(536)
(228)
(574)
(311)
الدرس التاسع عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الفتح، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1444هـ ، تفسير قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)}
الحمد لله مكرمنا بالقرآن وحسن البيان، على لسان سيد الأكوان عبده المصطفى محمد بن عبد الله عظيم القدر والشأن -صلى الله عليه وسلم-وبارك وكرم عليه في كل حين وآن، وعلى آله وأهل بيته المطهرين عن الأدران وعلى أصحابه الغر الأعيان وعلى من والاهم في الله واتبعهم بإحسان وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الفضل والعرفان وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين الكريم المنان.
وبعد،، فإن في نعمة تأملنا لكلام ربنا وخطابه وتعليمه وتوجيهه مضينا في سورة الفتح وأتينا على تسع آيات وقفنا عند قوله جل جلاله:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} بعد أن أكد رسالته وأنه الشاهد المبشر النذير فقال:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وذكر ما يترتب على ذلك من مواهبه الرحمانية لمن سبقت لهم من الله السعادة {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} فيكون حسن استقبال الرسالة النبوية بتقوية الإيمان واليقين وأساس التعزير والتوقير لرسول الله والتسبيح بحمد الله جل جلاله. هذا هو الاستقبال الحسن لهذه الرسالة وأتباع هذا المصطفى كل من يقوى منهم إيمانه ويقيم التعزير لرسول الله: أي النصرة، والتوقير: التعظيم والإجلال، والتسبيح: ويتعلق بالإله الذي ما أحب محمدًا إلا من أجله فيسبحه في صباحه ومسائه هذا أحسنَ استقبالَ الرسالة، وحاز المكانة الشريفة وتهيأ لما تقدم ذكره من المصير {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}، لمَّا ذكر ذلك، أشار سبحانه إلى عظمة النُصرة لرسوله والقيام بالتضحية في نصرة هذا الرسول، وذكر توثيق العهد في هذه النصرة بالبيعة وقال له: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ} -جل جلاله- وإن تعددت أقوال المفسرين في معنى قوله {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} فالكل بلا شك راجع إلى تعظيم المصطفى وإنزاله المكانة الرفيعة اللائقة به، وأن الله بهذا أثنى على نبيه ومدحه مدحًا لا يستطيع أحد من خلقه أن يمدحه به ولا بقريب منه.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} بالله عليك ما يساوي مدح المادحين عند هذا! ولو لم تكن الآية تتلى هكذا فقال أحد: إن الذين يبايعون النبي إنما يبايعون الله، لثارت عليه نفوس من لا يعقل ومن لا يفقه سر الخطاب كثير.. وقالوا: أنت مشرك وأنت تصلح، -وأنت تفعل- كيف تجعله..؟! والحق يقولها صراحة: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ} أي منزلتك عندنا رفيعة وإن اخترنا أنبياء ومرسلين جعلنا طاعتهم طاعتنا، فأنت المقدم وأنت الأساس والرأس؛ ولهذا جاء أيضاً بلفظة الحصر {إِنَّمَا} ولم يقول: إن الذين يبايعونك يبايعون الله {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ} ما هم في بيعتهم هذه إلا مبايعين لله الرحمن -جل جلاله- فأنت خليفته الأعظم وأنت القائم في الخلق بالنيابة للدلالة عليه والإيصال إليه فمن بايعك فقد بايعه، نظير ما قال جل جلاله: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:89] {فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} الله أكبر! وإن كان لهذا سرايات فيما نفقه من طاعة النبيين والمرسلين، ثم فيما نفقه من طاعة أولي الأمر، ثم فيما نفقه من طاعة الوالدين، ثم فيما نفقه من طاعة الأمراء في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى إلى غير ذلك .. مما جاءت به السنة كقوله في ابنته الزهراء: "يرضيني ما يرضيها و يقبضني ما يقبضها وإن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها" وأمثال ذلك فكل هذه التفرعات بمعناها الصحيح في التقديس الكامل لجلال الله و التنزيه والتسبيح له من غير أن يحل في شيء ولا في أحد ولا يحل فيه شيء ولا أحد، ومن غير أن يشابه أحدًا من الخلق ولا يشابهه أحد من الخلق، إثبات إنزال المحبوبين له والمقربين إليه منزلتهم التي أنزلهم فيها -جل جلاله-.
كل هذا مهما صح وجاءت به النصوص حتى رأينا من سراية ذلك أنَّ التابوت الذي كان يستنصر به المجاهدون في سبيل الله من أتباع الأنبياء في بني إسرائيل يحتوي على آثارٍ من آثار موسى وهارون وأنه لما فُقِد عليهم وضاع وتأخر عنهم النصر، وأوذوا وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، كما نقرأها في صريح القرآن في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَاۖ } [البقرة:246]، ثم قال سبحانه و تعالى {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة:248] فرجع الله إليكم هذا التابوت، {أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} ماذا يوجد في التابوت؟ هذا التابوت قطع من خشب، ما فيه؟ {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ …} من جملتها نعال سيدنا موسى والرضاضة من الألواح التي تكسرت لمَّا ألقاها، وعمامة سيدنا هارون، وقميص، هذه البقية مما ترك آل موسى وآل هارون {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} والملائكة عادهم -أيضًا- يحملونه، إذًا هذا في نظر من لم يفقه حقائق التوحيد والإيمان؛ يعتقد أن الملائكة هؤلاء صوفية كبار! مشكلة من المشاكل يعظمون التابوت والعصا حق موسى؟! والقميص حق هارون والعمامة؟! يحمله الملائكة ويحمله الملائكة عادهم {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ} نص صريح كلام الله -جل جلال وتعالى في علاه- {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، ثم جعل الله لهم الاختبار ظمئوا ويردون على نهر وممنوع يشربون ومسموح غرفة واحدة لمن اغترفها فقط وتأخرت {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ } [البقرة:249] وراح هو وإياهم يجاهد طالوت.
نقول: كل هذا بما جاء في النصوص صحيح كما ثبت في وحي الله وبلغه الرسل صلوات الله وسلامه عليه ولكن هو فروع بالنسبة للرأس والأساس والأصل إنَّ أحب المحبوبين لرب العالمين وأقرب المقربين إليه عبده الأمين مُحمَّد؛ لذلك ما جاء نص في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الكتب السابقة أنبياء مثل هذا النص عن نبيه مُحمَّد صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}، إنا قد قرأنا أن من فقه الحواريين أتباع سيدنا عيسى أنهم لما قال {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} ما قالوا نحن أنصارك قالوا {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] لأن نصرتك نصرة لله جل جلاله وتعالى في علاه {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} ومع ذلك كله فالنص الصريح جاء فيما يتعلق بذات مُحمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ويقول له في الآية الأخرى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم حمل الحصبا ورماها في وجوه القوم في غزوة بدر وكذلك كانت في حنين قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} ويقول: بعض أهل المعرفة ومارميت طريقةً، إذ رميت شريعةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى حقيقةً، ولكن الله رمى وكان هذا الرمي من الله على يد مُحمَّد صلى الله عليه وسلم وهو بقدرته الذي وزع هذه الحصبة في عيون القوم وفرقها على عيونهم دخلت كل عين، وَيُفْحَسُونْ -يَفْركون- عِيُونَهُمْ وَهُزِمُوا -لا إله إلا الله- {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ}؛ لأنهم يبايعونك طلباً لرضوان الله وامتثالًا لأمر الله ورجاء القرب من الله ولنيل الرضوان منه سبحانه وتعالى. {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ} أكد هذه المنزل الشريفة لمكانة نبيه ومكانة بيعة نبيه {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} لها عدد من المعاني، وأيضًا مهما كان لها معاني فلا تخرج أيضًا عن إثبات الأمر العجيب البديع في مكانة مُحمَّد عند ربه وأن الذي يبايعه بايع الله و{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، وهم ما نظروا في عالم الحس والظاهر إلا يدَ مُحمَّد هي التي مسكوها وهي التي بايعوها وهي والتي كانت فوق أيديهم ولكن الحق يقول: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} الله أكبر! ومن انتشار هذا المعنى ما صح أيضًا في الحديث عن الحجر الأسود "أنه يمين الله يبايع بها خلقه"، وأنه لما أشهدنا على أنفسنا في عالم الأروح ألست بربكم؟ وقلنا: بلى كتب كتابًا وألقمه الحجر. وجاءنا في الحديث في مسند الإمام أحمد وغيره "إنه لياتي يومَ القيامةِ، لهُ عينانِ، ولسانٌ طلق، قلب يشهدُ لمن استلمَهُ بالموافاة" والنبي لما ذكر هذا قال ذكر الآية {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ} أي يقول: فمن استلم الحجر فقد بايع -لا إله إلا الله-.
إذا علمت ذلك فهذه البيعة تفرع عنها بيعات أمراء الجهاد ،وبيعات الخلفاء الراشدين، وبيعات أهل التربية والتزكية للنفوس، بسنة رسول الله ومسلكه ومنهاجه فتتصل البيعة بالبيعة، وكان سيدنا أبو بكر أيضًا في بيعته يقول: لهم البيعة لله ورسوله والطاعة للحق، كذلك كان يقول سيدنا عمر كذلك يقول سيدنا عثمان ويقول سيدنا أبو بكر: أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم فإن رأيتموني استقمت فأعينوني، وإن رأيتموني ملت فقوموني وحضر خطبة أبي بكر بعض الأعراب قال: والله لئن خرجت عن هذا الأمر لنقومنك بحد السيوف، وتقبل منه سيدنا أبو بكر ذلك، فكانت هذه البيعات البيعة التي أشار الله إليها وعلمنا السورة نزلت بعد بيعة الحديبة تحت الشجرة وسيأتي النص عليها بعد آيات {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} هؤلاء الذين بايعوا وقد تعددت البيعات من الصحابة لسيدنا -صلى الله عليه وسلم- فخواصهم بايعه الواحد منهم عدد من البيعات، وسبق قبل بيعة الحديبية بيعة العقبة الأولى والثانية وبايعوه على الطاعة في المنشط والمكره وعلى قول الحق وأن لا يخافوا في الله لو لومة لائم وعلى أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم وأهليهم وأموالهم إلى غير ذلك، وبايعه بعض الصحابة: ألا يسأل غير الله شيئًا، وليس هؤلاء كل الصحابة بايعوه هذه البيعة، ويقول: رأيت أولئك النفر الذين بايعوا هذه البيعة يسقط سوط أحدهم وهو على فرسه فلا يقول لأحد: ناولني؛ يخرج بنفسه يأخذ السوط، ولا يقول لأحد: ناولني؛ لأنه بايع رسول الله ما يسأل غير الله، مبالغة في أداء الأمانة عليهم الرضوان والوفاء بالعهد.
منهم من بايعه على المحبة ومنها هذه البيعة التي كانت في يوم الحديبية؛ لما احتبس المشركون عثمان بن عفان -عليه الرضوان- وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يرسل سيدنا عمر ليقابل أشراف القوم ويخبرهم: أنما -صلى الله عليه وسلم- جاء لأجل تعظيم البيت والطواف به وهو راجع ولا يريد قتال، قال له سيدنا عمر: إنهم يعرفون عداوتي لهم وليس في بني عدي بن كعب من يمنعني منهم هناك، ولكن أدلك على من أعز فيهم الآن مني عثمان قومه كثير هناك يمنعوه، فأرسل سيدنا عثمان، وتوجه سيدنا عثمان فلقيه أبان ابن العاص أو حد منهم وهو داخل وأجاره وأدخله به، وبلغ الرسالة، وكلم أبا سفيان، وكلم زعماء قريش ولما بلغهم رسالة النبي مُحمَّد، قالوا له: البيت أمامك إذا أردت أن تطوف، قال: لا، ولا أطوف حتى يطوف رسول الله، قالوا: طوف واسعى! قال: أبدًا ولا أطوف ولا أسعى ولا أكمل العمرة؛ حتى يدخل رسول الله، احتبسوه عندهم، وأشاعوا؛ من أجل إثارة القلق: أنه قتل، ولما جاءت الأخبار، قال: لئن فعلوها لا نذهبن حتى نناجزهم، ثم أوحى الله إليه بايع الذين معك فبعث المنادي، وقد تفرق الصحابة وراء الشجر والاستظلال بها، فبدأ المنادي يصل إليهم، فأقبلوا الصحابة للبيعة، وجلس تحت شجرة كان بعض الصحابة ماسك غصنها من فوق رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى لا يدق على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحتى أن سيدنا عمر كان عند شجرة بعيدة وأحس بحركة الناس قال: ما للناس أحدقوا برسول الله؟ أرسل لولده عبد الله قال له: انظر، جاء فوجدهم يبايعون فبايع، ورجع لعند أبوه، قال له: رسول الله يبايع الناس، فانتهض سيدنا عمر وجاء حتى صار قائم جنب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصار ماسك بيده الأخرى وهو يبايع صلى الله عليه وسلم.
فبايعوا كلهم إلا واحد منافق فيهم راح يتستر بإبط الناقة حقه، يقعد خلفها يتستر من الناس، وما رضي يبايع؛ لأنه لا نصيب له في الرضا، ولا نصيب له في المكانة، ولا نصيب له في المغفرة، ولا نصيب له في الدرجة عند الله، إنه الجَدُّ بْنُ قَيْس يسمونه الجَدُّ بْنُ قَيْس، قال بعض الصحابة قال: رأيته! تعجبت فيه! ما له هذا؟! الناس يبايعون وهو يتستر بالناقة حقه! ما يريد الناس يشوفونه -لا إله إلا الله- ونزلت فيهم آية الرضوان: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ} نقض البيعة وخالفه وخالف الأمر فإنما ينكث ما ضرر ذلك إلا عليه دنيا وآخرة إنهم لن يضروا الله شيئا {فمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ } ومن أوفى بما عاهد عليه الله وفي قرآءة {عَلَيْهُ اللهَ} {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وأعظم بأجر عظيم سماه العظيم عظيم {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، فيا فوز الذين وَفَوْ، ولما قامت البيعة والعهد وانتشر خبرها، أرعب المشركون وخافوا وفزعوا وأطلقوا عثمان بن عفان .. ارجع، وارسلوا للصلح -يطلبون الصلح- وكان مما حدث وهم هُنَاك، وفي أثناء ما بدأ التفاوض بينهم، كان جماعة من المسلمين دخلوا أطراف مكة، وجماعة من المشركين خرجوا حتى يقول سيدنا سلمة بن الأكوع -عليه الرضوان- يقول: ذهبت إلى عند شجرة وأبعدت الشوك وجلست استظل، فجاء نفر من المشركين فأخذوا ينالون من النبي -صلى الله عليه وسلم- ويتكلمون، قال فأبغضتهم وقمت تركت هذه الشجرة إلى شجرة أخرى، قال بينما أنا هناك فسمعت منادي يقول قتل فلان، وهم جلسوا تحت الشجرة وناموا تحتها، قال: فقمت حملت سيفي وأقبلت عليهم، فوجدتهم نيام فأخذت سيوفهم ووضعتها تحت إبطي، قلت: هيا، فانتبهوا وسلاحهم معه..، قال: الآن من يرفع منكم رأسه أكسر الذي فيه عيناه -الرأس الذي فيه العينين- سأكسره. قال وأخذتهم أقودهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجئت بهم إلى عند النبي.. قال: ووجدتهم ووجدت مجموعة من المشركين أيضًا جاؤوا بهم الصحابة -تقريبا عددهم- سبعين، قال: فنظر إليهم -صلى الله عليه وسلم- وقال: دعوهم، يكونوا بادئ الفجور وأثناءه عليهم، يعني: يبتدئون بالفجور، قال: وعفا عنهم وأمر بإطلاقهم، وهذا الذي يأتي قال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } ثم تم الصلح، ونحر -صلى الله عليه وسلم- السبعين التي معه، جاء بها من البدن، ساقها هدية للحرم ونحرها..، وأمر أصحابه أن ينحروا هديهم، وأن يحلقوا رؤوسهم ويرجعوا، .. رجعوا.
كان جماعة من الأعراب والقبائل لما كان متوجه إلى مكة اسْتُنْفِروا لئن يذهبوا مع رسول الله -سبحانه وتعالى- لأنه يريد أن يعتمر؛ وإذا حصل شيء من قريش تكونون مع رسول الله، ..تثاقلوا، وقالوا: هؤلاء الذين جاءوا يقاتلونه إلى عنده نروح نحن إلى بلادهم نقاتلهم هذا ما يكون! وقالوا: إذا ذهب إلى عندهم بيقتلونه والذين معه ولن يرجع أحد منهم. فلما رجع -صلى الله عليه وسلم- ووُعِدَ من الله بالنصر والفتح، ذهب إلى خيبر، اسْتُنْفِرَ أيضًا بعض هؤلاء الأعراب فتثاقلوا.. فلما فتحَ خيبر وأحرزَ الغنائم، جاءوا جماعة من هؤلاء ومن أولئك الأولين وقالوا: نحن معك، فأوحى الله إليه ما يعطي أحد إلا الذين حضروا معه، وهم الذين كانوا حضروا في بيعة الحديبية هناك، وهم الذين حضروا معهم هناك في خيبر، هم الذين حضروا معه، وهؤلاء ما أعطيهم، والحق أخبره: إنه بيفتح عليهم هؤلاء -على من حضروا- وهؤلاء يريدون يأخذون الأموال! ويعتذرون للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقالوا: إنما ما تأخرنا من أجل شغل عندنا ضروري مهم وهكذا..، وإنْ نحن ما بَنَتَخَلَف عنك استغفر لنا {سَیَقُولُ لَكَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ شَغَلَتۡنَاۤ أَمۡوَ ٰلُنَا وَأَهۡلُونَا فَٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا} لا يقولونها عن صدق ومحبة؛ ولكن مصانعة مجاملة من أجل يأخذون من الغنائم، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} كذابين.
قل لهم مهما عاملوك هذه المعاملة وأنت الصابر عليهم، واصل تذكيرهم ووعظهم عسى أن يفيقوا {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} تتخوفون من الخروج مع رسول الله والقيام بنصرة الله ورسوله! وهل ستُذبون عن أنفسكم إذا أراد الله بكم زلزلة أو أنزل عليكم صاعقة أو أمرض أحدكم أو قتله أو أسقطه من على شجرة أو من على راحلة أو أسقط على رأسه حجرة ومات؟ {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} فلو عقلتم وبذلتم صحتكم وقوتكم بنصرة الله ورسوله لكان خير لكم وأفضل لكم، والذي تخافونه من الموت هو ملاقيكم وواصل إليكم، ولكن تموتون في هذا البعد على ذل وعلى حجاب وعلى بعد وعلى انقطاع عن رحمة الله، ولو خرجتم مع رسوله ما هو إلا نصر أو شهادة وكله خير {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52].
{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} خبيرًا بنياتكم ومقاصدكم وطريقة تفكيركم وتصوركم للأشياء، يقول: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} قلتم: يذهبون هناك ويقتلونهم ولا أحد يرجع، ولا واحد، ولا يعود مخبر عنهم يقول:{بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} من وساوس إبليس وطغيان نفوسكم ظننتم أنه هذا..، زين وحبب لكم؛ أنه سيقع لهم قتل .. الآن خلاص.. سينتهي مُحمَّد، وجماعته هؤلاء، هو وأصحابه الكبار. {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} في مُحمَّد، وفي نصرة الله له، وظننتم أن الله يخذله وظننتم أن ربه يسلمه لأعدائه، وظننتم أنه لن ينتصر، وهو الصادق المصدوق المؤيد بنصرنا.
يقول: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} مفسدون أفَّاكُون متحيلون متربصون {وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا}، يقول الله وخذوا الحقيقة: {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} من لم يُهدى للإيمان بالله ورسوله بعد أن تبين له الحق ووصله البلاغ {فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} ومن أعتدنا له السعير الشديد في الدار الآخرة؛ ما يتوقع أن نعطيه في الدنيا.. ما في خيره، أو ما في صلاحه، وما وصله من شأن هذه الدنيا وأموالها زيادة في فساده و عذابه وشدة عقابه وبلائه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- قال سبحانه وتعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [ال عمران 178]، يقول سبحانه وتعالى أيضًا في الآية: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ } [المؤمنون:54-55] ، هذا لو أعطيناه مؤمن آمن بنا وبرسولنا، نجعل له فيها الخير نجعل له فيها الفائدة ونجعل له فيها الرفعة للدرجة ونجعل له فيها البركة ونجعل له..أما أعطيناكم أنتم كفار بالله ورسوله ما فيها خير لكم {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} الله الله الله الله! {لن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ} [ال عمران :10]، {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [ التوبة: 55]، والعياذ بالله تعالى.
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:37]، أصحاب الإيمان هؤلاء وإِنْ أعطيناهم مال، وإِنْ فقرناهم، وإِنْ أعطيناهم صحة، وإِنْ أمرضناهم كله خير لهم؛ أما أنتم يا من كفرتم بي من أين لكم الخير؟! أنا رب كل شي تكفرون بي بعد وصول الحق إليكم وبلاغ رسلي وتريدون الخير! من أين تأتون به؟ هل يوجد خالق غيري يعطي الخير؟! هل يوجد إله سواي يهبكم ما في خير لكم؟! كل الذي أنتم فيه غرور وزور ولا لكم فيه خير ومصيركم النار -والعياذ بالله تعالى- {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ال عمران :196-197].
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا(13)} اللهم أجرنا من حر نار السعير، وثبتنا على قدم الاقتداء بالبشير النذير السراج المنير، وهب لنا به حسن المصير، يا من إليه كل الأمر يصير، يا حي يا قيوم يا علي يا كبير يا سميع يا بصير اجعلنا من أنصار عبدك المصطفى ظاهرًا وباطنًا، يارب اكتب لنا حقيقة نصرته في أنفسنا وأهلينا وأولادنا وأموالنا وأرواحنا بعقولنا بعلومنا بأعمالنا بكل ما آتيتنا يا الله، واجعلنا من الموفين بعهدك.
وإنّ حضور مثل هذه المجالس التي تدار في هذه المعاني بل سماعها متصل بسر البيعة والعهد هناك؛ لمن يقوم بحقها وحتى يصافح تلك اليد التي بايعها الصحابة في برزخه أو في يوم القيامة أو تحت اللواء أو على الحوض المورود. الله يرزقنا الوفاء، هذا لمن وفى، قال له الذين بايعوه الأوائل في بيعة العقبة: وما لنا إن نحن وفينا بذلك؟ قال: لكم الجنة لكم الجنة.
اللهم ارزقنا الوفاء يارب اكتبنا في العشر الأواخر من أنصارك وأنصار حبيبك الطاهر في الباطن والظاهر، واجعل بقية حياتنا في حقيقة نصرتك ونصرته بكل ما أوتينا حسًا ومعنى؛ حتى تختم لنا بأكمل الحسنى، وتجمعنا به في المقام الأسنى وهو راض عنا، وأنت راض عنا، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، وفر حظنا من حبيبك الأمين، وارزقنا حسن متابعته في كل شأن وحال وحين، وهيئ من حضر معنا ومن يسمعنا لقبوله عندك وقبولك إياه ناصرًا لك، ورسولك موفيًا بالعهد الذي عاهدته عليه، في خير ولطف عافية ويقين وتمكينٍ مكين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم
وكما أنه منتظر من أنصاره الأوائل وصولهم إلى الحوض فهو في كل زمن ينتظر وصول الصادقين في ذلك الزمن إلى حوضه المورود، وقال لهم: فإني منتظركم على الحوض، قال: اصبروا حتى تلقوني على الحوض فإني أنتظركم عليه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- اللهم سر قلبه بنا وأقر عينه بنا وأوردنا حوضه المورود في أوائل أهل الورود يا بر يا ودود برحمتك يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.
21 رَمضان 1444