّط عدوّكم ما خطَّط ويُعِد ما أعَد.. كل ذلك ليس هو الحاكم والفيصل في حسم الأمور، لكن لنا سنّة نجريها في خلقنا، من حين خلقنا هذا الوجود ما يقدر يُخلّفها أحد، فهي الفعّالة: إرادة الله -جلّ جلاله- هي الفعالة في هذا الوجود.

يقول: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ..} فينصُر أنبياءه ويخذُل أعداءهم {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] ولهذا.. النمرود في ملكه الكبير ويُرْسَل إليه سيدنا إبراهيم من معه؟ أين الجيش الذي معه؟ أين القوة التي معه؟ حتى مسلم واحد ما أحد معه، واذهب كلّم النمرود هذا.. ويرسل سيدنا موسى وهارون إلى فرعون، وهذا المُلك والقوة والجند والعسكر، وسيدنا موسى من معه؟ أين الجيش حقه؟ أين العُدة؟ أين القوة؟ لا إله إلا الله! راح دقْ على قصر فرعون، مع أنه في توقعات من خلال الملابسات في أحداث الحياة يقول: {إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [القصص:33] قال للرب هكذا لما أرسله إليهم، {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ..} [القصص:34] {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} [القصص:35] الله أكبر! وأرسل معه سيدنا هارون، بمجرد ما دق على قصر فرعون ارتعب، ودخل {هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ} [النازعات:18-19] من أنت؟ ويخاطبه بهذا الخطاب، ويكلمه ويدعوه إلى الحق -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- ثم ارتعب منه، {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} [طه:49-52]، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:23-29]، أنا بسجنك {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ..} [الشعراء:30-32] ولما جمّع السحرة وجاؤوا والتقمت العصا كل شيء، ملآن رُعب من موسى هذا، بعدين جاؤوا أصحابه يقولون له: {أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، ما ذكر موسى {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ..} [الأعراف:127] وما عاد ذكر موسى أبدًا! لا إله إلا الله.

 {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} وما أحد من هؤلاء الأنبياء والرسل قال: ربي، يا ربي هذا معه جند ودولة وأنا وحدي كيف أكلمه؟ {.. فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15] الله أكبر! قَالَ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ} [طه:46] جلّ جلاله وتعالى في علاه. قال: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)} وفي قراءة أخرى {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} والكلُّ يُبصرُهُ الله ويطَّلِعُ عليه.

{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..} يعني: يستحقّون أن تقتلوهم، ولكن لنا حِكَمْ في كف أيديكم عنهم، وإلا هم كفروا {..وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..}، انتهكوا حرمة البيت وصدّوا عنه {..وَالْهَدْيَ..} أي: وصدُّوا {..الْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ..} {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.} وفي قراءة {والهَدِي} أي: وعن الهدِي {مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ..}،{..وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ..} قال فيه حِكَم أخرى: {.. وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء..} وسطهم داخل {..لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} تطؤوهم بغير علم {..فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ..} إثم ومضرة وعيب، يقولون قتلوا أصحابهم كما قتلوا أعداءهم، وهم أنفسهم يسطون عليهم إذا أنتم دخلتم، قال: {..لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء..} -جلّ جلاله- يعني: أيضًا وكفَّكُم لأيديكم امتثالاً لأمر نبينا؛ مقتضى النفوس أن تغيظ وتزعل وأن تحب أن تقاتل ولكن كففتم ليزداد إيمانكم فتفيض عليكم الرحمة {..لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء..} وليعتبر بكم من يأتي بعدكم، وفيهم ناس يسلمون ويدخلون من الكفر إلى الإيمان فيدخلون  في الرحمة بسبب هذا التأخر والتأخير؛ وإلا لو قتلتموهم اليوم يُقتلون كفار ويخلّدون في النار، {..لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن ..} فآمن كثير منهم، {..لَوْ تَزَيَّلُوا..} أي: تميّزوا وذهبوا وحدهم المؤمنين {..لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ..} الغيظ والبغضاء أمر مذموم، عادها: {..حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ..} ما لها صِلة بعلم، ولا بفطرة سليمة، ولا بخُلُق كريم أصلاً؛ عصبيّة عمياء بحتة حمقاء ما لها أصل، يقول: {..حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ..} وأنتم ماذا عملتم؟ {..فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ..} فهؤلاء لهم الحميّة وأنتم لكم السكينة، ما تُستفزّون، ولا تغضبون، ولا تتزلزلون، تثبتون.. قُم قُم، اقعُد اقعُد، ادخل ادخل، ارجع ارجع، ثابتين !{..فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ..} الله أكبر! {..عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ..} فاضت من قلب رسوله على المؤمنين وقلوبهم. 

{..وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى..} جعلهم ملازمين، وكلمة التقوى ملازمة ملتصقة بهم وبقلوبهم، لا إله إلا الله! {.. وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى..} هذه كلمة التقوى (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ)، ويقول بعضهم: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ محمد رسول الله، {.. وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى..} ثبَّتَها في قلوبهم ورسَّخَها فبها يهتدون وعليها يتصرّفون، {.. وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى..} ويقال أيضًا: كلمة التقوى العهد والميثاق الذي بينهم وبين الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، وأصُّح الأقوال: أن المرادَ بكلمة التقوى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ. يا من ألزمتهم إياها هذه قلوبنا بين يديك ونحن أحببناهم من أجلك، وقرأنا خبرهم في كتابك، نبتغي رضوانك، فانظر إلى قلوبنا وألزمها كلمة التقوى، أنزل علينا السكينة، وألزمنا كلمة التقوى، واجعلنا داخلين في دائرة من هم أحقّ بها وأهلها، أنعِم وأكرم، وما أعظمُه من ثناء من الرحمن على هؤلاء القوم الكرام الزِّيان، يقول لهم: {..وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا..} وقائمين بالتحقق بحقائقها ومنفّذين لمعانيها ومراميها ودلالاتها، الله أكبر! {..وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا..} أهل لـ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ) عليهم رضوان الله، ما أعظم مدح الله لهم {..وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}.

ثم قال وهذه الرؤيا التي أريناها نبيّنا من قبل جاء موعد تنفيذها الآن وتطبيق ما فيها، وأدخلناكم إلى مكة وجئتم في عمرة القضية بعد العام الأول وأنتم تظنون أنه ميقاتها ذلك العام، وما هو ميقاتها، ذاك ميقات الصلح المقدمة لها، والرؤيا تتحقق فيما بعد؛ في العام السابع من الهجرة دخلتم {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ..} قال لكم بتدخلون؛ دخلتم الآن {..لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ..} وما ينطق عن الهوى، وكلامه الحقّ وسوف يتحقق وعليكم الصبر والمتابعة، ولكم الدرجات الرافعة، فكونوا على القلوب الخاشعة الخاضعة، المنيبة المتواضعة، وأبشروا بما لا يُعد ولا يُحصرُ من عطايا الله الواسعة، {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ..} [الجمعة:4]. 

يا من تفضلت عليهم، أنظر إلينا، تفضّل علينا، أصلحنا، وفقنا، ألزِمنا كلمة التقوى، ألزِمنا كلمة التقوى، أنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى، وألحقنا بمن هم أحق بها وأهلها، ألحقنا بمن هم أحق بها وأهلها، ألحقنا بمن هم أحق بها وأهلها، وثبّتنا عليها حتى تتوفّانا، واجعلها آخر كلامنا من حياة كل واحد منا من هذه الدنيا (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ) يقولها متحققًا بحقائقها، ويُختم كلامه بها، ويُختم عمره بها، ويلقاك فتدخله جنتك مع السابقين فضلًا منك وكرمًا، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين،  بسرَّ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ) أكرِم من يقولها على ظهر الأرض بالتحقق بحقائقها، والذوق لمعانيها، والارتقاء في مراقيها، والشرب من كؤوسها حتى نفوز وإياهم بالفوز الكبير، ونستقيم على أقوم مسير في متابعة البشير النذير والسراج المنير، حتى نرافقه في المصير برحمتك يا علي يا كبير

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه

 الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

24 رَمضان 1444

تاريخ النشر الميلادي

14 أبريل 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام